شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام
ج / 1 ص -212-
الباب العاشر:
في ثواب دخول الكعبة
المعظمة:
أخبرني أحمد بن عمر البغدادي بقراءتي عليه
بالقاهرة، والقاضي المفتي أبو بكر بن الحسين الشافعي بقراءتي عليه
بطيبة، كلاهما عن الحافظ أبي الحجاج المزي، قال: أخبرنا الدرجي، قال:
أنبأنا الصيدلاني، قال: أخبرتنا فاطمة الجوزدانية قالت: أخبرنا ابن
ريذة، قال: أخبرنا الطبراني، قال: حدثنا أحمد بن يحيى الحلواني، قال:
حدثنا سعيد بن سليمان الواسطي عن عبد الله بن المؤمل، قال: حدثنا عبد
الرحمن بن محيصن، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم:
"من دخل البيت فصلى فيه دخل في
حسنة وخرج من سيئة مغفورا له"1. وفي لفظ:
"من دخل البيت خرج مغفورا له"2.
وروى الفاكهي أخبارا في فضائل دخول الكعبة والصلاة فيها، لأنه قال:
حدثنا سعيد بن عبد الرحمن، قال: حدثنا عبد الله بن الوليد، عن عبد
الوهاب بن مجاهد، عن أبيه، عن ابن عمر، في دخول البيت دخول في حسنة
وخروج من سيئة مغفورا له.
حدثنا محمد بن أبي عمر حدثنا سفيان، عن عبد الكريم، وحدثنا أبو بشر،
حدثنا ابن أبي الصيف، حدثنا إسماعيل بن كثير أبو هاشم جميعا عن مجاهد،
قال: دخول البيت حسنة وخروجه خروج من سيئة مغفورا له3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه: البيهقي في سننه 5/ 158.
2 رواه الطبراني في الكبير والبزار بنحوه، وفي سنده "عبيد الله بن
المؤمل" منفرد به "وثقه ابن سعد وغيره، وفيه ضعف" ذكر ذلك الهيثمي في
مجمع الزوائد3/ 293، وحسنه السيوطي في الجامع الصغير، والمناوي في
الفيض 6/ 124.
3 أخبار مكة للفاكهي 2/ 292، وذكره السيوطي في الجامع الكبير عن ابن
عباس، وعزاه للطبراني والبيهقي في السنن.
ج / 1 ص -213-
وقال الفاكهي أيضا: حدثني أحمد بن محمد
القرشي، عن يوسف بن خالد، قال: حدثنا غالب القطان، عن هند بن أوس قال:
حججت فلقيت ابن عمر، فقلت: إني أقبلت من الفج العميق أردت البيت
العتيق، وأنه ذكر لي أن من أتى بيت المقدس يصلى فيه خرج من ذنوبه كيوم
ولدته أمه، فقال ابن عمر: رأيت البيت من دخله فصلى فيه خرج من ذنوبه
كيوم ولدته أمه1.
وقال الفاكهي: حدثنا سلمة بن شبيب، قال: حدثنا الغازيان، قال: حدثنا
سفيان عن ابن جريج، عن عطاء قال: لأن أصلي ركعتين في البيت أحب إلي من
أن أصلي أربعا في المسجد الحرام2.
وقال الفاكهي: حدثنا أحمد بن حميد، عن الحسين بن الوليد، قال: حدثنا
عباد بن راشد، عن الحسن قال: الصلاة في الكعبة تعدل مائة ألف صلاة...
انتهى.
وروينا عن الحسن البصري في رسالته المشهورة قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم:
"من دخل الكعبة، دخل في رحمة الله عز وجل، وفي حمي
الله تعالى، وفي أمن الله عز وجل، ومن خرج خرج مغفورًا له"... انتهى.
وما أحسن ما أنشده الحافظ أبو طاهر السلفي لنفسه بعد دخول الكعبة:
أبعد دخول البيت والله ضامن
بنفي قبيح، والخطايا الكوامن
فحاشاه، كلا، بل تسامح كلها
ويرجع كل، وهو جذلان آمن
وقد اتفق الأئمة الأربعة على استحباب دخول البيت، واستحسن
مالك كثرة دخولها، لأن في مناسك ابن الحاج قال ابن حبيب: وأخبرني مطرف،
عن مالك: أنه سئل عن الصلاة في البيت وعن دخوله كلما قدر عليه الداخل،
فقال له: ذلك واسع حسن... انتهى.
