تاريخ الخلفاء
القائم بأمر الله أبو جعفر1
القائم بأمر الله: أبو جعفر عبد الله بن القادر بالله، ولد في نصف ذي
القعدة سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة، وأمه أم ولد أرمنية اسمها: بدر
الدجى، وقيل: قطر الندى.
ولي الخلافة بعد موت أبيه في يوم الاثنين الحادي عشر من ذي الحجة، سنة
اثنتين وعشرين وكان ولي عهده في الحياة، وهو الذي لقبه القائم بأمر
الله.
وقال ابن الأثير: كان جميلًا، مليح الوجه، أبيض، مشربًا حمرة، حسن
الجسم، ورعًا، دينًا، زاهدًا، عالِمًا، قوي اليقين بالله تعالى، كثير
الصدقة والصبر، له عناية بالأدب، ومعرفة حسنة بالكتابة، مؤثرًا للعدل
والإحسان وقضاء الحوائج، لا يرى المنع من شيء طلب منه.
قال الخطيب: ولم يزل أمر القائم بالله مستقيمًا إلى أن قبض عليه في سنة
خمسين وأربعمائة،
وكان السبب في ذلك أن أرسلان التركي -المعروف بالبساسيري- كان قد عظم
أمره واستفحل شأنه لعدم نظارئه، وانتشر ذكره، وتهيبته أمراء العرب
والعجم، ودعي له على المنابر، وجبى الأموال، وخرب القرى، ولم يكن
القائم يقطع أمرًا دونه، ثم صح عنده سوء عقيدته، وبلغه أنه عزم على نهب
دار الخلافة والقبض على الخليفة، فكاتب الخليفة أبا طالب محمد بن ميكال
سلطان الغز المعروف بطغرلبك -وهو بالري- يستنهضه في القدوم، ثم أحرقت
دار البساسيري.
وقدم طغرلبك في سنة سبع وأربعين، فذهب البساسيري إلى الرحبة، وتلاحق به
خلق من الأتراك، وكاتب صاحب مصر، فأمده بالأموال، وكاتب تبال أخا
طغرلبك، وأطمعه بمنصب أخيه، فخرج تبال واشتغل به طغرلبك.
ثم قدم البساسيري بغداد في سنة خمسين ومعه الراية المصرية، ووقع القتال
بينه وبين الخليفة، ودعي لصاحب مصر المستنصر بجامع المنصور، وزيد في
الأذان: حي على خير العمل، ثم خطب له في كل الجوامع إلا جامع الخليفة،
ودام القتال شهرًا.
ثم قبض البساسيري على الخليفة في ذي الحجة، وسيره إلى غابة، وحبسه بها،
وأما طغرلبك فظفر بأخيه وقتله، ثم كاتب متولي غابة في رد الخليفة إلى
داره مكرمًا، فحصل الخليفة في مقر عزه في الخامس والعشرين من ذي القعدة
سنة إحدى وخمسين، ودخل بأبهة عظيمة والأمراء والحجاب بين يديه.
وجهز طغرلبك جيشًا فحاربوا البساسيري، فظفروا به، فقتل، وحمل رأسه إلى
بغداد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تولى الخلافة 422هـ وحتى 467هـ.
ص -299-
ولما رجع الخليفة إلى داره لم ينم بعدها
إلا على فراش مصلاه، ولزم الصيام والقيام، وعفا عن كل من آذاه، ولم
يسترد شيئًا مما نهب من قصره إلا بالثمن، وقال: هذه أشياء احتسبناها
عند الله، ولم يضع رأسه بعدها على مخدة، ولما نهب قصره لم يوجد فيه شيء
من آلات الملاهي.
وروي أنه لما سجنه البساسيري كتب قصته وأنفذها إلى مكة، فعلقت في
الكعبة فيها: إلى الله العظيم من المسكين عبده، اللهم إنك العالم
بالسرائر، المطلع على الضمائر، اللهم إنك غني بعلمك، واطلاعك على خلقك،
عن إعلامي، هذا عبد قد كفر نعمك وما شكرها، وألغى العواقب وما ذكرها،
أطغاه حلمك حتى تعدى علينا بغيًا، وأساء إلينا عتوًّا وعدوًا، اللهم قل
الناصر، واعتز الظالم، وأنت المطلع العالم، المنصف الحاكم، بك نعتز
عليه، وإليك نهرب من بين يديه، فقد تعزز علينا بالمخلوقين، ونحن نعتز
بك، وقد حاكمناه إليك وتوكلنا في إنصافنا منه عليك، ورفعنا ظلامتنا هذه
إلى حرمك، ووثقنا في كشفها بكرمك، فاحكم بيننا بالحق وأنت خير
الحاكمين.
