أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار، ت: علي عمر
ما جاء في مقلع الكعبة من أين قلع:
حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا مسلم بن خالد, عن
ابن جريج، قال: لما أراد ابن الزبير هدم
الكعبة، سأل رجالًا من أهل العلم من أهل مكة:
من أين كانت قريش أخذت حجارة الكعبة حين
بنتها؟ فأخبر أنهم بنوها من حراء ومن ثبير ومن
المقطع، وهو الجبل المشرف على مسجد القاسم بن
عبيد بن خلف بن الأسود الخزاعي، على يمين من
أراد المشاش من مكة مشرفًا على الطريق، وإنما
سمي المقطع؛ لأنه جبل صلب الحجارة، فكان يوقد
بالنار ثم يقطع، ويقال: إنما سمي المقطع؛ لأن
أهل الجاهلية من أهل مكة كانوا إذا خرجوا من
مكة, قلدوا أنفسهم ورواحلهم من عضاه الحرم،
فإذا لقيهم أحد قالوا: هذا من أهل الله، فلا
يعرض له، حتى إذا دخلوا الحرم
ج / 1 ص -177-
أمنوا فصاروا عند المقطع، فقطعوا قلائدهم
وقلائد رواحلهم التي من عضاه الحرم هنالك، فسمي بذلك المقطع، ومن قافية
الخندمة, والخندمة: جبل في ظهر أبي قبيس من ظهرها المشرف على دار أبي
صيفي المخزومي في شعب آل سفيان دون شعب الخوز، وذلك الموضع عن يمين من
انحدر من الثنية التي يسلك فيها من شعب ابن عامر إلى شعب آل سفيان، ثم
إلى منى، وهذا الموضع مرتفع في الجبل، موضع مقلعه بين هذه الثنية وبين
الثنية التي تشرف على شعب الخوز، يسلك منها من منى إلى مكة، من سلك شعب
الخوز، ومن جبل عند الثنية البيضاء التي في طريق جدة، وهو الجبل المشرف
على ذي طوى، ويقال له: حلحلة، قال جدي: ومنه بنيت دار العباس بن محمد
التي على الصيارفة بمكة، ومن جبل بأسفل مكة عن يسار من انحدر من ثنية
بني عضل، ويقال لهذا الجبل: مقلع الكعبة، ومن مزدلفة من حجر بها يقال
له: المفجري، فهذه الجبال السبعة التي يعرفها أهل العلم من أهل مكة،
أنها مقلع الكعبة، قال مسلم بن خالد: ولم يثبت عندنا أنها بنيت من غير
هذه الأجبل1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للفاكهي 2/ 180.
في معاليق الكعبة وقرني الكبش, ومن علق تلك
المعاليق:
حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: حدثنا ابن
عيينة, عن منصور بن عبد الرحمن الحجبي, عن خاله مسافع بن شيبة, عن صفية
بنت شيبة أن امرأة من بني سليم ولدت عامتهم، قالت لعثمان بن طلحة: لم
دعاك1 النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد خروجه من البيت؟ قال: قال لي:
"إني رأيت قرني الكبش في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تحرف في ب إلى: "دعك".
ج / 1 ص -178-
البيت، فنسيت أن آمرك أن تخمرهما، فإنه لا
ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل مصليًا"
قال عثمان: وهو الكبش الذي فدي به إسماعيل بن إبراهيم -عليهما السلام.
حدثني محمد بن يحيى، عن سليم بن مسلم, عن عمرو بن قيس أنه كان يقول:
كان قرنا الكبش في الكعبة، فلما هدمها ابن الزبير وكشفها، وجدوهما في
جدار الكعبة مطليين بمشق، قال: فتناولهما فلما مسهما، همدا من الأيدي.
قال محمد بن يحيى: عن هشام بن سليمان, عن ابن جريج, عن عبد الله بن
شيبة بن عثمان، قال: سألته: هل كان في الكعبة قرنا كبش؟ قال: نعم كان
فيها، قلت: رأيتهما؟ قال: حسبت أنه قال: أبي أخبرني أنه رآهما، وعن ابن
جريج عن عجوز، قالت: رأيتهما وبهما مغرة.
حدثني محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن أشياخه قال: لما فتح عمر بن الخطاب
-رضي الله عنه- مدائن كسرى، كان مما بعث به إليه هلالان، فبعث بهما
فعلقهما في الكعبة، وبعث عبد الملك بن مروان بالشمستين وقدحين من
قوارير وضرب على الأسطوانة الوسطى الذهب من أسفلها إلى أعلاها صفائح،
وبعث الوليد بن عبد الملك بقدحين، وبعث الوليد بن يزيد بالسرير
الزينبي1 وبهلالين، وكتب عليهما اسمه، بسم الله الرحمن الرحيم، أمر
عبد الله الخليفة الوليد بن يزيد أمير المؤمنين في سنة إحدى ومائة؛
قال أبو الوليد: أخبرنيه إسحاق بن سلمة الصائغ، أنه قرأ حين خلق
الكعبة, وأخبرنيه غير واحد من الحجبة سنة اثنتين وأربعين ومائتين.
وبعث أبو العباس بالصحفة الخضراء، وبعث أبو جعفر بالقارورة الفرعونية,
كل هذا معلق في البيت، وكان هارون الرشيد قد وضع في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إخبار الكرام ص167.
ج / 1 ص -179-
الكعبة قصبتين علقهما مع المعاليق في سنة
ست وثمانين ومائة، وفيهما بيعة محمد وعبد الله ابنيه وما عقد لهما وما
أخذ عليهما من العهود، وبعث المأمون بالياقوتة التي تعلق في كل سنة في
وجه الكعبة في الموسم: بسلسلة من ذهب، وبعث أمير المؤمنين جعفر المتوكل
بشمسة عملها من ذهب مكللة بالدر الفاخر والياقوت الرفيع والزبرجد
بسلسلة من ذهب تعلق في وجه الكعبة في كل موسم1.
حدثني سعيد بن يحيى البلخي، قال: أسلم ملك من ملوك التبت2 وكان له صنم
من ذهب يعبده في صورة إنسان، وكان على رأس الصنم تاج من الذهب مكلل
بخرز الجوهر والياقوت الأحمر والأخضر والزبرجد، وكان على سرير مربع
مرتفع من الأرض على قوائم، والسرير من فضة، وكان على السرير فرشة
الديباج، وعلى أطراف الفرش أزرار من ذهب وفضة مرخاة، والأزرار على قدر
الكدن3 في وجه السرير، فلما أسلم ذلك الملك, أهدى السرير والصنم إلى
الكعبة، فبعث به إلى أمير المؤمنين عبد الله المأمون هدية للكعبة،
والمأمون يومئذ بمرو من خراسان، فبعث به المأمون إلى الحسن بن سهل
بواسط، وأمره أن يبعث به إلى الكعبة، فبعث به مع نصير بن إبراهيم
الأعجمي رجل من أهل بلخ من القواد، فقدم به مكة في سنة إحدى ومائتين،
وحج بالناس تلك السنة إسحاق بن موسى بن عيسى بن موسى، فلما صدر الناس
من منى، نصب نصير بن إبراهيم السرير وما عليه من الفرشة والصنم، في وسط
رحبة عمر بن الخطاب، بين الصفا والمروة، فمكث ثلاثة أيام منصوبًا ومعهم
لوح من فضة مكتوب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إخبار الكرام ص168.
2 التبت: بلاد واسعة على جبال شامخة بين الصين والروس والهند.
3 في الأصول: "الكرين" وفي إتحاف الورى: "الكرير" وفي شفاء الغرام:
"الكرسي" ولعل الأولى ما أثبتناه. والكدن بمعنى: الثوب الذي يكون على
الخدر والرحل ومركب من مراكب النساء.
ج / 1 ص -180-
هذا سرير فلان ابن فلان ملك التبت، أسلم
وبعث بهذا السرير هدية إلى الكعبة، فاحمدوا الله الذي هداه للإسلام،
وكان يقف على السرير محمد بن سعيد ابن أخت نصير الأعجمي، فيقرؤه على
الناس بكرة وعشية، ويحمد الله الذي هدى ملك التبت إلى الإسلام، ثم دفعه
إلى الحجبة، وأشهد عليهم بقبضه، فجعلوه في خزانة الكعبة، في دار شيبة
بن عثمان1، حتى استخلف حمدون بن علي بن عيسى بن ماهان -يزيدَ بن محمد
بن حنظلة المخزومي على مكة، وخرج إلى اليمن فخالفه إبراهيم بن موسى بن
جعفر بن محمد العلوي إلى مكة مقبلًا من اليمن، فسمع به يزيد بن محمد
فخندق على مكة وسكها بالبنيان من أنقابها، وأرسل إلى الحجبة فأخذ
السرير وما عليه منهم، فاستعان به على حربه، وقال: أمير المؤمنين يخلفه
لها، وضربه دنانير ودراهم، وذلك في سنة اثنتين ومائتين، فبقي التاج
واللوح في الكعبة إلى اليوم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إتحاف الورى 2/ 271، شفاء الغرام 1/ 190.
نسخة ما في اللوح الذي في جوف الكعبة, الذي كان
مع السرير:
بسم الله الرحمن الرحيم، أمر عبد الله الإمام
المأمون أمير المؤمنين -أكرمه الله- ذا الرياستين، الفضل بن سهل
بالبعثة بهذا السرير من خراسان إلى بيت الله الحرام، في سنة مائتين وهو
سرير الأصبهبذ1 كابل شاه بعد مهراب بني دومي كابل شاه، المحمول تاجه
إلى مكة المخزون سريره في بيت مال المسلمين، بالمشرق في سنة سبع وتسعين
ومائة2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأصبهبذ: نائب الولاية، أو أميرها، أو ملكها, وهو هنا: ملك كابل.
2 إتحاف الورى 2/ 274.
ج / 1 ص -181-
ومن نبأ أمر الأصبهبذ، أنه أضعف عليه
الخراج والفدية عن بلاد كابل والقندهار1، ونصبت المنابر وبنيت المساجد
فيها، وخرج الأصبهبذ كابل شاه، نازلًا عن سريره هذا خاضعًا لله
مستسلمًا، حتى حاول حدود كابل وأرض الطخارستان2, ووضع يده في يد صاحب
جبل "خراسان"3 ذي الرياستين على ما سامه ذو الرياستين، من خطة الذل
للدين ولإمام المسلمين، ثم أقام البريد من القندهار إلى الباميان4،
وأضاف بلاد كابل والقندهار إلى بلاد خراسان، وأذعن للوالي مع الجنود
مقيمًا حدود الله والإسلام، عاملًا بأحكامه فيه وفيمن اختار الإسلام
معه، وأقام على العهد في مملكته، وسير الإمام -أكرمه الله- الرايات
الخضر5 على يدي ذي الرياستين إلى القشمير6، وفي ناحية التبت ما سيرها,
فأظهره الله سبحانه على بوخان7 وراور8 بلاد بلور صاحب جبل خاقان وجبل
التبت، وبعث به إلى العراق مع فرسان التبت، ومن ناحية السرير ما طلب
على باراب وشاوغر وزاول، وبلاد أطرار، وقتل قائد الثغر وسبى أولاد
جبغويه الخرلخي مع خاتوناته، بعد إحجاره إياه ببلاد كيماك وبعد غلبه ما
غلب على مدينة كاسان وبعث بمفاتيح قلاع فرغانة إلى العرب، فمن قرأ هذه
السطور فليعن على تعزيز الإسلام وتذليل الشرك بقول أو فعل؛ فإن ذلك
واجب على الناس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 القندهار: هي اليوم من ديار الأفغان، وكانت عاصمتها في القديم "هامش
ب1/ ص228".
2 الطخارستان: هي ولاية واسعة, تشمل عدة بلاد من نواحي خراسان.
3 من ب.
4 بلدة, وولاية في الجبال بين بلخ وهراة وغزنة.
5 الرايات الخضر: كانت رايات العباسيين سوداء, وفي بعض عهد المأمون
جعلها خضراء لغرض سياسي، ثم عاد إلى السواد بعد مدة "هامش إتحاف الورى
2/ 276".
6 القشمير والكشمير: ولاية بين الهند وباكستان وفيها -حاليا- حكومة
مستقلة داخليا, وتتبع الحكومة المركزية بالهند "هامش إتحاف الورى 2/
276".
7 بوخان: يرجح محقق "ب" أنها بوغوخان, ومعناها: أمير الجبل للمقاطعة
المعروفة.