وروينا ذلك في "تاريخ الأزرقي" عن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب-
أحد الفقهاء السبعة بالمدينة على ما قيل وصدقة بن يسار، ووردت أخبار
استدل بها بعض العلماء على عدم استحباب دخول الكعبة، وقد ذكرها المحب
الطبري مع الجواب عنها في كتاب "القرى"3، وذكرنا ذلك بنصه في أصل هذا
الكتاب، ونشير هنا لشيء من ذلك: أنبأنا عمن أنبأه المحب الطبري قال:
"باب دخول الكعبة" وهو الباب الثامن والعشرون من كتابه "القرى"، حجة من
قال: لا يستحب، عن عائشة قالت: خرج رسول
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للفاكهي 2/ 90.
2 أخبار مكة للفاكهي 2/ 292.
3 القرى "ص: 494".
ج / 1 ص -214-
الله صلى الله عليه وسلم من عندي وهو قرير
العين طيب النفس، ثم رجع إلى وهو حزين، فقلت له: فقال: "إني دخلت
الكعبة ووددت أني لم أكن فعلت، إني أخاف أن أكون أتعبت أمتي من بعدي".
أخرجه أحمد، والترمذي وصححه، وأبو داود1.
وقد استدل بهذا الحديث من كره دخول البيت، ولا دلالة فيه، بل نقول
دخوله صلى الله عليه وسلم دليل على الاستحباب، وتمنيه عدم الدخول فقد
علله بالمشقة والشفقة على أمته، وذلك لا يرفع حكم الاستحباب.
ثم قال المحب: وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: اعتمر رسول الله صلى الله
عليه وسلم فطاف بالبيت وصلى خلف المقام ركعتين ومعه من يستره من الناس،
قال له رجل: أدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة؟ قال: لا.
أخرجاه وبوب عليه البخاري، "باب من قال: لم يدخل الكعبة"، وأجاب المحب
الطبري عن هذا الحديث بأن عدم دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة في
عمرته هذه يجوز أن يكون لعذر، قال: ولعله تركه شفقة على أمته، كما دل
عليه الحديث المتقدم2... انتهى.
قلت: هذا الاحتمال بعيد، والاحتمال الأول هو الصواب، لموافقته ما ذكره
العلماء في سبب كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل الكعبة في عمرته
المشار إليها، وهو عدم تمكنه صلى الله عليه وسلم من أن يزيل من الكعبة
ما كان فيها من الأوثان والصور، لكون مكة في أيدي المشركين وحكمهم إذا
ذاكروا، والله أعلم.
وأما ما يطلب في الكعبة من الأمور التي صنعها النبي صلى الله عليه وسلم
فهو: التكبير والتسبيح والتهليل والتحميد والثناء على الله عز وجل،
والدعاء والاستغفار، لأحاديث وردت في ذلك، منها: ما رويناه عن أسامة بن
زيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دعا في نواحيه
كلها ولم يصل حتى خرج، فلما خرج ركع قِبَل البيت ركعتين وقال: "هذه القبلة"، أخرجه البخاري ومسلم3.
وفي مسلم عن ابن جريج قلت لعطاء: ما نواحيه؟ أفي زواياه؟ قال: بل في كل
قبلة من البيت.
وعند النسائي في هذا الحديث: سبح في نواحيه وكبر4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه: أحمد في مسنده 6/ 153، والترمذي "3/ 223"، وابن ماجه "306"،
المستدرك 1/ 479، والبيهقي في السنن 5/ 159.
2 القرى "ص: 495، 496".
3 أخرجه: البخاري "2/ 50"، ومسلم "استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره: 4/
96".
4 سنن النسائي " "، مسند أحمد 1/ 210، 4/ 2.
ج / 1 ص -215-
وقوله: قِبل البيت، وهو بضم القاف والباء
الموحدة، ويجوز إسكان الباء كما في نظائره، ومعناه على ما قيل: ما
استقبلك فيها، وقيل: مقابلها.