وفي سنة ثمانٍ وعشرين مات الظاهر العبيدي صاحب مصر، وأقيم ابنه
المستنصر بعده -وهو ابن سبع سنين- فأقام في الخلافة ستين سنة وأربعة
أشهر.
قال الذهبي: ولا أعلم أحدًا في الإسلام -لا خليفة ولا سلطان- أقام هذه
المدة، وفي أيامه كان الغلاء بمصر الذي ما عهد مثله منذ زمان يوسف،
فأقام سبع سنين حتى أكل الناس بعضهم بعضًا، وحتى قيل: إنه بيع رغيف
بخمسين دينارًا.
وفي سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة قطع المعز بن باديس الخطبة للعبيدي
بالمغرب وخطب لبني العباس.
وفي سنة إحدى وخمسين كان عقد الصلح بين السلطان إبراهيم بن مسعود بن
محمود بن سبكتكين صاحب غزنة وبين السلطان جغري بك بن سلجوق أخي طغرلبك
صاحب خراسان بعد حروب كثيرة، ثم مات جغري بك في السنة، وأقيم مكانه
ابنه ألب أرسلان.
وفي سنة أربع وخمسين زوج الخليفة ابنته لطغرلبك بعد أن دافع بكل ممكن،
وانزعج واستعفى، ثم لان لذلك برغم منه، وهذا أمر لم ينله أحد من ملوك
بني بويه مع قهرهم الخلفاء وتحكمهم فيهم.
قلت: والآن زوج خليفة عصرنا ابنته من واحد من مماليك السلطان، فضلًا عن
السلطان فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم قدم طغرلبك في سنة خمس وخمسين فدخل بابنة الخليفة، وأعاد المواريث
والمكوس، وضمن بغداد بمائة وخمسين ألف دينار، ثم رجع إلى الري فمات بها
في رمضان، فلا عفا الله عنه، وأقيم في السلطنة بعده ابن أخيه عضد
الدولة ألب أرسلان صاحب خراسان، وبعث إليه القائم بالخلع والتقليد.
ص -300-
قال الذهبي: وهو أول من ذكر بالسلطان على
منابر بغداد، وبلغ ما لم يبلغه أحد من الملوك، وافتتح بلادًا كثيرة من
بلاد النصارى، واستوزر فظلم الملك، فأبطل ما كان عليه الوزير قبله عميد
الملك من سب الأشعرية، وانتصر للشافعية وأكرم إمام الحرمين، وأبا
القاسم القشيري، وبنى النظامية، قيل: وهي أول مدرسة بنيت للفقهاء.
وفي سنة ثمانٍ وخمسين ولدت بباب الأزج صغيرة لها رأسان ووجهان ورقبتان
على بدن واحد، وفيها ظهر كوكب كأنه دارة القمر ليلة تمامه بشعاع عظيم،
وهال الناس ذلك، وأقام عشر ليالٍ، ثم تناقص ضوؤه وغاب.
في سنة تسع وخمسين فرغت المدرسة النظامية ببغداد، وقرر لتدريسها الشيخ
أبو إسحاق الشيرازي، فاجتمع الناس، فلم يحضر واختفى، فدرس ابن الصباغ
صاحب الشامل، ثم تلطفوا بالشيخ أبي إسحاق حتى أجاب ودرس.
وفي سنة ستين كانت بالرملة الزلزلة الهائلة التي خربتها حتى طلع الماء
من رءوس الآبار، وهلك من أهلها خمسة وعشرون ألفًا، وأبعد البحر عن
ساحله مسيرة يوم، فنزل الناس إلى أرضه يلتقطون السمك، فرجع الماء عليهم
فأهلكهم.
وفي سنة إحدى وستين احترق جامع دمشق، وزالت محاسنه، وتشوه منظره، وذهبت
سقوفه المذهبة.