8 راور: يقول محقق "ب": إنها مخففة عن راهور فارسية, بمعنى: أمير
الطريق, وقد لقب بها أمير بلاد البلور.
ج / 1 ص -182-
تعزيز الدين إذا قامت به الأئمة، ومن أراد
الزهد والجهاد وأبواب البر والمعاونة على ما يكسب الإسلام كهذا العز
وهذه المفاخر، وقد نسخنا ما كان حفر على صفيحة تاج مهرب بني دومي كابل
شاه، في سنة سبع وتسعين ومائة على هذا اللوح, ومن نصر دين الله نصره
الله؛ لقوله تبارك وتعالى:
{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ
عَزِيزٌ} [الحج: 40]1.
وكتب الحسن بن سهل, صنو ذي الرياستين في سنة مائتين:
وشخص أمير المؤمنين هارون الرشيد، من الرقة يريد الحج يوم الاثنين لسبع
ليالٍ بقين من شهر رمضان سنة ست وثمانين ومائة، فلم يدخل مدينة
السلام، ونزل منزلًا منها على سبعة فراسخ على شاطئ الفرات، يقال له:
الدارب وقد بني له بها منزل، ثم شخص خارجًا ومعه الأمين ولي العهد
محمد ابن أمير المؤمنين والمأمون ولي العهد من بعده عبد الله ابن أمير
المؤمنين، ومعه جميع وزرائه وقرابته، فعدل إلى المدينة من الربذة
وقدمها، فأقام بها يومين، لم يصنع الأول منهما شيئًا إلا الصلاة في
المسجد والتسليم على النبي -صلى الله عليه وسلم- وجلس في اليوم الثاني
في المقصورة حيال المنبر، فأمر بالمقصورة فغلقت كلها، ودعا بدفاتر
العطاء، فأخرج يومه ذلك لأهل العطاء ثلاثة أعطية، وبدأ بالعطاء بنفسه
فبودئ باسمه ووزن له عطاؤه فجعله في كمه، ثم فعل ذلك بالأمين
والمأمون، ثم ببني هاشم المبدئين في الدعوة على غيرهم، فأعطوا كذلك
عشيتهم.
ثم قام إلى منزله فأصبح غاديًا من المدينة الشريفة إلى مكة المعظمة،
فلما قدمها عزل العثماني صهره محمد بن عبد الله عن صلاة مكة، وولى
مكانه سليمان بن جعفر بن سليمان، فلما كان قبل التروية بيوم بعد الصبح،
صعد المنبر فخطب خطبة الحج، ثم فتح له باب البيت فدخله وحده ليس معه
غيره، وقام مسرور على باب البيت وأجيف أحد المصراعين، فمكث فيه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الخبر بطوله لدى ابن فهد, في إتحاف الورى 2/ 275-277.
ج / 1 ص -183-
طويلًا في جوف الكعبة، ثم دعا بالأمين محمد
ولي العهد، فكلمه طويلًا في جوف الكعبة، ثم دعا بالمأمون عبد الله ففعل
به مثل ذلك، ثم دعا بسليمان بن أبي جعفر، ثم دعا بالفضل بن الربيع، ثم
بعيسى بن جعفر وجعفر بن جعفر وجعفر بن موسى أمير المؤمنين، فدخلوا عليه
جميعًا، ثم دخل بعدهم الحارث وأبان ومحمد بن خالد وعبيد بن يقطين
ونظراؤهم، ودعا بيحيى بن خالد، ولم يكن حاضرًا، فأتي به معجلًا حتى
دخل، ودعا بجعفر بن يحيى، ثم كتب وليا العهد، كل واحد منهما على نفسه،
كتابًا لأمير المؤمنين فيما أخذ على كل واحد منهما لصاحبه، وتوكَّد فيه
عليهما بخط يده1.
وحضرت الصلاة صلاة الظهر من قبل فراغهم، فنزل أمير المؤمنين، فصلى بهم
الظهر ثم عاد إلى الكعبة فكان فيها إلى أن فرغوا من الكتابين، وأحضروا
الناس سوى من سمينا: قاضي مكة محمد بن عبد الرحمن المخزومي، وأسد بن
عمرو قاضي مدينة الشرقية، وبعض من حجبة البيت، ثم حضرت صلاة العصر عند
فراغهم, فنزل أمير المؤمنين فصلى بهم, ثم طافوا سبعًا ثم دخل منزله من
دار العجلة وأمر بحشر من حضر من الهاشميين وغيرهم ليشهدوا على
الكتابين، وأرسل إلى سليمان بن أبي جعفر وعيسى بن جعفر وجعفر بن موسى
وقد كانوا انصرفوا، فردوا من منازلهم فجاءوا متضجرين، وأخرج إليهم
الكتابين وقد وضع عليهما الطين، وليس من الخواتيم إلا خاتما وليي
العهد، فقرئا على جميع من حضر ليشهدوا عليهما2، ولم يثبت في الكتابين
إلا أسماء من كان في الكعبة، حيث كتب الكتابان ولم يختم غيرهم، ولم يكن
الكتابان طُيِّنا ولا طُوِيا ولا خُتِما في جوف الكعبة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إتحاف الورى 2/ 234, 235.
2 في الأصول عليه, والمثبت من إتحاف الورى 2/ 235.
ج / 1 ص -184-
ثم أمر أمير المؤمنين بعد أن شهدوا على
الكتابين أن يعلقا في داخل الكعبة قبالة بابها مع المعاليق التي فيها
حيث يراهما الناس، وضمنهما الحجبة واستحلفهم على حفظهما والقيام بهما
وأن يصونوهما ويعلقوهما في وقت الحج منشورين، وصنع لهما قصبتان من ذهب
فكللوهما بفصوص الياقوت، والزبرجد، واللؤلؤ، ثم انصرف أمير المؤمنين
بعد قضاء نسكه، فسار مقتصدًا لم يعد المراحل حتى وافى الكوفة1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إتحاف الورى 2/ 235, 236.
نسخة الكتابين1
اللذين كتبا في بطن الكعبة اللذين شهد عليهما، ونسخة الشرط الذي كتبه
محمد بن أمير المؤمنين في بطن الكعبة:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب لعبد الله هارون أمير المؤمنين، كتبه
له محمد بن هارون أمير المؤمنين، في صحة من بدنه وعقله وجواز من أمره,
طائعًا غير مكره: إن أمير المؤمنين هارون ولاني العهد من بعده، وجعل لي
البيعة في رقاب المسلمين جميعًا، وولى أخي عبد الله بن أمير المؤمنين
هارون العهد والخلافة وجميع أمور المسلمين بعدي، برضاء مني وتسليم
طائعًا غير مكره، وولاه خراسان بثغورها وكورها "وحربها"2 وجنودها
وخراجها وطرزها, وبريدها وبيوت أموالها, وصدقاتها, وعشرها وعشورها,
وجميع أعمالها في حياته وبعد وفاته، فشرطت لعبد الله هارون أمير
المؤمنين "برضا مني وطيب نفسي أن لأخي عبد الله بن هارون"2 علي الوفاء،
بما جعل له أمير المؤمنين هارون من البيعة والعهد, وولاية الخلافة,
وأمور المسلمين بعدي، وتسليم ذلك له وما جعل له من ولاية خراسان
وأعمالها، وما أقطعه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أوردهما ابن فهد بنصهما في إتحاف الورى 2/ 236 وما بعدها.
2 إضافة عن تاريخ الطبري 10/ 74.
ج / 1 ص -185-
أمير المؤمنين هارون من قطيعة, وجعل له من
عقدة أو ضيعة من ضياعه وعقده, أو ابتاع له من الضياع والعقد، وما أعطاه
في حياته وصحته من مال أو حلي أو جواهر أو متاع, أو كسوة أو رقيق أو
منزل أو دواب أو قليل أو كثير، فهو لعبد الله ابن أمير المؤمنين موفرًا
عليه مسلمًا له، وقد عرفت ذلك كله شيئًا شيئًا باسمه وأصنافه ومواضعه،
أنا وعبد الله بن هارون أمير المؤمنين، فإن اختلفنا في شيء منه فالقول
فيه قول عبد الله بن هارون أمير المؤمنين، لا أتبعه بشيء من ذلك ولا
آخذه منه, ولا أنتقصه صغيرًا ولا كبيرًا, ولا من ولاية خراسان ولا
غيرها مما ولاه أمير المؤمنين من الأعمال، ولا أعزله عن شيء منها, ولا
أخلعه ولا أستبدل به غيره، ولا أقدم "عليه"1 قبله في العهد والخلافة
أحدًا من الناس جميعًا، ولا أدخل عليه مكروهًا في نفسه ودمه, ولا شعره
ولا بشره, ولا خاص ولا عام من أمور ولايته, ولا أمواله ولا قطائعه ولا
عقده، ولا أغير عليه شيئًا بسبب من الأسباب، ولا آخذه ولا أحدًا من
عماله وكتابه وولاة أمره، ممن صحبه وأقام معه, لمحاسبة، ولا أتتبع
شيئًا مما جرى على يديه وأيديهم في ولايته خراسان وأعمالها، وغيرها مما
ولاه أمير المؤمنين في حياته وصحته، من الجباية والأموال والطرز
والبريد والصدقات والعشر والعشور وغير ذلك، ولا آمر بذلك أحدًا من
الناس, ولا أرخص فيه لغيري, ولا أحدث فيه نفسي بشيء أمضيه عليه، ولا
ألتمس فيه قطيعته، ولا أنقص شيئًا مما جعل له هارون أمير المؤمنين,
وأعطاه في حياته وخلافته وسلطانه من جميع ما سميت في كتابي هذا، وآخذ
له علي وعلى جميع الناس البيعة، ولا أرخص لأحد من الناس كلهم في جميع
ما ولاه، ولا في خلعه ولا في مخالفته، ولا أسمع من أحد من البرية في
ذلك قولًا، ولا أرضى بذلك في سر ولا علانية، ولا أغمض عليه ولا أتغافل
عليه, ولا أقبل من بر من العباد ولا فاجر, ولا صادق ولا كاذب،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إضافة من إتحاف الورى 2/ 237.
ج / 1 ص -186-
ولا ناصح ولا غاش, ولا قريب ولا بعيد, ولا
أحد من ولد آدم -عليه السلام- من ذكر ولا أنثى، مشورة ولا مكيدة ولا
حيلة في شيء من الأمور؛ سرها وعلانيتها, وحقها وباطلها, وباطنها
وظاهرها، ولا لسبب من الأسباب, أراد بذلك إفساد شيء، مما أعطيت عبد
الله بن هارون أمير المؤمنين من نفسي، وأوجبت له علي وشرطت وسميت في
كتابي هذا، وأراد به أحد من الناس أجمعين سوءًا أو مكروهًا أو أراد
خلعه أو محاربته أو الوصول إلى نفسه ودمه أو حرمه, أو سلطانه أو ماله,
أو ولايته جميعًا أو فرادى, مسرين أو مظهرين له، أن أنصره وأحوطه وأدفع
عنه كما أدفع عن نفسي ومهجتي ودمي وشعري وبشري وحرمي وسلطاني، وأجهز
الجنود إليه وأعينه على كل من غشه وخالفه، ولا أسلمه ولا أتخلى منه،
ويكون أمري وأمره في ذلك واحدًا أبدًا ما كنت حيًّا.
وإن حدث بأمير المؤمنين حدث الموت، وأنا وعبد الله بن أمير المؤمنين
بحضرة أمير المؤمنين أو أحدنا، أو كنا غائبين عنه جميعًا مجتمعين كنا
أو متفرقين، وليس عبد الله بن هارون أمير المؤمنين في ولايته بخراسان،
فعلي لعبد الله بن هارون أمير المؤمنين أن أمضيه إلى خراسان، وأسلم له
ولايتها وأعمالها كلها وجنودها ولا أعوقه عنها, ولا أحبسه قبلي ولا في
شيء من البلدان دون خراسان، وأعجل إشخاصه إلى خراسان واليًا عليها وعلى
جميع أعمالها، منفردًا بها, مفوضًا إليه جميع أعمالها كلها، وأُشخص معه
جميع من ضم إليه أمير المؤمنين من قواده وجنوده, وأصحابه وكتابه،
وعماله، ومواليه، وخدمه، ومن تبعه من صنوف الناس بأهليهم وأموالهم،
ولا أحبس عنه أحدًا منهم، ولا أشرك معه في شيء منها أحدًا، ولا أرسل
عليه أمينًا، ولا كاتبًا ولا بندارًا1، ولا أضرب على يديه في قليل ولا
كثير.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البندار: التاجر يحتكر البضائع ويتربص بها غلاء السعر، والبنادرة هم:
التجار يلزمون المعادن, واحدها: بندار.