وفي معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "هذه القبلة" ثلاثة احتمالات: أولها: أن معنى ذلك أن أمر القبلة قد استقر على
استقبال هذا البيت فلا ينسخ بعد اليوم وصلوا إليه أبدا.
والاحتمال الثاني: أن معنى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم سنة
موقف الإمام، وأنه يقف في وجه الكعبة دون أركانها وجوانبها، وإن كانت
الصلاة في جميع جهاتها مجزية، وهذان الاحتمالان أبداهما الإمام أبو
سليمان الخطابي... الخ.
والاحتمال الثالث: أبداه الإمام النووي في "شرح مسلم" بعد ذكره لهذين
الاحتمالين، وهو أن معناه هذه الكعبة هي المسجد الحرام الذي أمرتم
باستقباله لا كل الحرم ولا مكة، ولا كل المسجد الذي حول الكعبة بل هي
الكعبة نفسها فقط، والله أعلم... انتهى.
ومعنى قول عطاء: بل في كل قبلة من البيت: أي في كل قبلة من البيت قبلة،
أو كل موضع من البيت قبلة، ذكر ذلك المحب الطبري، قال: ويكون قد دار
النبي صلى الله عليه وسلم في البيت جميعه داعيا ذاكرًا1.
ومن الأحاديث الواردة في المعنى الذي أشرنا إليه: ما رويناه في "سنن
النسائي" أيضا من حديث أسامة بن زيد أنه دخل مع النبي صلى الله عليه
وسلم البيت، فمضى يعني النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بين
الأسطوانتين اللتين يليان باب الكعبة جلس فحمد الله وأثنى عليه وسأله
واستغفره، ثم قام حتى أتى ما استقبل من دبر البيت فوضع وجهه وخده عليه،
فحمد الله وأثنى عليه وسأله واستغفره، ثم انصرف إلى كل ركن من أركان
الكعبة فاستقبله بالتكبير والتهليل والتسبيح والثناء على الله والمسألة
والاستغفار ثم خرج، انتهى باختصار.
وروينا من حديثه أيضا في "سنن النسائي" قال: دخلت مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم البيت فجلس فحمد الله وأثنى عليه وكبر وهلل، ثم قام إلى
ما بين يديه من البيت فوضع صدره عليه وخده ويديه، ثم هلل وكبر ودعا، ثم
فعل ذلك بالأركان كلها، ثم خرج... انتهى باختصار، وأخرجه أحمد أيضا.
وروينا عن ابن عباس قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة وفيها ست
سوار، فقام عند كل سارية فدعا ولم يصل. أخرجه البخاري ومسلم2 وأحمد بن
حنبل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 القرى "ص 499، 500".
2 صحيح البخاري 1/ 375 كتاب الحج، مسلم "الحج: 1330".
ج / 1 ص -216-
وروينا في مسنده1 عن الفضل بن عباس: أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في الكعبة وسبح وكبر ودعا الله عز
وجل واستغفر ولم يركع ولم يسجد.
وروينا عن الفضل أيضا: أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين
دخل الكعبة، قال: فلم يصل فيها ولكنه لما دخلها وقع ساجدًا بين
العمودين ثم جلس يدعو... انتهى.
ولا تضاد بين قوله في هذا الحديث: "وقع ساجدا"، وبين قوله في الحديث
الذي قبله: "ولم يسجد" لاحتمال أن يكون أراد بقوله: ولم يسجد، أي: في
صلاة، ويؤيده قوله: "ولم يركع" والركوع إنما يكون في صلاة، ويكون سجود
النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة على تقدير ثبوت الحديث المتضمن
لذلك شكرا لله تعالى، وقد أشار المحب الطبري، إلى التوفيق بين هذين
الحديثين بما ذكرناه2، والله أعلم.
ومن الأمور التي قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم صنعها في الكعبة، صبه
الماء على جسده صلى الله عليه وسلم، ذكر ذلك الفاكهي، لأنه قال: حدثنا
سلمة بن شبيب أبو عبد الرحمن، قال: حدثنا زيد بن الحباب، قال: سمعت أبا
قدامة عامر الأحول يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بدلو من
ماء فصبه عليه في الكعبة... انتهى.
