شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام
ج / 1 ص -379-
الباب الثاني والعشرون:
في ذكر أماكن بمكة المشرفة
وحرمها وقربه التي لها تعلق بالمناسك:
وهي ستة وعشرون موضعا مرتبة على ترتيب حروف
المعجم:
الأول: باب بني شيبة1 الذي يستحب للمحرم دخول المسجد الحرام منه، وهو
أول باب بالجانب الشرقي مما يلي الجانب الشامي، بين رباط الشرابي ورباط
السدرة، وعليه "منارة المسجد الحرام، وأمامه في خارجه بلاط مفروش من
حجارة، وفي عتبته حجارة طوال، يقال إنها كانت أوثانا تعبد في الجاهلية،
وليس ذلك بصحيح، على ما نقل الأزرقي عن جده2.
والأصل في استحباب دخول المسجد الحرام من هذا الباب، ما رويناه عن عطاء
أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد من باب بني شيبة، وخرج من باب
بني مخزوم إلى الصفا، رواه البيهقي، وقال: إنه مرسل جيد، قال: ورويناه
عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا في دخوله من باب بني شيبة، وخروجه من
باب الحناطين... انتهى.
والمراد بباب بني شيبة في هذا الخبر: جهة هذا الباب، لا هذا الباب
نفسه، فإنه لم يكن إلا في عمارة المهدي. والمراد بباب بني مخزوم: باب
الصفا، فإنه ينسب لبني مخزوم. وباب الحناطين باب كان للمسجد فيما بين
باب الحزورة وباب بني جمح الذي في وزانه الآن: باب الزيادة بالجانب
الغربين ولا أثر الآن لباب الحناطين، والمراد به جهته، لأنه لم يكن إلا
عقب موت المهدي العباسي فيما أمر به من الزيادة الثانية في المسجد
الحرام، فينبغي للخارج من المسجد مسافرا أن يخرج من باب الحزورة، أو هي
باب الزيارة المشار إليها لقربها من باب الحناطين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يعرف الآن بباب السلام، وكانت نسب لآل شيبة سدنة الكعبة.
2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 78.
ج / 1 ص -380-
وفي "النوادر" لابن أبي زيد المالكي ما
يقتضي أن الخارج من المسجد الحرام مسافرا خرج من باب المسجد المعروف
الآن بباب العمرة في الجانب الغربي، فينبغي للمسافر أن يخرج منه أو من
باب زيادة إبراهيم، أو من باب الحزورة، والله أعلم.
ونص ما في "النوادر" على ما نقل الأشنائي في شرحه لمنهاج النووي بعد أن
ذكر أن "النوادر" أهمل بيان الباب الذي يخرج منه المسافر من المسجد
الحرام، ففي "النوادر" عن ابن جبير: "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل
المسجد من باب بني شيبة، وخرج إلى الصفا من باب بني مخزوم، وإلى
المدينة من باب بني سهم1... انتهى.
وباب بني سهم: هو باب المسجد الذي أشرنا إليه، كما يقتضيه كلام الأزرقي
وغيره كالأشنائي، باستحباب الخروج منه للمسافر إلى بلده.
وذكر عن الرافعي: أن الأصحاب أطلقوا استحباب دخول المسجد الحرام من باب
بني شيبة لمن كان في طريقه، ولمن لم يكن في طريقه، ولا كذلك الثنية
العليا، فإن الدخول منها إنما يستحب لمن كانت في طريقه، على خلاف في
ذلك. والفرق بينه وبين باب بني شيبة: أن دوران المسجد لأجله لا عسر فه،
ولا كذلك الدوران للدخول من الثنية العليا إذا لم يكن في الطريق، والله
أعلم.
الثاني: التنعيم المذكور في حد الحرم من جهة المدينة النبوية، وهو أمام
أدنى الحل، على ما ذكر المحب الطبري، قال: وليس بطرف الحل، ومن فسره
بذلك تجوز وأطلق اسم الشيء على ما قرب منه، وأدنى الحل إنما هو من
جهته، ليس موضع في الحل أقرب إلى الحرم منه، وهو على ثلاثة أميال من
مكة، والتنعيم أمامه قليلا في صوب طريق وادي مر الطهران... انتهى
بنصه2.
وقال صاحب "المطالع": التنعيم من الحل بين مكة وسرف على فرسخين من مكة،
وقيل: على أربعة أميال، وسميت بذلك لأن جيلا عن يمينها يقال له: نعيم،
وآخر عن شمالها يقال لها: ناعم، والوادي: نعمان... انتهى.
والإحرام من الحل الذي في جهة التنعيم للمقيم بمكة أفضل من الإحرام من
الحل الذي في بقية جهات الحرم، ما خلا الجعرانة، فإن الإحرام منها أفضل
عند مالك، والشافعي، وابن حنبل، وغيرهم من العلماء رحمة الله تعالى
عليهم أجمعين.
الثالث: ثبير، الذي يقولون في الجاهلية إذا أرادوا أن يدفعوا من
المزدلفة: أشرق ثبير كيما نغير، ولا يدفعون حتى يروا الشمس عليه، وهو
جبل بالمزدلفة على ما ذكر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رحلة ابن جبير "ص: 83، 84".
2 القرى "ص: 99".
ج / 1 ص -381-
الأزرقي ونص كلامه: وثبير الموضع الذي فيه
سداد الحاج، وهو جبل المزدلفة الذي هو على يسار الذاهب إلى منى، وهو
الذي كانوا يقولون في الجاهلية إذا أرادوا أن يدفعوا من المزدلفة: أشرق
ثبير كيما نغير. ولا يدفعون حتى يروا الشمس عليه1... انتهى.
وثبير الذي يستحب للحاج إذا طلعت الشمس عليه سار إلى عرفة لينزل بنمرة،
ثم يذهب منها بعد صلاة الظهر والعصر مع الإمام إلى موقف عرفة، وهو جبل
كبير بمنى على يسار الذاهب إلى عرفة، نص على ذلك الشخ الإمام المحب
الطبري، لأنه لما تكلم على قول صاحب "التنبيه" في صفة الحج: "ثم يخرج
إلى منى في اليوم الثامن، فيصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء
ويبيت بها، ثم يصلي الصبح، فإذا طعلت الشمس على ثبير سار إلى الموقف"،
قال: ثبير بثاء مثلثة مفتوحة وباء موحدة مكسورة أعلى جبل بمنى. وقال
الجوهري: بمكة، ولعله أراد بقرب مكة فتجوز، وقال غيره: بالمزدلفة،
والمشهور الأول وهو يشرف على منى من جمرة العقبة إلى تلقاء مسجد الخيف،
وأمامه قليلا على يسار الذاهب إلى عرفة... انتهى.
وممن ذكر أن ثبيرا بمنى: الأزرقي، لأنه قال فيما رويناه عنه بالمسند
المتقدم: اسم الجبل الذي مسجد الخف بأصله الصفائح، واسم الجبل الذي
وجاهه على يسارك إذا أتيت من مكة المقابل ثبير، وهو من الأثبرة2...
انتهى.
وممن ذكر أن ثبيرا بمنى: سليمان بن خليل، لأنه قال: وثبير جبل كبير
بمنى وكذلك النووي في "التهذيب"، لأنه قال لما ذكر منى: وهو شعب ممدود
بين جبلين، أحدهما: ثبيرن والآخر: الصائح3، كذا رأيت في نسخة من
"التهذيب" ولعله: والآخر الصفائح، كما يقتضيه كلام الأزرقي، والله
أعلم.
وإذا تقرر أن ثبيرا بمنى وثبيرا بمزدلفة: فلا مانع أن يكون ثبير الذي
إذا طلعت عليه الشمس سار الحاج من مبيته بمنى إلى عرفة، كما قال
الفقهاء ثبير بمنى، لكونه إلى مبيت الحاج أقرب من ثبير الذي بالمزدلفة،
ولا مانع من أن يكون ثبير الذي عناه المشركون بقولهم أشرق ثبير كيما
نغير من المزدلفة، لأنهم كانوا يقولون ذلك بالمزدلفة، ولا يدفعون منها
حتى تطلع الشمس على ثبير التي بها، وهو إلى أبصارهم أقرب من ثبير الذي
بمنى، كيف وقد قال الأزرقي: إن ثبيرا الذي عناه المشركون ثبير
المزدلفة، وأثبت أن بمنى ثبيرا سواه!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 280.
2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 180.
3 في التهذيب: الضائعط بدل "الصائح "انظر:تهذيب الأسماء واللغات 2/ 2:
157.
ج / 1 ص -382-
وأما قول النووي في "التهذيب" وغيره أن
ثبيرا جبل عظيم بالمزدلفة على يسار الذاهب إلى منى، ويمين الذاهب من
منى إلى عرفات، وأنه المذكور في صفة الحج، والمراد في مناسك الحج، فقد
اعترضه شيخنا القاضي مجد الدين الشيرازي، وقال: إنه قول فيه مقال، ورجم
بالغيب، ومخالفة لإجماع أئمة اللغة والتواريخ، ثم قال شيخنا: نعم في
المزدلفة جبل يسمى ثبيرا، وليس هو المراد في مناسك الحج... انتهى،
والله أعلم.
وذكر ياقوت في "معجم البلدان"1 أن ثبيرا اسم لثمانية مواضع فنذكر كلامه
لإفادة ذلك، ونص كلامه: باب: ثبير: ثمانية مواضع بفتح أوله كسر الباء
الموحدة ثم ياء ساكنة وراء.
الأول: ثبير من أعظم جبال مكة، بين مكة وعرفة، وهو المراد بقولهم في
الجاهلية: أشرف ثبير، كيما نغير.
الثاني: ثبير الزنج بمكة أيضا، قالوا: لأن الزنج كانوا يجتمعون عنده
للعب واللهو.
الثالث: ثبير الأعرج "وثبير الأحدب"2.
الرابع ثبير الخضراء.
الخامس: ثبير النصع، وهو جبل المزدلفة.
السادس: ثبير غينا3 وهذه السبعة بمكة، ويقال لها: الأثبرة.
الثامن: ثبير: ماء في بلاد مزينة أقطعه النبي صلى الله عليه وسلم شريح
بن ضمرة المزني4... انتهى.
هكذا وجدت في نسخة سقيمة من "مختصر معجم البلدان لياقوت" ولا يستقيم ما
فيها من أن بمكة سبعة أثبرة إلا بأن يكون سقط من النسخة ذكر ثبير
السابع، أو يكون ثبير الأعرج وثبير الأحدب اثنين، فإن الموجود في
النسخة يوهم أنهما واحد، ويكون سقط الرابع قبيل قوله: وثبير الأحدب،
ويكون على هذا قوله: الرابع والخامس والسادس سهوا في العدد، وهذا
الاحتمال أظهر5، لأن الرضى الصاغاني قال: من الأثبرة ثبير
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النص المذكور في المتن ليس من "معجم البلدان" بل هو من المشترك وضعا
والمفترق صقعا" لياقوت أيضًا "ص: 86، 87".
2 ما بين القوسين ليس في "المستدرك".
3 في المشترك: "السابع ثبير الأحدب".
4 المشترك وضعا والمفترق صقعا "ص: 76: 87".
5 الواضح أن المؤلف اطلع على نسخة سقيمة من "المشترك" ويسميه "مختصر
معجم البلدان"، وهي التي جعلته يسهب في التحليل والتعليق، ولو اطلع على
نسخة سليمة كالتي وصلتنا مطبوعة لوقف على أسماء الأثبرة كاملة.
ج / 1 ص -383-
غَيْنَا، وثبير الأعرج، وثبير الأحدب،
وسمعت أعراب هذيل يسمونه: الأحيدب مصغرا... انتهى، وهذا يدل على أن
ثبيرا الأعرج غير ثبير الأحدب.
وذكر الأزرقي من الأثبرة التي ذكرها ياقوت: ثبيرا الأول، وذكر أن اسمه
القابل، وثبير النصع جبل المزدلفة، وثبير الأعرج، ونص ما ذكره فيه:
وثبير الأعرج المشرف على حق الطارقيين بين المغمس والنخيل1... انتهى.
وفي هذا إشارة إلى تعريف محله.
وذكر الزمخشري2 من هذه الأثبرة ثبير غينا وثبير الأعرج، وأفاد في كلامه
ضبط غينا، وأن ثبير غينا وثبير الأعرج متقاربان، ولم أقف على المحل
الذي ذكر فيه ذلك، وإنما نقل عنه ذلك شيخنا القاضي مجد الدين اللغوي
الشيرازي، لأنه قال: وقال الزمخشري: وثبير غينا بالغين المعجمة
المتفوحة بعدها مثناة تحتية ثم نوف وألف وثبير الأعرج جبلان يصب بينهما
أفاعية بضم الهمزة وبعدها فاء وألف وعين مهملة مكسورة ومثناة تحتية
مفتوحة مخففة بعدها هاء وهي واد يصب من منى... انتهى.
وثبير الزنج الذي ذكره ياقوت يقال: إنه جبل بأسفل مكة تسميه أهلها
النوبي، والله أعلم.
وثبير الخضراء هو الجبل المشرف على الموضع الذي يقال له الخضيرا، بطريق
منى وهو مكان مشهور، والنصع بكسر النون وسكون الصاد المهملة هكذا ضبطه
شيخنا القاضي مجد الدين الشيرازي، وفي كلام ياقوت إشارة إلى أن ثبيرا
الذي كانوا يقولون فيه: "أشرق ثبير كيما نغير": هو ثبير مني، الذي قال
له ثبير الأثبرة، وذلك يخالف ما ذكره الأزرقي، والله أعلم.
الرابع: الجعرانة، الموضع الذي أحرم فيه النبي صلى الله عليه وسلم لما
رجع من الطائف بعد فتح مكة، وهو موضع مشهور بين الطائف ومكة، وهو إلى
مكة أقرب بكثير، لأن بينه وبين مكة نحو ثمانية عشر ميلا على ما ذكر
الباجي المالكي.
وقال الفاكهي: والجعرانة حيث اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم على بريد
من مكة3... انتهى باختصار. وهذا يخالف ما ذكره الباجي، والله أعلم
بالصواب.
وحد الحرم من جهته على تسعة أميال بتقديم التاء على السين وقيل: يزيد،
وهو اثنا عشر ميلا كما سبق في حدود الحرم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 280.
2 غريب الحديث الزمخشري.
3 أخبار مكة للفاكهي 5/ 69، والحديث حسن نقله ابن حجر في الفتح 8/ 64
حسبما قال محقق كتاب الفاكهي.
ج / 1 ص -384-
وذكر السهيلي أن هذا الموضع سمي باسم امرأة
كانت تلقب بالجعرانة، واسمها: ريطة بنت سعد بن زيد مناة بن تميم، وقيل:
هي من قريش... انتهى، ذكر ذلك بالمعنى لما تكلم عن قوله تعالى:
{وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ} [النحل: 92] الآية: ولم يبين السهيلي القائل بأنها من قريش، وقد
بين ذلك الفاكهي لأنه قال: حدثنا حسن بن حسين الأزدي، عن رجلين، عن ابن
الكلبي عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عباس في قوله تعالى:
{وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ} نزلت في امرأة من قريش من بني تيم بن مرة يقال لها: ريطة بنت كعب،
ولقبها جعرانة، وهي أم أسد بن عبد العزى، التي قامت عنه، وكانت حمقاء.
وروى الفاكهي بسنده عن السدي في تفسير هذه الآية قال: كانت امرأة تسمى
حرفا بمكة كانت تغزل، فإذا أبرمت غزلها نقضته. وقال: قال ابن جريج: قال
أبو الهذيل: حرفا كانت بمكة تنقضه بعد ما تبرمه.
وروي عن مجاهد في تفسير قوله تعالى:
{وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا}
قال: هن النساء من أهل نجد ينقضن حبلهن وينفشنه ثم يخلطنه بالصوف
فيغزلنه... انتهى.
ذكر الموضع الذي أحرم منه رسول الله من
الجعرانة:
روينا بالسند المتقدم إلى الأزرقي قال: حدثني
جدي، عن الزنجي، عن ابن جريج قال: أخبرني زياد بن محمد بن طارق أخبره
أنه اعتمر مع مجاهد من الجعرانة، فأحرم من وراء الوادي حيث الحجارة
المنصوبة قال: ومن ههنا أحرم النبي صلى الله عليه وسلم، وإني لأعرف أول
من اتخذ المسجد على الأكمة، بناه رجل من قريش سماه، واشترى بمال عنده
نخلا، فبنى هذا المسجد، قال ابن جريج: فلقيت أبا محمد بن طارق فسألته
فقال: اتفقت أنا ومجاهد بالجعرانة، فأخبرني أن المسجد الأقصى الذي من
وراء الوادي بالعدوة القصوى مصلى النبي صلى الله عليه وسلم ما كان
بالجعرانة، قال: وأما هذا مجاهد فإنما بناه رجل من قريش، واتخذ ذلك
الحائط1... انتهى.
ونقل ابن خليل عن ابن جريج أن الرجل الذي بنى المسجد الأديني هو عبد
الله بن خالد الخزاعي.
وذكر الواقدي أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم من المسجد الأقصى الذي
تحت الوادي بالعدوة القصوى من الجعرانة، وكان مصلى النبي صلى الله عليه
وسلم إذا كان بالجعرانة، فأما الأدنى فبناه رجل من قريش، واتخذ ذلك
الحائط عنده، ولم يجز رسول الله صلى الله عليه وسلم الوادي إلا
محرمًا... انتهى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 207.
ج / 1 ص -385-
وكان إحرامه صلى الله عليه وسلم ليلة
الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة، نقل ذلك عن الواقدي
المحب الطبري قال: ومنها يحرم أهل مكة كل عام ليلة سبع عشرة من ذي
القعدة، وذلك خلاف ما ذكره الواقدي1... انتهى.
وما ذكره المحب الطبري يخالف ما أدركنا عليه أهل مكة، فإنهم يخرجون من
مكة في اليوم السادس عشر من ذي القعدة، ويقيمون اليوم السابع عشر
بالجعرانة، ويصلون المغرب بها ليلة الثامن عشر، ويحرمون ويتوجهون إلى
مكة، وهو يلائم ما ذكره الواقدي، إلا أن في بعض السنين يحصل للناس خوف
فيخرجون من الجعرانة محرمين قبل الغروب من اليوم السابع عشر، وربما
خرجوا منها قبل صلاة العصر، وما ذكره الواقدي في تاريخ عمرة النبي صلى
الله عليه وسلم من الجعرانة هو المعروف.
وذكر محمد بن سعد كاتب الواقدي خبرا ضعيفا يخالف ذلك، ونصه على ما ذكر
الحافظ أبو الفتح بن سيد الناس اليعمري في جوابه عن المسائل التي سأله
عنها ابن أيبك الدمياطي: وقد ذكر ابن سعد قال: أخبرنا محمد بن سابق
قال: حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير، عن عقبة مولى ابن عباس
رضي الله عنهما أنه قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من
الطائف نزل الجعرانة فقسم بها الغنائم، ثم اعتمر منها، وذلك لليلتين
بقيتا من شوال2.