ج / 1 ص -187-
وأعطيت هارون أمير المؤمنين وعبد الله بن
هارون على ما شرطت لهما على نفسي من جميع ما سميت وكتبت في كتابي هذا،
عهد الله وميثاقه, وذمة أمير المؤمنين وذمتي, وذمم آبائي، وذمم
المؤمنين، وأشد ما أخذ الله -عز وجل- على النبيين والمرسلين وخلقه
أجمعين من عهوده ومواثيقه، والأيمان المؤكدة التي أمر الله -عز وجل-
بالوفاء بها, ونهى عن نقضها وتبديلها، فإن أنا نقضت شيئًا مما شرطت
لهارون أمير المؤمنين ولعبد الله بن هارون أمير المؤمنين، وسميت في
كتابي هذا، أو حدثت نفسي أن أنقض شيئًا مما أنا عليه، أو غيرت أو بدلت
أو حدثت أو غدرت أو قبلت من أحد من الناس, صغيرًا أو كبيرًا، برًّا أو
فاجرًا، ذكرًا أو أنثى، جماعة أو فرادى، فبرئت من الله سبحانه, ومن
ولايته, ومن دينه، ومن محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولقيت الله
-عز وجل- يوم القيامة كافرًا به مشركًا، وكل امرأة هي اليوم لي أو
أتزوجها إلى ثلاثين سنة، طالق ثلاثًا البتة طلاق الحرج، وعلي المشي إلى
بيت الله الحرام ثلاثين حجة, نذرًا واجبًا لله تعالى في عنقي, حافيًا
راجلًا، لا يقبل الله مني إلا الوفاء بذلك، وكل مال هو لي اليوم أو
أملكه إلى ثلاثين سنة هدي بالغ الكعبة الحرام، وكل مملوك هو لي اليوم
أو أملكه إلى ثلاثين سنة فهم أحرار لوجه الله تعالى، وكل ما جعلت لأمير
المؤمنين ولعبد الله بن هارون أمير المؤمنين وكتبته وشرطته لهما، وحلفت
عليه وسميت في كتابي هذا لازمًا لي الوفاء به ولا أضمر غيره، ولا أنوي
إلا إياه، فإن أضمرت أو نويت غيره فهذه العهود والمواثيق والأيمان كلها
لازمة لي واجبة علي، وقواد أمير المؤمنين وجنوده وأهل الآفاق والأمصار
وعوام المسلمين براء من بيعتي وخلافتي وعهدي وولايتي، وهم في حل من
خلعي وإخراجي، ومن ولايتي عليهم حتى أكون سوقة من السوق, وكرجل من عرض
المسلمين, لا حق لي عليهم ولا ولاية ولا تبعة لي قبلهم، ولا بيعة لي في
أعناقهم، وهم في حل من الأيمان التي أعطوني، براء من تبعتها ووزرها في
الدنيا والآخرة.
ج / 1 ص -188-
شهد سليمان بن أمير المؤمنين المنصور،
وعيسى بن جعفر، وجعفر بن جعفر، وعبد الله بن المهدي، وجعفر بن موسى
أمير المؤمنين، وإسحاق بن موسى أمير المؤمنين، وإسحاق بن عيسى بن علي،
وأحمد بن إسماعيل بن علي، وسليم بن جعفر بن سليمان، وعيسى بن صالح بن
علي، وداود بن عيسى بن موسى، ويحيى بن عيسى بن موسى, وداود بن سليمان
بن جعفر، وخزيمة بن حازم، وهرثمة بن أعين، ويحيى بن خالد، والفضل بن
يحيى، وجعفر بن يحيى, والفضل بن الربيع مولى أمير المؤمنين، والعباس بن
الفضل بن الربيع مولى أمير المؤمنين، وعبد الله بن الربيع مولى أمير
المؤمنين، والقاسم بن الربيع مولى أمير المؤمنين، ودقاقة بن عبد العزيز
العبسي، وسليمان بن عبد الله بن الأصم، والربيع بن عبد الله الحارثي،
وعبد الرحمن بن أبي السمراء الغساني, ومحمد بن عبد الرحمن قاضي مكة،
وعبد الكريم بن شعيب الحجبي, وإبراهيم بن عبد الله الحجبي، وعبد الله
بن شعيب الحجبي، ومحمد بن عبد الله بن عثمان الحجبي، وإبراهيم بن عبد
الرحمن بن نبيه الحجبي، وعبد الواحد بن عبد الله الحجبي، وإسماعيل بن
عبد الرحمن بن نبيه الحجبي، وأبان مولى أمير المؤمنين، ومحمد بن منصور،
وإسماعيل بن ضبيح، والحارث مولى أمير المؤمنين، وخالد مولى أمير
المؤمنين، وكتب في ذي الحجة, سنة ست وثمانين ومائة.
ج / 1 ص -189-
نسخة الشرط الذي كتبه عبد الله بن
هارون أمير المؤمنين, في بطن الكعبة1:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب لعبد الله
هارون أمير المؤمنين، كتبه له عبد الله بن هارون أمير المؤمنين، في صحة
من عقله وجواز من أمره وصدق نية، فيما كتب في كتابه ومعرفة ما فيه من
الفضل والصلاح له ولأهل بيته ولجماعة المسلمين: إن أمير المؤمنين هارون
ولاني العهد والخلافة وجميع أمور المسلمين في سلطانه، بعد أخي محمد بن
هارون أمير المؤمنين، وولاني في حياته وبعده ثغور خراسان وكورها وجميع
أعمالها، من الصدقات والعشر والعشور والبريد والطرز وغير ذلك، واشترط
لي على محمد بن أمير المؤمنين الوفاء بما عقد لي به من الخلافة
والولاية للعباد والبلاد بعده، وولاني خراسان وجميع أعمالها، ولا يعرض
لي في شيء مما أقطعني أمير المؤمنين أو ابتاع لي من الضياع والعقد
والدور والرباع، أو ابتعت منه من ذلك، وما أعطاني أمير المؤمنين هارون
من الأموال والجوهر والكساء والمتاع والدواب "والرقيق وغير ذلك، ولا
يعرض لي ولا لأحد من عمالي وكتابي"2 في سبب محاسبة, ولا يتبع لي في
ذلك، ولا لأحد منهم أبدًا، ولا يدخل علي ولا على أحد ممن كان معي ومني،
ولا عمالي ولا كتابي, ومن استعنت به من جميع الناس، مكروهًا في دم ولا
نفس ولا شعر ولا بشر, ولا مال ولا صغير "من الأمور"2 ولا كبير، فأجابه
إلى ذلك وأقر به، وكتب له به كتابًا وكتبه على نفسه ورضي به أمير
المؤمنين هارون وقبله وعرف صدق نيته، فشرطت لعبد الله هارون أمير
المؤمنين، وجعلت له على نفسي أن أسمع لمحمد بن أمير المؤمنين وأطيعه
ولا أعصيه، وأنصحه ولا أغشه، وأوفي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أورده ابن فهد في إتحاف الورى 2/ 241 وما بعدها.
2 إضافة عن تاريخ الطبري.
ج / 1 ص -190-
بيعته وولايته، ولا أغدر، ولا أنكث، وأنفذ
كتبه وأموره, وأحسن مؤازرته ومكانفته، وأجاهد عدوه في ناحيتي بأحسن
جهاد، ما وفى لي بما شرط لي ولعبد الله هارون أمير المؤمنين، وسماه في
الكتاب الذي كتبه لأمير المؤمنين، ورضي به أمير المؤمنين وقبله ولم
ينقص شيئًا من ذلك ولا ينقص أمرًا من الأمور التي اشترطها لي عليه
هارون أمير المؤمنين.
وإن احتاج محمد بن هارون أمير المؤمنين إلى جند, وكتب إلي يأمرني
بإشخاصهم إليه، أو إلى ناحية من النواحي, أو إلى عدو من أعدائه خالفه,
أو أراد نقص شيء من سلطانه وسلطاني الذي أسنده هارون أمير المؤمنين
إلينا وولانا "إياه فعلي"1 أن أنفذ أمره ولا أخالفه, ولا أقصر في شيء
إن كتب به إلي.
وإن أراد محمد بن أمير المؤمنين، أن يولي رجلًا من ولده العهد والخلافة
من بعدي، فذلك له ما وفى لي بما جعل لي أمير المؤمنين هارون واشترط لي
عليه وشرطه على نفسه في أمري، وعلي إنفاذ ذلك والوفاء له بذلك، ولا
أنقض ذلك ولا أغيره ولا أبدله ولا أقدم فيه أحدًا من ولدي ولا قريبًا
ولا بعيدًا من الناس أجمعين، إلا أن يولي هارون أمير المؤمنين أحدًا من
ولده العهد من بعدي، فيلزمني ومحمدًا الوفاء بذلك.
وجعلت لأمير المؤمنين ومحمد بن أمير المؤمنين علي الوفاء بما اشترطت
وسميت في كتابي هذا ما وفى له محمد بن أمير المؤمنين، ولمحمد بن أمير
المؤمنين هارون بجميع ما اشترط لي هارون أمير المؤمنين عليه في نفسي،
وما أعطاني أمير المؤمنين هارون من جميع الأشياء المسماة في الكتاب
الذي كتبه له عبد الله وميثاقه وذمة أمير المؤمنين وذمتي وذمم آبائي
وذمم المؤمنين، وأشد ما أخذ الله -عز وجل- على النبيين والمرسلين وخلقه
أجمعين من عهوده ومواثيقه والأيمان المؤكدة التي أمر الله عز وجل
بالوفاء بها، فإن نقضت شيئًا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إضافة عن تاريخ الطبري.
ج / 1 ص -191-
مما شرطت وسميت في كتابي هذا له، أو غيرت
أو بدلت, أو نكثت أو غدرت، فبرئت من الله تعالى, ومن ولايته, ومن دينه,
ومن محمد رسوله -صلى الله عليه وسلم- ولقيت الله سبحانه يوم القيامة
كافرًا مشركًا به.
وكل امرأة هي اليوم لي أو أتزوجها إلى ثلاثين سنة، طالق ثلاثًا البتة
طلاق الحرج، وكل مملوك لي اليوم أو أملكه إلى ثلاثين سنة أحرار لوجه
الله تعالى، وعلي المشي إلى بيت الله الحرام الذي بمكة ثلاثين حجة
نذرًا واجبًا علي وفي عنقي، حافيًا راجلًا لا يقبل الله مني إلا الوفاء
به، وكل مال هو لي اليوم أو أملكه إلى ثلاثين سنة هدي بالغ الكعبة، وكل
ما جعلت لعبد الله هارون أمير المؤمنين وشرطت في كتابي هذا لازم لي، لا
أضمر غيره ولا أنوي سواه، شهد تسمية الشهود في ذلك الذين شهدوا على
محمد بن أمير المؤمنين.
فلم يزل الشرطان معلقين في جوف الكعبة، حتى مات هارون الرشيد أمير
المؤمنين وبعدما مات بسنتين في خلافة محمد بن الرشيد، ثم كلم الفضل بن
الربيع محمد بن عبد الله الحجبي أن يأتيه بهما؛ فنزعهما من الكعبة وذهب
بهما إلى بغداد, فأخذهما الفضل فخرقهما وأحرقهما بالنار.
نسخة ما كان حفر1
على صحيفة التاج2:
بسم الله الرحمن الرحيم, أمر الإمام المأمون
أمير المؤمنين -أكرمه الله- بحمل هذا التاج من خراسان، وتعليقه في
الموضع الذي علق فيه الشرطان في بيت الله الحرام؛ شكرًا لله عز وجل على
الظفر بمن غدر, وتبجيلًا للكعبة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصل، ومثله في إتحاف الورى, وفي أ، ب: "كتب".
2 انظر في ذلك: إتحاف الورى 2/ 273 وما بعدها.
ج / 1 ص -192-
إذا استخفّ بها من نكث, وحال عما أكد على
نفسه فيها، ورجا الإمام عظيم الثواب من الله -عز وجل- بسده الثلمة التي
اخترمها، المخلوع في الدين, فإنه قد كان جريئًا على الغدر والاستخفاف
بما أكد في بيت الله عز وجل وحرمه، وتوخى الإمام تذكير من تنفعه الذكرى
ليزيدهم به يقينًا في دينهم، وتعظيمًا لبيت ربهم, وتحذيرًا لمن استخفّ
وتعدى, فإنما علقنا هذا التاج بعد غدر المخلوع وإخراجه الشرطين وإحراقه
إياهما.