وهذا غريب جدا، ولذا ذكرناه، والله أعلم بصحته، ولا أعلم أحدا من أهل
العلم قال باستحبابه3، والله أعلم.
ومن الأمور التي صنعها النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة على ما قيل:
إنه ألصق بها بطنه وظهره كما رويناه في معجم ابن قانع، لأنه قال:
أخبرنا حسين بن اليماني، قال: حدثنا سهل بن عثمان العسكري، قال: أخبرنا
عبد الرحمن بن سليمان عن عبد الله بن مسلم بن هرمز، عن عبد الرحمن
الزجاج قال: أتيت شيبة بن عثمان فقلت: يا أبا عثمان، زعموا أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة فلم يصل، فقال: كذبوا لقد صلى بين
العمودين ركعتين ثم ألصق بها بطنه وظهره... انتهى.
وقد أشار شيخنا الحافظ العراقي إلى استحباب هذا الفعل في الكعبة، وبدل
لذلك ما رويناه في "مسند الشافعي" عن عروة بن الزبير أنه كان إذا طاف
بالبيت استلم الأركان كلها وألصق بطنه وظهره وجنبه بالبيت... الخ.
ورأيت لغير واحد من العلماء ما يقتضي عدم استحباب ذلك، لأن المحب
الطبري قال في "القرى": ما جاء في كراهية أن يلصق ظهره إلى الكعبة:" عن
عطاء، وقد سئل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسند أحمد 1/ 210.
2 القرى "ص: 501".
3 أخبار مكة للفاكهي 5/ 234.
ج / 1 ص -217-
عن ذلك فكرهه، وعن إبراهيم قال: كانوا
يكرهون أن يسند ظهره، أخرجهما سعيد بن منصور... انتهى.
ورأيت أيضا لإمامنا ما يقتضي أن ذلك غير مطلوب، لأنه قال: لا يعتنق
شيئا من أساطينه، يعني البيت، وقد دخله صلى الله عليه وسلم ولم أسمع
أنه اعتنق شيئا من أساطينه1... انتهى.
والدلالة من كلام مالك على كراهيته ذلك ظاهرة، لأن اعتناق أساطين
الكعبة كإلصاق البطن والظهر بها، والله أعلم.
وأما ما سوى ذلك من الأمور التي صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في
الكعبة هو مذكور في هذه الأحاديث، فلا أعلم بين أهل العلم اختلافا في
استحبابه، إلا سجدة الشكر في الكعبة، كما هو مقتضى حديث الفضل، ففيها
خلافا بين أهل العلم، فإن مشهور مذهب مالك أن سجود الشكر مكروه من حيث
الجملة، ومقتضى ذلك أن لا يفعل في الكعبة، على أن حديث الفضل الذي في
هذه السجدة مختلف في ثبوته، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 القرى "ص: 318".
ذكر حكم الصلاة في الكعبة:
استحب جمهور العلماء الصلاة في الكعبة، لأنه ثبت
أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيها، ومنع طائفة من العلماء منهم ابن
عباس كما حكاه عنه القاضي عياض ونقله النووي عن جماعة من العلماء في
شرح مسلم" لأنه قال: وقال محمد بن جرير، وأصبغ المالكي وبعض أهل
الظاهر: لا تصح فيها صلاة أبدا لا فريضة ولا نافلة، قال: ودليل الجمهور
حديث بلال... انتهى.