قال أبو الفتح المذكور: هذا والذي قبله ضعيف، والمعروف عند أهل السير
أن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى الجعرانة ليلة الخميس لخمس ليال
خلون من ذي القعدة، وأقام بها ثلاث عشرة ليلة، فلما أراد الانصراف إلى
المدينة خرج ليلة الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة ليلا،
فأحرم بعمرة، ودخل مكة... انتهى.
والجعرانة أفضل مواقيت العمرة من مكة، لإحرام النبي صلى الله عليه وسلم
من هذ المكان، على مذهب مالك، والشافعي، وابن حنبل، وغيرهم من العلماء
رضي الله عنهم.
واختلف في وسط العين والراء من الجعرانة، فقال النووي في "تهذيب
الأسماء واللغات": "الجعرانة بكسر الجيم وإسكان العين وتخفيف الراء،
هكذا صوابها عند إمامنا الشافعي، والأصمعي، وأهل اللغة، ومحققي
المحدثين، وغيرهم، ومنهم من يكسر العين ويشدد الراء، وهو قول عبد الله
بن وهب وأكثر المحدثين، قال صاحب مطالع الأنوار، أصحاب الحديث
يشددونها، وأهل الإتقان والأدب يخطوئنهم ويخففونها، وكلاهما صواب، حكى
إسماعيل القاضي عن علي بن المديني قال: أهل المدينة يثقلونها ويثقلون
الحديبية، وأهل العراق يخففونهما3... انتهى باختصار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 القرى "ص: 99".
2 عيون الأثر لابن سيد الناس 2/ 280.
3 تهذيب الأسماء: "ص: 58، 59" وفيه "يخففونهما".
ج / 1 ص -386-
ومن فضائل وادي الجعرانة ما ذكره الجندي في
"فضل مكة" لأنه قال فيما رويناه عنه: حدثنا عبد الوهاب بن فليح، حدثني
سعيد بن سالم القداح، عن سعيد بن بشير، عن عبد الكريم الجردي، عن يوسف
بن ماهك، قال: اعتمر من الجعرانة ثلاثمائة نبي، وصلى في مسجد الخيف
سبعون نبيا.
وبالجعرانة ماء شديد العذوبة يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم فحص
موضع الماء بيده المباركة فانبجس، فشرب منه النبي صلى الله عليه وسلم
وسقى الناس، ويقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم غرز رمحه فنبع الماء
موضعه، وهذان الخبران في كتاب الفاكهي1.
الخامس: الجمار المذكور في صفة الحج: هي بمنى، ونقل عن ابن سيده2
اللغوي صاحب "المحكم" ما يقتضي أنها بعرفة، وهو وهم قطعا، ذكرناه
لغرابته، وقد نقل ذلك عنه السهيلي في كتابه "الروض الأنف"، لأنه نقل عن
ابن سيده شيئا قاله في كتابه "المحكم" وخطأه فيه، ثم قال السهيلي: وقال
يعني ابن سيده في الجمار في غير هذا الكتاب هي التي بعرفة، وهذه هفوة
لا تقال، وعثرة لا لعا لها، وكم له من هذا إذا تكلم في النسب وغيره،
والله ولي التوفيق.
والأولى منها: هي التي تلي مسجد الخيف، والوسطى التي بينها وبين جمرة
العقبة، والأخيرة هي جمرة العقبة، وهي أقرب الجمار إلى مكة، ورميها على
هذا الترتيب مطلوب على مذهب الإمام مالك رحمه الله، ومتى وقع على غير
هذه الصفة ولم يتدارك في وقت الأداء وهو النهار على المشهور لزم فاعل
ذلك الدم.
وقد ذكر الأزرقي في ذرع ما بين هذه الجمار وما بين الجمرة الأولى وأوسط
أبواب مسجد الخيف بمنى، لأنه قال فيما رويناه عنه بالسند المتقدم: ومن
جمرة العقبة وهي أول الجمار مما يلي مكة، إلى الجمرة الوسطى: أربعمائة
ذراع وسبعة وثمانون ذراعا واثنا عشر أصبعا، ومن الجمرة الوسطى إلى
الجمرة الثالثة وهي التي تلي مسجد منى: ثلاثمائة ذراع وخمسة أذرع، ومن
الجمرة التي تلي مسجد منى إلى أوسط أبواب المسجد: ألف ذراع وثلاثمائة
ذراع وواحد وعشرون ذراعا3... انتهى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 68، والحديث عزاه الهيثمي في مجمع الزوائد 3م
279-280 إلى الطبراني، وقال: فيه من لم أعرفه، وعزاه السيوطي في الجامع
الكبير 2/ 380 للطبراني وأبي نعيم. وذكره البكري في معجم ما استعجم 1/
158.
2 هو الحافظ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأندلسي، كان إماما في اللغة
والعربية حافظا لهما، وكتابه "المحكم" كتاب جامع رتبه ترتيب كتاب "
العين"، وتوفي سنة 458هـ.
3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 185.
ج / 1 ص -387-
قلت: وقد حرر بعض أصحابنا ذرع ذلك وأنا
معه، فكان مقدار ما بين جمرة العقبة والجمرة الوسطى مائتي ذراع وثمانية
أذرع بذراع الحديد، وكان مقدار ما بين جمرة الوسطى والجمرة الأولى:
مائتي ذراع وخمسة وسبعين ذراعا بذراع الحديد، وكان مقدار ما بين الجمرة
الأولى وهي التي تلي مسجد الخيف إلى باب مسجد الخيف الكبير على يمين
الذاهب إلى عرفة: ألف ذراع ومائتي ذراع وأربعة وخمسين ذراعا ذراعا
بذراع الحديد.
وقد ذكر الأزرقي شيئا من خبر جمرة العقبة، فنذكر ذلك لما فيه من
الفائدة، قال في الترجمة التي ترجم عليها بقوله: "ذكر ما غير من فرش
أرض الكعبة": وكانت الجمرة زائلة عن غير موضعها، أزالها جهال الناس
برميهم الحصا، وغفل عنها، حتى أزيحت من موضعها شيئا يسيرا منها ومن
فوقها، فردها إلى موضعها الذي لم يزل عليه، وبنى من ورائها جدارا أعلاه
عليها، ومسجدا متصلا بذلك الجدار، لئلا يصل إليها من يريد الرمي من
أعلاها، وإنما السنة لمن أراد الرمي أن يقف من تحتها من بطن الوادي،
فيجعل مكة عن يساره ومنى عن يمينه، ويرمي كما فعل رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وكذا أصحابه من بعده1... انتهى.
والذي أشار إليه الأزرقي بقوله: فردها، وبقوله: وبنى: هو إسحاق بن سلمة
الصائغ الذي أنفذه المتوكل العباسي لعمل أمور تتعلق بالكعبة وغير ذلك.
السادس: الحجون المذكور في حد المحصب2: وهو جبل بالمعلاة، مقبرة أهل
مكة على يسار الداخل إلى مكة، ويمين الخارج منها إلى جهة منى وغير ذلك،
وهو الجبل الذي يزعم الناس أن فيه قبر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما،
وليس لذلك حقيقة كما نبهنا عليه، ويحتمل أن يكون الجبل المحاذي له الذي
يكون على يسار الداخل إلى الشعب الذي تسميه الناس: شعب العفاريت،
والجبلان مشرفان على هذا الشعب، ولعله الشعب الذي يقال له شعب الصفا
صفى الشباب، والله أعلم.
وما ذكرنا من كون الحجون في هذه الجهة من المعلاة صريح من كلام أبي
الوليد الأزرقي في كتابه "أخبار مكة" ومن كلام إسحاق بن أحمد الخزاعي
راوي كتاب الأزرقي، وأدخل الخزاعي ذلك في كتاب الأزرقي عند ذكر الأزرقي
لحد المحصب: وهذا ما ذكرناه من تعيين كون الحجون أحد الجبلين المشار
إليهما، يدل له كلام الأزرقي3. وما ذكره الخزاعي في تعيين جهة الحجون
يدفع ما يقوله الناس من أن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 303.
2 هو موضع الحجارة بمنى.
3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 160.
ج / 1 ص -388-
الحجون هو الجبل الذي فيه ثنية كداء، بفتح
الكاف والمد، والتي يستحب للمحرم دخول مكة منها.
ووقع للمحب الطبري في "القرى" ما يوافق ذلك؛ لأنه قال: الحجون بفتح
الحاء وضم الجيم مخففة، الجبل المشرف عند المحصب، وهو مقبرة أهل مكة،
قال الشاعر:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
وذكر أبو موسى المديني في "يتيمته" أنه الجبل المشرف مما يلي
شعب الجزارين بمكة، قلت: ويشبه أن يكون ما ذكره هو الجبل الذي على يمين
المنهبط من الثنية العليا على المقبرة، فإن إلى جانبه شعبا يقال له شعب
الجزارين، ويحتمل أن يكون الجبل المشرف على المقابر على يسار المنهبط
من الثنية، وتكون المقبرة بينه وبين الصفا على ما قال الشاعر: انتهى
كلام المحب الطبري.
والشعب الذي ذكر أنه يقال له شعب الجزارين يقال له شعب النور، وهو الذي
فيه قبر الشيخ أبو لكوط1. وفي كون هذا الشعب شعب الجزارين نظر، وكذا في
الاحتمال الآخر الذي ذكره في تفسير شعب الجزارين، وكذا فيما يقوله
الناس من أن الحجون هو الجبل الذي فيه الثنية المشار إليها، وهو مقتضى
كلام المحب الطبري، لكون ذلك مخالفا لما ذكره الأزرقي في تفسير الحجون،
مع موافقة الخزاعي له على ما ذكره من أن الحجون في الجهة المقابلة لجهة
الثنية، كما أشرنا إليه. والأزرقي والخزاعي بذلك أدرى، والتعويل عليهما
في ذلك أولى.
ونص ما ذكره الأزرقي في الترجمة التي بين فيها ما في شق معلاة مكة
اليماني من المواضع والجبال والشعاب، وما أحاط به: الحجون الجبل المشرف
حذاء مسجد البيعة الذي يقال له مسجد الحرس، وفيه ثنية يسلك إليها من
حائط عوف، عند الماجلين الذين فوق دار "مال الله" إلى شعب الجزارين،
وبأصل شعب الجزارين كانت المقبرة في الجاهلية2... انتهى.
ونص كلام الخزاعي: الحجون الجبل المشرف على مسجد الحرس بأعلى مكة على
يمينك وأنت مصعد، وهو أيضا مشرف على شعب الجزارين في أصل دار أبي دب
إلى موضع القبة مسجد سبيل أم زبيدة بنت جعفر بن أبي منصور... انتهى.
ووجه الدلالة من كلام الخزاعي على ما ذكرناه في تعيين جهة الحجون، ذكره
للحجون من شق معلاة مكة اليماني، ولا ريب أنها الجهة التي أشرنا إليها،
ووجه الدلالة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا في الأصل، وفي منتخب شفاء الغرام: "ابن لكود".
2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 273.
ج / 1 ص -389-
من كلام الخزاعي: قوله في تعريف الحجون:
على يمينك وأنت مصعد، ولا يكون الحجون على يمين المصعد من مكة إلا إذا
كان في الجهة التي أشرنا إليها.
وذكر النووي في "شرح مسلم" في تفسير الحجون نحو ما ذكره الخزاعي
باختصار، لأنه قال في تفسير حديث قوله: "قرب الحجون" هو بفتح الحاء وضم
الجيم، وهو من حرم مكة، وهو الجبل المشرف على مسجد الحرم بأعلى مكة،
على يمينك وأنت مصعد عند المحصب... انتهى.
والدلالة من كلام النووي على ما ذكرناه في تفسير الحجون كالدلالة على
ذلك من كلام الخزاعي، وقد سبق ذلك.
وذكر الفاكهي ما يوافق ما ذكره الأزرقي في كون الحجون بشق معلاة مكة
اليماني وفي تعريفه له1، والفاكهي من العارفين بأخبار مكة، فيتأيد بما
ذكره في الحجون ما قاله الأزرقي والخزاعي في الحجون، والله أعلم.
"وشعب الجزارين": لا يعرف الآن، إلا أن بين سور مكة الآن وبين الجبل
الذي يقال له جبل ابن عمر موضعا يشبه الشعب، فلعله شعب الجزارين.
وشعب الجزارين هو شعب أبي دب على ما ذكر الأزرقي، وذكر أنه رجل من بني
سواءة بن عامر2.
و "حائط عوف" الذي ذكره الأزرقي في تعريف الحجون لا يعرف، ولعله أحد
البساتين التي في الجبل الذي يقال له جبل ابن عمر، فإن منها يتوصل إلى
الجبل المذكور. ولعل هذا يؤيد أحد الاحتمالين اللذين ذكرناهما في تعيين
كون هذا الجبل الحجون، ويتأيد ذلك أيضا بقربه من الماجلين اللذين
ذكرهما الأزرقي، وهما في غالب الظن البركتان المنسوبتان للصارم، التي
إحداهما ملاصقة لسور مكة، والله أعلم.
وأغرب السهيلي في تفسير الحجون، لأنه قال في "الروض الأنف": والحجون
على فرسخ وثلث من مكة3... انتهى.
وهذا مخالف للمحسوس والمنقول.
وما ذكره المحب من كون الحجون بفتح الحاء وضم الجيم سبقه إلى ذلك
النووي في "شرح مسلم" وضبطه أيضا بفتح الحاء صاحب "المطالع"، وضبطه ابن
خلكان بضم الحاء، والمعروف فيه الفتح، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للفاكهي 4/ 143.
2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 272.
3 الروض الأنف 1/ 138.
ج / 1 ص -390-
وهذا الموضع من جملة المواضع التي أصلحتها
في هذا الكتاب بعد تأليفي له، لأني لم أكن نظرت فيما كتبته أولا إلا
كلام المحب، وتأيد عندي بما يقوله الناس في تفسير الحجون، فلما راجعت
كلام الأزرقي، والخزاعي ظهر لي أنه الصواب، فكتبت هذا الفصل على هذا
الوجه، والله أعلم بالصواب.
السابع: الحديبية الموضع الذي نزل عنده النبي صلى الله عليه وسلم لما
قدم من المدينة محرما يريد دخول مكة، فعاقه حينئذ المشركون عن ذلك.
يقال إنه الموضع الذي فيه البئر المعروفة ببئر شميس بطريق جدة، والله
أعلم.
قال صاحب "المطالع": إن الحديبية قرية ليست بالكبيرة، وسميت ببئر هناك
عند مسجد الشجرة... انتهى.
والشجرة والحديبية لا يعرفان الآن، وقد سبق في حدود الحرم الخلاف في
الحديبية، هل هي في الحرم كما قال مالك، أو في طرف الحل، كما قال
الماوردي، أو أن بعضها في الحل وبعضها في الحرم، كما قال الشافعي وابن
العطار، والله أعلم.
وليست الحديبية بالموضع الذي يقال له الحدة1 في طريق جدة بقرب هذا
الموضع من جدة، وبعده من مكة، والحديبية دونه بكثير إلى مكة، واختلف في
الياء الثانية من الحديبية هل هي مخففة أو مشددة، والقولان مشهوران على
ما ذكر النووي في "التهذيب"، لأنه قال: الحديبية بضم الحاء وفتح الدال
وتخفيف الياء، كذا قاله الشافعي رضي الله عنه وأهل اللغة، وبعض أهل
الحديث، وقال أكثر المحدثين بتشديد الياء وهما وجهان مشهوران2...
انتهى.
والحديبية أفضل مواقيت العمرة بعد الجعرانة، والتنعيم، عند الشافعية،
ما خلا الشيخ أبا حامد، فإن الحديبية عنده مقدم على التنعيم، والله
أعلم بالصواب.
الثامن: ذو طوى الموضع الذي يستحب فيه الاغتسال للمحرم، هو على مقتضى
ما ذكره الأزرقي: الموضع الذي يقال له بين الحجونين، لأنه قال فيما
رويناه عنه بالسند المتقدم: بطن ذي طول: ما بين مهبط ثنية المقبرة التي
بالمعلاة إلى الثنية القصوى التي يقال لها الخضراء مهبط على قبور
المهاجرين3... انتهى.
وفي "صحيح البخاري" ما يؤيد هذا، وصرح به القاضي بدر الدين بن جماعة
فيما نقله عنه ابن القاضي عز الدين، على ما أخبرني عنه خالي، وقال
النووي: إنه موضع بأسفل مكة في طريق العمرة المعتادة، ويعرف اليوم
بآبار الزاهر4... انتهى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل "الحدبة"، وليس بطريق جدة مكان يقال له الحدبة.
2 تهذيب الأسماء واللغات 1/ 81.
3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 297.
4 تهذيب الأسماء واللغات 2/ 1: 115 وقال النووي: إن طوى بفتح الطاء على
الأفصح، ويجوز ضمها وكسرها، وبفتح الواو المخففة.
ج / 1 ص -391-
وقال الداودي فيما نقله عن صاحب "المطالع":
إن ذا طوى هو الأبطح وهو بعيد، والله أعلم بالصواب، وطاؤه مثلثة وهو
مقصور، واستحباب الغسل بذي طوى للمحرم هو مذهب الأئمة الأربعة، إلا أن
أصحابنا لا يستحبونه للحائض والنفساء، لأنهما لا يؤمران بالطواف عند
قدومهما مكة، والغسل شرع لأجل الطواف، والله أعلم. وإنما يطلب من
المحرم الاغتسال فيه إذا كان في طريق.
التاسع: الردم، الذي ذكر بعض الشافعية أن المحرم يقف عنده للدعاء إذا
قدم مكة، وهو ردم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأعلى مكة،
وهو معروف عند الناس.
وسبب ردم عمر بن الخطاب رضي الله عنه له: أنه جاء في خلافته السيل
المعروف بسيل أم نهشل، فدخل المسجد الحرام وذهب بالمقام عن موضعه،
وأخفى موضعه، فشق ذلك على عمر رضي الله عنه وعمل هذا الردم صونا
للمسجد1.
العاشر: الصفا، الذي هو مبدأ السعي، وهو في أصل جبل أبي قبيس، على ما
ذكره غير واحد من العلماء، ومنهم أبو عبيد البكري، والنووي2، وهو موضع
مرتفع من جبل له درج، وفيه ثلاثة عقود، والدرج الذي أعلى العقود: أربع
درجات، ووراء هذه الأربع ثلاث مصاطب كبار، على قمة الدرج يصعد من
الأولى إلى الثانية منهن بثلاث درجات في وسطها، وتحت العقود درجة،
وتحتها فرشة كبيرة، ويليها ثلاث درجات، ثم فرشة مثل الفرشة السابقة
تتصل بالأرض، وربما علا التراب عليها فغيبت، وعرض الفرشة العليا التي
تحت العقود: ذراعان وثلثا ذراع، وعرض الثلاث الدرجات التي بين
الفرشتين، ذراعان ونصف ذراع، كل ذلك بذراع الحديد، وتحت الفرشة السفلى
التي تتصل بالأرض درج مدفون وهو ثماني درجات، ثم فرشة مثل الفرشة
السابقة، ثم درجتان، وتحت هاتين الدرجتين حجر كبير يشبه أن يكون من
جبل، وهذا الدرج المدفون لم نره إلا في محاذاة العقد الأوسط من عقود
الصفا. والظاهر والله أعلم أن في مقابلة العقدين الأخيرين مثل ذلك.