فأخرجه الله من ملكه بالسيف، وأحرق محلته بالنار عبرة وعظة وعقوبة بما
كسبت يداه، وما الله بظلام للعبيد.
وبعد عقد الإمام المأمون -أكرمه الله- بخراسان لذي الرياستين الفضل بن
سهل وتوليته إياه المشرق وبلوغ الراية السوداء بلاد كابل ونهر السند,
وتصيير مهرب بني دومي كابل شاه سريره وتاجه على يدي ذي الرياستين إلى
باب الإمام المأمون أمير المؤمنين، وإسلام كابل شاه وأهل طاعته على يدي
الإمام بمرو.
فأمر الإمام -جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا- الثروة1 من الأئمة
المهديين: أن يدفع السرير إلى خزانة بيت مال المسلمين بالمشرق، ويعلق
التاج في بيت الله الحرام بمكة، وبعث به ذو الرياستين والي الإمام على
المشرق, ومدبر خيوله، وصاحب دعوته, بعدما اجتمع المسلمون على طاعة
الإمام المأمون أمير المؤمنين -أكرمه الله- ووفوا له بوفائه بعهد الله,
وأطاعوه بتمسكه بطاعة الله عز وجل, وكانفوه بعمله بكتاب الله وإحيائه
سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبرئوا به من المخلوع لغدره ونكثه
وتبديله, فالحمد لله رب العالمين معز من أطاعه, ومذل من عصاه، ورافع من
وفى، وواضع من غدر، وصلى الله على محمد النبي وآله وصحبه وسلم، وكتب
الحسن بن سهل صنو ذي الرياستين في سنة تسع وتسعين ومائة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصل, وفي بقية الأصول: "لثروة" وعلق عليها محقق "ب" بأن
اللفظة محرفة على كل حال... والثروة: الكثير من المال والناس، وفي
الحديث:
"ما بعث الله نبيًّا بعد لوط إلا في ثروة من
قومه".
ج / 1 ص -193-
ذكر الجب الذي كان في الجاهلية في
الكعبة, ومال الكعبة الذي يهدى لها, وما جاء في ذلك:
حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا جدي, عن مسلم بن
خالد الزنجي, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد، قال: كان في الكعبة على يمين
من دخلها جب عميق حفره إبراهيم خليل الرحمن وإسماعيل -عليهما السلام-
حين رفعا القواعد، وكان يكون فيه ما يهدى للكعبة من حلي أو ذهب أو فضة
أو طيب أو غير ذلك، وكانت الكعبة ليس لها سقف، فسرق منها على عهد جرهم
مال مرة بعد مرة، وكانت جرهم ترتضي لذلك رجلًا يكون عليه يحرسه، فبينا
رجل ممن ارتضوه عندها إذ سولت له نفسه فانتظر حتى إذا انتصف النهار،
وقلصت الظلال، وقامت المجالس، وانقطعت الطرق، ومكة إذ ذاك شديدة الحر،
فبسط رداءه، ثم نزل في البئر فأخرج ما فيها فجعله في ثوبه، فأرسل الله
-عز وجل- حجرًا من البئر فحبسه حتى راح الناس، فوجدوه فأخرجوه، وأعادوا
ما وجدوا في ثوبه في البئر، فسميت تلك البئر الأخسف.
فلما أن خسف بالجرهمي وحبسه الله عز وجل، بعث الله عند ذلك ثعبانًا
وأسكنه في ذلك الجب في بطن الكعبة أكثر من خمسمائة سنة يحرس ما فيه،
فلا يدخله أحد إلا رفع رأسه وفتح فاه، فلا يراه أحد إلا ذعر منه، وكان
ربما يشرف على جدار الكعبة، فأقام كذلك في زمن جرهم وزمن خزاعة وصدرًا
من عصر قريش، حتى اجتمعت قريش في الجاهلية على هدم البيت
ج / 1 ص -194-
وعمارته، فحال بينهم وبين هدمه حتى دعت
قريش عند المقام عليه والنبي -صلى الله عليه وسلم- معهم وهو يومئذ غلام
لم ينزل عليه الوحي بعد، فجاء عقاب فاختطفه ثم طار به نحو أجياد
الصغير.
قال: حدثني جدي: قال: حدثنا ابن عيينة, عن عمرو بن عبيد, عن الحسن أن
عمر بن الخطاب قال: لقد هممت أن لا أدع في الكعبة صفراء ولا بيضاء إلا
قسمتها؛ فقال له أبي بن كعب: والله ما ذلك لك. فقال عمر: لم؟ فقال: إن
الله عز وجل قد بين موضع كل شيء, وأقره رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
فقال عمر: صدقت.
حدثني جدي قال: حدثنا ابن عيينة, عن سفيان بن سعيد الثوري, عن واصل
الأحدب, عن أبي وائل شقيق بن سلمة، قال: جلست إلى شيبة بن عثمان في
المسجد الحرام، فقال: جلس إلي عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مجلسك هذا،
فقال: لقد هممت أن لا أترك فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها -يعني
الكعبة- قال شيبة: فقلت له: إنه قد كان لك صاحبان لم يفعلاه، رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر -رضي الله عنه- فقال عمر: هما المرآن
أقتدي بهما.
حدثني جدي قال: حدثنا سفيان بن عيينة, عن إبراهيم بن ميسرة, عن رجل عن
الحسين بن علي أن عمر -رضي الله عنه- قال لعلي بن أبي طالب -رضي الله
عنه: لقد هممت أن أقسم هذا المال -يعني مال الكعبة- فقال له علي: إن
استطعت ذلك. فقال عمر: وما لي لا أستطيع ذلك أولا تعينني على ذلك؟ فقال
علي: إن استطعت ذلك، فرددها عمر ثلاثًا، فقال علي -رضي الله عنه: ليس
ذلك إليك، فقال عمر: صدقت.
وحدثني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن أشياخه، قالوا: قال عمر -رضي الله
عنه: لقد هممت أن لا أترك في الكعبة شيئًا إلا قسمته؛ فقال له أبي بن
كعب: والله ما ذلك لك؛ قال: ولم؟ قال: قرر الله موضع كل مال
ج / 1 ص -195-
وأقره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
صدقت.
وكان ابن عباس يقول: سمعت عمر -رضي الله عنه- يقول: إن تركي هذا المال
في الكعبة لا آخذه فأقسمه في سبيل الله تعالى وفي سبيل الخير، وعلي بن
أبي طالب يسمع ما يقول، فقال: ما تقول يابن أبي طالب؟ أحلف بالله لئن
شجعتني عليه لأفعلن. قال: فقال له علي: أتجعله فيئا وأحرى صاحبه رجل
يأتي في آخر الزمان ضرب أدم طويل، فمضى عمر، قال: وذكروا أن النبي -صلى
الله عليه وسلم- وجد في الجب الذي كان في الكعبة سبعين ألف أوقية من
ذهب مما كان يهدى إلى البيت، وأن علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- قال:
يا رسول الله, لو استعنت بهذا المال على حربك، فلم يحركه، ثم ذكر لأبي
بكر فلم يحركه.
حدثني محمد بن يحيى قال: حدثني بعض الحجبة في سنة ثمان وثمانين ومائة،
أن ذلك المال بعينه في خزانة الكعبة، ثم لا أدري ما حاله بعد، حدثني
جدي وغيره من مشيخة أهل مكة وبعض الحجبة: أن الحسين بن الحسن العلوي
عمد إلى خزانة الكعبة في سنة مائتين في الفتنة حين أخذ الطالبيون مكة،
فأخذ مما فيها مالًا عظيمًا وانتقله إليه؛ وقال: ما تصنع الكعبة بهذا
المال موضوعًا لا ينتفع به؟ نحن أحق به نستعين به على حربنا1.
حدثني جدي قال: سمعت عبد الله بن زرارة بن مصعب بن شيبة بن جبير بن
شيبة بن عثمان، يقول: حضرت الوفاة فتى منا من أصحابنا من الحجبة
بالبوباة2 من قرن، فاشتد عليه الموت جدا، فمكث أيامًا ينزع نزعًا
شديدًا حتى رأوا منه ما غمهم وأحزنهم من شدة كربه، فقال له أبوه: يا
بني لعلك أصبت من هذا الأبرق شيئًا -يعني مال الكعبة- قال: نعم يا
أبت، أربعمائة دينار، فقال أبوه: اللهم، إن هذه الأربعمائة دينار علي
في أنضر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إتحاف الورى 2/ 265.
2 اسم لصحراء بأرض تهامة.
ج / 1 ص -196-
مالي للكعبة، ثم انحرف إلى أصحابه فقال:
اشهدوا أن للكعبة علي أربعمائة دينار في أنضر مالي أؤديها إليها، قال:
فسري عنه, ثم لم يلبث الفتى أن مات1.
قال أبو الوليد: وسمعت يوسف بن إبراهيم بن محمد العطار يحدث عن عبد
الله بن زرارة، أن مال الكعبة كان يدعى الأبرق ولم يخالط مالا قط إلا
محقه، ولم يرزأ أحد منه قط من أصحابنا إلا بان النقص في ماله، وأدنى
ما يصيب صاحبه أن يشدد عليه الموت، قال: ولم يزل من مضى من مشيخة
الحجبة يحذرونه أبناءهم ويخوفونهم إياه ويوصونهم بالتنزه عنه، ويقولون:
لن تزالوا بخير ما دمتم أعفة عنه, وإن كان الرجل ليصيب منه الشيء فيضعه
عند الناس.
حدثني مسافع بن عبد الرحمن الحجبي قال: لما بويع بمكة لمحمد بن جعفر بن
محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم- في الفتنة في
سنة مائتين حين ظهرت المبيضة2 بمكة, أرسل إلى الحجبة فتسلف منهم من مال
الكعبة خمسة آلاف دينار، وقال: نستعين بها على أمرنا، فإذا أفاء الله
علينا رددناها في مال الكعبة، فدفعوا إليه وكتبوا عليه بذلك كتابًا,
وأشهدوا فيه شهودًا، فلما خلع نفسه ورفع إلى أمير المؤمنين المأمون،
تقدم الحجبة واستعدوا عليه عند أمير المؤمنين، فقضاهم أمير المؤمنين
المأمون عن محمد بن جعفر خمسة آلاف دينار وكتب لهم بها إلى إسحاق بن
عباس بن عباد بن محمد وهو والٍ على اليمن، فقبضتها الحجبة وردوها في
خزانة الكعبة.
حدثني جدي, قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى قال: حدثنا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 شفاء الغرام 1/ 194.
2 المبيضة: فرقة من الثنوية، وهم أصحاب المقنع، سموا بذلك لتبييضهم
ثيابهم, مخالفة للمسودة العباسيين، وكذلك كان يطلق على كل جماعة خارجة
على الدولة العباسية.
ج / 1 ص -197-
أيوب بن موسى عن سعيد بن يسار الخزاعي عن
ابن عمر، أنه كان في دار خالد بن أسيد بمكة، فجاءه رجل فقال: أرسل معي
بحلي إلى الكعبة، فقال له: ممن أنت؟ قال: من أهل العراق، قال: ما
أحمقكم يا أهل العراق, أما فيكم مسكين؟ أما فيكم يتيم؟ أما فيكم فقير؟
إن كعبة الله لغنية عن الذهب والفضة, ولو شاء الله لجعلها ذهبًا وفضة.
قال ابن يسار: فكان معي حلي بعثت بها إلى الكعبة فقلت له: وأنا مستحي،
فقال: وأنت أيضًا، ثم قال لي كما قال للآخر.
ذكر من كسا الكعبة في الجاهلية:
حدثنا عم أبي أبو محمد قال: حدثنا أبو الوليد
قال: حدثني جدي قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى, عن همام بن
منبه, عن أبي هريرة, عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه نهى عن سب أسعد
الحميري وهو تبع، وكان هو أول من كسا الكعبة.
وحدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, عن محمد بن إسحاق قال:
بلغني عن غير واحد من أهل العلم أن أول من كسا الكعبة كسوة كاملة
تُبَّع وهو أسعد, أرى في النوم أنه يكسوها فكساها الأنطاع, ثم أرى أن
يكسوها فكساها الوصائل ثيابا حبرة من عصب اليمن وجعل لها بابًا يغلق,
وقال أسعد في ذلك:
وكسونا البيت الذي حرم اللـ
ـه ملاء معضدًا وبرودا
وأقمنا به من الشهر عشرًا
وجعلنا لبابه إقليدا
وخرجنا منه نؤم سهيلا
قد رفعنا لواءنا معقودا1
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيرة ابن هشام 1/ 25 وهامش 4.
ج / 1 ص -198-
وحدثني محمد بن يحيى قال: حدثني سليم بن
مسلم, عن ابن جريج أنه كان يقول: أول من كسا الكعبة كسوة كاملة تبع,
كساها العصب وجعل لها بابًا يغلق.
حدثني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن أفلح بن حميد, عن أبيه, عن النوار
بنت مالك بن صرمة أم زيد بن ثابت قالت: رأيت على الكعبة قبل أن ألد زيد
بن ثابت وأنا به نسء, مطارف خز خضراء وصفراء, وكرارًا, وأكسية من أكسية
الأعراب وشقاق شعر, الكرار: الخيش الرقيق واحدها: كر.
حدثني جدي أحمد بن محمد, عن الواقدي, عن عبد الحكيم بن عبد الله بن أبي
فروة, عن هلال بن أسامة, عن عطاء بن يسار عن عمر بن الحكم السلمي قال:
نذرت أمي بدنة تنحرها عند البيت وجللتها شقتين من شعر ووبر, فنحرت
البدنة وسترت الكعبة بالشقتين والنبي -صلى الله عليه وسلم- يومئذ بمكة
لم يهاجر, فأنظر إلى البيت يومئذ وعليه كسًا شتى من وصائل وأنطاع وكرار
وخز ونمارق عراقية -أي ميسانية- كل هذا قد رأيته عليه.
وحدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم, عن ابن جريج, عن ابن أبي مليكة
أنه قال: بلغني أن الكعبة كانت تكسى في الجاهلية كسا شتى, كانت البدنة
تجلل الحبرة والبرود والأكسية وغير ذلك من عصب اليمن وكان هذا يهدى
للكعبة سوى جلال البدن هدايا من كسا شتى خز وحبرة وأنماط فيعلق فتكسى
منه الكعبة ويجعل ما بقي في خزانة الكعبة، فإذا بلي منها شيء أخلف
عليها مكانه ثوب آخر ولا ينزع مما عليها شيء من ذلك, وكان يهدى إليها
خلوق ومجمر, وكانت تطيب بذلك في بطنها ومن خارجها.
وحدثني جدي قال: حدثنا عبد الجبار بن الورد قال: سمعت ابن أبي مليكة
يقول: كانت قريش في الجاهلية ترافد في كسوة الكعبة، فيضربون ذلك على
القبائل بقدر احتمالها، من عهد قصي بن كلاب حتى نشأ أبو ربيعة بن
المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكان يختلف إلى اليمن يتجر بها
ج / 1 ص -199-
فأثري في المال، فقال لقريش: أنا أكسو وحدي
الكعبة سنة وجميع قريش سنة، فكان يفعل ذلك حتى مات, يأتي بالحبرة
الجيدة من الجند1 فيكسوها الكعبة فسمته قريش العدل؛ لأنه عدل فعله بفعل
قريش كلها, فسموه إلى اليوم العدل ويقال لولده: بنو العدل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الجند: من أرض السكاسك باليمن.
ذكر كسوة الكعبة في الإسلام, وطيبها, وخدمها,
وأول من فعل ذلك:
حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: حدثنا
إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى قال: حدثنا أبي, عن خالد, عن ابن المهاجر
أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خطب الناس يوم عاشوراء فقال النبي -صلى
الله عليه وسلم:
"هذا يوم عاشوراء, يوم تنقضي فيه السنة، وتستر فيه الكعبة، وترفع فيه
الأعمال، ولم يكتب عليكم صيامه وأنا صائم, فمن أحب منكم أن يصوم فليصم".
وحدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن ابن جريج قال: كانت الكعبة فيما مضى
إنما تكسى يوم عاشوراء، إذا ذهب آخر الحاج حتى كان بنو هاشم، فكانوا
يعلقون عليها القمص يوم التروية من الديباج؛ لأن يرى الناس ذلك عليها
بهاء وجمالا، فإذا كان يوم عاشوراء علقوا عليها الإزار.
حدثني جدي, عن ابن عيينة, عن إسماعيل بن أمية, عن نافع قال: كان ابن
عمر يكسو بدنه إذا أراد أن يحرم القباطي والحبرة، فإذا كان يوم عرفة
ألبسها إياها, فإذا كان يوم النحر نزعها ثم أرسل بها إلى شيبة بن عثمان
فناطها على الكعبة.
ج / 1 ص -200-
وأخبرني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن
إسماعيل بن إبراهيم بن أبي حبيبة, عن أبيه قال: كسي البيت في الجاهلية
الأنطاع, ثم كساه النبي -صلى الله عليه وسلم- الثياب اليمانية، ثم كساه
عمر وعثمان القباطي، ثم كساه الحجاج الديباج, ويقال: أول من كساه
الديباج يزيد بن معاوية, ويقال: ابن الزبير، ويقال: عبد الملك بن
مروان، وأول من خلق جوف الكعبة ابن الزبير، وأول من دعا على الكعبة عبد
الله بن شيبة ويلقب الأعجم, فدعا لعبد الملك بن هشام وكان خليفة.
حدثني محمد بن يحيى, عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى, عن حبيب بن أبي
ثابت قال: كسا النبي -صلى الله عليه وسلم- الكعبة، وكساها أبو بكر،
وعمر -رضي الله عنهما.
وأخبرني محمد بن يحيى، قال: حدثنا سليم بن مسلم, عن موسى بن عبيدة
الربذي أن عمر بن الخطاب كسا الكعبة القباطي من بيت المال.
قال أبو الوليد: وحدثني جدي قال: حدثني سعيد بن سالم, عن ابن أبي نجيح,
عن أبيه أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كسا الكعبة القباطي من بيت
المال، وكان يكتب فيها إلى مصر تحاك له هناك، ثم عثمان من بعده، فلما
كان معاوية بن أبي سفيان كساها كسوتين: كسوة عمر القباطي، وكسوة ديباج،
فكانت تكسى الديباج يوم عاشوراء، وتكسى القباطي في آخر شهر رمضان
للفطر, وأجرى لها معاوية وظيفة من الطيب لكل صلاة, وكان يبعث بالطيب
والمجمر والخلوق في الموسم وفي رجب, وأخدمها عبيدًا بعث بهم إليها
فكانوا يخدمونها, ثم اتبعت ذلك الولاة بعده.
وحدثني جدي, عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، قال: حدثني علقمة بن أبي
علقمة, عن أمه, عن عائشة -رضي الله عنها- زوج النبي -صلى الله عليه
وسلم- أنها قالت: كسوة البيت على الأمراء.
وحدثني جدي, عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى قال: حدثني هشام
ج / 1 ص -201-
ابن عروة أن عبد الله بن الزبير كسا الكعبة
الديباج.
وحدثني محمد بن يحيى, عن سليم بن مسلم, عن ابن جريج قال: كان معاوية
أول من طيب الكعبة بالخلوق والمجمر, وأجرى الزيت لقناديل المسجد من بيت
المال.
وأخبرني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن عبد العزيز بن المطلب, عن إسحاق
بن عبد الله, عن أبي جعفر محمد بن علي قال: كان الناس يهدون إلى الكعبة
كسوة ويهدون إليها البدن عليها الحبرات, فيبعث بالحبرات إلى البيت
كسوة، فلما كان يزيد بن معاوية كساها الديباج الخسرواني, فلما كان ابن
الزبير اتبع أثره فكان يبعث إلى مصعب بن الزبير بالكسوة كل سنة, فكانت
تكسى يوم عاشوراء.
وأخبرني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن عبد الله بن عمر, عن نافع قال:
كان ابن عمر يجلل بدنة بالأنماط, فإذا نحرها بعث بالأنماط إلى الحجبة
فيجعلونها على الكعبة قبل أن تكسى الكعبة.
وأخبرني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن أشياخه قالوا: فلما ولي عبد
الملك بن مروان كان يبعث كل سنة بالديباج فيمر به على المدينة فينشر
يومًا في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الأساطين ههنا
وههنا, ثم يطوى ويبعث به إلى مكة, وكان يبعث بالطيب إليها وبالمجمر
وإلى مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم كان أول من أخدم الكعبة
يزيد بن معاوية, وهم الذين يسترون البيت.
حدثني جدي قال: كانت الكعبة تكسى في كل سنة كسوتان: كسوة ديباج، وكسوة
قباطي؛ فأما الديباج فتكساه يوم التروية فيعلق عليها القميص ويدلى ولا
يخاط, فإذا صدر الناس من منى خيط القميص وترك الإزار حتى تذهب الحجاج
لئلا يخرقوه, فإذا كان العاشوراء علق عليها الإزار فوصل بالقميص فلا
تزال هذه الكسوة الديباج عليها, حتى يوم سبعة وعشرين من شهر رمضان,
فتكسى القباطي للفطر.
ج / 1 ص -202-
فلما كانت خلافة المأمون رفع إليه أن
الديباج يبلى ويتخرق قبل أن يبلغ الفطر, ويرقع حتى يسمج، فسأل مباركا
الطبري مولاه وهو يومئذ على بريد مكة وصوافيها: في أي الكسوة الكعبة
أحسن؟ فقال له: في البياض, فأمر بكسوة من ديباج أبيض فعملت فعلقت سنة
ست ومائتين وأرسل بها إلى الكعبة فصارت الكعبة تكسى ثلاث كسًا: الديباج
الأحمر يوم التروية، وتكسى القباطي يوم هلال رجب، وجعلت كسوة الديباج
الأبيض التي أحدثها المأمون يوم سبعة وعشرين من شهر رمضان للفطر, وهي
تكسى إلى اليوم ثلاث كسًا، ثم رفع إلى المأمون أيضًا أن إزار الديباج
الأبيض الذي كساها يتخرق ويبلى في أيام الحج من مس الحجاج قبل أن يخاط
عليها إزار الديباج الأحمر الذي يخاط في العاشور, فبعث بفضل إزار ديباج
أبيض تكساه يوم التروية أو يوم السابع فيستر به ما تخرق من الإزار الذي
كسيته للفطر إلى أن يخاط عليها إزار الديباج الأحمر في العاشور، ثم رفع
إلى أمير المؤمنين جعفر المتوكل على الله أن إزار الديباج الأحمر يبلى
قبل هلال رجب من مس الناس وتمسحهم بالكعبة فزادها إزارين مع الإزار
الأول, فأذال قميصها الديباج الأحمر وأسبله حتى بلغ الأرض؛ سئل أبو
الوليد عن أذال فقال: أسبل؛ وقال الشاعر في معنى ذلك:
على ابن أبي العاصي دلاص حصينة
أجاد المسدى سردها فأذالها
ثم جعل فوقه في كل شهرين إزار, وذلك في سنة أربعين ومائتين
لكسوة سنة إحدى وأربعين ومائتين, ثم نظر الحجبة فإذا الإزار الثاني لا
يحتاج إليه فوضع في تابوت الكعبة وكتبوا إلى أمير المؤمنين أن إزارًا
واحدًا مع ما أذيل من قمصها يجزيها, فصار يبعث بإزار واحد فتكساه بعد
ثلاثة أشهر ويكون الذيل ثلاثة أشهر.
قال أبو الوليد: ثم أمر أمير المؤمنين جعفر المتوكل على الله عز وجل
ج / 1 ص -203-
بإذالة القميص القباطي, حتى بلغ الشاذروان
الذي تحت الكعبة في سنة ثلاث وأربعين ومائتين.
حدثني جدي قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى قال: حدثني عبد الله
بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه
وسلم- قالت: أطيب الكعبة أحب إلي من أن أهدي إليها ذهبًا وفضة.
حدثني جدي قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى قال: حدثني علقمة بن
أبي علقمة عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: طيبوا البيت؛ فإن ذلك
من تطهيره.
حدثني جدي قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى قال: حدثنا هشام بن
عروة أن عبد الله بن الزبير خلق جوف الكعبة أجمع.