واختلف المستحبون للصلاة في الكعبة، فبعضهم قال بذلك في الفريضة
والنافلة بشرط يأتي ذكره في الفريضة، وبعضهم قصر ذلك على النفل غير
المؤكد، وهذا مذهب الإمام مالك، ولم أر فيما وقفت عليه من كتب المالكية
ما يشهد لصحة ما نقله النووي عن أصبغ بن الفرج أحد أئمة المالكية،
والذي رأيته منقولا عنه في كتب المذهب: أن من صلى الفريضة في الكعبة
أعاد أبدا من غير نظر إلى كون المصلي فيها عامدا أو ناسيا، وقد اختلف
المذهب، وصحح صلاة الفريضة في الكعبة ابن عبد الحكم، واستحب أشهب ألا
تصلى الفريضة في الكعبة، فإن صليت فيها صحت، وصوب هذا القول اللخمي،
لأنه لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة النافلة وجب
مساواة الفريضة لها، فإن أمرهما في الحضر واحد من جهة الاستقبال،
ومشهور المذهب أن صلاة الفريضة لا
ج / 1 ص -218-
تصح في الكعبة، وإن صلاها فيها أعاد
الصلاة، واختلف شيوخ المذهب في الإعادة هل تكون في الوقت أو أبدا؟ وهو
مقتضى قول أصبغ، واخُتلف في الإعادة في الوقت هل هي في حق الناسي، وهو
قول ابن حبيب ورأي ابن يونس وجماعة وقيل: إن ذلك في حق العامد والناسي
وهو رأي القاضي عبد الوهاب واللخمي وابن عتاب، ويلحق بالفريضة النوافل
في كونها لا تصلى في الكعبة، وهي السنن كالعيدين والوتر وركعتي الفجر
وركعتي الطواف الواجب، فإن صليت هذه النوافل في الكعبة فلا تجزئ على
المذهب المشهور، وتجزئ على رأي أشهب وابن عبد الحكم.
واختلف الحنابلة في صحة صلاة الفريضة في الكعبة، والأصح عندهم أنها لا
تصح فيها، وكذلك عندهم النذر المطلق قالوا: فإن نذر الصلاة في الكعبة
صحت فيها، وعندهم خلاف في صحة النافلة في الكعبة، والأصح عندهم فيها
الصحة، وعندهم في كونها في الكعبة مستحبة أو جائزة روايتان.
ولم يخالف مذهب الشافعي في جواز الصلاة في الكعبة، سواء كانت فريضة أو
نافلة، ومقتضى مذهبه إن فعل النافلة في الكعبة أفضل من فعلها في المسجد
خارج الكعبة، وكذلك الفريضة بشرط أن لا يرجو المصلي مجيء جماعة خارج
الكعبة. قال الشافعي: ما فريضة تفوتني في جماعة فأصليها في موضع أحب
إليه منه -يعني البيت الحرام- لأن البقاع إذا فضلت بقربها منه فبطنه
أفضل منها.
ومذهب أبي حنيفة: جواز صلاة النافلة والفريضة في الكعبة، وأن النافلة
في الكعبة مستحبة، وحيث صحت الصلاة في الكعبة فللإنسان أن يصلي في
جوفها إلى أي جوانبها شاء، هكذا في "النوادر" من كتب أصحابنا المالكية،
وفيه أحب إلى أن يجعل الباب خلف ظهره، ثم يصلي إلى أي موضع شاء بعد أن
يستدبر الباب، وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم... انتهى، وهذا مذهب
الشافعي.
وعند الحنابلة أن الصلاة إلى الباب صحيحة إذا كانت له عتبة شاخصة،
وعندهم وجهان فيما إذا صلى إلى سترة في لبن منظوم أو شبهه غير متصل
اتصال البناء، وصحح أبو البركان الصحة في هذه الصور.
وإذا أقيمت الجماعة في الكعبة فلمن ائتم بالإمام فيها خمسة أقوال في
الوقت:
الأول: أن يكون وجه المأموم إلى ظهر الإمام.
الثاني: أن يكون ظهره إلى ظهره.
الثالث: أن يكون وجه المأموم إلى ظهر الإمام.
الرابع: أن يكون بجنبه غير متقدم عليه.
الخامس: أن يكون ظهر المأموم إلى وجه الإمام.
فيصح في جميع الأحوال غير الحالة الخامسة فلا يصح فيها على الأصح من
مذهب الشافعي، ومذهب أبي حنيفة في هذه المسألة كمذهب الشافعي.
ج / 1 ص -219-
وعند الحنابلة وجهان في صحة صلاة المأموم
إذا تقابل هو والإمام، وقاس أبو البركات -من الحنابلة- المنع على ما
إذا كان قفاء المأموم في وجه الإمام.
وإذا حفرت في الكعبة حفرة وصلى فيها إنسان صحت صلاته فيها كما قال بعض
الشافعية فيما نقل "مجلي" في "ذخائره"، قال مجلي: وذلك إذا لم تجاوز
الحفرة قواعد البيت، فإن جاوزتها بحيث لا تحاذي ببدنه شيئا منها لم
يصح، وإلا فهو كالصلاة على ظهرها إلى السترة القصيرة، وذكر ابن الرفعة
أن فيما قاله "مجلي" نظر، وذكر أنه لا فرق بين أن يتجاوز القواعد إلى
سترة أو لا كما أطلقه الأصحاب.
