أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار، ت: علي عمر

ج / 2 ص -160-        باب: سيول مكة وأوديتها
سيول وادي مكة في الجاهلية:
حدثنا أبو الوليد، قال: حدثني محمد بن يحيى، حدثنا عبد العزيز بن عمران، عن محمد بن عبد العزيز إن وادي مكة سال في الجاهلية سيلًا عظيمًا، وخزاعة تلي الكعبة، وإن ذلك السيل هجم على أهل مكة، فدخل المسجد الحرام وأحاط بالكعبة، ورمى بالشجر بأسفل مكة، وجاء برجل وامرأة ميتين فعرفت المرأة كانت تكون بأعلى مكة، يقال لها فارة، ولم يعرف الرجل، فبنت خزاعة حول البيت بناء أداروه عليه، وأدخلوا الحجر فيه ليحصنوا البيت من السيل، فلم يزل ذلك البناء على حاله، حتى بنت قريش الكعبة فسمي ذلك السيل: سيل فارة، وسمعت أنها امرأة من بني بكر.
حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي عن سفيان، عن عمرو بن دينار قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: حدثني أبي عن جدي قال: جاء سيل في الجاهلية كسا ما بين الجبلين.
سيول وادي مكة في الإسلام:
حدثنا أبو الوليد، قال: حدثني جدي قال: وسال وادي مكة في الإسلام بأسيال عظام مشهورة عند أهل مكة.
منها سيل في خلافة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقال له
"سيل أم نهشل" أقبل السيل حتى دخل المسجد الحرام من الوادي، ومن أعلى مكة من طريق الردم وبين الدارين1، وكان ذلك السيل ذهب بأم نهشل بنت عبيد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس، حتى استخرجت منه بأسفل مكة، فسمي سيل أم نهشل، واقتلع السيل المقام مقام إبراهيم عليه السلام، وذهب به حتى وجد بأسفل مكة، وغبي مكانه الذي كان فيه فأخذ، وربط بلصق الكعبة بأستارها، وكتب إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه، في ذلك، فجاء فزعًا حتى رد المقام مكانه وقد كتبت ذكر رده إياه، وكيف كان في صدر كتابنا هذا مع ذكر المقام، فعمل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه، في تلك السنة الردم الذي يقال له: ردم عمر، وهو الردم الأعلى من عند دار جحش بن رئاب التي يقال لها: دار أبان بن عثمان إلى دار ببة فبناه بالضفائر، والصخر العظام وكبسه، فسمعت جدي يذكر أنه لم يعله سيل منذ ردمه عمر إلى اليوم، وقد جاءت بعد ذلك أسيال عظام كل ذلك لا يعلوه منها شيء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بين الدارين: هي رحبة كانت في المدعى، ويعنون بالدارين: دار أبي سفيان التي هي اليوم مستشفى القبان، ودار حنظلة بن أبي سفيان. "هامش ب".

 

ج / 2 ص -161-        ذكر سيل الجحاف، وما جاء في ذلك:
قال أبو الوليد: وكان سيل الجحاف في سنة ثمانين في خلافة عبد الملك بن مروان صح الحاج يومًا، وذلك يوم التروية وهم آمنون غارون، قد نزلوا في وادي مكة، واضطربوا الأبنية، ولم يكن عليهم من المطر إلا شيء يسير، إنما كانت السماء في صدر الوادي، وكان عليهم رشاش من ذلك، قال أبو الوليد قال جدي: فحدثني سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار قال: لم يكن المطر عام الجحاف على مكة إلا شيئًا يسيرًا، وإنما كانت شدته بأعلى الوادي، قال: فصبحهم يوم التروية بالغبش قبل صلاة الصبح، فذهب بهم وبمتاعهم ودخل المسجد، وأحاط بالكعبة، وجاء دفعة واحدة، وهدم الدور الشوارع على الوادي، وقتل الهدم ناسًا كثيرًا، ورقى الناس في الجبال، واعتصموا بها، فسمي بذلك الجحاف، وقال فيه عبد الله بن أبي عمار1:

لم تر عيني مثل يوم الاثنين                    أكثر محزونًا وأبكى للعين

إذ خرج المخبآت يسعين                         سواندًا في الجبلين يرقين2

فكتب في ذلك إلى عبد الملك بن مروان، ففزع لذلك وبعث بمال عظيم، وكتب إلى عامله على مكة عبد الله بن سفيان المخزومي، ويقال: بل كان عامله الحارث بن خالد المخزومي، يأمره بعمل ضفائر للدور الشارعة على الوادي للناس من المال الذي بعث به، وعمل ردمًا على أفواه السكك يحصن بها دور الناس من السيول، وبعث رجلًا نصرانيًا مهندسًا في عمل ضفائر المسجد الحرام، وضفائر الدور في جنبتي الوادي، وكان من ذلك الردم الذي يقال له: ردم الحزامية على فوهة خط الحزامية، والردم الذي يقال له: ردم بني

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تحرف في الأصول إلى "عمارة"، وصوابه من الفاكهي.
2 البيتان في أخبار مكة للفاكهي 3/ 106، وإتحاف الورى 2/ 109، وشفاء الغرام 2/ 417.