حدثني جدي قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى قال: حدثنا هشام بن
عروة أن عبد الله بن الزبير كان يجمر الكعبة كل يوم برطل من مجمر,
ويجمر الكعبة كل يوم جمعة برطلين من مجمر.
ما جاء في تجريد الكعبة, وأول من جردها:
حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا جدي وإبراهيم بن
محمد الشافعي, عن مسلم بن خالد, عن ابن أبي نجيح, عن أبيه أن عمر بن
الخطاب -رضي الله عنه- كان ينزع كسوة البيت في كل سنة فيقسمها على
الحاج, فيستظلون بها على السمر بمكة1.
حدثني جدي قال: حدثنا عبد الجبار بن الورد المكي قال: سمعت ابن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عرف الطيب "مخطوط".
ج / 1 ص -204-
أبي مليكة يقول: كانت على الكعبة كسًا
كثيرة من كسوة أهل الجاهلية من الأنطاع والأكسية والكرار والأنماط,
فكانت ركامًا بعضها فوق بعض, فلما كسيت في الإسلام من بيت المال كان
يخفف عنها الشيء بعد الشيء، وكانت تكسى في خلافة عمر وعثمان -رضي الله
عنهما- القباطي, يؤتى به من مصر، غير أن عثمان -رضي الله عنه- كساها
سنة برودًا يمانية أمر بعملها عامله على اليمن يعلى بن منبه, فكان أول
من ظاهر لها كسوتين، فلما كان معاوية كساها الديباج مع القباطي فقال
شيبة بن عثمان: لو طرح عنها ما عليها من كسا الجاهلية فخفف عنها؛ حتى
لا يكون مما مسه المشركون شيء لنجاستهم1, فكتب في ذلك إلى معاوية بن
أبي سفيان وهو بالشام فكتب إليه أن جردها وبعث إليه بكسوة من ديباج
وقباطي وحبرة، قال: فرأيت شيبة جردها حتى لم يترك عليها شيئًا مما كان
عليها, وخلق جدراتها كلها وطيبها ثم كساها تلك الكسوة التي بعث بها
معاوية إليها, وقسم الثياب التي كانت عليها على أهل مكة, وكان ابن عباس
حاضرًا في المسجد الحرام وهم يجردونها قال: فما رأيته أنكر ذلك ولا
كرهه.
حدثني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن ابن جريج, عن عبد الحميد بن جبير
بن شيبة قال: جرد شيبة بن عثمان الكعبة قبل الحريق فخلقها وطيبها، قلت:
وما تلك الثياب؟ قال: من كل نحو كرار وأنطاع وخير من ذلك, وكان شيبة
يكسو منها حتى رأى على امرأة حائض من كسوته فدفنها في بيت حتى هلكت,
يعني الثياب.
حدثني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن إبراهيم بن يزيد, عن ابن أبي مليكة
قال: رأيت شيبة بن عثمان جرَّد الكعبة, فرأيت عليها كسوة شتى: كرارًا
وأنطاعًا ومسوحًا وخيرًا من ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصل, وفي أ، ب: "لنحاسيتهم".
ج / 1 ص -205-
حدثنا محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن عبد
الحكيم بن عبد الله بن أبي فروة, عن هلال بن أسامة, عن عطاء بن يسار
قال: قدمت مكة معتمرًا فجلست إلى ابن عباس في صفة زمزم, وشيبة بن عثمان
يومئذ يجرد الكعبة. قال عطاء بن يسار: فرأيت جدارها ورأيت خلوقها
وطيبها, ورأيت تلك الثياب التي أخبرني عمر بن الحكم السلمي أنه رآها في
حديث نذر أمه البدنة قد وضعت بالأرض, فرأيت شيبة بن عثمان يومئذ يقسمها
أو قسم بعضها فأخذت يومئذ كساء من نسج الأعراب فلم أر ابن عباس أنكر
شيئًا مما صنع شيبة بن عثمان. قال عطاء بن يسار: وكانت قبل هذا لا
تجرد, إنما يخفف عنها بعض كسوتها وتترك عليها, حتى كان شيبة بن عثمان
أول من جردها وكشفها.
وأخبرني محمد بن يحيى قال: حدثنا هشام بن سليمان المخزومي, عن ابن
جريج, عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة أنه قال: جرد شيبة بن عثمان
الكعبة قبل الحريق من ثياب كان أهل الجاهلية كسوها إياها, ثم خلقها
وطيبها قلت: وما كانت تلك الثياب؟ قال: من كل، كرارًا وأنطاعًا وخيرًا
من ذلك, وكان شيبة يقسم تلك الثياب فرأى على امرأة حائض ثوبًا من كسوة
الكعبة, فرفعه شيبة فأمسك ما بقي من الكسوة حتى هلكت, يعني الثياب.
حدثني جدي قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى قال: حدثني علقمة بن
أبي علقمة, عن أمه, عن عائشة أم المؤمنين أن شيبة بن عثمان دخل على
عائشة فقال: يا أم المؤمنين, تجتمع عليها الثياب فتكثر فيعمد إلى
بيَّار فيحفرها ويعمقها, فتدفن فيها ثياب الكعبة لكي لا تلبسها الحائض
والجنب قالت عائشة: ما أصبت, وبئس ما صنعت, لا تعد لذلك فإن ثياب
الكعبة إذا نزعت عنها لا يضرها من لبسها من حائض أو جنب, ولكن بعها
واجعل ثمنها في سبيل الله تعالى والمساكين وابن السبيل.
وأخبرني محمد بن يحيى، عن الواقدي، عن موسى بن ضمرة بن سعيد
ج / 1 ص -206-
المازني, عن عبد الرحمن بن محمد, عن عبيد
الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال: قال: رأيت شيبة بن عثمان يسأل
ابن عباس عن ثياب الكعبة, ثم ساق مثل حديث عائشة فقال له ابن عباس مثل
ما قالت عائشة -رضي الله عنها.
وأخبرني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن خالد بن إلياس, عن الأعرج عن
فاطمة الخزاعية قالت: سألت أم سلمة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- عن
ذلك فقالت: "إذا نزعت عنها ثيابها فلا يضرها من لبسها من الناس, من
حائض أو جنب".
قال أبو الوليد: سمعت غير واحد من مشيخة أهل مكة يقول: حج المهدي أمير
المؤمنين سنة ستين ومائة فجرد الكعبة, وأمر بالمسجد الحرام فهدم, وزاد
فيه الزيادة الأولى.
وأخبرني عبد الله بن إسحاق الحجبي, عن جدته فاطمة بنت عبد الله قالت:
حج المهدي فجرد الكعبة, وطلى جدرانها من خارج بالغالية والمسك والعنبر
قالت: فأخبرني جدك -تعني زوجها محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الحجبي-
قال: صعدنا على ظهر الكعبة بقوارير من الغالية, فجعلنا نفرغها على
جدرات الكعبة من خارج من جوانبها كلها, وعبيد الكعبة قد تعلقوا
بالبكرات التي تخاط عليها ثياب الكعبة, ويطلون بالغالية جدراتها من
أسفلها إلى أعلاها1؛ قال أبو محمد الخزاعي: أنا رأيتها وقد غير الجدر
الذي بناه الحجاج مما يلي الحجر, وقد انفتح من البناء الأول الذي بناه
ابن الزبير مقدار أصبع من دبرها ومن وجهها, وقد رهم بالجص الأبيض.
حدثني جدي قال: حج المهدي أمير المؤمنين سنة ستين ومائة فرفع إليه أنه
قد اجتمع على الكعبة كسوة كثيرة حتى إنها قد أثقلتها ويخاف على جدراتها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عرف الطيب "مخطوط".
ج / 1 ص -207-
من ثقل الكسوة, فجردها حتى لم يبق عليها من
كسوتها شيئًا ثم ضمخها من خارجها وداخلها بالغالية والمسك والعنبر,
وطلى جدراتها كلها من أسفلها إلى أعلاها من جوانبها كلها, ثم أفرغ
عليها ثلاث كسا من قباطي وخز وديباج, والمهدي قاعد على ظهر المسجد مما
يلي دار الندوة ينظر إليها وهي تطلى بالغالية وحين كسيت ثم لم يحرك ولم
يخفف عنها من كسوتها الشيء, حتى كان سنة المائتين وكثرت الكسوة أيضًا
عليها جدا, فجردها حسين بن حسن الطالبي في الفتنة وهو يومئذ قد أخذ مكة
ليالي دعت المبيضة إلى أنفسها, وأخذوا مكة فجردها حتى لم يبق عليها من
كسوتها شيئًا، قال جدي: فاستدرت بجوانبها وهي مجردة فرأيت حدات الباب
الذي كان ابن الزبير جعله في ظهرها وسده الحجاج بأمر عبد الملك, فرأيت
حداته وعتبه على حالها, وعددت حجارته التي سد بها فوجدتها ثمانية
وعشرين حجرًا في تسعة مداميك, في كل مدماك ثلاثة أحجار إلا المدماك
الأعلى, فإن فيه أربعة أحجار, رأيت الصلة التي بنى الحجاج مما يلي
الحجر حين هدم ما زاد ابن الزبير قال: فرأيت تلك الصلة بينة في الجدر
وهي كالمتبرية من الجدر الآخر، قال إسحاق: ورأيت جدراتها كلون العنبر
الأشهب حين جردت في آخر ذي الحجة من سنة ثلاث وستين ومائتين, وأحسبه من
تلك الغالية، قال: وكان تجريد الحسين بن الحسن إياها أول يوم من
المحرم, يوم السبت سنة مائتين، ثم كساها حسين بن حسن كسوتين من قز
رقيق, إحداهما صفراء والأخرى بيضاء, مكتوب بينهما: بسم الله الرحمن
الرحيم, وصلى الله على محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأخيار,
أمر أبو السرايا الأصفر بن الأصفر داعية آل محمد1 بعمل هذه الكسوة لبيت
الله الحرام2.
قال أبو الوليد: وابتدأت كسوتها من سنة المائتين, وعدتها إلى سنة أربع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تحرف في أ، ب إلى: "إلى محمد" وصوابه من الأصل، وعرف الطيب وهو ينقل
عن المصنف.
2 عرف الطيب "مخطوط".
ج / 1 ص -208-
وأربعين ومائتين مائة وسبعون ثوبًا. قال
محمد الخزاعي: وأنا رأيتها وقد عمر الجدر الذي بناه الحجاج مما يلي
الحجر, فانفتح من البناء الأول الذي بناه ابن الزبير مقدار نصف أصبع من
وجهها ومن دبرها وقد رهم بالجص الأبيض, وقد رأيتها حين جردت في آخر ذي
الحجة سنة ثلاث وستين ومائتين, فرأيت جدراتها كلون العنبر الأشهب من
تلك الغالية.
ما جاء في دفع النبي -صلى الله عليه وسلم-
المفتاح إلى عثمان بن طلحة:
حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي وإبراهيم بن
محمد الشافعي, عن مسلم بن خالد الزنجي, عن ابن شهاب الزهري قال: دفع
النبي -صلى الله عليه وسلم- مفتاح الكعبة إلى عثمان بن طلحة فقال:
"ها يا عثمان, غيبوه" قال: فخرج عثمان إلى الهجرة
وخلفه شيبة فحجب.
وأخبرني جدي قال: أخبرنا مسلم بن خالد الزنجي, عن ابن جريج أن النبي
-صلى الله عليه وسلم- قال:
"خذوها يا بني أبي طلحة, خذوا ما أعطاكم الله
ورسوله تالدة خالدة, لا ينزعها منكم إلا ظالم".
وأخبرني جدي, عن سعيد بن سالم, عن ابن جريج, عن مجاهد في قوله عز وجل:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى
أَهْلِهَا} [النساء: 58] قال: نزلت في عثمان بن طلحة
بن أبي طلحة حين قبض النبي -صلى الله عليه وسلم- مفتاح الكعبة ودخل به
الكعبة يوم الفتح, فخرج وهو يتلو هذه الآية, فدعا عثمان فدفع إليه
المفتاح وقال:
"خذوها يا بني أبي طلحة بأمانة الله سبحانه, لا ينزعها منكم إلا ظالم".
قال: وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه: لما خرج رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- من الكعبة خرج وهو يتلو هذه الآية، فداه أبي وأمي ما سمعته
يتلوها قبل ذلك.