قال ابن جماعة: وعندي ينبغي أن يفصل فيقال: إن صلى في الحفرة ولم يحاذ
ببدنه شيئا من الكعبة أو قواعدها وكان قادرا على إصابة عين البناء لم
تصح الصلاة، وإلا صحت1، والله أعلم... انتهى.
واختلف العلماء أيضا في الصلاة على سطح الكعبة، والمشهور من مذهب مالك
منع الصلاة على ظهرها، وأنه أشد من منعها في بطنها، وذلك لأن المصلي في
بطنها يعيد في الوقت والمصلي على سطحها يعيد أبدا.
وقيل: إن الصلاة على سطحها كالصلاة في بطنها فتعاد في الوقت، وهذا
القول حكاه ابن محرز عن أشهب.
وقيل: إن الصلاة على سطحها تصح ولا إعادة على من فعل ذلك، وهذا القول
حكاه اللخمي عن أشهب، وهو قول ابن عبد الحكم.
وقيل: إن الصلاة على سطحها تصح إن أقام المصلي شيئا يقصده، وهذا تأويل
القاضي عبد الوهاب على المذهب.
وقيل: تصح الصلاة على سطحها إذا كان بين يدي المصلي قطعة من السطح.
وهذا الاختلاف في الفريضة، وأما النافلة على سطح الكعبة فلا تصح على
مقتضى مشهور المذهب إذا كانت الصلاة متأكدة كالسنن والوتر وركعتي الفجر
وركعتي الطواف الواجب، لمساواة هذه النوافل للفريضة في حكم الصلاة في
جوف الكعبة، وفي صحة النفل غير المؤكد على سطح الكعبة نظر على مقتضى
رأي أكثر أهل المذهب في حملهم النهي الوارد عن النبي صلى الله عليه
وسلم في الصلاة على سطح الكعبة.
وأما على رأي ابن عبد الحكم ومن وافقه فيصح النفل مطلقا على سطح
الكعبة، وحديث النهي الوارد عن الصلاة فيها رويناه في مسند عبد بن حميد
بالسند المتقدم إليه في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هداية السالك 2/ 938، 939.
ج / 1 ص -220-
الباب التاسع، ولفظه: حدثنا عبد الله بن
يزيد المقري، حدثنا يحيى بن أيوب، عن زيد بن جبيرة، عن داود بن حصين،
عن نافع، عن ابن عمر قال: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن
يصلى في سبعة مواطن: في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق وفي
الحمام ومعاطن الإبل وفوق ظهر بيت الله عز وجل" أخرجه الترمذي1 عن
محمود بن غيلان، وابن ماجه عن محمد بن إبراهيم الدمشقي، كلاهما عن
المقري. فوقع لنا بدلا لهما عاليا بدرجة بالنسبة إلى روايتنا العالية
لكتابيهما بدرجتين بالنسبة إلى روايتنا لهما المتصلة بالسماع، وزيد بن
جبيرة2 متروك الحديث.
وروينا هذا الحديث من غير طريقه في سنن ابن ماجه بإسناد يقوم بمثله
الحجة، ولفظه: حدثنا علي بن داود ومحمد بن أبي الحسن قالا: أخبرنا أبو
صالح، قال: حدثنا الليث، قال: حدثنا نافع عن ابن عمر بن الخطاب قال: إن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"سبع مواطن لا يجوز فيها الصلاة ظاهر بيت الله والمقبرة والمزبلة
والمجزرة والحمام ومعاطن الإبل ومحجة الطريق"...
انتهى.
ومذهب الشافعي صحة صلاة الفريضة والنافلة على سطح الكعبة بشرط أن يكون
بين يدي المصلي شاخص قدر ثلثي ذراع تقريبا من نفس الكعبة، هذا هو
الصحيح من مذهب الشافعي، وفي مذهبه وجه أيضا: يصح في السطح وإن لم يكن
الشاخص قدر ثلثي ذراع، وقيل: إنما تصح فيه بشرط أن يكون الشاخص قدر
قامة المصلي طولا وعرضا.