وذرع ما بين وجه العقد الأوسط على الصفا إلى منتهى الدرج المدفون:
ثمانية عشر ذراعا بالحديد، وكان تحرير ذلك بحضوري بعد الأمر بالحفر عن
الدرج المشار إليها في سابع عشر شوال سنة أربع عشرة وثمانمائة3، وكان
ابتداء حفرنا عن ذلك يوم السبت خامس عشر شوال المذكور.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 والردم هو ما يسمى الآن بالمدعى.
2 تهذيب الأسماء واللغات 1/ 2: 180.
3 إتحاف الورى 3/ 487، 488، العقد الثمين 7/ 264.
ج / 1 ص -392-
وكان الناس يأتون لمشاهدة ما ظهر من الدرج
أفواجا أفواجا، وحصل لهم بذلك غبطة وسرور، لأن كثيرا من الساعين لا
يرقون في الدرج الظاهر الآن، خصوصا الساعي راكبا، وسبب حفرنا عن ذلك:
أنه حال في نفس بعض فقهاء مكة في عصرنا عدم صحة سعي من لم يرق في الدرج
الظاهر، لأن بعض متأخري فقهاء الشافعية أشار إلى أن في الصفا درجا
مستحدثا ينبغي للساعي الاحتياط بالرقي عليها، إلى أن يستيقن... انتهى
بالمعنى، وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر ذلك بنصه.
وهذا الكلام يوهم أن بعض الدرج الموجود الآن محدث، لأنه ليس هناك درج
سواها حتى يحمل الكلام عليها، وذاكرني الفقيه المشار إليه بما حاك في
نفسه فقلت له: الظاهر -والله أعلم- أن المراد بالدرج المحدث غير الدرج
الظاهر، ويتحقق ذلك بالحفر عنه، فحفرنا حتى ظهر لنا من الدرج ما
ذكرناه، ويبعد جدا أن يكون مجموع الدرج المدفون، والظاهر محدثا في غير
محل السعي، حتى لا يجري الوقوف عليه في السعي، وإنما المحدث بعض الدرج
المدفون، لكونه في غير محل السعي على ما يقتضيه كلام الأزرقي، لأنه قال
فيما رويناه عنه بالسند المتقدم: ذرع ما بين الركن الأسود إلى الصفا:
مائتا ذراع واثنان وستون ذراعا وثمانية عشر أصبعا1... انتهى.
والصفا الذي ذكر الأزرقي ذرع ما بينه وبين الحجر الأسود هو محل السعي2
وما ذكره الأزرقي في ذرع ما بين الصفا والحجر الأسود إما أن يكون إلى
مبدأ الدرج، أو إلى مبدأ الدرج الظاهر تحت العقود، أو إلى العقود، أو
إلى ما وراء ذلك، وفي كل الوجوه نظر غير الوجه الثاني.
أما الأول: فلان من الحجر الأسود إلى مبدأ الدرج المدفون: مائتي ذراع
وواحدا وعشرين ذراعا وربع ذراع وثمن ذراع بذراع الحديد، يكون ذلك بذراع
اليد، مائتي ذراع وثلاثة وخمسين ذراعا بذراع اليد، على ما حررناه، وذلك
دون ما ذكره الأزرقي في مقدار ما بين الحجر الأسود والصفا بعشرة أذرع
إلا ربع، فدل ذلك على أنه لم يرده لمخالفته المقدار الذي ذكره، والله
أعلم.
وأما الوجه الثالث: فلأن من الحجر الأسود إلى العقد الوسد الذي بالصفا:
مائتي ذراع وثلاثة وسبعين ذراعا بتقديم السين وأربعة أسباع ذراع، على
ما حررناه، وذلك يزيد على مقدار ما ذكره الأزرقي عشرة أذرع وخمسة أسباع
ذراع وثلاثة أرباع خمس سبع ذراع، فدل ذلك على أنه لم يرده لمخالفته
القدر الذي ذكرناه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 118.
2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 181.
ج / 1 ص -393-
وأما الوجه الرابع: فالنظر فيه كالنظر في
الوجه الثالث، لأنه إذا كان الوجه الثالث غير المراد لما فيه من
المخالفة لما ذكره الإمام الأزرقي بسبب الزيادة، فالوجه الرابع غير
المراد من باب أولى، لكثرة الزيادة فيه على الزيادة التي في الوجه
الثالث، خصوصا إذا قيل إن المراد موضع جدار البيت المشرف على الصفا،
فإن من العقد الوسط إليه: سبعة عشر ذراعا بتقديم السين بذراع الحديد،
يكون ذلك بذراع اليد: تسعة عشر ذراعا -بتقديم السين- وثلاثة أسباع
ذراع، والله أعلم.
وإذا كان في كل من هذه الوجوه نظر، تعين أن يكون المراد الوجه الثاني،
لموافقته كلام الأزرقي، لأن من أول الفرشة التي تحت الدرجات الثلاث إلى
آخر الفرشة التي فوقها تحت الدرجة التي تحت العقد الوسط: عشرة أذرع
باليد، وذلك هو العقد الزائد على ما ذكره الأزرقي في مقدار ما بين
الحجر الأسود والصفا، وإنما ذكر الأزرقي ذرع ما بين الحجر الأسود
والصفا ليبين أن ما وراء ذلك محل للسعي، والفرشة السفلى المشار إليها
من وراء الذرع المذكور فتكون محلا للسعي على هذا، ويصح إن شاء الله
تعالى سعي من وقف عليها، فلا يقصر الساعي عنها، ولا يجب عليه الرقي على
ما وراءها، والله أعلم.
والفرشة المشار إليها: هي التي سبق أن التراب يعلو عليها، وأما الكلام
الموهم بخلاف ذلك فهو ما ذكره المحب الطبري في "شرح التنبيه"، لأنه
قال: وبني في ذيل الصفا درج، فينبغي أن يحتاط مريد السعي بالرقي عليها،
فإن الأرض ربت بحيث يرى البيت من غير رقي ... انتهى.
ومن ذلك ما ذكره النووي في "الإيضاح"، لأنه قال: إن من واجبات السعي أن
يقطع جميع المسافة بين الصفا والمروة، فلو بقي منها بعض خطوة لم يصح
سعيه، حتى لو كان راكبا، واشترط أن تسير دابته حتى تضع حافرها على
الجبل أو إليه، حتى لا يبقى من المسافة شيء ويجب على الماشي أن يلصق في
الابتداء أو الانتهاء رجله بالجبل، بحيث لا يبقى بينهما فرجة، فيلزمه
أن يلصق العقب بأصل ما يذهب منه، ويلصق رءوس أصابع رجليه بما يذهب
إليه، فيلصق في الابتداء بالصفا عقبه، وبالمروة أصابع رجليه، فإذا عاد
عكس ذلك، هذا إن لم يصعد، فإن صعد فهو الأكمل، وقد زاد خيرا، وليس
الصعود شرطا بل هو سنة متأكدة، ولكن بعض الدرج مستحدث فليحذر أن يخلفها
وراءه، فلا يتم سعيه، وليصعد بعد أن يستيقن، وقال بعض أصحابنا يجب
الرقي على الصفا والمروة بقدر إقامة، وهذا ضعيف، والصحيح المشهور لا
يجب، لكن الاحتياط أن يصعد للخروج من الخلاف... انتهى.
وذكر الأزرقي ذرع ما بين الصفا والمروة، لأنه قال فيما رويناه عنه
بالسند المتقدم: ومن الصفا إلى المروة طواف واحد: سبعمائة ذراع وستة
وستون ذراعا ونصف ذراع.
ج / 1 ص -394-
يكون سبع بينهما: خمسة آلاف وثلاثمائة ذراع
وخمسة وستين ذراعا ونصف ذراع1... انتهى.
وقد حررت أنا ذرع ذلك فجاء من وسط جدار الصفا وهو من محاذاة نصف العقد
الوسط من عقود الصفا إلى الدرج الذي بالمروة من داخله: ستمائة ذراع
وثلاثة وسبعون ذراعا بتقديم السين وسبعة أثمان ذراع، يكون ذلك بذراع
اليد: سبعمائة ذراع وسبعون ذراعا وسبع ذراع، بتقديم السين في السبعمائة
ذراع، وفي السبعين، وفي السبع، ومن محاذاة نصف العقد الوسط من عقود
الصفا إلى الدرجة العالية بالمروة التي كهيئة الدكة الكبيرة من داخل
الدرج: ستمائة ذراع وثمانون ذراعا إلا ثمن ذراع، بذراع الحديد، يكون
ذلك باليد سبعمائة ذراع وسبعة وسبعين ذراعا، بتقديم السين في السبعمائة
وفي السبعة وفي السبعين.
وما ذكره الأزرقي في مقدار ما بين الصفا والمروة دل على أنه لم يرد به
إلى ما وراء الدرج، وإنما مراده: إليه أو ما قرب منه، لأنه لو أراد ما
وراء الدرج لم يكن المقدار الذي ذكره موافقا لذلك، لما فيه من النقص عن
ذلك، والله أعلم.
وما ذكرناه في مقدار ما بين وسط عقود الصفا والدرج الذي بالمروة في
اعتبار ذرع ذلك باليد يقرب مما ذكره الأزرقي ثلاثة أذرع ونصف ذراع وسبع
ذراع، ولعل الأزرقي لم يعتبر ما ذكره من الموضع الذي اعتبرناه منه،
وإنما اعتبر ذلك من طرف العقد الذي يلي العقد الوسط، والله أعلم.
وذرع عقود الصفا الثلاثة: أحد وعشرون ذراعا إلا ثمن ذراع بالحديد، وطول
الدرجة الأخيرة من درج الصفا السفلى التي تلي الأرض في محاذاة الثلاثة
العقود التي بالصفا: اثنان وعشرون ذراعا بالحديد. وذكر النووي أن عرض
فتحة الدرج الذي كان على الصف نحو خمسين قدما... انتهى.
وذكر الأزرقي شيئا من خبر درج الصفا والمروة، فنذكر ذلك لإفادته، لأنه
قال فيما رويناه عنه: حدثني أحمد بن محمد، قال: كانت الصفا والمروة
يشتد2 فيهما من سعى بينهما، ولم يكن بينهما بناء ولا درج حتى كان عبد
الصمد بن علي في خلافة أبي جعفر المنصور، فبنى درجهما التي هي اليوم
درجهما، فكان أول من أحدث بناءها، ثم كمل بالنورة في زمن مبارك الطبري
وذلك في خلافة المأمون... انتهى.
وذكر الأزرقي أن درج الصفا اثنتا عشرة درجة3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 119.
2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 120 "يسند".
3 ودرج المروة خمس عشرة درجة. "أخبار مكة للأزرقي 2/ 119" وفي رحلة ابن
جبير: ص: 84"، و"أدراج المروة خمسة".
ج / 1 ص -395-
وذكر ابن جبير أن درج الصفا أربع عشرة
درجة1. وذكر النووي أن درج الصفا إحدى عشرة درجة2. وسبب هذا الاختلاف
أن الدرج يعلو عليها التراب فيخفيها، وما أظن النووي شاهد ما ذكره من
عدد درج الصفا، وإنما قلد في ذلك الأزرقي وغيره من المصنفين، لأنه يبعد
أن تعلو الأرض من عهد النووي إلى اليوم علوا يغيب به من درج الصفا
القدر الذي وجدناه مدفونا، والله أعلم.
ويتأييد ذلك بأن سليمان بن خليل قال في الرد على أبي حفص بن الوكيل من
الشافعية في إيجابه الرقي على الصفا والمروة، وتعليله إيجاب ذلك بأنه
لا يمكنه استيضاح ما بينهما إلا بالرقي عليهما، وقد كان هذا قبل أن
يعلو الوادي، لأن الدرج كانت كثيرة، وكان الوادي نازلا حتى أنه كان
يصعد درجا كثيرا ليرى البيت حتى قيل: إنه كانت عبر الفرسان في المسعى
والرماح قائمة معهم، ولا يرى من في المسجد إلا رؤوس الرماح، فأما اليوم
فإنه يرى البيت من غير أن يرقى على شيء من الدرج... انتهى.
ووجه الدلالة من هذا على ما أشرنا إليه أن عصر سليمان بن خليل، وعصر
النووي متقاربان، وسليمان مات قبل النووي بنحو خمسة عشر سنة، وإذا كان
البيت يرى في عصره من غير رقي على الصفا لعلو الأرض فيكون الحال هكذا
في عصر النووي، والله أعلم.
الحادي عشر: طريق ضب التي يستحب للحاج أن يسلكها إذا توجه إلى عرفة،
وهي طريق مختصر من المزدلفة إلى عرفة في أصل المأزمين عن يمينك وأنت
ذاهب إلى عرفة، هكذا عرفها الأزرقي، وإنما يستحب للحاج سلوكها، لأنه
روي أنه صلى الله عليه وسلم سلكها حين غدا من منى إلى عرفة، نقل ذلك
الأزرقي عن بعض أهل المكيين، وروى عن عطاء أنه سلكها، وقال: هي طريق
موسى بن عمران3.
الثاني عشر: عَرَفَة موضع الوقوف، هي خارج الحرم قريب منه، روينا في
تاريخ الأزرقي، ووادي عرنة بالنون4 وفي بعض نسخه: ووادي عرفة بالفاء،
ذكر ذلك المحب الطبري في شرحه للتنبيه، وقال هكذا نقلته من نسخة معتنى
بها، ووادي عرفة بالفاء وضبطها بفتح العين. وحكاه شيخنا أبو عمرو بن
الصلاح أنه قال إلى ملتقى وصيف، ووادي عرنة بالنون، وأكد ذلك فقال
بعده: وبطن عرنة ووادي عرنة مضافان إلى عرنة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رحلة ابن جبير "ص: 84".
2 تهذيب الأسماء واللغات 1/ 2: 182.
3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 193.
4 عُرَنَة: بضم أوله وفتح ثانية وثالثه، وهو ما بين العلمين اللذين هما
حد عرفة والعلمين اللذين هما حد الحرم.
ج / 1 ص -396-
بضم العين وفتح الراء والنون قال المحب
قلت: وفيما ذكره نظر، لأنه أراد تحديد عرفة أولا وآخرا، فجعله من الجبل
المشرف على بطن عرنة بالنون، فيكون آخره ملتقى وصيف، وبطن عرفة بالفاء،
ولا يصح أن يكون وادي عرفة بالنون، لأن وادي عرنة لا ينعطف على عرفة،
بل هو ممتد مما يلي مكة يمينا وشمالا، فكان التقييد بوادي عرفة أصح،
والله أعلم، قال: وهذا التحديد يدخل عرنة في عرفة... انتهى.
وقال المحب الطبري أيضا في "القرى": قال الشافعي في الأوسط من مناسكه:
وعرفة ما جاوز وادي عرنة وليس الوادي ولا المسجد منها، إلى الجبال
المقابلة مما يلي حائط ابن عامر وطريق الحضن، وما جاوز ذلك فليس من
عرنة، حكى ذلك صاحب "الشامل"، وحكى الشيخ أبو حامد الأسفراييني
الشافعي: أن الشافعي قال في القديم: وعرفة ما بين الجبل المشرف إلى
الجبال المقابلة يمينا وشمالا، ثم قال يعني الشيخ أبا حامد الجبل
المشرف على بطن عرنة إلى الجبال المقابلة يمينا وشمالا مما يلي حوائط
ابن عامر وطريق الحضن، قال المحب الطبري بعد حكايته لذلك قلت: وهذا
موافق لما حكاه الشيخ أبو حامد، إلا أنه أضاف الجبل المشرف إلى بطن
عرنة فكأنه يشير إلى الجبل الطويل في آخر عرفة. حتى يكون مشرفا على أول
عرفة، وهذا مغاير لما ظنه الشيخ أبو حامد أنه جبل الرحمة، وما ذكره في
"البيان" هو الصواب.
والحمل على جبل الرحمة لا يصح، لأن عرفة يطيف بها، ولو جعلنا الخندمة
لخرج ما خلفه من عرفة ولا خلاف عند أهل الخبرة بها أنها منه، ولذلك يقف
فيما خلفه من السهل والجبل طوائف من أنواع العرب متطابقين على ذلك من
غير إنكار، ويكون ذكره صاحب "البيان" من الإضافة إلى بطن عرفة1 يريد به
عرفة موضع الوقوف، ولعله وسطها، حتى يكون بطنا، وربما صحف قوله: بطن
عرفة بالفاء، فقيل بطن عرنة بالنون، وظن أن التقييد بالفاء غلط، وليس
كذلك، بل هي بطن عرفة بالبفاء، واستدل على ذلك بما يؤيده... انتهى.
قلت: وحد عرفة من جهة مكة الذي فيه هذا الاختلاف الآن بَيّنٌ، وهو
علمان بين العلمين اللذين هما حد الحرم إلى جهة عرفة، وكان ثمة ثلاثة
أعلام، فسقط أحدهم وهو إلى جهة المغمس وأثره بين، ورأيت عنده حجرا ملقى
مكتوبا فيه: أمر الأمير الأصفهسلار الكبير مظفر الدين بن زين الدين
صاحب إربل حسام أمير المؤمنين بإنشاء هذه الأعلام الثلاثة بين منتهى
أرض عرفة ووادي عرنة، لا يجوز لحاج بيت الله العظيم أن يجاوز هذه
الأعلام قبل غروب الشمس. وفيه: كان ذلك بتاريخ شعبان من شهور سنة خمس
وستمائة. ورأيت مثل ذلك مكتوبا في حجر ملقى في أحد العلمين الباقيين،
وفي هذين العلمين مكتوب، أمر بعمارة علمي عرفات، وأضاف كاتب ذلك: هذا
الأمر للمستنصر العباسي، ثم قال: وذلك في شهور سنة أربع وثلاثين
وستمائة2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصل.
2 إتحاف الورى 3/ 52.