وفي سنة اثنتين وستين ورد رسول أمير مكة على السلطان ألب أرسلان بأنه
أقام الخطبة العباسية، وقطع خطبة المستنصر المصري، وترك الأذان بحي على
خير العمل، فأعطاه السلطان ثلاثين ألف دينار وخلعًا.
وسبب ذلك ذلة المصريين بالقحط المفرط سنين متوالية حتى أكل الناس، وبلغ
الإردب مائة دينار، وبيع الكلب بخمسة دنانير، والهر بثلاثة دنانير.
وحكى صاحب المرآة أن امرأة خرجت من القاهرة ومعها مد جوهر، فقالت: من
يأخذ بمدبر؟ فلم يلتفت إليها أحد.
وقال بعضهم يهنئ القائم:
وقد علم المصري أن جنوده
سنو يوسف فيها وطاعون عمواس
أقامت به حتى استراب بنفسه
وأوجس منها خيفة أي إيجاس
وفي سنة ثلاث وستين خطب بحلب القائم، والسلطان ألب أرسلان،
لما رأوا قوة دولتهما وإدبار دولة المستنصر.
وفيها كانت وقعة عظيمة بين الإسلام والروم، ونصر المسلمون، ولله الحمد،
ومقدمتهم السلطان ألب أرسلان، وأسر ملك الروم، ثم أطلق بمال جزيل،
وهادنه خمسين سنة.
ولما أطلق قال للسلطان: أين جهة الخليفة؟ فأشار له، فكشف رأسه وأومأ
إلى الجهة بالخدمة.
ص -301-
وفي سنة أربع وستين كان الوباء في الغنم
إلى الغاية.
وفي سنة خمس وستين قتل السلطان ألب أرسلان، وقام في الملك بعده ولده
ملكشاه، ولقب: جلال الدولة، ورد تدبير الملك إلى نظام الملك، ولقبه:
الأتابك، وهو أول من لقبه، ومعناه الأمير الوالد، وفيها اشتد الغلاء
بمصر، حتى أكلت امرأة رغيفًا بألف دينار، وكثر الوباء إلى الغاية.
وفي سنة ست وستين كان الفرق العظيم ببغداد، وزادت دجلة ثلاثين ذراعًا،
ولم يقع مثل ذلك قط، وهلكت الأموال والأنفس والدواب، وركبت الناس في
السفن، وأقيمت الجمعة في الطيار على وجه الماء مرتين، وقام الخليفة
يتضرع إلى الله، وصارت بغداد ملقة واحدة، وانهدم مائة ألف دار أو أكثر.
وفي سنة سبع وستين مات الخليفة القائم بأمر الله ليلة الخميس الثالث
عشر من شعبان، وذلك أنه افتصد1 ونام، فانحل موضع الفصد، وخرج منه دم
كثير، فاستيقظ وقد انحلت قوته، فطلب حفيده ولى العهد عبد الله بن محمد،
ووصاه، ثم توفي، ومدة خلافته خمس وأربعون سنة.
مات في أيامه من الأعلام: أبو بكر البرقاني، وأبو الفضل الفلكي،
والثعلبي المفسر، والقدوري شيخ الحنفية، وابن سينا شيخ الفلاسفة،
ومهيار الشاعر، وأبو نعيم صاحب الحلية، وأبو زيد الدبوسي، والبرادعي
المالكي صاحب التهذيب، وأبو الحسين البصري المعتزلي، ومكي صحاب
الإعراب، والشيخ أبو محمد الجويني، والمهدوي صاحب التفسير والإفليلي،
والثمانيني، وأبو عمرو الداني، والخليل صاحب الإرشاد، وسليم الرازي،
وأبو العلاء المعري، وأبو عثمان الصابوني، وابن بطال شارح البخاري،
والقاضي أبو الطيب الطبري، وابن شيطا المقرئ، والماوردي الشافعي، وابن
باب شاذ، والقضاعي صاحب الشهاب، وابن برهان النحوي، وابن حزم الظاهري،
والبيهقي، وابن سيده صاحب المحكم، وأبو يعلى بن الفراء شيخ الحنابلة،
والحضرمي من الشافعية، والهذلي صاحب الكامل في القراءات، والفريابي،
والخطيب البغدادي، وابن رشيق صاحب العمدة، وابن عبد البر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 افتصد: أي قطع عرقًا بقصد الفصادة. مختار الصحاح "504". |