ج / 1 ص -209-
وأخبرني محمد بن يحيى قال: حدثنا سليم بن
مسلم, عن غالب بن عبيد الله أنه قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: دفع
النبي -صلى الله عليه وسلم- مفتاح الكعبة إلى عثمان بن طلحة يوم الفتح,
ثم قال:
"خذوها يا بني أبي طلحة خالدة تالدة, لا يظلمكموها إلا كافر" وسمعت غيره يقول:
"إلا ظالم".
وأخبرني محمد بن يحيى قال: حدثنا سليم بن مسلم, عن عبد الوهاب بن
مجاهد, عن أبيه قال: أنزل الله تعالى في الكعبة:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى
أَهْلِهَا} [النساء: 58].
حدثني جدي, عن محمد بن إدريس, عن الواقدي, عن أشياخه قالوا: انصرف رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح بعدما طاف على راحلته فجلس ناحية
من المسجد والناس حوله, ثم أرسل بلالًا إلى عثمان بن طلحة فقال -صلى
الله عليه وسلم:
"قل له: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمرك أن تأتيه بمفتاح
الكعبة" فجاء بلال إلى عثمان فقال: إن رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- يأمرك أن تأتيه بمفتاح الكعبة فقال عثمان: نعم,
فخرج إلى أمه سلافة بنت سعد بن شهيد الأنصارية ورجع بلال إلى النبي
-صلى الله عليه وسلم- فأخبره أنه قال: نعم, ثم جلس بلال مع الناس فقال
عثمان لأمه, والمفتاح يومئذ عندها: يا أمت أعطيني المفتاح؛ فإن رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- أرسل إلي وأمرني أن آتي به إليه, فقالت له
أمه: أعيذك بالله أن تكون الذي تذهب بمأثرة قومك على يديك فقال: والله
لتدفعنه أو ليأتينك غيري فيأخذه منك, فأدخلته في حجرها وقالت: أي رجل
يدخل يده ههنا؟ فبينما هما على ذلك إذ سمعت صوت أبي بكر وعمر -رضي الله
عنهما- في الدار وعمر رافع صوته حين رأى إبطاء عثمان: يا عثمان اخرج،
فقالت أمه: يا بني خذ المفتاح فلئن تأخذه أنت أحب إلي من أن يأخذه تيم
وعدي, فأخذه عثمان فأتى به النبي -صلى الله عليه وسلم- فناوله إياه,
فلما ناوله إياه فتح الكعبة وأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
بالكعبة فغلقت عليه ومعه أسامة بن زيد، وبلال بن رباح، وعثمان بن طلحة
فمكث فيها ما شاء الله وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة، قال ابن عمر:
ج / 1 ص -210-
فسألت بلالا: أين صلى رسول الله -صلى الله
عليه وسلم؟ قال: جعل عمودين عن يمينه, وعمودًا عن يساره, وثلاثة وراءه،
قالوا: ثم خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمفتاح في يده ووقف
على الباب خالد بن الوليد يذبّ الناس عن الباب, حتى خرج رسول الله -صلى
الله عليه وسلم.
حدثني جدي, عن ابن إدريس, عن الواقدي قال: حدثني علي بن محمد بن عبد
الله العمري عن منصور الحجبي عن أمه صفية بنة شيبة عن برة بنة أبي
تجراه قالت: أنا أنظر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين خرج من
البيت فوقف على الباب, فأخذ بعضادتي الباب, فأشرف على الناس وفي يده
المفتاح, ثم جعله في كمه -صلى الله عليه وسلم.
وحدثني جدي, عن محمد بن إدريس, عن الواقدي, عن أشياخه قالوا: فلما أشرف
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد لبط بالناس حول الكعبة, خطب رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- خطبته وقد كتبناها في غير هذا الموضع من
كتابنا بغير هذا الإسناد, ثم نزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعه
المفتاح فتنحى ناحية من المسجد فجلس وكان قد قبض السقاية من العباس،
وقبض المفتاح من عثمان بن طلحة, فلما جلس بسط العباس بن عبد المطلب يده
فقال: بأبي وأمي يا رسول الله, اجمع لنا الحجابة والسقاية, فقال رسول
الله -صلى الله عليه وسلم:
"أعطيكم ما ترزءون فيه, ولا
أعطيكم ما ترزءون منه" ثم قال صلى الله عليه وسلم:
"ادع لي عثمان" فقام عثمان بن عفان
فقال: ادع لي عثمان، فقام عثمان بن طلحة وكان رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- قال لعثمان بن طلحة يومًا وهو بمكة يدعوه إلى الإسلام ومع عثمان
المفتاح فقال -صلى الله عليه وسلم: "لعلك سترى هذا المفتاح يومًا بيدي أضعه حيث
شئت"
فقال عثمان: لقد هلكت قريش يومئذ إذًا
وذلت، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"بل عزت وعمرت يومئذ يا عثمان" قال عثمان: فدعاني رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- بعد أخذه المفتاح فذكرت قوله -صلى الله عليه
وسلم- وما كان قال لي, فأقبلت فاستقبلته ببشر واستقبلني ببشر ثم قال:
"خذوها يا بني أبي طلحة تالدة خالدة, لا ينزعها منكم إلا ظالم، يا
عثمان إن الله
ج / 1 ص -211-
سبحانه وتعالى استأمنكم على بيته, فخذوها
بأمانة الله عز وجل" قال عثمان: فلما وليت ناداني
فرجعت إليه فقال -صلى الله عليه وسلم:
"ألم يكن الذي قلت لك؟" قال: فذكرت قوله بمكة فقلت: بلى أشهد أنك رسول
الله, فأعطاه المفتاح والنبي -صلى الله عليه وسلم- مضطبع عليه بثوبه
وقال عليه الصلاة والسلام:
"غيبوه".
الصلاة في الكعبة, وأين صلى النبي -صلى الله
عليه وسلم- منها:
حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, قال: حدثنا سفيان بن عيينة, عن أيوب
السختياني, عن نافع عن عبد الله بن عمر قال: أقبل رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- عام الفتح على ناقة لأسامة بن زيد حتى أناخ بفناء الكعبة ثم
دعا بعثمان بن طلحة فقال:
"ائتني بالمفتاح" فذهب عثمان إلى أمه
فأبت أن تعطيه إياه فقال: والله لتعطينه أو ليخرجن هذا السيف من صلبي
أو ظهري، قال: فأعطته إياه، فجاء به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-
فدفعه إليه ففتح الباب, فدخله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأسامة
بن زيد، وبلال، وعثمان بن طلحة فأجافوا عليهم الباب مليا ثم فتح الباب
وكنت فتى قويا فبدرت فزحمت الناس, فكنت أول من دخل الكعبة, فرأيت
بلالًا عند الباب فقلت له: أي بلال, أين صلى رسول الله -صلى الله عليه
وسلم؟ قال: بين العمودين المقدمين, وكانت الكعبة على ستة أعمدة, قال
ابن عمر: فنسيت أسأله: كم صلى صلى الله عليه وسلم؟1
وحدثني جدي قال: حدثنا داود بن عبد الرحمن, عن موسى بن عقبة, عن نافع
قال: كان عبد الله بن عمر إذا دخل الكعبة مشى قبل وجهه حين يدخل وجعل
الباب قبل ظهره, فمشى حتى يكون بينه وبين الجدار الذي قبل وجهه حين
تدخل قريب من ثلاثة أذرع, فصلى وهو يتوخى المكان الذي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 شفاء الغرام 1/ 225.
ج / 1 ص -212-
أخبره بلال أن النبي -صلى الله عليه وسلم-
صلى فيه, وليس على أحد بأس أن يصلي في أي جوانب البيت شاء1.
وحدثني جدي إبراهيم بن محمد الشافعي, عن مسلم بن خالد, عن عبد الله بن
عبد الرحمن بن أبي حسين, عن عطاء بن أبي رباح والحسن بن أبي الحسن
البصري وطاوس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل يوم الفتح البيت, فصلى
فيه ركعتين, ثم خرج وقد لبط بالناس حول الكعبة.
وحدثني جدي, عن مسلم بن خالد, عن جعفر بن محمد, عن أبيه أن النبي -صلى
الله عليه وسلم- صلى في الكعبة بين العمودين.
وحدثني جدي ويوسف بن محمد بن إبراهيم العطار -يزيد أحدهما على صاحبه في
اللفظ والمعنى واحد- قالا: حدثنا عبد الله بن زرارة بن مصعب بن شيبة بن
جبير بن شيبة بن عثمان عن أبيه, عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة, عن
أخيه شيبة بن جبير بن شيبة بن عثمان قال: حج معاوية بن أبي سفيان وهو
خليفة, فاشترى دار الندوة من ابن الرهين العبدري بمائة ألف درهم, فجاء
شيبة بن عثمان فقال له: إن لي فيها حقا وقد أخذتها بالشفعة، فقال له
معاوية: فأحضر المال قال: أروح به إليك العشية, وكان ذلك بعدما صدر
الناس من الحج, وقد كان معاوية تهيأ للخروج إلى الشام فصلى معاوية
بالناس العصر, ثم دخل الطواف فطاف بالبيت سبعًا, وصلى خلف المقام
ركعتين ثم انصرف فدخل دار الندوة, فقام إليه شيبة حين أراد أن يدخل
الدار فقال: يا أمير المؤمنين قد أحضرت المال قال: فاثبت حتى يأتيك
رأيي2, فأجيف الباب وأرخي الستر، وركب معاوية من الدار دوابه3 وخرج من
الباب الآخر [مسافرًا] ومضى معاوية إلى المدينة [وشيبة لا يشعر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 شفاء الغرام 1/ 226.
2 كذا في الأصل، ومثله في إتحاف الورى، وفي بقية الأصول: "رأي".
3 كذا في الأصل، ومثله في إتحاف الورى، وفي بقية الأصول: "دؤابة".
ج / 1 ص -213-
به] فلم يزل شيبة جالسا بالباب حتى جاء
المؤذن فسلم وأذنه بصلاة المغرب, فخرج والي مكة عبد الله بن خالد بن
أسيد فقام إليه شيبة فقال: أين أمير المؤمنين؟ قال: قد راح إلى الشام،
قال شيبة: والله لا كلمته أبدًا1.
فلما حج معاوية حجته الثانية بعث إلى شيبة أن يفتح له الكعبة, حتى
يدخلها ويصلي فيها، قال شيبة بن جبير بن شيبة: فأرسلني جدي بالمفتاح
وأنا غلام حدث وأبي شيبة بن عثمان أن يفتح له الباب ولم يأته ولم يسلم
عليه قال شيبة بن جبير: فلما رآني معاوية استصغرني وقال: من أنت يا
حبيب؟ قال: قلت: أنا شيبة بن جبير قال: لا بأس يابن أخي, غضب أبو عثمان
شيبة مكان شيبة, ففتحت له الكعبة فلما دخل أجفت عليه الباب ولم يدخل
معه الكعبة إلا حاجبه أبو يوسف الحميري, فبينا معاوية يدعو في البيت
ويصلي إذا بحلقة باب الكعبة تحرك تحريكًا ضعيفًا فقال لي: يا شيبة
انظر, هذا عثمان بن محمد بن أبي سفيان, فإن كان إياه فأدخله, ففتحت
الباب فإذا هو هو فأدخلته ثم حركت الحلقة تحريكًا هو أشد من الأول
فقال: انظر هذا الوليد بن عتبة بن أبي سفيان, فإن كان إياه فأدخله
ففتحت فإذا هو هو فأدخلته, ثم قال لأبي يوسف الحميري: انظر عبد الله بن
عمر, فإني رأيته آنفًا خلف المقام حتى أسأله: أين صلى النبي -صلى الله
عليه وسلم- من الكعبة؟ فقام أبو يوسف الحميري فجاء بعبد الله بن عمر
فقال له معاوية: يا أبا عبد الرحمن أين صلى رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- عام دخلها؟ قال: بين العمودين المقدمين, اجعل بينك وبين الجدر
ذراعين أو ثلاثة, فبينا نحن كذلك إذ رج الباب رجًّا شديدًا وحركت
الحلقة تحريكًا أشد من الأول, فقال معاوية [لشيبة]: انظر هذا عبد الله
بن الزبير, فإن كان إياه فأدخله فنظرت فإذا هو هو فأدخلته, فأقبل على
معاوية وهو مغضب فقال: إيها يابن أبي سفيان, ترسل إلى عبد الله بن عمر
تسأله عن شيء أنا أعلم به منك ومنه, حسدًا لي ونفاسة علي، فقال له
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إتحاف الورى 2/ 34-35، وما بين حاصرتين منه.
