شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام
ج / 2 ص -48-
الباب الثلاثون:
في ذكره من ولي إنساء الشهور
من العرب بمكة:
قال الأزرقي: فيما رويناه عنه بالسند المتقدم: حدثني جدي، قال: حدثنا
سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج، عن محمد بن إسحاق، عن الكلبي، فيما
رواه عن أبي صالح مولى أم هانئ، عن ابن عباس -رضي الله عنه- فذكر شيئا
من خبر الحلة والحمس، ثم قال ابن إسحاق: قال الكلبي: فكان أول من أنسا
الشهور من مضر: مالك بن كنانة؛ وذلك أن مالك بن كنانة نكح إلى معاوية
بن ثور الكندي، وهو يومئذ في كندة، وكانت النساءة قبل ذلك في كندة؛
لأنهم كانوا قبل ذلك ملوك العرب من ربيعة ومضر، وكانت كندة من أرداف،
المقاول فنسا ثعلبة بن مالك، ثم نسأ بعده الحارث بن مالك بن كنانة، وهو
القلمس، ثم نسأ بعد القلمس ابنه مرة بن القلمس، ثم كانت النساءة في بني
فقيم من بني ثعلبة، حتى جاء الإسلام.
وكان آخر من نسأ منهم: أبو ثمامة جنادة بن عوف بن أمية بن عبد بن فقيم،
وهو الذي جاء في زمن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى الركن الأسود؛
فلما رأى الناس يزدحمون عليه، قال: أيها الناس أنا له جار فأخروا،
فخفقه عمر -رضي الله عنه- بالدرة، ثم قال: أيها الجلف الجافي قد أذهب
الله تعالى عزك بالإسلام. فكل هؤلاء قد نسأ في الجاهلية1... انتهى.
وكلام ابن إسحاق في سيرته، تهذيب ابن هشام، يقتضي أن أول من أنسأ
الشهور غير مالك بن كنانة؛ لأنه قال: كان أول من أنسأ الشهور على العرب
فأحل منها ما أحل، وحرم منها ما حرم: القلمس؛ وهو حذيفة بن عبد بن فقيم
بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة، ثم قام
بعده على ذلك: ابنه عباد بن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 182، 183.
ج / 2 ص -49-
حذيفة، ثم قام بعد عباد قلع بن عباد، ثم
قام من بعد قلع: أمية بن قلع، ثم قام بعد أمية: عوف بن أمية، ثم قام
بعد عوف بن أمية: أبو ثمامة؛ جنادة بن عوف، وكان آخرهم وعليه قام
الإسلام1... انتهى.
وذكر الفاكهي ما يقتضي: أن أول من أنسأ غير مالك بن كنانة وغير القلمس؛
لأنه قال: بعد أن روي خبرا في المعنى عن محمد بن السائب الكلبي -ويقال:
إن أول من أنسا الشهور: عدي بن زيد بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك
بن كنانة، ثم كان بعد عدي: حذيفة بن عبد فقيم، ثم كان بعده عباد بن
حذيفة، كان قلع بن عباد، ثم كان أمية بن قلع، ثم عوف بن أمية، ثم جنادة
بن عوف، وقد أدركه الإسلام فيما يقال، وكان أبعدهم ذكرا وأطولهم أمدا،
يقال: إنه أنسا أربعين سنة -والله أعلم- أكان ذلك- أم لا، أم أقل، أم
أكثر؟... انتهى.
فهذه ثلاثة أقوال في أول من أنسأ الشهور2 والله أعلم بالصواب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيرة ابن هشام 1/ 63.
2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 205، 206.
ذكره صفة الإنساء:
روينا عن الأزرقي بسنده إلى ابن إسحاق عن الكلبي في الخبر الذي فيه ما
سبق ذكره في أول من أنسأ الشهور، قال: والذي ينسأ لهم إذا أرادوا ألا
يحلوا المحرم، قاموا بفناء الكعبة يوم الصدر؛ فقال: أيها الناس، لا
تحلوا حرماتكم، وعظموا شعائركم، فإني أجاب ولا أعاب1 لقول قلته؛ فهنالك
يحرمون المحرم ذلك العام.
وكان أهل الجاهلية يسمون المحرم: صفرا الأول، وصفرا: صفرا2 الآخر،
ويقولون: صفران، وشهرا ربيع، وجمالديان، ورجب وشعبان ورمضان، وشوال،
وذو القعدة، وذو الحجة.
فكان ينسأ الإنسان سنة، ويترك سنة، ليحلوا الشهور المحرمة، ويحرموا
الشهور التي ليست بمحرمة، وكان ذلك من فعل إبليس، ألقاه على ألسنتهم،
فرأوه حسنا.