ج / 1 ص -397-
ذكر مقدار ما بين باب بني شيبة
وهذين العلمين:
من باب بني شيبة إلى العلمين المشار إليهما:
أربعون ألف ذراع وثلاثمائة ذراع وأحد وثمانون ذراعا وستة أسباع ذراع
بذراع اليد، يكون ذلك أميالا على القول بأن الميل ثلاثة آلاف ذراع
وخمسمائة ذراع: أحد عشر ميلا ونصف ميل وربع سبع يزيد ستة أذرع وستة
أسباع ذراع. ومن باب المعلاة إلى العلمين المذكورين: ثمانية وثلاثون
ألف ذراع ومائتا ذراع وأربعة وخمسون ذراعا وستة أسباع ذراع بذراع اليد
أيضا، يكون ذلك أميالا على القول بأن الميل ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة
ذراع: عشرة أميال وأربعة أخماس ميل وعشر ميل وخمس سبع ميل يزيد أربعة
أذرع وستة أسباع ذراع بالذراع المذكور، وذكرنا في أصل هذا الكتاب مقدار
ذلك على مقتضى الأصول الثلاثة في مقدار الميل، في اعتبار المسافة من
باب المعلاة، وفي اعتبار المسافة من باب بني شيبة.
ذكر تعيين موقف النبي صلى الله عليه وسلم من
عرفة:
قد قام على تحريره جماعة من العلماء ولم أر لأحد
منهم في ذلك مثل ما رأيت للقاضي بدر الدين بن جماعة، ولذلك اقتصرت هنا
على ذكره في ذلك: أخبرني خالي قاضي الحرمين محب الدين النويري رضي الله
عليه، قال: أخبرني القاضي عز الدين بن جماعة، قال في منسكه: وينبغي
تحري موقف سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اجتهد والدي تغمده
الله برحمته في تعيينه وجمع فيه بين الروايات، فقال: إنه الفجوة
المستعلية المشرفة على الموقف، وهي من وراء الموقف صاعدة في الرابية،
وهي التي عن يمينها وورائها صخرتان متصلتان بصخر الجبل المسمى بجبل
الرحمة، وهذه الفجوة بين الجبل المذكور والبناء المربع عن يساره، وهي
إلى الجبل أقرب بقليل، بحيث يكون الجبل قبالة الواقف إذا استقبل
القبلة، ويكون طرف الجبل تلقاء وجهه، والبناء المربع عن يساره بقليل.
وقال: ذكر والدي رحمه الله أنه وافقه على ذلك من يعتمد عليه من محدثي
مكة وعلمائها حتى حصل الظن بيقينه، قال: فإن ظفر بموقف النبي صلى الله
عليه وسلم فهو الغاية في الفضل، وإن خفي عليه وقف بين الجبل والبناء
المربع على جميع الصخرات والأماكن التي بينهما لعله أن يصادف الموقف
الشريف النبوي فتفاض عليه بركاته... انتهى.
ج / 1 ص -398-
قلت: البناء المربع المشار إليه في هذا
الكلام هو الذي يقال له بيت آدم بعرفة، وكان سقاية للحاج، أمرت بعملها
العجوز والدة المقتدر العباسي، على ما هو مكتوب في حجر في حائطها
القبلي، ومن ركن هذه السقاية الذي يلي جبل الرحمة من جهة مكة إلى
الموضع الذي فيه الآن المحامل بعرفة: مائة ذراع وأحد عشر ذراعا
بالحديد، يكون ذلك بذراع اليد: مائة ذراع وستة وعشرين ذراعا وستة أسباع
ذراع، ومن موقف المحامل الآن بعرفة إلى ما يقابله من جهة جبل الرحمة:
سبعة -بتقديم السين- وثلاثون ذراعا بالحديد، يكون ذلك بذراع اليد:
اثنين وأربعين ذراعا وسبعي ذراع. ومن موقف المحامل بعرفة إلى ركن مسجد
نمرة الذي يلي عرفة والطريف: ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة ذراع وخمسة
وتسعون ذراعا -بتقديم التاء- وربع ذراع يكون ذلك بذراع اليد ثلاثة آلاف
وثمانمائة ذراع وستة وسبعين ذراعا -بتقديم السين- وذلك ميل وثلاثة
أرباع سبع ميل يزيد ذراعا على القول بأن الميل ثلاثة آلاف ذراع
وخمسمائة ذراع.
ومن جدار باب بني شيبة إلى الموضع الذي يقف فيه المحامل الآن بعرفة
ثلاثة وأربعون ألف ذراع وثمانية وثمانون ذراعا وسبع ذراع بذراع اليد،
يكون ذلك على القول بأن الميل ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع: اثنى عشر
ميلا وخمس ميل وعشر ميل وعشر عشر ميل يزيد ثلاثة أذرع وسبع ذراع.
ومن عتبة باب المعلاة إلى موقف المحامل الآن بعرفة: أربعون ألف ذراع
وتسعمائة ذراع -بتقديم التاء- وإحدى وستون ذراعا وسبع ذراع بذراع اليد،
يكون ذلك على القول بأن الميل ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع: أحد عشر
ميلا وثلاثة أخماس ميل وعشر ميل وخمس سبع عشر ميل، يزيد ذراعا وسبع
ذراع، ولا فضيلة للوقوف على الجبل الذي يقال له جبل الرحمة بعرفة، لأن
مالكا رحمه الله كره الوقوف على جبل عرفة، وكان هذا الجبل صعب المرقى
فسهله الوزير الجواد الأصفهاني، وبنى فيه مسجدا ومصنعا للماء، والقبة
التي فيه الآن جددت في سنة تسع وتسعين وسبعمائة1 بعد سقوطها في التي
قبلها، وعمارتها من مال أنفذه الملك الظاهر برقوق صاحب مصر، وما عرفت
في أي وقت عمرت هذه القبة بهذا الجبل، وكانت موجودة في سنة تسع وسبعين
وخمسمائة على ما ذكر ابن جبير، وذكر أنها تنسب لأم سلمة رضي الله
عنها2، والله سبحانه وتعالى أعلم بصحة ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إتحاف الورى 3/ 406، العقد الثمين 3/ 257، درر الفرائد "ص: 316".
2 رحلة ابن جبير "ص: 153".
ج / 1 ص -399-
ذكر مسجد عرفة وحكم الوقوف فيه:
مسجد عرفة هو الذي يصلي فيه الإمام بالناس يوم
عرفة، وما ذكرناه من أنه مسجد عرفة يوافق ما ذكره الأزرقي في غير موضع
من كتابه.
وذكر المحب الطبري1 أن المتعارف فيه عند أهل مكة وتلك الأمكنة مسجد
عرفة بالفاء، وقيل: إنه من عرنة بالنون، وهو موافق لما ذكره الشافعي،
كما سبق في حد عرفة، وتقييد ابن الصلاح على ما نقل عنه المحب الطبري،
لأنه قال: ويقال له مسجد عرنة بالنون وضم العين، كذلك قيده ابن الصلاح
في منسكه، ثم عقب ذلك بقوله: والمتعارف فيه إلى آخر كلامه، وجزم النووي
في "الإيضاح" بأن مسجد عرنة بالنون، وذكر ابن الجلاد من أصحابنا
المالكية ما يقتضي أنه ليس من عرفة بالفاء، وذكر ابن المواز أن حائط
القِبلي على حد عرفة، ولو سقط لسقط في عرفة... انتهى.
وقيل: مقدم هذا المسجد من عرنة بالنون، ومؤخره من عرفة بالفاء، ذكر ذلك
جماعة من الأئمة الشافعية الخراسانيين، منهم: الشيخ أبو محمد الجويني،
وابنه إمام الحرمين، والقاضي الحسين في تعليقه، والرافعي، قال الشيخ
أبو محمد: ويتميز ذلك بصخرات كبار فرشت في ذلك الموضع... انتهى.
وتظهر ثمرة هذا الخلاف في رجل أخر الوقوف به، وتوقف مالك في إجزاء
الوقوف بهذا المسجد، وفيه لأصحابنا قولان: المنع لأصبغ، والإجزاء لمحمد
بن المواز، وهو مقتضى كلام الشيخ خليل الجندي في مختصره الذي صنفه
لبيان ما به الفتوى، مع كراهة الوقوف بهذا المسجد، وما قاله الفقهاء
المشار إليهم من أن هذا المسجد كله من عرفة أو بعضه يخالف مقتضى رأي من
جعل حد عرفة من جهة مكة الأعلام الثلاثة التي عمرها المظفر صاحب إربل،
وعمر منها المستنصر العباسي العلمين الموجودين الآن، لأن فيهما مكتوبا
أن صاحب إربل أمر بإنشائهما بين منتهى أرض عرفة ووادي عرفة، ووجه
مخالفة ذلك: ما ذكره الفقهاء في هذا المسجد أن من ركن المسجد المشار
إليه مما يلي عرفة إلى محاذاة العلمين الموجودين الآن: سبعمائة ذراع
-بتقديم السين- وأربعة وسبعين ذراعا -بتقديم السين- أيضا وربع ذراع
وثمن ذراع كل ذلك بذراع الحديد يكون ذلك بذراع اليد: ثمانمائة ذراع
وخمسة وثمانين ذراعا، ومقتضى كون هذه الأعلام علامة لحد عرفة أن يكون
المسجد المشار إليه ليس من عرفة، وكذلك المسافة التي بين المسجد وبين
الأعلام المشار إليها، وذلك يخالف ما ذكره الفقهاء المشار إليهم، والله
أعلم بالصواب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 القرى "ص: 384".
ج / 1 ص -400-
ويقال لهذا المسجد مسجد إبراهيم، وإبراهيم
المنسوب إليه هذا المسجد هو الخليل عليه السلام كما هو مقتضى كلام
الأزرقي في غير موضع1 وجزم به الرافعي والنووي، وأنكر ذلك القاضي عز
الدين بن جماعة، قال: ليس لذلك أصل، وخطأ الشيخ جمال الدين الأستاذ
الرافعي، والنووي فيما ذكراه من نسبة هذا المسجد للخليل عليه السلام
وذكر أن ابن سراقة سبقهما إلى هذا الخطأ في كتابه "الأعداد"، وفيما
ذكره الإسنوي وابن جماعة نظر، لمخالفته ما يقتضيه كلام الأزرقي، وهو
عمدة في هذا الشأن، كيف وقد وافقه عليه غير واحد من كبار العلماء، منهم
ابن المنذر فيما نقله عنه سليمان بن خليل، والله أعلم.
ولم يذكر الأزرقي الوقت الذي بني فيه هذا المسجد.
وذكر ابن عبد البر أنه بعد مصير الأمر لني هاشم بعشر سنين، هكذا نقله
عن ابن عبد البر الشيخ خليل في توضيحه على مختصر ابن الحاجب، وبه فسر
قوله: وإنما حدث بعد بني هاشم بعشر سنين، لأنه يوهم أنه حدث بعد
انقراضهم، وعلى هذا فإن هذا المسجد بني في أوائل عشر الخمسين ومائة،
والله أعلم2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 202.
2 في مرآة الحرمين: أن مسجد عرفة بناه الوزير محمد بن علي بن المنصور
المعروف بالجواد الأصفهاني، في سنة 559هـ كما جاء في كتاب "منائح
الكرم" "ص 44 مرآة الحرمين".
ذكر ذرع هذا المسجد وشيء من صفته:
طوله من بابه إلى جداره القِبلي: مائة ذراع وأحد
وتسعون ذراعا وربع ذراع، وعرضه من وسط جداريه: مائة وأربعون ذراعا إلا
ثلث ذراع وارتفاع محرابه: ستة أذرع إلا ثلث، ودخوله في الجدار: ذراعان،
وسعة فتحته: ثلاثة أذرع إلا ثمن، والمنبر: عشر درجات مبنية بالحجارة،
وارتفاعه إلى الدرجة العليا: أربعة أذرع ونصف، والذراع المشار إليه في
هذا الاعتبار هو ذراع الحديد المتقدم ذكره. وهذا المسجد جميعه مكشوف
ليس فيه رواق، وقد ذكر الأزرقي في تاريخه صفة هذا المسجد في زمنه1،
وذرعه بذراع اليد، وذكرنا كلامه في أصل هذا الكتاب واقتصرنا على ما
ذكرناه هنا من ذرعه لأنه أبلغ في التعريف، وكان تحرر ما ذكرنا بحضوري.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 187 وما بعدها.
ج / 1 ص -401-
ذكر تسمية عرفة بعرفة وما يتعلق
بجمعها وصرفها، وحكم الإحياء بها:
أما سبب تسميتها عرفة: فلتعارف آدم وحواء فيها،
لأن آدم عليه الصلاة والسلام أهبط بالهند، وحواء بجدة، فتعارفا
بالموقف، قاله الضحاك، وقيل: لأن جبريل عليه السلام عرف الخليل عليه
السلام فيها المناسك يوم عرفة وقيل: لأن الناس يعترفون فيها بذنوبهم
وقيل: غير ذلك من الأقوال التي ذكرناها في أصل هذا الكتاب، وهي تسعة
أقوال، والله أعلم بالصواب.
وأما جمعها وصرفها: فذكر جوازه جماعة من العلماء منهم النووي، لأنه قال
وجمعت على عرفات وإن كان موضعا واحدا، لأن كل جزء منه يسمى عرفة، ولهذا
كانت معروفة كقصبات، قال النحويون: ويجوز ترك الصرف كما يجوز ترك صرف
غايات1 وأذرعات على أنها اسم مفرد لبقعة2... انتهى.
وأما حكم الإحياء بها: فإنه لا يجوز ولا يملك، على ما قال الحسين بن
علي الطبري، فيما نقله عنه ابن خليل، وعلل ذلك بأنها متعبد ومنسك لعامة
الناس، فصارت كالمساجد.
وحكى النووي في ذلك ثلاثة أوجه، قال: والأصح المنع مطلقا،وهذا أشبه
بالمذهب... انتهى.
الثالث عشر: عرنة بالنون، الموضع الذي يجتنب الحاج الوقوف فيه، وهو بين
العلمين اللذين هما حد عرفة، والعلمين اللذين هما حد الحرم من هذه
الجهة وذكر ابن حبيب المالكي أنها من الحرم، وذلك لا يصح على ما ذكر
المحب الطبري في "القرى"3، وذكر أنها عند مالك من عرفة، وحكاه ابن
المنذر أيضا عن مالك، وفي صحة ذلك عنه نظر، لأنه توقف في إجزاء الوقوف
بمسجد عرفة مع كونه مختلفا فيه: هو هو من عرفة أو من عرنة؟ أو بعض من
عرفة بالفاء، وبعضه من عرنة بالنون؟ فكيف يرى أن عرنة بالنون كلها من
عرفة بالفاء عند مالك؟ ولعل من نسبه إليه أنه يرى أن عرنة بالنون كلها
من عرفة بالفاء، أخذ ذلك مما وقع لمالك من إجزاء الوقوف بهذا المسجد،
لأن ابن الجلاد ذكر أن الوقوف ببطن عرنة مكروه. قال: ومن وقف به أجزأه
وقوفه، قال: وبطن عرنة هو المسجد الذي يصلي فيه الإمام... انتهى.
ولا يلزم من كون مالك يرى إجزاء الوقوف بهذا المسجد أنه يرى عرنة
-بالنون- كلها من عرفة -بالفاء- لاحتمال أنه يرى أن هذا المسجد من عرفة
بالفاء، لما حصل عنده من ضعف الشبهة التي توقف لأجلها في إجزاء الوقوف
بهذا المسجد، والله أعلم.
وذكر المحب الطبري أن حد عرفة الذي ذكره الأزرقي عن ابن عباس رضي الله
عنهما يقتضي دخول عرنة في عرفة4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في تهذيب الأسماء: "عامات".
2 تهذيب الأسماء واللغات 2/ 2: 56.
3 القرى "ص: 383".
4 القرى "ص: 384".
ج / 1 ص -402-
وقد سبق في ذكر عرنة ما ذكره الأزرقي في حد
عرفة، واستدلال المحب الطبري منه على دخول عرنة في عرفة، ثم قال تلو
ذلك: ويؤيد ذلك ما استدل به أصحابنا على أنها ليست منها، وهو قوله صلى
الله عليه وسلم:
"وارتفعوا عن بطن عرنة".
ولا دلالة فيه على ما قالوه، بل دليل على مذهب مالك، فإن أمره
بالارتفاع عنها يشعر بذلك، وتؤيده الرواية الأخرى:
"عرفة كلها موقف إلا عرنة"، والاستثناء دليل على دخول المستثنى في
المستثنى منه، والاستثناء المنفصل على خلاف الأصل.
نعم فيه دليل على اختلاف حكم الوقوف فيه وفي عرفة، وهو عند مالك كذلك،
وعلى المذهب: فمتى وقف في شيء من حدود عرفة صح حجه. وإذا وقف في غيره
لا يصح حجه... انتهى.
وعرنة بضم العين وفتح الراء المهملة هذا هو المشهور فيها. وقيل: إنها
بضم العين والراء. وقيل: بضم العين وسكون الراء، ذكره ابن عبد السلام
المالكي في شرحه لابن الحاجب الفرعي.
الرابع عشر: قُزَح، الموضوع الذي يستحب فيه للحاج أن يقف عنده غداة يوم
النحر، هو مكان بالمزدلفة، وهو المكان الذي يجتمع الناس عنده للدعاء
غداة يوم النحر، ويعرف بالمشعر الحرام. أشار إلى ذلك المحب الطبري
وغيره، قال في "شرح التنبيه": وقزح بقاف مضمومة ثم زاي مفتوحة ثم حاء
مهملة، في وسطه: مزدلفة، ويكثر من التلبية، ويدعو بما تقدم، ولا ينبغي
أن يفعل ما تطابق الناس على فعله من النزول بعد الوقوف عليه من درج في
وسطه ضيقة يزدحم فيها الناس. وذلك بدعة. بل يكون نزوله من حيث رقيه من
الدرج الظاهرة.
وذكر الإمام أبو عمرو بن الصلاح: أن قزح جبل صغير من آخر المزدلفة ثم
قال: وقد استبدل الناس بالوقوف على الموضع الذي ذكرناه ببناء مستحدث في
وسط المزدلفة. ولا يتأدى به هذه السنة، قال المحب: والظاهر أن البناء
إنما هو على الجبل كما تقدم، والمشاهدة تشهد بصحة ذلك، ولم أر ما ذكره
لغيره... انتهى ما ذكره المحب الطبري بنصه، وذكر في كتابه "القرى"
مثله1.
وذكر النووي في "الإيضاح" أن الأظهر أن للحاج تحصيل السنة بالوقوف على
البناء المستحدث. وقد ذكرنا في أصل هذا الكتاب صفة البناء الذي على قزح
قديما وحديثا، وخبر الوقيد فيه، ونشير هنا إلى شيء من ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 القرى "ص: 426".