ج / 1 ص -214-
معاوية: على رسلك يا أبا بكر, فإنما نرضاك
لبعض دنيانا فصلى معه وخرج [قال شيبة] وخرجت معه فدخل زمزم فنزع منها
دلوًا فشرب منه وصب باقيه على رأسه وثيابه, ثم خرج فمر بعبد الرحمن بن
أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- خلف المقام في حلقة فنظر إليه محدقًا
فقال له عبد الرحمن: ما نظرك إلي؟ فوالله لأبي خير من أبيك, ولأمي خير
من أمك, ولأنا خير منك, فلم يجبه بشيء ومضى حتى دخل دار الندوة، فلما
جلس في مجلسه قال: عجلوا علي بعبد الرحمن بن أبي بكر فقد رأيته خلف
المقام قال: فأدخل عليه فقال: مرحبًا يابن الشيخ الصالح قد علمت أن
الذي خرج منك آنفًا لجفائنا بك, وذلك لنأي دارنا عن دارك, فارفع حوائجك
فقال: علي من الدين كذا، وأحتاج إلى كذا، وأجز لي كذا، وأقطعني كذا،
فقال معاوية: قد قضيت جميع حوائجك قال: وصلتك حم يا أمير المؤمنين, إن
كنت لأبرنا بنا وأوصلنا لنا1.
حدثني أحمد بن ميسرة المكي قال: حدثنا عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي
رواد, عن أبيه قال: حدثني نافع أن ابن عمر أخبره أن النبي -صلى الله
عليه وسلم- دخل الكعبة فجاء مسرعًا لينظر كيف يصنع النبي -صلى الله
عليه وسلم- قال: فجاء وعلى الباب زحام شديد فزاحم الناس حتى دخل فقال:
وكان يومئذ شابا قويا فلما دخل لقي النبي -صلى الله عليه وسلم- خارجًا
قال: فسأل بلالًا وكان خلف النبي -صلى الله عليه وسلم: أين صلى رسول
الله -صلى الله عليه وسلم؟ فأشار له بلال إلى السارية الثانية عند
الباب قال: صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن يمينها تقدم عنها
شيئًا.
حدثني أحمد بن ميسرة, عن عبد المجيد بن عبد العزيز, عن أبيه قال: بلغني
أن الفضل بن العباس -رضوان الله عليهما- دخل مع النبي -صلى الله عليه
وسلم- يومئذ فقال: لم أره صلى فيها، فقال أبي: وذلك فيما بلغني أن
النبي -صلى الله عليه وسلم- استعانه لحاجة فجاء وقد صلى ولم يره، قال
عبد المجيد: قال أبي: وذلك أنه بعثه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الخبر بطوله لدى ابن فهد في إتحاف الورى 2/ 37-39 وما بين حاصرتين
منه.
ج / 1 ص -215-
فجاء بذنوب من ماء زمزم ليطمس به الصور
التي في الكعبة, فصلى خلفه فلذلك لم يره صلى.
وحدثني جدي ومحمد بن يحيى ومحمد بن سلمة, عن مالك بن أنس, عن نافع عن
عبد الله بن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دخل الكعبة هو
وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة فأغلقها عليه فمكث فيها، قال عبد
الله بن عمر: سألت بلالا: ماذا صنع رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟
قال: جعل عمودًا عن يساره، وعمودين عن يمينه، وثلاثة أعمدة من ورائه,
وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة ثم صلى.
وحدثني جدي, عن مسلم بن خالد, عن جعفر بن محمد عن أبيه أنه رأى علي بن
حسين يصلي في الكعبة.
وحدثني جدي, حدثنا مسلم بن خالد الزنجي قال: رأيت صدقة بن يسار يدخل
البيت كلما فتح فقلت له: ما أكثر دخولك البيت يا أبا عبد الله! قال:
والله إني لأجد في نفسي أن أراه مفتوحًا ثم لأصلي فيه.
حدثني جدي قال: أخبرنا مسلم بن خالد الزنجي, عن موسى بن عقبة قال: طفت
مع سالم بن عبد الله بن عمر خمسة أسبع, كلما طفنا سبعًا دخلنا الكعبة
فصلينا فيها ركعتين.
وحدثني جدي قال: حدثنا داود بن عبد الرحمن العطار, عن ابن جريج, عن
نافع قال: كان ابن عمر إذا قدم مكة حاجًّا أو معتمرًا فوجد البيت
مفتوحًا, لم يبدأ بشيء أول من أن يدخله.
حدثني جدي قال: حدثنا سفيان, عن مسعر, عن سماك الحنفي قال: سألت ابن
عمر عن الصلاة في الكعبة فقال: صل فيها، فإن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- صلى فيها وستأتي آخر فينهاك فلا تطعه, يعني ابن عباس, فأتيت ابن
عباس فسألته فقال: ائتم به كله ولا تجعلن شيئًا منه خلفك, وستأتي آخر
فيأمرك به
ج / 1 ص -216-
فلا تطعه, يعني ابن عمر1.
حدثني جدي قال: حدثنا ابن عيينة, عن مسعر, عن سماك الحنفي قال: سمعت
ابن عباس يقول: ليس من أمر حجك دخولك البيت.
قال: وحدثني جدي قال: سمعت سفيان يقول: سمعت غير واحد من أهل العلم
يذكرون أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما دخل الكعبة مرة واحدة
عام الفتح, ثم حج فلم يدخلها2.
قال: وحدثني جدي قال: حدثنا داود بن عبد الرحمن قال: أوصاني عبد الكريم
بن أبي المخارق أن لا أخرج من منزلي يوم الجمعة حتى أصلي ركعتين, ولا
أدخل الكعبة حتى أغتسل.
وحدثني جدي قال: حدثنا سالم بن سالم البلخي قال: حدثنا ابن جريج أن
عطاء جاء يومًا وقد فاتته الظهر مع الإمام, فدخل الكعبة وصلى في جوفها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 شفاء الغرام 1/ 232.
2 شفاء الغرام 1/ 230.
ما جاء في رقي بلال الكعبة, وأذانه عليها يوم
الفتح1:
حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: حدثنا عبد الجبار بن الورد
المكي, عن ابن أبي مليكة قال: لما كان يوم الفتح رقي بلال فأذن على ظهر
الكعبة فقال بعض الناس: يا عباد الله, لهذا العبد الأسود أن يؤذن على
ظهر الكعبة؟! فقال بعضهم: إن يسخط الله عليه هذا الأمر يغيره, فأنزل
الله عز وجل:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} الآية [الحجرات: 13].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر في ذلك: شفاء الغرام 1/ 212.
ج / 1 ص -217-
وأخبرني جدي، عن محمد بن إدريس الشافعي, عن
الواقدي عن أشياخه قالوا: جاءت الظهر يوم الفتح فأمر رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- بلالًا أن يؤذن بالظهر فوق ظهر الكعبة, وقريش فوق رءوس
الجبال وقد فر وجوههم وتغيبوا خوفًا أن يقتلوا, فمنهم من يطلب الأمان،
ومنهم من قد أمن, فلما أذن بلال رفع صوته كأشد ما يكون قال: فلما قال:
أشهد أن محمدًا رسول الله تقول جويرية بنت أبي جهل: قد لعمري رفع لك
ذكرك، أما الصلاة فسنصلي ووالله ما نحب من قتل الأحبة أبدًا, ولقد جاء
إلى أبي الذي كان جاء إلى محمد من النبوة فردها ولم يرد خلاف قومه،
وقال خالد بن أسيد: الحمد لله الذي أكرم أبي فلم يسمع بهذا اليوم، وكان
أسيد مات قبل الفتح بيوم. وقال الحارث بن هشام: واثكلاه ليتني مت قبل
أن أسمع بلالًا ينهق فوق الكعبة. وقال الحكم بن أبي العاص: هذا والله
الحدث الجليل أن يصبح عبد بني جمح ينهق على بنية أبي طلحة، وقال سهيل
بن عمرو: إن كان هذا سخطًا لله فسيغيره الله، وقال أبو سفيان بن حرب:
أما أنا فلا أقول شيئًا، لو قلت شيئًا لأخبرته هذه الحصاة، فأتى جبريل
-عليه السلام- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبره خبرهم, فأقبل حتى
وقف عليهم فقال:
"أما أنت يا فلان فقلت: كذا، وأما أنت يا فلان فقلت: كذا، وأما أنت يا
فلان فقلت: كذا" فقال أبو سفيان: أما أنا يا رسول الله فما قلت
شيئًا فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال أبو الوليد: وكان بلال
لأيتام من بني السباق بن عبد الدار أوصى به أبوهم إلى أمية بن خلف
الجمحي وأمية الذي كان يعذبه, وكان اسم أخيه كحيل بن رباح.
ج / 1 ص -218-
باب ما جاء في الحبشي الذي يهدم
الكعبة, وما جاء فيمن أرادها بسوء, وغير ذلك:
حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: حدثنا عمرو بن يحيى بن سعيد بن
عمرو بن سعيد بن العاص السعيدي, عن جده, عن عبد الله بن عمرو بن العاص
أنه قال: اخرجوا يأهل مكة قبل إحدى الصيلمين؛ قيل: وما الصيلمان؟ قال:
ريح سوداء تحشر الذرة والجعل، قيل: فما الأخرى؟ قال: تجيش البحر بمن
فيه من السودان ثم يسيلون سيل النمل, حتى ينتهوا إلى الكعبة فيخربوها,
والذي نفس عبد الله بيده لأنظر إلى صفته في كتاب الله أفيحج أصيلع
قائما يهدمها بمسحاته، قيل له: فأي المنازل يومئذ أمثل؟ قال: الشعف,
يعني رءوس الجبال.
وحدثني جدي, عن ابن عيينة, عن زياد بن سعد, عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن
عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة".
حدثني جدي قال: حدثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد عن عبد الله بن
عمرو بن العاص أنه كان يقول: كأني به أصيلع أفيدع قائمًا عليها يهدمها
بمسحاته، قال مجاهد: فلما هدم ابن الزبير الكعبة جئت أنظر هل أرى الصفة
التي قال عبد الله بن عمرو, فلم أرها.
وحدثني جدي قال: حدثنا ابن عيينة, عن هشام بن حسان, عن حفصة بنت سيرين,
عن أبي العالية, عن علي بن أبي طالب أنه قال: استكثروا من الطواف بهذا
البيت قبل أن يحال بينكم وبينه, فكأني أنظر إليه حبشيا أصيلع أصيمع
قائمًا عليها يهدمها بمسحاته.
حدثني جدي قال: حدثنا ابن عيينة, عن أمية بن صفوان بن عبد الله بن
ج / 1 ص -219-
صفوان, عن جده عبد الله بن صفوان, عن حفصة
أنها قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:
"ليؤمن هذا البيت حبش, حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بأوسطهم
وينادي أولهم آخرهم فخسف بهم, فلا يبقى إلا الشريد الذي يخبر عنهم"
فقال رجل لجدي: اشهد ما كذبت على حفصة ولا كذبت حفصة على رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- قال أمية: فلما جاء جيش الحجاج لم نشك أنهم هم
حبش.
حدثني مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله مولى بني
هاشم قال: حدثنا سعيد بن سلمة, عن موسى بن جبير بن شيبة, عن أبي أمامة
بن سهل, عن رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
"اتركوا الحبشة ما تركتكم, فإنه لا يستخرج كنز الكعبة إلا ذو السويقتين
من الحبشة".
وحدثني جدي قال: حدثنا ابن عيينة, عن موسى بن أبي عيسى المديني قال:
لما كان تبع بالدف من جمدان دفت بهم دوابهم وأظلمت عليهم الأرض, فدعا
الأحبار فسألهم فقالوا: هل هممت لهذا البيت بشيء؟ قال: أردت أن أهدمه،
قالوا: فانو له خيرًا أن تكسوه، وتنحر عنده ففعل فانجلت عنهم الظلمة
قال: وإنما سمي الدف من أجل ذلك.
وحدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, أخبرني رجل عن
سعيد بن إسماعيل أنه سمع أبا هريرة يحدث أبا قتادة أن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- قال:
"يبايع للرجل بين الركن والمقام ولن يستحل هذا البيت إلا أهله,
فإذا استحلوه فلا تسأل عن هلكة العرب, وتأتي الحبش فيخربونه خرابًا لا
يعمر بعده أبدًا, وهم الذين يستخرجون كنزه". |