تاريخ الخلفاء
المقتدي بأمر الله أبو القاسم1
المقتدي بأمر الله: أبو القاسم عبد الله بن محمد بن القائم بأمر الله.
مات أبوه في حياة القائم -وهو حمل- فولد بعد وفاة أبيه بستة أشهر، وأمه
أم ولد، اسمها أرجوان.
وبويع بالخلافة عند موت جده، وله تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر، وكانت
البيعة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تولى الخلافة 467هـ وحتى 487هـ.
ص -302-
بحضرة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وابن
الصباغ، والدامغاني، وظهر في أيامه خيرات كثيرة، وآثار حسنة في
البلدان.
وكانت قواعد الخلافة في أيامه باهرة وافرة الحرمة، بخلاف من تقدمه.
ومن محاسنه أنه نفى المغنيات والخواطي ببغداد، وأمر ألا يدخل أحد
الحمام إلا بمئزر، وخرب أبراج الحمام صيانة لحرم الناس.
وكان دينًا، خيِّرًا، قوي النفس، عالي الهمة، ومن نجباء بني العباس.
وفي هذه السنة من خلافته أعيدة الخطبة للعبيدي بمكة، وفيها جمع نظام
الملك المنجمين، وجعلوا النيروز أول نقطة من الحمل، وكان قبل ذلك عند
حلول الشمس نصف الحوت، وصار ما فعله النظام مبدأ التقاويم.
وفي سنة ثمانٍ وستين خطب للمقتدي بدمشق، وأبطل الأذان بحي على خير
العمل، وفرح الناس بذلك.
وفي سنة تسع وستين قدم بغداد أبو نصر بن الأستاذ أبي القاسم القشيري
حاجًّا فوعظ بالنظامية، وجرى له فتنة كبيرة مع الحنابلة؛ لأنه تكلم على
مذهب الأشعري، وحط عليهم، وكثر أتباعه والمتعصبون له فهاجت فتن وقتلت
جماعة، وعزل فخر الدولة بن جهير من وزارة المقتدي؛ لكونه شذ عن
الحنابلة.
وفي سنة خمس وسبعين بعث الخليفة الشيخ أبا إسحاق الشيرازي رسولًا إلى
السلطان يتضمن الشكوى من العميد أبي الفتح بن أبي الليث عميد العراق.
وفي سنة ست وسبعين رخصت الأسعار بسائر البلاد، وارتفع الغلاء، وفيها
ولَّى الخليفة أبا شجاع محمد بن الحسين الوزارة، ولقبه: ظهير الدين،
وأظن ذلك أول حدوث التلقيب بالإضافة إلى الدين.
وفي سنة سبع وسبعين سار سليمان بن قتلمش السلجوقي صاحب قونية وأقصراء
بجيوشه إلى الشام، فأخذ أنطاكية -وكانت بيد الروم من سنة ثمانٍ وخمسين
وثلاثمائة- وأرسل إلى السلطان ملكشاه يبشره، قال الذهبي: وآل سلجوق هم
ملوك بلاد الروم، وقد امتدت أيامهم وبقي منهم بقية إلى زمن الملك
الظاهر بيبرس.
وفي سنة ثمانٍ وسبعين جاءت ريح سوداء ببغداد بعد العشاء، واشتد الرعد
والبرق، وسقط رمل وتراب كالمطر، ووقعت عدة صواعق في كثير من البلاد فظن
الناس أنها القيامة، وبقيت ثلاث ساعات بعد العصر، وقد شاهد هذه الكائنة
الإمام أبو بكر الطرطوشي وأوردها في أماليه.
وفي سنة تسع وسبعين أرسل يوسف بن تاشفين صاحب سبتة ومراكش، إلى المقتدي
يطلب أن يسلطنه، وأن يلقده ما بيده من البلاد، فبعث إليه الخلع
والأعلام، والتقليد، ولقبه بأمير المسلمين، ففرح بذلك، وسر به فقهاء
المغرب، وهو الذي أنشأ مدينة مراكش. وفيها
ص -303-
دخل السلطان ملكشاه بغداد في ذي الحجة وهو
أول دخوله إليها؛ فنزل بدار المملكة، ولعب بالكرة، وقد تقاوم الخليفة،
ثم رجع إلى أصبهان، وفيها قطعت خطبة العبيدي بالحرمين، وخطب للمقتدي.
وفي سنة إحدى وثمانين مات ملك غزنة المؤيد إبراهيم بن مسعود بن محمود
بن سبكتكين، وقام مقامه ابنه جلال الدين مسعود.
وفي سنة ثلاث وثمانين عملت ببغداد مدرسة لتاج الملك مستوفي الدولة بباب
أبرز، ودر بها أبو بكر الشاشي.
وفي سنة أربع وثمانين استولت الفرنج على جميع جزيرة صقلية، وهي أول ما
فتحها المسلمون بعد المائتين، وحكم عليها آل الأغلب دهرًا إلى أن
استولى العبيدي المهدي على المغرب، وفيها قدم السلطان ملكشاه بغداد،
وأمر بعمل جامع كبير بها، وعمل الأمراء حوله دورًا ينزلونها، ثم رجع
إلى أصبهان، وعاد إلى بغداد في سنة خمس وثمانين عازمًا على الشر، وأرسل
إلى الخليفة يقول: لا بد أن تترك لي بغداد، وتذهب إلى أي بلد شئت،
فانزعج الخليفة وقال: أمهلني ولو شهرًا، قال: ولا ساعة واحدة، فأرسل
الخليفة إلى وزير السلطان يطلب المهلة إلى عشرة أيام، فاتفق مرض
السلطان وموته، وعد ذلك كرامة للخليفة، وقيل: إن الخليفة جعل يصوم،
فإذا أفطر جلس على الرماد ودعا على ملكشاه، فاستجاب الله دعاءه، وذهب
إلى حيث ألقت، ولما مات كتمت زوجته تركان خاتون موته، وأرسلت إلى
الأمراء سرًّا، فاستحلفتهم لولده محمود -وهو ابن خمس سنين- فحلفوا له،
وأرسلت إلى المقتدي في أن يسلطنه فأجاب، ولقبه: ناصر الدنيا والدين،
وذلك في المحرم سنة سبع وثمانين وأربعمائة، وعمل الخليفة على تقليده،
ثم مات الخليفة من الغد فجأة، فقيل: إن جاريته شمس النهار سمته، وبويع
لولده المستظهر.
ومن مات في أيام المقتدي من الأعلام: عبد القادر الجرجاني، وأبو الوليد
الباجي، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، والأعلم النحوي، وابن الصباغ صاحب
الشامل، والمتولي، وإمام الحرمين، والدامغاني الحنفي، وابن فضالة
المجاشعي، والبزدوي شيخ الحنفية. |