ج / 1 ص -403-
أما صفة البناء الذي عليه قزح الآن1 فإنه
بناء مربع يشبه المنارة، وفي أعلاه اثنتان وعشرون شرافة، منها في الجهة
القبلية سبع شرافات، وفي بقية الجهات خمس من كل جهة. وله درج من ظاهره
وباطنه. وعدد الذي من ظاهره أربع وعشرون، والذي من باطنه عشرون،
وارتفاعه في السماء ثلاثة عشر ذراعا، بذراع الحديد المستعمل في القماش
بمصر ومكة. وذلك من الأرض إلى أعلى الشراريف، وارتفاعه من الأرض إلى
أعلى السطح بغير الشراريف ينقص عن ذلك ذراعين ونصف تقريبا، وذرع تربيعه
من كل ناحية اثنا عشر ذراعا ونصف ذراع، بالذراع المشار إليه، إلا أن
الجهة الشرقية منه تنقص عن بقية الجهات ثلث ذراع، وكان اعتبار ما
ذكرناه من ذرعه وصفته في ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وثمانمائة، بحضوري.
وصفته هذه تخالف صفته التي ذكرها الأزرقي2، واقتصرنا عليها لكونها أبلغ
في تعريفه، ولم أعرف متى بني هكذا. وبناه في الجاهلية قصي بن كلاب جد
النبي صلى الله عليه وسلم، على ما ذكر ابن عبد ربه في "العقد الفريد"3.
وأما خبر الوقيد عليه: فإنهم كانوا يوقدون فيه بالشمع في خلافة الرشيد،
فلما مات كانوا يوقدون عليه بمصابيح كبار، ثم صاروا يوقدون عليه
بمصابيح صغار وفتله دقاق، هذا ملخص ما ذكره الأزرقي في خبر الوقيد
عليه، وذكر أنه كان يوقد عليه في خلافة الرشيد النار والحطب4، وما عرفت
هل أراد بذلك في الجاهلية أو في الإسلام، والله أعلم.
وسيأتي إن شاء الله تعالى ذرع ما بين قزح وبين باب بني شيبة، وما بين
قزح وبين باب المعلاة عند ذكر المشعر الحرام، والأصل في استحباب الوقوف
على قزح ما رويناه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم لما أصبح بجمع 5 أتى قزح فوقف عليه وقال:
"هذا قزح وهو الموقف، وجمْعٌ كلها موقف"، أخرجه أبو داود6. والترمذي7 وقال حسن صحيح ...
انتهى.
الخامس عشر: كداء، الموضع الذي يستحب للمحرم دخول مكة منه، وهو الثنية
التي بأعلا8 مكة التي يهبط منها إلى المقبرة المعروفة بالأبطح، ويقال
لها الحجون.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي سنة 811هـ وهي السنة التي ذرع الفاسي فيها هذا الموضع، كما سيأتي
في المتن.
2 راجع أخبار مكة للأزرقي 2/ 188.
3 لم أجد هذه المعلومة في "العقد الفريد".
4 أخبار مكة للأزرقي 2/ 187.
5 "جمع" بفتح فسكون، هو المزدلفة، سمي بذلك لاجتماع الناس فيه.
6 سنن أبي داود 2/ 193 رقم 1935 كتاب المناسك.
7 الترمذي "885" في الحج "باب ما جاء أن عرفة كلها موقف". وهو فيه
طويل.
8 كذا في الأصل.
ج / 1 ص -404-
الثاني. وما ذكرناه في تعريف كداء هذا، ذكر
الفاكهي ما يوافقه لأنه قال في تعريفه لما في شق معلاة مكة الشامي
كداءك الجبل المشرف على المقبرة والوادي، وله يقول حسان بن ثابت رضي
الله عنه يوم الفتح:
عدمت ثنيتي إن لم تروها
تثير النقع عن كتفي كداء1
وقال الفاكهي بعد أن ذكر شعب المقبرة في هذه الجهة وشيئا من
خبره: ومن ثنية المقبرة دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة
الوداع2.
وقال بعضهم: قيل: إن ثنية المقبرة هو اسمها، يقال لها: ثنية المقبرة،
ويقال اسمها هذا، وهي ثنية المعلاة... انتهى. ويقال: اسمها كداء، وهو
مشعر بتضعيف هذه المقالة، لكونها حكيت بصيغة التمريض، لأن النبي صلى
الله عليه وسلم إذا كان دخل من هذه الثنية إلى مكة في حجة الوداع تعين
أن تكون هذه الثنية كداء، لأن الأخبار وافرة صحيحة في أن النبي صلى
الله عليه وسلم حين حج من المدينة دخل إلى مكة من كداء.
وفي تاريخ الأزرقي ما يوافق ما ذكره الفاكهي من دخول النبي صلى الله
عليه وسلم في حجة الوداع من هذه الثنية3، وذلك يقتضي أن تكون هذه
الثنية: كداء، للمعنى السابق، والله أعلم.
وفي كلام غير واحد من المتأخرين تسمية هذه الثنية كداء، منهم: سليمان
بن خليل، والمحب الطبري، والنووي، وقال المحب: هي بالفتح والمد تصرف
على إرادة الموضع، وبتركه على إرادة البقعة... انتهى.
وقد ذكر الأزرقي شيئا من خبر هذه الثنية، وهي الآن يحاميم الأحداب التي
بين دار السري إلى ثنية المقبرة، وهي التي قبر أمير المؤمنين أبي جعفر
بأصلها، قال: يعرفها باليحاميم وأولها القرن الذي بثنية المدنيين على
رابية بيوت ابن أبي حسين النوفلي، والذي يليه القرن المشرف على دار
منارة الحبشي فيما بين ثنية المدنيين وهي التي كان ابن الزبير مصلوبا
عليها، وكان أول من سهلها معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ثم عملها
عبد الملك بن مروان، ثم كان آخر من بنى ضفائرها ودرجها وجدرها4
المهدي... انتهى.
وذكر ذلك الفاكهي إلا أنه لم يجزم بكون معاوية رضي الله عنه أول من سهل
هذه الثنية وحكاه بصيغة التمريض، وقال أيضا: ويقال إن ابن الزبير أول
من سهلها...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا ورد في النسختين، والصحيح أن روايته هكذا:
عدمنا خيلنا إن لم تروها
تثير النقع موعدها كداء
وسيأتي البيت صحيحا بعد قليل، وفي أخبار مكة للفاكهي كما
أثبتناه "4/ 180".
2 أخبار مكة للفاكهي 4/ 179.
3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 286.
4 في أخبار مكة للأزرقي 2/ 286: "جددها".
ج / 1 ص -405-
انتهى. فيستفاد مما ذكره الأزرقي والفاكهي
قولان في أول من سهل هذه الثنية، والله أعلم بالصواب.
وفي سنة إحدى عشرة وثمانمائة1 سهل بعض المجاورين موضعا مستصعبا في
رأسها فالله تعالى يثيبه، وسهل أيضا غير من المجاورين بمكة أثابه الله
في النصف الثاني من سنة سبع عشرة وثمانمائة طريقا في هذه الثنية غير
الطريق المعتاد2، وهذه الطريق تكون على يسار الهابط من هذه الثنية إلى
المقبرة والأبطح، وكانت حزنة ضيقة جدا، فتحت ما يليها من الجبل
بالمعاول حتى اتسعت، فصارت تسع أربع مقاطير من الجمال محملة، وكانت قبل
ذلك لا تسع إلا واحدا، وسهلت أرضها بتراب ردم فيها حتى استوت، وصار
الناس يسلكونها أكثر من الطريق المعتادة، وجعل بينهما حاجزا من حجارة
مرصوصة، وكان في بعض هذه الطريق قبور فأخفي أثرها.
السادس عشر: كدي، الموضع الذي يستحب الخروج منه لمن كان في طريقه: هو
الثنية التي بأسفل مكة التي بني عليها بابها المعروف بباب الشبيكة على
ما يقتضيه كلام المحب الطبري في "شرح التنبيه" لأنه قال فيه: وكدى التي
يخرج منها الحاج مضمومة مقصورة، وقد بني عليها باب مكة الذي يتوجه منه
إلى عمرة التنعيم... انتهى.
وباب مكة الذي أشار إليه المحب هو باب الشبيكة، لأن الناس تتوجه منه
إلى عمرة التنعيم غالبا.
وذكر النووي ما يؤيد ما ذكره المحب الطبري في ضبطها ومكانها، لأنه قال
في الإيضاح" في الباب الثالث: الرابعة: السنة أن يدخل مكة من ثنية كداء
بفتح الكاف والمد، وهي بأعلى مكة ينحدر منها إلى المقابر، وإذا خرج
راجعا إلى بلده خرج من ثنية كدًى -بالضم والقصر والتنوين، وهي بأسفل
مكة بقرب جبل قعيقعان، وإلى صوب ذي طوى... انتهى.
وذكر القاضي بدر الدين بن جماعة في منسكه ما يقتضي أن كدى هذه هي
الثنية التي عندها الموضع المعروف بقبر أبي لهب بطريق العمرة، ونص كلام
ابن جماعة: وإذا يخرج من ثنية كد -بالضم والقصر من أسفل مكة، وهي
الثنية التي يخرج إليها من باب مكة المعروف بباب الشبيكة، وهي الثنية
التي يخرج منها إلى المرجم المعروف بقبر أبي لهب، يسلك منه إلى الزاهر
المتقدم ذكره وغيره، ومنه يخرج المعتمرون... انتهى.
وكلام ابن جماعة هذا يخالف ما قاله المحب الطبري في كدى التي يخرج
منها، والمحب الطبري الذي يعتد به في معرفة ذلك، والله أعلم بالصواب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إتحاف الورى 3/ 465، 466.
2 إتحاف الورى 3/ 522.
ج / 1 ص -406-
ومن هذه الثنية دخل قيس بن سعد بن عبادة
يوم فتح مكة على ما ذكر الأزرقي1، وذكر ما يقتضي أن حسان بن ثابت عناها
بقوله السابق في كداء بالفتح، وأنشد على غير ما أنشده الفاكهي لأنه
قال:
عدمنا خيلنا إن لم تروها
تثير النقع موعدها كداء2
... انتهى.
وبأسفل مكة ثنية يقال لها: كديّ، بالضم وتشديد الياء وتنوينها، يخرج
منها إلى جهة اليمن، ذكر ذلك المحب الطبري، قال: وقد بني عليها باب مكة
الذي يدخل منه أهل اليمن ويخرجون، هكذا قال في "شرح التنبيه"، وقال في
"القرى": والثالثة كدي، بالضم وتشديد الياء مصغر، موضع بأسفل مكة،
والأوليان هما المشهورتان، وهذه يخرج منها إلى جهة اليمن، هذا ضبط عن
المحققين، ومنهم: أبو العباس أحمد بن عمر العذري، فإنه كان يرويه عن
أهل المعرفة بمواضع مكة من أهلها، حكاه عنه الحميدي3... انتهى.
وما ذكره من أنه بني على الثنية التي يقال لها كدي بالتصغير باب مكة
الذي يدخل منه أهل اليمن ويخرجون، يخالف ما يقوله الناس فيها، لأنهم
يذكرون أنها الثنية التي يهبط منها إلى خم، وخم: شعب مشهور، وليس هو خم
الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم عند غديره: "من كنت مولاه فعلي
مولاه" الوارد في فضل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فإنه موضع عند
الجحفة، وبينها وبين باب مكة الذي أشار إليه المحب الطبري غلوتان،
والله أعلم.
وممن ذكر هذا الموضع سليمان بن خليل، لأنه قال: وأما كدي بالتصغير بضم
الكاف وفتح الدال، فإنه جبل بأسفل مكة يخرج منها إلى اليمن... انتهى.
وما ذكرناه في ضبط كداء العليا، وكدي السفلى التي بني عليها باب
الشبيكة هو الصواب، وضبط بعضهم العليا بالضم، وهذه السفلى بالفتح، ونسب
النووي قائل ذلك إلى الغلط والتصحيف4 وذكر صاحب "المطالع" ما يشهد لمن
ضبط العليا بالضم، ولكن المشهور فيها الفتح، والله أعلم.
وذكر الفاكهي ما يقتضي أن بأعلى مكة موضعا آخر يقال له كداء غير كداء
الذي هو ثنية المقبرة، لأنه قال: كداء: الجبل المشرف على الوادي مقابل
مقبرة أهل مكة، اليوم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 286.
2 البيت من قصيدة مطلعها:
عفت ذات الأصابع فالجواء
إلى عذراء منزلها خلاء
3 القرى "ص: 254".
4 تهذيب الأسماء واللغات 2/ 2: 123، 124.
ج / 1 ص -407-
تحته بيوت عبد الرحمن بن يزيد، وابن خلف
مولى العباس بن محمد، وهو ممتد إلى دار الأراكة... انتهى1، ذكر هذا في
تعريفه لما في شق معلاة مكة اليماني، وذكر ما سبق في كداء الذي هو ثنية
المقبرة في شق معلاة مكة الشامي، وتغاير الجهتين يقتضي مغايرة
المكانين، وذكر في موضع آخر ما يقتضي أن كدا موضعا بأعلى مكة غير كداء
الذي هو ثنية المقبرة، ولم يتعرض لضبط ذلك، فتصير المواضع أربعة، اثنان
لا تعلق لهما بالمناسك، واثنان لهما تعلق بالمناسك، وهما كداء الذي هو
ثنية المقبرة، وكدي الذي هو في طريق المدينة، وإنما استحب الخروج منه
والدخول إلى مكة من آذاخر، لكون النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في
حجة الوداع، وأما في فتح مكة فدخل صلى الله عليه وسلم من ثنية أذاخر
بأعلى مكة، على ما ذكره ابن إسحاق في سيرته، والأزرقي، وذكر موسى بن
عقبة ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح من كداء
بأعلى مكة، وكذلك الزبير بن العوام رضي الله عنه2، والله أعلم بالصواب.
وأما في عمرته في الجعرانة فدخل صلى الله عليه وسلم مكة من أسفلها وخرج
من أسفلها، كذا في خبر ذكره الفاكهي بإسناده، وفيه من لم أعرفه، والله
أعلم.
السابع عشر: المأزمان اللذان يستحب للحاج أن يسلك طريقهما إذا رجع من
عرفة، هو الموضع الذي تسميه أهل مكة الآن: المضيق بين المزدلفة وعرفة،
قال صاحب "المطالع" المأزمان مهموز مثنى، قال ابن شعبان: هما جبلا مكة
وليس من المزدلفة... انتهى.
وقال النووي في "التهذيب" والمأزمان جبلان بين عرفات ومزدلفة بينهما
طريق. هذا معناهما عند الفقهاء فقولهم: على طريق المأزمين أي الطريق
التي بينهما، وأما أهل اللغة فقالوا: المأزم الطريق الضيق بين
جبلين"3... انتهى باختصار.
وذكر المحب الطبري معنى ذلك، قال: وأنكر بعض الناس على الفقهاء ترك همز
المأزمين وعده لحنا، وهذه عبارة غير محررة، فإن ترك الهمز في المثال
جائز باتفاق أهل العربية، فمن همز فهو الأصل، ومن لم يهمز فعلى
التخفيف، فهما فصيحان... انتهى.
وذكر الأزرقي أن ذرع ما بين مأزمي عرفات مائةٌ ذراع واثنا عشر إصبعا،
وذكر ذلك ابن خليل هكذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للفاكهي 4/ 145. وقال محقق الكتاب: وأرى أن وجود هذه
الترجمة وهم من النساخ لا أنسبه للفاكهي؛ لأن ما هو مذكور في شرح
الترجمة سيذكره الفاكهي في "ثنية كدي"، ودار الأراكة ودار ابن خلف مولى
العباس ذكرهما الفاكهي وحدد موضعهما على "ثنية كدي".
2 السيرة النبوية للإمام المعافري 4/ 91.
3 تهذيب الأسماء واللغات 2/ 2: 148.
ج / 1 ص -408-
قلت: ومن أول هذين المأزمين مما يلي
المزدلفة إلى العلمين اللذين هما حد عرفة اثنا عشر ألف ذراع وثلاثة
وتسعون -بتقديم التاء- وثلاثة أسباع بذراع اليد المتقدم، وقد ذكرنا في
أصل هذا الكتاب مقدار ذلك بالأميال على مقتضى الأقوال الأربعة في
مقداره، ومن أول هذين المأزمين مما يلي المزدلفة إلى العلمين اللذين
هما حد الحرم من جهة عرفة ثمانية آلاف ذراع وتسعمائة ذراع -بتقديم
التاء- واثنان وعشرون ذراعا، وذكرنا في أصل هذا الكتاب مقدار ذلك
بالأميال، ولذلك تركنا ذكره هنا.
الثامن عشر: "محسر" الموضع الذي يستحب الإسراع فيه، هو واد بين منى
والمزدلفة على حدهما، وليس منهما، أشار إلى ذلك النووي في "الإيضاح"،
والمحب الطبري في "القرى"، وذكر أن في حديث الفضل بن عباس رضي الله
عنهما ما يدل على أنه من منى، والحديث في الصحيحين.
ونقل صاحب "المطالع" ما يدل على أن بعض "محسر" من منى، وبعضه من
المزدلفة، وصوب ذلك.
وذكر سليمان بن خليل، والمحب الطبري ما يدل على أن "محسر" الموضع الذي
يقال له وادي النار، وهو مشهور بذلك إلى الآن، ويقال ذلك أيضا للموضع
الذي ينزله الآن بنو حسن بمنى، وبينه وبين محسر فلوات، ولعل ذلك لقربه
من محسر، والله أعلم.
ويقال لمحسر: المهلل؛ لأن الناس إذا وصلوا إليه في حجهم هللوا فيه
وأسرعوا السير في الوادي المتصل به، والمهلل المشار إليه مكان مرتفع
عنده بركتان معطلتان بلحف قرن جبل عال، ويتصل بهما آثار حائط ويكون ذلك
كله على يمين الذاهب إلى عرفات ويسار الذاهب إلى منى. ولما عرفه ابن
صلاح قال: وأول محسر من القرن المشرف من الجبل الذي على يسار الذاهب
إلى منى. ثم قال: وأهل مكة يسمونه وادي النار... انتهى.
وكون محسر عند الموضع الذي يقال له: المهلل، أمر مشهور عند الناس،
والله أعلم. ويتأيد لذلك بأن من رأس المهلل إلى منتهى منى من جهة مكة،
فهو طرف العقبة التي هي حد منى سبعة آلاف ذراع ومائة ذراع وتسعة
-بتقديم التاء- وثلاثين ذراعا وثلاثة أسباع ذراع بذراع اليد، وذلك
يقارب ما ذكره الأزرقي في قدر منى، وهو على ما ذكر سبعة آلاف ذراع
ومائتا ذراع1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 186.
ج / 1 ص -409-
وذكر المحب وابن خليل: أنه سمي محسرا لأن
فيل أصحاب الفيل حسر فيه أي أعيا. قلت: وفي ذلك نظر، لأن ابن الأثير
ذكر في "نهاية الغريب" أن هذا الفيل لم يدخل الحرم، ذكر ذلك في مادة
حبس، عند قوله: حبسها حابس الفيل1.
وذكر الأزرقي أن وادي محسر خمسمائة ذراع وخمسة وأربعون ذراعا2...
انتهى.