 

ج / 2 ص -162-        جمح وليس لهم، ولكنه لبني قراد الفهريين فغلب عليه ردم بني جمح، وله يقول الشاعر:

سأملك عبرة وأفيض أخرى                        إذا جاوزت ردم بني قراد1

قال: فأمر عامله بالصخر العظام فنقلت على العجل، وحفر الأرباض دون دور الناس، فبناها وأحكمها من المال الذي بعث به، قالوا: وكانت الإبل والثيران تجر تلك العجل حتى ربما أنفق في المسكن الصغير لبعض الناس مثل ثمنه مرارًا، ومن تلك الضفائر أشياء إلى اليوم قائمة على حالها من دار أبان بن عثمان التي هي عند ردم عمر هلم جرا إلى دار ابن الجوار، فتلك الضفائر التي في أرباض تلك الدور كلها مما عمل من ذلك المال، ومن ردم بني جمح منحدرًا في الشق الأيسر إلى أسفل مكة، وأشياء من ذلك هي أيضًا على حالها، وأما ضفائر دار أويس التي بأسفل مكة ببطح نحر الوادي، فقد اختلف علينا في أمرها فقال بعضهم: هي من عمل عبد الملك، وقال آخرون: لا، بل هي من عمل معاوية بن أبي سفيان، وهو أثبتهما عندنا.
وكان قد جاء بعد ذلك سيل يقال له: سيل المخبل في سنة أربع وثمانين أصاب الناس عقبه مرض شديد في أجسادهم، وألسنتهم، أصابهم منه شبه الخبل، فسمي سيل المخبل، وكان عظيمًا دخل المسجد الحرام، وأحاط بالكعبة.
وكان بعد ذلك أيضًا سيل عظيم في سنة أربع وثمانين ومائة، وحماد البربري أمير على مكة، دخل المسجد الحرام وذهب بالناس، وأمتعتهم وغرق الوادي في أثره في خلافة الرشيد هارون.
وجاء سيل في سنة اثنتين ومائتين في خلافة المأمون، وعلى مكة يزيد بن محمد بن حنظلة المخزومي، خليفة لحمدون بن علي بن عيسى بن ماهان،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للفاكهي 3/ 114.

 

ج / 2 ص -163-        فدخل المسجد الحرام وأحاط بالكعبة، وكان دون الحجر الأسود بذراع ورفع المقام عن مكانه لما خيف عليه أن يذهب به السيل، وهدم دورًا من دور الناس وذهب بناس كثير، وأصاب الناس بعده مرض شديد من وباء، وموت فاش فسمي ذلك السيل سيل ابن حنظلة.
ثم جاء بعد ذلك في خلافة المأمون سيل، وهو أعظم من سيل ابن حنظلة في سنة ثمان ومائتين في شوال جاء، والناس غافلون فامتلأ السد الذي بالثقبة فلما فاض انهدم السد، فجاء السيل الذي اجتمع فيه مع سيل السدرة، وسيل ما أقبل من منى، فاجتمع ذلك كله، فجاء جملة فاقتحم المسجد الحرام، وأحاط بالكعبه وبلغ الحجر الأسود، ورفع المقام من مكانه لما خيف عليه أن يذهب به، فكبس المسجد والوادي بالطين والبطحاء، وقلع صناديق الأسواق ومقاعدهم وألقاها بأسفل مكة، وذهب بأناس كثير، وهدم دورًا كثيرة مما أشرف على الوادي.
وكان أمير مكة يومئذ عبد الله بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم، وعلى بريد مكة وصوافيها مبارك الطبري، وكان وافى تلك السنة العمرة في شهر رمضان قوم من الحاج من أهل خراسان وغيرهم كثير، فلما رأى الناس من الحاج، وأهل مكة ما في المسجد من الطين والتراب اجتمع الناس، فكانوا يعملون بأيديهم، ويستأجرون من أموالهم حتى كانت النساء بالليل، والعواتق يخرجن فينقلن التراب التماس الأجر والبركة، حتى رفع من المسجد الحرام، ونقل ما فيه فرفع ذلك إلى المأمون، فأرسل بمال عظيم فأمر أن يعمل به في المسجد، ويبطح، ويعزق وادي مكة، فعزق منه وادي مكة، وعمر المسجد الحرام وبطح، ثم لم يعزق وادي مكة حتى كانت سنة سبع وثلاثين ومائتين فأمرت أم أمير المؤمنين، جعفر المتوكل على الله باثني عشر ألف دينار لعزقه، فعزق بها عزقًا مستوعبًا.