ومذهب الحنفية: أن الصلاة على السطح جائزة وإن لم يكن بين يدي المصلي
سترة، فإن الصلاة في السطح مكروهة لما فيه من ترك التعظيم، وعندهم أن
الصلاة على جدار الكعبة صحيحة إذا كان المصلي متوجها إلى سطحها، ولا
تصح إذا جعل السطح وراءه.
ومذهب الحنابلة: أن صلاة الفريضة لا تصح في سطح الكعبة، وأن النافلة
فيه تصح، وأن حكم النافلة على سطحها حكم الفريضة في بطنها إذا كان
الباب مفتوحا ومقتضى ذلك أنها لا تصح في السطح إلا إذا كان هناك شاخص.
وقد حررنا ارتفاع الشاخص في سطح الكعبة وهو ذراع إلا ثمن ذراع في الجهة
الشرقية وفي جهة الحجر بسكون الجيم ذراع وثمن، وفي جهة المغرب ذراع،
وفي جهة اليمن ثلثا ذراع، وقد سبق تحريرنا لذلك طولا وعرضا في الباب
الثامن، وقد أثبتنا فيما يتعلق بالصلاة في وجه الكعبة وعلى سطحها بما
فيه كفاية في ذلك، ويوجد به من الفوائد ما لا يوجد مجتمعا في تأليف،
ونسأل الله التوفيق لكل خير.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الترمذي "346".
2 انظر عنه: التاريخ الكبير 3/ 390 رقم 1299، الجرح والتعديل 3/ 559،
رقم 2528، المعرفة والتاريخ 3/ 138، المغني في الضعفاء 1/ 245 رقم
2264، الكاشف 1/ 264 رقم 744 ميزان الاعتدال 2/ 99 رقم 299.
ج / 1 ص -221-
آداب دخول الكعبة:
وأما آداب دخول الكعبة فكثيرة منها: الاغتسال
لما رويناه عن عبد الكريم بن أبي المخارق.
ومنها: نزع الخف والنعل، لما روينا في سنن سعيد بن منصور عن عطاء وطاوس
ومجاهد، وكره مالك دخولها بالخفين والنعلين، وهو قول الحنابلة.
ومنها: أنه لا يرفع بصره إلى السقف، لحديث في ذلك رويناه عن عائشة
أخرجه الحاكم في "المستدرك"1 وقال: صحيح على شرط الشيخين، وقد تقدم هذا
الحديث في الباب التاسع، وإنما كره رفع البصر في الكعبة، لأنه يولد
الغفلة واللهو عن القصد، أشار بذلك المحب الطبري في "القرى".
ومنها: أن لا يزاحم زحمة شديدة يتأذى بها أو يؤذي بها أحدا، أشار إلى
ذلك النووي وغيره.
ومنها أن لا يكلم أحدا إلا لضرورة أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر.
ومنها: أن يلزم قلبه الخشوع والخضوع وعينيه الدموع إن استطاع ذلك وإلا
حاول صورتها، ذَكَرَ هذين الأمرين المحب الطبري، وهذا لفظه2.
ومنها: أن لا يسأل مخلوقا، لما رويناه عن سفيان بن عيينة قال: دخل هشام
بن عبد الملك الكعبة فإذا هو بسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب فقال:
سلني حاجتك. قال: أستحي من الله أن أسأل في بيته غيره3.
وذكر الفاكهي ما يقتضي أن التارك لسؤال هشام في الكعبة غير سالم بن عبد
الله، لأنه قال: حدثنا محمد بن أبي عمر قال: قال سفيان بن عيينة سمعت
بعض من يذكر أن هشام بن عبد الملك أو غيره دخل الكعبة عام حج فلم يدع
في الكعبة غير منصور الحجبي، فقال له هشام: سل حاجتك، قال منصور: ما
كنت لأسأل غير الله في بيته، فلم يسأله شيئا... انتهى.
وحكم النساء في دخولهن الكعبة حكم الرجال من غير خلاف أعلمه في ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مستدرك الحاكم 1/ 479.
2 القرى "ص: 501".
3 القرى "ص: 501، 502". |