واتفق الأئمة الأربعة على استحباب الإسراع فيه قدر رمية حجر للراكب
والماشي. وحكى الرافعي وجها ضعيفا أن الماشي لا يستحب له الإسراع،
والأصل في استحباب الإسراع في هذا المكان فعل النبي صلى الله عليه وسلم
لذلك فيه، وجاء في بعض الأحاديث ما يقتضي خلاف ذلك، لكن الأحاديث في
الإسراع أكثر وأصح، وقدمت على ما خالفها لأنها مثبتة، واختلف في تحريكه
صلى الله عليه وسلم راحلته في هذا الموضع فقيل: يجوز أنه فعل ذلك لسعة
الموضع، وقيل: إنه فعل ذلك لأجل أن مأوى الموضع للشياطين، فاستحب صلى
الله عليه وسلم الإسراع فيه، ولعله المشار إليه بقول عمر بن الخطاب رضي
الله عنه حين أفاض من عرفة إلى المزدلفة:
إليك تعدو قلقا وضينها
مخالفا دين النصارى
دينها
ومحسر بميم مضمومة ثم حاء مفتوحة ثم سين مشددة مكسورة ثم راء
مهملة هكذا ضبطه النووي وغيره.
التاسع عشر: المحصب3 الذي يستحب للحاج النزول فيه بعد انصرافه من منى،
وهو مسيل بين مكة ومنى، وهو أقرب إلى مكة بكثير، وقد صرح الأزرقي بحده
من جهة مكة، ووقع في كلامه ما يوهم حده من جهة منى، ونص كلامه: وحد
المحصب من الحجون مصعدا في الشق الأيسر وأنت ذاهب إلى منى إلى حائط
خرمان، مرتفع على بطن الوادي4... انتهى.
والحجون المشار إليه في هذا الحد هو الجبل المتقدم ذكره، وقد تقدم لنا
أنه أحد الجبلين اللذين بينهما الشعب الذي تسميه الناس: شعب العفاريت،
بالمعلاة على يمين الذاهب إلى منى، ويعرف أحد الجبلين بجبل ابن عمر،
لأن فيه ما يقال قبر عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وهو
الذي على يمين الداخل إلى الشعب المشار إليه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النهاية لابن الأثير باب الحاء مع الباء.
2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 189، 190.
3 المحصب: بالضم ثم بالفتح وصاد مهملة مشددة، اسم المفعول من الحصباء،
والحصب هو الرمي بالحصى، وهو مسيل ماء بين مكة ومنى.
4 أخبار مكة للأزرقي 2/ 160.
ج / 1 ص -410-
وإذا تقرر أن الحجون بهذا المكان، فيكون
ذلك حد المحصب من جهة مكة، كما هو مقتضى كلام الأزرقي المتقدم ذكره.
ووقع للشيخ تقي الدين بن الصلاح في منسكه، والشيخ محيى الدين النووي في
إيضاحه وغيره، والشيخ محب الدين الطبري في "القرى" ما يوهم أن حد
المحصب من جهة مكة دون الموضع الذي أشرنا إليه في تفسير الحجون. ونص
كلام ابن الصلاح: والمحصب بالأبطح، وهو ما بين الجبل الذي عنده مقبرة
أهل مكة إلى الجبل الذي يقابله مصعدا في الشق الأيسر، وأنت ذاهب إلى
منى مرتفعا عن بطن الوادي، وليست المقبرة منه، وإنما سمي المحصب لأن
السيل يجمع فيه الحصباء... انتهى.
وكلام النووي والمحب مثل هذا... انتهى.
وللقاضي عز الدين بن جماعة في منسكه الكبير في حد المحصب كلام مثل هذا
ولا تضاد بين ما ذكرناه في كون حد المحصب من جهة مكة الموضع الذي
ذكرناه في تفسير الحجون، وبين ما قاله ابن الصلاح، ومن ذكر من العلماء
أن المقبرة ليست من المحصب لأن سواد هؤلاء العلماء المشار إليهم أجمعوا
على التحديد بالجبل الذي عنده مقبرة أهل مكة، في تعريفهم المحصب: الجبل
الذي على يسار الهابط من ثنية كداء بفتح الكاف والمد، فإن مقبرة أهل
مكة عنده، أو الجبل الذي على يمين الهابط من الثنية المشار إليها، فإن
عنده أيضا مقبرة لأهل مكة، وأيهما كان المراد، فهو يقابل الموضع الذي
ذكرناه في تفسير الحجون، فيكون هذا الموضع حد المحصب من جهة مكة، ويكون
ما حاذاه من المقبرة مستثنى من عرض المحصب لا من طوله، ويتفق كلام
هؤلاء من جهة مكة عند ابن الصلاح، ومن قال بقوله من الأئمة المشار
إليهم، دون الموضع الذي أشرنا إليه في حد المحصب، وأن المقبرة غير
داخلة في حده طولا، لقالوا حده من جهة مكة طرف المقبرة من أعلاها، ولم
يحتاجوا إلى التنبيه على أن المقبرة لا تدخل فيه، فإن هذه العبارة وما
شابهها يقتضي ذلك، ولكن لما كان المحصب من جهة مكة الموضع الذي أشرنا
إليه ولم يكن في محاذاته سوى أحد الجبلين اللذين بينهما الثنية المشار
إليها، قالوا في تعريفه: هو ما بين الجبل الذي عنده مقبرة أهل مكة،
والجبل المقابل له؛ يعنون الحجون واستثنوا المقبرة مما بين الجبلين،
لأن موضعهما ليس محصبا لمزدلفة، فإن المحصب هو ما سهل من الأرض لأن
العلماء فسرو المحصب بأنه الموضع الذي يجتمع فيه حصب من السيل، وموضع
المقبرة ليس بهذه الصفة، ويدل لصحة هذا التأويل أن المحصب هو الأبطح،
والبطحاء على ما قال المحب الطبري، ولا ريب في كون الموضع الذي أشرنا
إليه من الأبطح، والله أعلم.
ج / 1 ص -411-
وأما حد المحصب من جهة منى: فوقع في كلام
الأزرقي ما يوهم أنه إلى حائط خرمان، وهو الأودان المعروفة بالخرمانية
بأعلى المعابدة، ولفظ الأزرقي الذي أوهم كون هذا الموضع حد المحصب قوله
في الحد السابق إلى حائط خرمان، ويحتمل أن لا يكون تعرض لحده، وإن أراد
أن الموضع الذي ينزل من المحصب يكون على يسار الذاهب إلى منى، وعلى
يسار الذاهب إلى حائط خرمان، وهو أقرب والله اعلم، لأني وجدت في كلام
منقول عن الشافعي ما يقتضي أن حد المحصب من جهة منى جبل المقبرة وهو
بقرب السبيل الذي يقال له سبيل الست، وطريق منى إلى جهته لا إلى جهة
منى ونص الكلام الذي رأيته للشافعي في ذلك على ما نقل سليمان بن خليل
في منسكه، قال الشافعي رضي الله عنه: المحصب ما بين الجبلين، جبل
المقبرة، والجبل الآخر وهو على باب مكة بالأبطح، هكذا نقل الشيخ أبو
حامد في التعليق... انتهى من منسك ابن خليل، وهو يقتضي أن حد المحصب من
جهة جبل المقبرة، وجبل العيرة حد الميل الثاني من الأميال التي ذكرها
الأزرقي، فيما بين باب بني شيبة وموقف الإمام بعرفة، لأنه قال لما ذكر
هذه الأميال: والميل الثاني في حد جبل المقبرة، وقال في موضع آخر:
المقبرة الجبل الذي عند الميل على يمين الذاهب إلى منى... انتهى.
وقد اعتبرنا من باب بني شيبة إلى السبيل الذي يقال له سبيل الست فجاء
ميلين، كل ميل ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع، فاستفدنا من هذا أن جبل
المقبرة عند هذا السبيل، وأنه حد المحصب من جهة منى، والله أعلم.
وأما قول صاحب المطالع": المحصب بين مكة ومنى، وهو إلى منى أقرب، فليس
بظاهر، وقد نبه على ذلك النووي، والله أعلم، والمحصب هو خَيْف بني
كنانة التي تقاسمت فيه قريش على الكفر.
العشرون: المروة، الموضع الذي هو منتهى السعي، هو في أصل جبل قعيقعان،
على ما قال أبو عبيد الله البكري، وقال النووي: إنها أنف من جبل
قعيقعان1. وذكر سليمان بن خليل سبب تسمية الصفا والمروة، وكذلك المحب
الطبري ونص ما ذكره سليمان بن خليل: وقال جعفر بن محمد: نزل آدم عليه
السلام على الصفا، وحواء على المروة فسمي الصفا باسم آدم المصطفى،
وسميت المروة باسم المرأة، وهي الصخرة الملساء، وجمع المروة المروات
بمثل تمرة وتمرات.
ونص ما ذكره المحب الطبري في شرح التنبيه: والصفا مقصور، وهو في الأصل:
جمع صفا، وهو: الصخرة الملساء، والحجر الأملس، والمروة في الأصل: الحجر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تهذيب الأسماء واللغات 1/ 2: 181.
ج / 1 ص -412-
الأبيض البراق، وقيل: الذي يقدح منه النار،
فسمي الجبلان بذلك لتضمنهما هذا المعنى، والله أعلم ثم قال: وقد بني
على الصفا والمروة أبنية حتى سترتهما، بحيث لا يظهر منهما شيء غير يسير
في الصفا، قال: والمروة أيضا في وجهها عقد كبير مشرف، والظاهر أنه جعل
علما لحد المروة، وإلا كان وضعه ذلك عبثا، وقد تواتر كونه حدا بنقل
الخلف عن السلف، وتطابق الناسكون عليه، فينبغي للساعي أن يمر تحته
ويرقى على البناء المرتفع عن الأرض... انتهى.
وذكر الأزرقي، والبكري في درج المروة ما يخالف حالها اليوم، أما
الأزرقي فإنه قال في الترجمة التي ترجم عليها بقوله: قلت: البناء
المرتفع الذي أشار إليه المحب كهيئة الدكة، وله درجة ذكر وذكر ذرع ما
بين الركن الأسود إلى الصفا، وذرع ما بين الصفا والمروة: وعلى المروة
خمس عشرة درجة1... انتهى. وذكر في هذه الترجمة درج الصفا، ونص كلامه
على الصفا اثنتي عشرة درجة من حجارة ... انتهى.
وذكر البكري في درج المروة مثل ما ذكره الأزرقي. وذكر ابن جبير أن درج
المروة خمس درجات2، وذكر النووي أن فيها درجتين، والذي فيها الآن
واحدة.
والعقد الذي بالمروة جدد بعد سقوطه في آخر سنة إحدى وثمانمائة أو في
التي بعدها، وعمارته هذه من جهة الملك الظاهر برقوق3، صاحب مصر، واسمه
مكتوب بسبب هذه العمارة في أعلى هذا العقد، وفي الصفا أيضا، وما أظن أن
عقد الصفا بني، وإنما أظن أنه نور وأصلح، وسبب ترددي في ذلك أني رحلت
من مكة في آخر سنة إحدى وثمانمائة رحلتي الثانية إلى الديار المصرية
والشامية. ومن تحت هذا العقد4 إلى أول درجة الدركة التي بالمروة داخل
العقد: سبعة أذرع، ومن تحت العقد الذي بالمروة إلى الذي يستدبره مستقبل
القبلة: ثمانية عشر ذراعا وثلثا ذراع، كل ذلك بذراع اليد، واتساع هذا
العقد ستة عشر ذراعا بذراع الحديد المصري.
والمروة أفضل من الصفا على ما قاله شيخ الإسلام عز الدين عبد العزيز بن
عبد السلام، وتلميذه الشهاب القرافي، لكونها تزاد من الصفا أربعا،
والصفا لا يزاد منها إلا ثلاثا، وما كانت العبادة فيه أكثر فهو أفضل.
وذكر القاضي عز الدين بن جماعة أن في ذلك نظرا، وقالوا: لو قيل بتفضيل
الصفا لأن الله سبحانه وتعالى بدأ به لكان أظهر، ولو قيل بتفضيل المروة
باختصاصها بالنحر والذبح دون الصفا لكان أظهر مما قالاه، والله أعلم...
انتهى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 119.
2 رحلة ابن جبير ص " 84".
3 توفي برقوق عام 801هـ.
4 إتحاف الورى 3/ 416.
ج / 1 ص -413-
الحادي والعشرون: المزدلفة، الموضع الذي
يؤمر الحاج بنزوله والمبيت فيه بعد دفعه من عرفة ليلا، هو ما بين مأزمي
عرفة ومحسر، ومأزمي عرفة هو الذي يقال له المضيق، وقد ذكر حد المزدلفة
بما ذكرناه جماعة من العلماء، منهم: عطاء كما في تاريخ الأزرقي عنه1،
والإمام الشافعي في كتابه "الأم"، لأنه قال: المزدلفة حدها من حيث يفيض
من مأزمي عرفات إلى أن يأتي قرن محسر، هكذا على يمينك وشمالك من تلك
المواطن القوائل، والظواهر، والنجاد، والوادي، كل ذلك من المزدلفة ...
انتهى.
وسميت مزدلفة لازدلاف الناس إليها، أي اقترابهم، وقيل: لمجيء الناس
إليها زلفا من الليل، أي ساعات، وقيل غير ذلك، ويقال للمزدلفة: جمع
سميت بذلك لاجتماع الناس بها، وقيل: لاجتماع آدم وحواء فيها، وقيل:
لجمع الصلاتين فيها. وبها مسجد حول قزح، وهو صغير مربع ليس بالطويل
الحيطان، طوله إلى جهة القبلة ستة وعشرون ذراعا إلا ثلث ذراع غير أن
الجهة التي عن يسار المصلي تنقص في الطول عن الجهة اليمنى خمسة أذرع
إلا ثلث ذراع، وعرضه اثنان وعشرون ذراعا، وفي قبلته محراب فيه حجر
مكتوب فيه: أن الأمير يلبغ الخاصكي جدد هذا المكان بتاريخ ذي القعدة
سنة ستين وسبعمائة2.
وقد ذكر الأزرقي صفة مسجد المزدلفة وذرعه3، وذكرنا كلامه بنصه في أصل
هذا الكتاب، وكان تحرير ما ذكرناه من ذرع هذا المسجد بحضوري، والذراع
الذي حررناه به هو ذراع الحديد المتقدم ذكره، وطول المزدلفة من حدها
الذي يلي منى، وهو طرف وادي محسر إلى حد مزدلفة الذي يلي عرفة، وهو أول
المأزمين مما يلي المزدلفة سبعة آلاف ذراع وسبعمائة ذراع وثمانون ذراعا
وأربعة أسباع، ومن جدار باب بني شيبة إلى حد مزدلفة من جهة منى ومكة
عشرون ألف ذراع وخمسمائة ذراع وسبعة أذرع -بتقديم السين- وثلاثة أسباع
ذراع، يكون ذلك أميال على القول بأن الميل ثلاثة ألاف ذراع وخمسمائة
ذراع: خمسة أميال وستة أسباع ميل يزيد سبعة أذرع -بتقديم السين- وثلاثة
أسباع ذراع، ومن باب المعلاة إلى حد المزدلفة المشار إليها ثمانية عشر
ألف ذراع وثلاثمائة ذراع وثمانون ذراعا وثلاثة أسباع ذراع بذراع اليد،
يكون ذلك أميالا على القول
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 191، 192.
2 وفي سنة 842هـ أمر السلطان جقمق الأمير سودون بتعمير هذا المسجد، وفي
سنة 874هـ في سلطة السلطان قايتباي أمر أمير مكة الشريف محمد بن بركات
بتبيضه، وفي سنة 1072هـ عمره سليمان بك والي جدة من قبل السلطان محمد
الفاتح.
3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 186 وما بعدها.
ج / 1 ص -414-
بأن الميل ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع: خمسة
أميال وربع ميل يزيد خمسة أذرع وثلاثة أسباع ذراع، والله أعلم.
الثاني والعشرون: المشعر الحرام الذي يستحب للحاج الوقوف عنده للدعاء
والذكر، غداة يوم النحر، هو موضع معروف بالمزدلفة، وهو قزح الذي تقدم
ذكره وحديث جابر رضي الله عنه الطويل يدل على أن المشعر الحرام موضع من
المزدلفة لا كلها، لأنه قال فيه بعد أن ذكر نزول النبي صلى الله عليه
وسلم بالمزدلفة ومبيته بها، وصلاته فيها الصبح: ثم ركب القصوى حتى أتى
المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعا وكبر وهلل ووحد، ولم يزل واقفا
حتى أسفر جدا ودفع قبل أن تطلع الشمس1.
وفي حديث علي رضي الله عنه السابق عند ذكر قزح ما يؤيد ذلك2، لأن قزح
هو المشعر الحرام، والله أعلم.
وأما قول ابن عمر رضي الله عنهما: المشعر الحرام المزدلفة كلها، ومثله
في كثير من كتب التفسير، في قوله تعالى:
{فَاذْكُرُوا اللَّهَ
عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ}
[البقرة: 198] فهو محمول على المجاز، أشار إلى ذلك المحب الطبري،
والأفصح في المشعر الحرام فتح الميم، وكسرها لغة، حكاه الجوهري وغيره،
ولم ترد إلا بالفتح،ومعنى المشعر الحرام أي الذي يحرم فيه الصيد وغيره،
ويجوز أن يكون معناه ذا الحرمة، والله أعلم.
وأحدث وقت بني فيه المشعر الحرام فيما علمت سنة تسع وخمسين وسبعمائة3،
أو في التي بعدها.
ومن جدار باب بني شيبة إلى جدار المشعر الحرام الذي يلي مكة المكرمة
خمسة وعشرون ألف ذراع وسبعمائة ذراع -بتقديم السين- وثمانية أذرع
وأربعة أتساع ذراع ومن عتبة باب المعلاة إلى حد المشعر الحرام الذي يلي
مكة ثلاثة وعشرون ألف ذراع، وستمائة ذراع وواحد وثمانون ذراعا وأربعة
أسباع ذراع، يكون ذلك أميالا على القول بأن الميل ثلاثة آلاف وخمسمائة
ذراع: ستة أميال وخمسة أسباع ميل ونصف عشر ميل، يزيد ستة أذرع وأربعة
أسباع ذراع، والله أعلم.
الثالث والعشرون: المطاف المذكور في كتب الفقهاء، وهو ما بين الكعبة
ومقام إبراهيم الخليل عليه السلام وما يقارب ذلك من جميع جوانب الكعبة،
وقد أشار إلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم "1218" في الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم وأبو
داود "1905، 1907، 1908، 1909" في المناسك، باب صفة حجة النبي صلى الله
عليه وسلم، والنسائي 5/ 143، 144ن في الحج وابن ماجه "3974" في المناسك
باب حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2 سنن أبي داود "1935"، والترمذي "885" في الحج.
3 إتحاف الورى 3/ 274، العقد الثمين 5/ 40.
ج / 1 ص -415-
تعريفه بما ذكرناه الشيخ أبو محمد الجويني
فيما نقله عنه ابن الصلاح في منسكه، لأنه قال: قال الشيخ أبو محمد:
المطاف المعتاد الذي يستنكر ويستبعد مجاوزته هو ما بين الكعبة والمقام،
ومن كل جانب في العادة أمارات منصوبة لا يكاد الناس يخرجون عنها ...
انتهى.
قلت: وهذا الموضع مفروش بالحجارة المنحوتة حول الكعبة من جوانبها، وعمل
ذلك دفعات، حتى صار على ما هو عليه اليوم، وكان مصيره هكذا في سنة ست
وستين وسبعمائة، والمعمول منه في هذه السنة جانب كبير جدا، وهاتان
العمارتان من جهة الملك الأشرف شبعان صاحب مصر1. وعمر المطاف من ملوك
مصر: الملك المنصور لاجين المنصوري2، واسمه مكتوب بسبب ذلك في رخامة
بين الركن اليماني والحجر الأسود، وعمره من الخلفاء: المستنصر العباسي
في سنة إحدى وثلاثين وستمائة3، واسمه مكتوب بسبب ذلك في الحفرة التي
عند باب الكعبة.
قد بين الفاكهي أول من فرش الحجارة في موضع الطواف ومقدار ذلك، وما كان
يضع في موضعه، لأنه قال: ذكر فرش الطواف بأي شيء هو، قال بعض المكيين:
إن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما لما بنى الكعبة وفرغ من بنائها
وخلقها وطلاها بالمسك، وفرش أرضها من داخلها، بقيت من الحجارة بقية،
ففرش بها حول المطاف كما يدور البيت نحوا من عشرة أذرع، وذلك الفرش باق
إلى اليوم، إذا جاء الحاج في الموسم، جعل على تلك الحجارة رمل من رمل
الكثيب الذي بأسفل مكة يدعى كثيب الرمضة، وذلك أن الحجبة يشترون له مدر
ورملا كثيرا فيجعل في الطواف، ويجعل الرمل فوقه، ويرش بالماء حتى
يتلبد، ويؤخذ بقية ذلك الرمل فيجعل في زاوية المسجد الذي يلي باب بني
سهم، فإذا خف ذلك الرمل والمدر أعادوه عليه ورشوا عليه الماء حتى
يتلبد، فيطوف الناس عليه، فيكون ألين على أقدامهم في الطواف، فإذا كان
الصيف وحمي ذلك الرمل من شدة الحر فيؤمر غلمان زمزم وغلمان الكعبة أن
يستقوا من ماء زمزم في قرب، ثم يحملونها على رقابهم حتى يرش به رمل
الطواف فيتلبد ويسكن حره، وكذلك أيضا يرشون الصف الأول، وخلف المقام
كما يدور الصف حول البيت ... انتهى.
وقد اعتبر بعض أصحابنا بحضوري مقدار ما بين منتهى ذلك وبين الكعبة
المعظمة من جميع جوانبها، فكان مقدار ما بين الحجر الأسود وطرف البلاط
المحاذي له على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إتحاف الورى 3/ 304، العقد الثمين 5/: 10، 11.
2 تولى السلطنة سنة 696 وقتل سنة 698هـ "البداية والنهاية 13/ 348- 14/
3".
3 إتحاف الورى 3/ 50، العقد الثمين 3/ 325، وفيه أن العمارة كانت سنة
635هـ.
ج / 1 ص -416-
الاستواء في الجهة اليمنية خمسة وعشرين
ذراعا إلا ثلث ذراع، وما بين الحجر الأسود وطرف البلاط المحاذي لوسط
مقام الحنابلة اثنتين وعشرين ذراعا وثلث ذراع، وما بين الحجر وجدار
زمزم ثلاثون ذراعا وثلثي ذراع، وما بين الركن الشامي الذي يقال له
العراقي وآخر تدوير المطاف المسامت له إلى الجهة الشرقية أربعة وعشرون
ذراعا ونصف، ومن الركن الشامي إلى آخر البلاط المحاذي له في الجهة
الشامية سبعة وثلاثون ذراعا وربع ذراع، وما بين الركن الغربي وآخر
البلاط المحاذي له من الجهة الشامية والغربية ثلاثون ذراعا، وما بين
نصف الجهة الغربية من الكعبة وآخر البلاط المقابل له من الجهة الغربية
تسعة وعشرون ذراعا إلا ثلث ذراع، وما بين الركن اليماني وآخر البلاط
المقابل له من جهته اليمنى سبعة وعشرون ذراعا وثلث ذراع، وكذلك ما بين
وسط الجهة اليمانية من الكعبة وآخر البلاط المحاذي له، والذراع المحرر
به هو الذراع الحديد المتقدم ذكره.
وينبغي للطائف أن لا يخرج عن هذا المكان في طوافه، لأن في "الجواهر"
لابن شاش على مذهب الإمام مالك رضي الله عنه: لا يطوف من وراء زمزم ولا
من وراء السقائف، فلو فعل مختارا أعاد، ما دام بمكة، فإذا رجع إلى بلده
فهل يجزيه الهدي أم يلزمه الرجوع؟ للمتأخرين قولان... انتهى، ونحوه
لابن بشير، وابن الحاجب في مختصره، وقد بسطنا هذه المسألة في أصل هذا
الكتاب، والسقائف، أروقة المسجد الحرام.
وأما مقدار الطواف بالكعبة: فذكره الأزرقي، وسليمان بن خليل وبينهما في
ذلك اختلاف، لأن الأزرقي ذكر أن طواف سبع بالكعبة ثمانمائة ذراع وستة
وثلاثون ذراعا وعشرون أصبعا1... انتهى.
وذكر سليمان بن خليل أن ذرع موضع الطواف مائة ذراع وسبعة أذرع...
انتهى.
وما ذكره سليمان بن خليل في مقدار موضع الطواف يقتضي أن يكون الطواف
بالكعبة: سبعمائة ذراع وتسعة -بتقديم التاء على السين- وأربعين ذراعا،
وذلك ينقص عما ذكره الأزرقي في مقدار ذلك: سبعة وثمانين ذراعا وعشرين
إصبعا، والله أعلم بالصواب.
وذكر ابن خرداذبه ما يوافق ما ذكره ابن خليل، لأنه قال: ودور البيت
مائة ذراع وسبعة أذرع2... انتهى، ولعل ابن خليل قلده في ذلك، والله
أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وذرع جميع الكعبة مكسرا: أربعمائة ذراع وثمانية عشر ذراع. "أخبار مكة
للأزرقي 1/ 290".
2 المسالك والممالك "ص: 133".
ج / 1 ص -417-
الرابع والعشرون: منى الموضوع الذي يؤمر
الحاج بنزوله والإقامة به حتى تطلع الشمس على ثبير، في يوم عرفة، وفي
يوم النحر، وفيما بعده من أيام التشريق، والمبيت به في ليالي أيام
التشريق، والمبيت به في ليالي التشريق، لأن رمي الجمار هو من أعلى
العقبة التي فيها الجمرة التي تلي مكة المعروفة بجمرة العقبة، إلى وادي
محسر، وقد حد منى بذلك عطاء بن أبي رباح، فيما ذكره عنه الفاكهي، لأنه
قال: حدثنا الزبير بن أبي بكر قال: حدثني يحيى بن محمد ثوبان، عن رباح
عن الزنجي بن خالد، عن ابن جريج، عن عطاء قال: حد منى رأس العقبة مما
يلي منى إلى النحر1... انتهى.
وقوله: إلى النحر تصحيف صوابه إلى محسر، لأنه حد منى من جهة المزدلفة
على ما قال غير واحد من العلماء، ولم يقل أحد إن النحر حد بمنى، وما
ذاك إلا لبعد حدها عن محسر وقربه إلى حد منى من جهة مكة.
وفي تاريخ الأزرقي عن عطاء ما يوافق ما ذكرنا أنه الصواب، والله أعلم،
وما ذكرناه عن عطاء نفهم أن أعلى العقبة من منى.
وذكر الإمام الشافعي رضي الله عنه ما يقتضي أن العقبة ليست من منى،
لأنه قال: وحد منى ما بين قرى وادي محسر إلى العقبة التي عندها الجمرة
الدنيا إلى مكة، وهي جمرة العقبة التى بايع رسول الله صلى الله عليه
وسلم الأنصار عندها، وليست محسرا، ولا العقبة من منى، وسواء سهل ذلك
وجبلها، وعامرها وخرابها، فأما الجبال المحيطة بجانبيها مما أقبل منها
على منى فهو منها، وما أدبر من الجبال فليس منها... انتهى.
هكذا نقل عنه سليمان بن خليل في منسكه.
وقال المحب بعد أن ذكر في حد منى، معنى هذا: والعقبة التي ينسب إليها
الجمرة منه2، قلت: كلام المحب الطبري في "القرى" صريح في أن جمرة
العقبة من منى. ونقل عنه ابن جماعة في منسكه على ما أخبرني عنه خالي
أنه قال: إن العقبة من منى، ولم يقل عن أحد أن الجمرة ليست من منى...
انتهى. وهذا يخالف ما يقتضيه كلام الشافعي، والنووي من أن العقبة ليست
من منى، والله أعلم بالصواب.
وقد ذكر الإمام الأزرقي في ذرع منى، لأنه قال فيما رويناه عنه بالسند
المتقدم: وذرع منى من جمرة العقبة إلى وادي محسر سبعة آلاف ذراع ومائتا
ذراع، وعرض منى عن مؤخر المسجد الذي يلي الجبل إلى الجبل3 بحذائه
العقبة ستة وعشرون ذراعا، وعرض الطريق الأعظم حيال الجمرة الأولى، وهي
الطريق الوسطى ثمان وثلاثون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للفاكهي 4/ 246.
2 القرى "ص: 430".
3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 185 "الجبل الذي".
ج / 1 ص -418-
ذراعا1، ثم قال: وذرع الطريق طريق العقبة
على الجدار إلى الجدار الذي بحذائه سبعة وستون ذراعا، وعرض الطريق
الأعظم من العقبة المدرجة: ستة وثلاثون ذراعا2.
وذكر الفاكهي أن الطريق الوسطى طريق النبي صلى الله عليه وسلم التي
سلكها النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر من قزح إلى جمرة العقبة ولم
تزل أئمة الحج تسلكها حتى تركت سنة المائتين3... انتهى باختصار.
واختلف في سبب تسمية منى4، فقيل: لما بها من الدماء المشروعة في الحد
بمنى، أي يراق ويصب، وهذا هو المشهور الذي قاله جمهور العلماء من أهل
اللغة وغيرهم على ما قال النووي5، وقيل: لِمَنِّ الله عز وجل على
الخليل بفداء ابنه فيها، وقيل: لِمَنِّ الله تعالى فيها بالمغفرة على
عباده، وهذان القولان في "منسك ابن خليل". وقيل: لاجتماع الناس بها:
والعرب تقول لكل مكان يجتمع فيه الناس منى، ذكره الفاكهي بهذا اللفظ،
وقيل غير ذلك من الأقوال التي ذكرناها في أصل هذا الكتاب.
واختلف في صرف منى، واقتصر ابن قتيبة في "أدب الكاتب" على أنها لا
تصرف6، واقتصر الجوهري في "الصحاح" على أن منى مصروف، والأجود فيه،
الصرف على ما ذكر النووي، وقال إنها بكسر الميم. وقد بسطنا هذه المسألة
أيضا في أصل هذا الكتاب.
ومنى علم لمكان آخر غير منى، كما ذكر أبو الفرج الأصبهاني صاحب
"الأغاني" لأنه أنشد أبياتا للبيد بن ربيعة أولها:
عفت الديار محلها فمقامها
بمنى تأبد غولها فرجامها7
ثم قال: عفت: درست، ومنى: موضع في بلاد بنى عامر ليست بمكة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة 2/ 186.
2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 185.
3 أخبار مكة للفاكهي 4/ 307.
4 أخبار مكة للأزرقي 2/ 186.
5 تهذيب الأسماء واللغات 2/ 2: 157.
6 تهذيب الأسماء 2/ 2: 157، نقلا عن أدب الكاتب "ص: 231".
7 الأغاني 15/ 378.
ج / 1 ص -419-
ذكر حكم البناء بمنى:
أخبرني إبراهيم بن محمد الدمشقي1 سماعا بالمسجد
الحرام أن أحمد بن أبي طالب أخبره قال: أخبرنا ابن اللتي قال: أخبرنا
أبو الوقت قال: أخبرنا الداوودي قال: أخبرنا ابن حمويه قال: أخبرنا
عيسى بن عمر قال: أخبرنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي قال: أخبرني
إسحاق قال: أخبرنا وكيع قال: أخبرنا إسرائيل، عن إبراهيم بن مهاجر عن
يوسف بن ماهاك، عن أمه مسيكة وأثنى عليها خيرا عن عائشة رضي الله عنها
قالت: قلت يا رسول الله ألا نبني لك بيتا يظلك؟ فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم:
"لا، إنما هو مناخ من سبق". أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده بهذا الإسناد،
ولفظه: قال: قلت: يا رسول الله ألا نبني لك بمنى بيتا أو بناء يظلك؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"لا إنما، هو مناخ من سبق"2. أخبر به أبو داود عن أحمد بن حنبل والترمذي.
قال أبو اليمن ابن عساكر3 بعد إخراجه لهذا الحديث: ومفهوم هذا الخطاب
يدل على أنه لا يجوز إحياء شيء من مواتها، ولا تملك جهة من جهاتها فلا
ينبغي لأحد أن يختص بمكان من أماكنها دون غيره، فيحظر عليه حظارا أو
يتخذه دارا، بل الناس في النزول بها شرع واحد وأهل مكة وسواهم في ذلك
سواء، قال الله سبحانه وتعالى:
{سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ}
[الحج: 25] الضمير في قوله "فيه" مختلف فيه بين أهل العلم، فمن قال
أراد به جميع الحرم وهو الأكثر منع من جواز إحياء مواتها وتملكها، ومن
ملك منها شيئا قبل ذلك كان هو وسواه في منافعه سواء، فلا يجوز له بيعه
ولا كراؤه، ثم قال: ومن تأول الآية على المسجد أجاز بيع دورها وكراءها،
وبه قال أبو يوسف والشافعي، وكره مالك رحمه الله على جميعهم البيع
والكراء. وفي جواز إحياء موات عرفة ومزدلفة اختلاف بين أهل العلم، وما
ذكرناه من منى أولى بالمنع، لقوله صلى الله عليه وسلم:
"إنما هو مناخ لمن سبق" وإنما في كلام العرب لإثبات المذكور ولنفي ما سواه، والله سبحانه
وتعالى أعلم... انتهى باختصار من كلامه عن بعض ما استدل به على عدم
الاختصاص في ذلك.
وقال المحب الطبري في "القرى" لما تكلم على هذا الحديث، وقد احتج بهذا
من لا يرى دور مكة مملوكة لأهلها، ثم قال: قلت: فيحتمل أن يكون ذلك
مخصوصا بمنى لمكان اشتراك الناس في النسك المتعلق بها، فلم ير رسول
الله صلى الله عليه وسلم لأحد اقتطاع موضع فيها للبناء ولا غيره، بل
الناس فيها سواء، وللسابق حق السبق، وكذلك الحكم في عرفة ومزدلفة
إلحاقا بها... انتهى.
وجزم النووي في "المنهاج" من زوائده بأن منى ومزدلفة لا يجوز إحياء
مواتها كعرفة، والله أعلم... انتهى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: برهان الدين أبو بكر إبراهيم بن محمد بن صديق الدمشقي الصوفي
المؤذن بالجامع الأموي بدمشق نزيل الحرم. ويعرف بابن الرسام. توفي سنة
806هـ "الضوء اللامع 1/ 147، 148".
2 مسند أحمد 6/ 187، 206.
3 هو: عبد الصمد بن عبد الوهاب بن الحسين أمين الدين الدمشقي المكي.
مات سنة 686هـ "لحظ الألحاظ" ص: 81، 82.
ج / 1 ص -420-
ونقل عن الشافعي أنه بنى بمنى مضربا ينزل
فيه أصحابه إذا حجوا، روى عنه ذلك أبو ثور، وهو أحد رواة القديم، وتمسك
به بعضهم على جواز البناء بمنى.
وفي العمل به على تقدير صحته عن الشافعي نظر لأمرين: أحدهما: أن
الشافعي قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي. والحديث الوارد في النهي عن
البناء بمنى تقوم به الحجة، لأن الترمذي حسنه، وأبا داود سكت عنه، فهو
فى معنى الصحيح لقيام الحجة به على ما هو مقرر في علم الحديث، فالشافعي
حينئذ يقول به ويصير ذلك مذهبه وصحبه، ومثل هذا لا ينكر، لأنه وقع
للنووي مثله في غير مسألة، ولعله لحظ هذا فيما ذكره من عدم جواز إحياء
موات منى ومزدلفة، مع قياسهما على عرفة لمشاركتهما لعرفة في علة الحكم،
والله أعلم.
والأمر الثاني: أنه لا ريب في أن الشافعي على تقدير ثبوت بنائه بمنى لم
يكن يحجز بناءه على أحد، ولا يأخذ على النزول فيه أجرا، وأن بناءه بمنى
لأجل الارتفاق به من جهة الظل وصيانة الأمتعة، وشبه ذلك فلا يقاس عليه
من لم يقصد ببنيانه إلا الاختصاص بنزوله وأخذ الأجرة على نزوله، كما هو
الغالب من أحوال أهل العصر، وإلحاق من هو بهذه الصفة لمن حسنت نيته عند
الشافعي لا يحسن، والله أعلم.
وسمعت قاضي الحرم جمال الدين أبا حامد بن ظهيرة1 أبقاه الله تعالى إن
جدي لأمي قاضي مكة أبا الفضل النويري رحمه الله كان ينكر البناء بمنى
ويشدد فيه، وينهى أشد النهي... انتهى بالمعنى.
وأما ما أفتى به الشيخ نجم الدين عبد الرحمن بن يوسف الأصفوني الشافعي
مؤلف "مختصر الروضة" من أن منى كغيرها في جواز بيع دورها وإجارتها فإن
ذلك غير سديد نقلا ونظرا، وأما النقل فلمخالفته مقتضى الحديث، وكلام
النووي، وابن عساكر، والمحب الطبري، وغيرهم، وأما النظر، فلأن أعظم ما
يمكن أن يتمسك به في ذلك كون موات الحرم يجوز إحياؤهن ومنى من الحرم،
فيملك ما أحيا فيها ويجري فيه أحكام الملك، وهذا لا يستقيم لأن في منى
أمرا زائدا يقتضي عدم إلحاقها بموات الحرم، وهو كونها متعبدا ونسكا
لعامة المسلمين، فصارت كالمساجد وغيرها من المسبلات، وما هذا شأنه لا
اختصاص فيه لأحد إلا بالسبق في النزول لا بالبناء، إذ هو ممتنع فيه،
فالبناء بمنى ممتنع حينئذ، ولا يملك، ولا يكون كغيره مما يصح تملكه،
ويجري حكم البناء بمنى على حكم البناء بعرفة لمساواتها لعرفة في السبب
الذي لأجله امتنع البناء بعرفة على الأصح، فمنى كذلك، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو محمد بن عبد الله بن ظهيرة قاضي مكة وفقيهها وناظر حرمها وأوقافها
والحسبة بها وشيخها في الفتوى والتدريس. ولد سنة 751 ومات سنة 817هـ.
"لحظ الألحاظ 253- 255، الضوء اللامع 8/ 92-95 رقم 194".
ج / 1 ص -421-
ما جاء في فضل منى وما ذكر فيها من
الآيات:
أما فضل منى فمشهور، ولم نذكره إلا للتبرك به، وقد
تقدم منه ما ذكرناه عند ذكر مسجد الخيف، ومنه ما رويناه في "صحيح ابن
حبان" وغيره من حديث عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم:
"إذا كنت بين الأخشبين من منى
-ونفخ بيده نحو المشرق-
فإن هناك واديا يقال له: وادي السرر، به سرحة سر تحتها سبعون نبيا"... انتهى باختصار.
قال المحب
الطبري بعد أن أخرج هذا الحديث: شرح قوله: سرر تحتها أي قطعت سررهم،
والسرر ما تقطعه القابلة من المولود، والباقي مع القطع يقال له السرة،
والمقطوع السَّرر والسُّرر، والمراد أنهم ولدوا تحت تلك السرحة،
والموضع الذي هي فيه يسمى وادي السرر بضم السين، وقيل بفتحها وقيل
بكسرها، والراء مفتوحة في الأحوال الثلاثة1... انتهى.
ولم يبين المحب
موضع هذا الوادي وما عرفته أنا أيضا، وأخشبا منى: الجبلان اللذان هما
بينهما، وهما ثبير الذي على يسار الذاهب إلى عرفة وما يليها، والصفائح
وهو الذي يلحقه مسجد الخيف.
وأما الآيات
التي بمنى فخمس آيات منها: رفع ما يقبل من حصى الجمار بمنى، ولولا ذلك
لسد ما بين الجبلين. وقد روينا في رفع المتقبل من ذلك أخبار، منها ما
رويناه بالسند المتقدم إلى الأزرقي قال: حدثني جدي قال: حدثنا يحيى بن
سليم عن ابن خثيم عن أبي الطفيل قال: قلت له يا أبا الطفيل هذه الجمار
ترمى في الجاهلية والإسلام كيف لا يكون هضابا يسد الطريق ؟! قال: سألت
عنها ابن عباس فقال: إن الله عز وجل وكل بها ملكا، فما يقبل منه رفع،
وما لم يتقبل منه ترك2، ورويناه في تاريخ الأزرقي في رفع ما يقبل من
حصى الجمار عن ابن عمر وأبي سعيد الخدري.
وقال المحب
الطبري في "شرح التنبيه": وقد أخبرني شيخنا أبو النعمان بشير بن أبي
بكر حامد التبريزي شيخ الحرم الشريف ومفتيه أنه شاهد ارتفاع الحجر
عيانا، واستدل المحب على صحة ذلك، وذكرنا كلامه في أصل هذا الكتاب،
وذكر هذه الآية شيخنا القاضي مجد الدين قال: وقد خمنت مرة فاقتضى قياس
العقل والحساب وعدد السنين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 القرى "ص:
540".
2 أخبار مكة
للأزرقي 2/ 176، 177.
ج / 1 ص -422-
والأعوام التي حج فيها البيت، ورميت الجمار
أن يكون المتراكم عند كل جمرة من الحصى ما يوازي مساحة خمسين ذراعا في
مثلها في وجه الأرض، ويرتفع في العلو ارتفاع جبل ثبير، ولكن لله عز وجل
فيها سر كريم من أسراره الخفيات لا إله سواه... انتهى.
ومن الآيات التي بمنى اتساعها للحجاج في أيام الحج مع ضيقها في الأعين
عن ذلك، روينا بالسند المتقدم إلى الأزرقي قال: حدثني محمد بن يحيى
قال: أخبرنا سليم بن مسلم عن عبد الله بن أبي زياد عن أبي الطفيل قال:
سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يسأل عن منى، ويقال له: عجبا لضيقه في
غير الحج، فقال ابن عباس: إن منى يتسع بأهله كما يتسع الرحم للولد1.
ومنها: كون الحدأة لا تخطف اللحم بمنى أيام التشريق.
ومنها: أن الذباب لا يقع في الطعام، وإن كان لا ينفك عنه في الغالب،
كالعسل وشبهه، ذكر هاتين الآيتين المحب الطبري مع آية الجمار، ونص
كلامه: الثانية أن الحدأة مع تولعها بخطف اللحم حيث رأته حتى لو رأت
بيد إنسان خرقة حمراء انقضت عليه حتى تخطفها منه، وفي منى اللحم مشرق
على الجدارات والأسطحة والجبال، والحدأة تحوم حوله ولا تستطيع أن ترزأ
أصحابه منه شيئا. الثالثة: أن الطعام الحلو المقتضي لاجتماع الذباب في
الأمكنة الخالية يكثر بمنى في أيام منى، ولا يقع الذباب على شيء منه،
فضلا عن غيره من الأطعمة، ولو أكل في غير هذه الأيام بمنى أو غيرها ما
يهنأ الإنسان لكثرة اجتماع الذباب عليه، هذا مما شاهدناه مكررا في
أعوام... انتهى.
ومن الآيات التي بمنى في أيام الحج: قلة البعوض بها على ما ذكر أبو
سعيد الملا في "شرف النبوة" فيما حكى عنه شيخنا القاضي مجد الدين
الشيرازي في كتابه "الوصل والمنى في فضل منى"، لأنه قال: وقال أبو سعيد
في "الوفا بشرف المصطفى" صلى الله عليه وسلم: كنت ليلا بمنى في غير
أيام الموسم وكنت ساهرا أكثر الليل أتأذى من البعوض، فلما كان من الغد
سألت بعض أهل الحرم عن البعوض فقال: جميع السنة يكون كثيرا إلا أيام
منى فإنه يقل فيها... انتهى بنصه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ذكر مقدار ما بين منى ومكة: ومنى ستة أميال، وتعقب ذلك النووي قال: إن
بينهما ثلاثة أميال، وجزم بذلك في غير موضع من كتبه2، وذكر المحب
الطبري في "القرى" أن منى من مكة على أربعة أميال3، ذكر ذلك في الترجمة
التي ذكر فيها اتساع منى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 179.
2 تهذيب الأسماء واللغات 2/ 2: 157.
3 القرى "ص: 543".
ج / 1 ص -423-
وأسماءها: وقد حررنا ذلك بالأذرع، والأميال
على مقتضى الأقوال الأربعة في مقدار الميل، فأما مقدار ما بين باب بني
شيبة ومنى بالأذرع فإنه ثلاثة عشر ألف ذراع وثلاثمائة وذراع وثمانية
وستون ذراعا، يكون ذلك أميالا على القول بأن الميل ثلاثة آلاف ذراع
وخمسمائة ذراع: ثلاثة أميال وأربعة أخماس ميل وخمس عشر ميل ينقص
ذراعين.
وما مقدار ما بين باب المعلاة وحد منى من جهة مكة، فهو أحد عشر ألف
ذراع ومائة ذراع، وأحد وأربعون ذراعا وسبع ذراع، يكون ذلك أميالا على
القول بأن الميل ثلاثة آلاف ذراع، وخمسمائة ذراع: ثلاثة أميال وخمس ميل
وخمس خمس عشر ميل، يزيد ذراعا وسبع ذراع. وقد ذكرنا في أصل هذا الكتاب
مقدار ما بين باب بني شيبة ومنى، وما بين باب المعلاة ومنى بالأميال
على مقتضى الأقوال الأربعة في مقدار الميل.
الخامس والعشرون: الميلان الأخضران اللذان يهرول الساعي بينهما في سعيه
بين الصفا والمروة: هما العلمان اللذان أحدهما: بركن المسجد الذي فيه
المنارة التي يقال لها: منارة باب علي، والآخر: في جدار المسجد الذي
يقال له: باب العباس، والعلمان المقابلان لهذين العلمين: أحدهما في دار
عباد بن جعفر، ويعرف اليوم بسلمة بنت عقيل، والآخر في دار العباس،
ويقال لها اليوم: رباط العباس، ويسرع الساعي إذا توجه من الصفا إلى
المروة إذا صار بينه وبين العلم الأخضر الذي بالمنارة المشار إليها،
والمحاذي له نحو ستة أذرع، على ما ذكر صاحب "التنبيه" وغيره، قال المحب
الطبري في شرحه للتنبيه: وذلك لأنه أول محل الأنصاب في بطن الوادي، قال
المحب الطبري في شرحه للتنبيه: وذلك لأنه أول محل الأنصاب في بطن
الوادي، وكان ذلك الميل موضوعا على بناء، ثم على الأرض في الموضع الذي
شرع منه ابتداء السعي، وكان السيل يهدمه ويحطمه، فرفعوه إلى أعلى ركن
المسجد، ولم يجدوا على السنين أقرب من ذلك الركن، فوقع متأخرا عن محل
ابتداء السعي بستة أذرع... انتهى.
وذكر سليمان بن خليل نحو ذلك بالمعنى، وسبقهما إلى نحو ذلك إمام
الحرمين أبو المعالي الجويني رحمه الله ولم يذكر الأزرقي سبب هذا
التغيير مع كونه ذكر أن بالمنارة المشار إليها علم السعي، وهذا يقتضي
أن يكون التغيير المشار إليه وقع في عصره أو قبله، ويبعد أن يكون
لتغيير ذلك سبب، ولا يذكره الأزرقي، كما يبعد خفاء سبب ذلك عليه، إلا
أنه كثير العناية بهذا الشأن، والله أعلم.
ومقتضى ما ذكره من إسراع الآتي من الصفا إلى المروة قبل هذا العلم بنحو
ستة أذرع، أن الساعي إذا قصد الصفا من المروة لا يزال يهرول حتى يجاوز
هذين العلمين بنحو ستة أذرع، لأجل العلة التي شرع لأجلها الإسراع في
التوجه إلى المروة، والله أعلم.
ج / 1 ص -424-
وذكر الأزرقي صفة هذه الأعلام: وأن ذرع ما
بين العلم الذي على باب المسجد إلى العلم الذي بحذائه على باب دار
العباس رضي الله عنه عرض المسعى: خمسة وثلاثون ذراعا ونصف، وقال: من
العلم الذي على باب دار العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه إلى العلم
الذي عند دار ابن عباد الذي بحذاء العلم الذي في حد المنارة وبينهما
الوادي: مائة ذراع وأحد وعشرون ذراعا1.
يعني طول ما بين هذين العلمين لا عرض ما بينهما، وقد حررنا مقدار ما
بين هذه الأعلام طولا وعرضا، وذلك أن من العلم الذي في حد باب المسجد
الحرام المعروف بباب العباس عند المدرسة الأفضلية إلى العلم الذي
يقابله في الدار المعروفة بدار العباس: ثمانية وعشرون ذراعا إلا ربع
ذراع بذراع الحديد، يكون ذلك بذراع اليد إحدى وثلاثين ذراعا وخمسة
أسباع ذراع، وذلك ينقص عما ذكره الأزرقي في مقدار هذين العلمين.
ومن العلم الذي بالمنارة المعروفة بمنارة باب علي إلى الميل المقابل له
في الدار المعروفة بدار سلمة: أربعة وثلاثون ذراعا ونصف ذراع وقيراطان،
بذراع الحديد، يكون ذلك بذراع اليد سبعة -بتقديم السين- وثلاثين ذراعا
ونصف ذراع وسدس سبع ذراع، ومن العلم الذي بباب المسجد المعروف بباب
العباس إلى العلم الذي بمنارة باب علي: مائة ذراع وثلاثة أذرع وربع
ذراع بذراع الحديد، يكون ذلك باليد مائة ذراع: وثمانية عشر ذراعا. ومن
الميل الذي بدار العباس إلى الميل الذي بالدار المعروفة الآن بدار سلمة
ستة وتسعون ذراعا -بتقديم التاء- وثلث ذراع بالحديد، يكون ذلك باليد
مائة ذراع وعشرة أذرع وثلثي سبع ذراع1.
وذكر الأزرقي أن من العلم الذي على باب المسجد إلى المروة خمسمائة ذراع
ونصف ذراع.
وقد حررنا مقدار ما بين العلم المشار إليه والأزج الذي بالمروة، فكان
ذلك أربعمائة ذراع واثنين وتسعين ذراعا -بتقديم التاء- وثلث ذراع بذراع
اليد، وحررنا ما بين العلم الذي بالمنارة ووسط عقد الصفا، فكان من سمت
الميل الذي بالمنارة إلى عقود الصفا: مائة ذراع وستين ذراعا بذراع
اليد.
وذكر الأزرقي ما يقتضي أن موضع السعي فيما بين الميل الذي بالمنارة
والميل المقابل له لم يكن مسعى إلا في خلافة المهدي العباسي بتغيير
موضع السعي قبله في هذه الجهة، وإدخاله في المسجد الحرام في توسعة
المهدي له ثانيا، لأنه قال: حدثني
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 119.
ج / 1 ص -425-
جدي قال: لما بنى المهدي المسجد الحرام،
وزاد فيه الزيادة الأولى: اتسع أعلاه وأسفله وشقه الذي يلى دار الندوة
والشامي، وضاق شقه اليماني الذي يلي الوادي والصفا، فكانت الكعبة في شق
المسجد، وذلك أن الوادي كان داخلا لاصقا بالمسجد في بطن المسجد اليوم،
قال: وكانت الدور وبيوت الناس من ورائه في موضع الوادي اليوم، إنما كان
موضعه دور الناس وإنما كان ذلك من المسجد إلى الصفا في بطن الوادي، ثم
يسلك في زقاق ضيق، حتى يخرج إلى الصفا من التفات البيوت فيما بين
الوادي والصفا. وكان السعي في موضع المسجد الحرام اليوم، وكان باب دار
محمد بن عباد بن جعفر عند جدار ركن المسجد الحرام اليوم، عند موضع
المنارة الشارعة في بحر الوادي، فيها علم المسعى، وكان الوادي يمر
دونها في موضع المسجد الحرام اليوم.
ثم قال الأزرقي بعد أن ذكر شيئا يتعلق بالزيادة، في هذا الجانب:
فابتدءوا عمل ذلك في سنة سبع وستين ومائة، واشتروا الدور وهدموها،
فهدموا أكثر دار ابن عباد بن جعفر العائذي، وجعلوا المسعى والوادي
فيها1... انتهى.
والظاهر والله أعلم أن إجراء المسعى بموضع السعي اليوم، وإن كان تغير
بعضه عن موضع المسعى قبله لتوالي الناس من العلماء وغيرهم على السعي
بموضع المسعى اليوم، ولا خفاء في تواليهم على ذلك، كما لا خفاء في شهرة
كتاب الأزرقي شرقا وغربا، وإحاطة العلماء المتأخرين بما فيه، سيما
علماء الحرم، ولو سلم أن من تأخر عن الأزرقي لم يعلموا بما في كتابه،
فهو معروف عند علماء الحرم وغيرهم ممن وقع ذلك التغيير في زمنهم
لمشاهدتهم له، وما حفظ عن أحد منهم إنكار لذلك، ولا أنه سعى في غير
المسعى اليوم، وحال من بعد هؤلاء العلماء كحالهم، إلا في عدم مشاهدتهم
لتغيير ذلك، فيكون إجزاء السعي بمحل المسعى اليوم مجمعا عليه عند من
وقع التغيير في زمنهم وعند من بعدهم. والله أعلم.
السادس والعشرون: نمرة، الموضع الذي يؤمر الحاج بنزوله إذا توجه من منى
في يوم عرفة، وهو بطن عرنة، بالنون، على ما ذكره ابن خليل في منسكه.
وقال المحب الطبري في "القرى": ونمرة بفتح النون وكسر الميم وبراء
مهملة، موضع بعرفة، وهو الجبل الذي عليه أنصاب الحرم على يمين الخارج
من المأزمين،أي الموقف، وقد كانت عائشة تنزل بها، ثم تحولت إلى الأراك،
قاله ابن المنذر2.
وقال في "شرح التنبيه": ونمرة، بفتح النون وكسر الميم، موضع عند الجبل
الذي عليه أنصاب الحرم على يمينك إذا خرجت من مأزمي عرفة تريد الوقوف،
وتحت جبل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 78- 80.
2 القرى "ص: 147".
ج / 1 ص -426-
نمرة غار أربعة أذرع أو خمسة، ذكروا أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان ينزله يوم عرفة حتى يروح إلى الموقف، ومن
الغار إلى مسجد عرفة ألفا ذراع وأحد عشر ذراعا.
وقال البغوي وغيره: وهي موضع قريب من عرفة.
وقال ابن الصباغ: هي من عرفة، والمشهور أنها ليست منها، وعليه
الأكثر... انتهى.
وقال النووي: ونمرة موضع معروف بقرب عرفات، خارج الحرم بين طرف الحرم
وطرف عرفات، وقال: وهو بفتح النون وكسر الميم1. ويجوز إسكان الميم مع
فتح النون وكسرها، فتبقى ثلاثة أوجه في نظائرها... انتهى.
وقيل: إن نمرة هذه من الحرم، روي عن سفيان بن عيينة، حكاه عن الماوردي
في حاويه، على ما ذكر المحب الطبري في "القرى"، لأنه قال: وذكر
الماوردي في كتابه "الحاوي" عن سفيان بن عيينة، أن قريشا كانوا لا
يخرجون من الحرم في يوم عرفة، ويقفون بنمرة دون عرفة في الحرام2...
انتهى باختصار، ذكر ذلك المحب الطبري في كتابه "القرى" في الباب
العاشر، وقال بعد أن حكى عن سفيان بن عيينة ما ذكرناه، ثم قوله: إن
نمرة من الحرم فيه نظر، وكلام الجمهور يدل أنها ليست منه3... انتهى.
وذكر الأزرقي ما يوافق ما ذكره سفيان في نمرة، لأنه روى عن ابن عباس
خبرا فيه ذكر الحمس وشيء من خبرهم، وفيه: يقصرون عن مناسك الحج،
والموقف من عرفة، وهو من المحل، فلم يكونوا يقفون به ولا يفيضون منه،
وجعلوا موقفهم في طرف الحرم من نمرة بمفضى المأزمين، يقفون به عشية
عرفة، ويظلون به يوم عرفة في الأراك من نمرة... انتهى.
ونمرة أيضا: موضع آخر بقديد، ذكره المحب في "القرى"... انتهى، والله
أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تهذيب الأسماء واللغات 2/ 2: 177.
2 القرى "ص: 147".
3 أخبار مكة 1/ 180، 181. |