فإذا كانت السنة التي ينسأ فيها، يقوم ليخطب بفناء الكعبة ، ويجتمع
الناس إليه يوم الصدر؛ فيقول: أيها الناس قد أنسأت العام صفر الأول
-يعني المحرم- فيطرحونه من الشهور، ولا يعتدون به، ويبتدئون العدة
فيقولون: لصفر وشهر ربيع الأول: صفران، ويقولون لشهر ربيع الآخر
ولجمادى الأولى: شهرا ربيع، ويقولون لجمادى الآخر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عند الأزرقي في أخبار مكة 1/ 183: "ولا يعاب".
2 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 183: "وشهرا ربيع".
ج / 2 ص -50-
ورجب: جمادين. ويقولن لشعبان: رجب، ولشهر
رمضان: شعبان، ويقولون لشوال: رمضان، ولذي القعدة شوال، ولذي الحجة: ذو
القعدة، ولصفر الأول -وهو المحرم الشهر الذي أنسأه- ذو الحجة، فيحجون
تلك السنة في المحرم، ويبطل من هذه السنة شهرا ينسئه.
ثم يخطبهم في السنة الثانية في وجه الكعبة أيضا، فيقول: أيها الناس لا
تحلوا حرماتكم، وعظموا شعائركم، فإني أجاب ولا أعاب، ولا يعاد لي قول
قلته1. اللهم إني قد أحللت دماء المحلين: طيء وخثعم في الأشهر الحرم.
وإنما أحل دماءهم لأنهم كانوا يعدون على الناس في الأشهر الحرم من بين
العرب، فيعزونهم ويطلبون بثأرهم ولا يعفون عن حرمات الأشهر الحرم كما
يفعل غيرهم من العرب، وكان سائر العرب من الحلة والحمس لا يعدون في
الأشهر الحرم على أحد، ولو لقي أحدهم قاتل أبيه أو أخيه، ولا يستاقون
مالا إعظاما للشهور الحرم، إلا خثعم وطيء فإنهم كانوا يغزون في الأشهر
الحرم، فهنالك يحرمون من تلك السنة الشهر المحرم، وهو: صفر الأول، ثم
يعدون الشهور على عدتهم التي عدوها في العام الأول، فيحجون في كل شهر
حجتين.
ثم ينسأ في السنة الثانية، فينسأ صفر الأول في عدتهم هذه، وهو: الصفر
الآخر في العدة المستقيمة؛ حتى تكون حجتهم في صفر أيضا2، وكذلك الشهور
كلها، حتى يستدير الحج في كل أربع وعشرين سنة إلى المحرم الذي ابتدأوا
منه الإنساء، ويحجون في الشهور كلها في كل شهر حجتين؛ فلما جاء الله
-عز وجل- بالإسلام أنزل الله -عز وجل- في كتابه:
{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي
الْكُفْرِ} [التوبة: 37] الآية... انتهى باختصار3.
وقال السهيلي: وأما نسأهم الشهر الحرام؛ فكان على ضربين، أحدهما: ما
ذكره ابن إسحاق من تأخير شهر المحرم إلى صفر، لحاجتهم إلى شن الغارات
وطلب الثارات.
والثاني: تأخيرهم الحج عن وقته تحريا منهم للسنة الشمسية؛ فكانوا
يؤخرونه في كل عام أحد عشر يوما، أو أكثر قليلا، حتى يدور الدور إلى
ثلاث وثلاثين سنة، فيعود إلى وقته، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام:
"إن الزمان قد استدار
كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض"4.
وكانت حجة الوداع في السنة التي عاد فيها الحج إلى وقته، ولم يحج رسول
الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة غير تلك الحجة التي تسمي
حجة الوداع؛ وذلك لإخراج الكفار الحج عن وقته، ولطوافهم بالبيت عراة،
والله أعلم؛ إذ كانت مكة بحكمهم حتى فتحها الله على نبيه... انتهى5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 183: "ولا يعاب لقول قلته".
2 عند الأزرقي 1/ 185: إضافة "حجتين".
3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 183-185.
4 أخرجه البخاري "4662"، مسلم "القسامة بباب تغليظ تحريم الدماء
والأموال 5/ 107".
5 الروض الأنف 1/ 64.
ج / 2 ص -51-
ذكر
الحمس1
والحلة2:
قد ذكر خبرهم غير واحد من أهل الأخبار، منهم
الزبير بن بكار؛ لأنه قال: وحدثني إبراهيم بن المنذر عن عبد العزيز بن
عمران قال: الحمس: قريش، وكنانة، وكلاب وعامر، ولدتهم مجد بنت تيم بن
غالب، وكانوا حمسا؛ وإنما سمي الحمس بالكعبة، لأنها حمساء، حجرها أبيض
يضرب إلى السواد.
قال: وكانت لهم سيرة، وكانوا لا يأتقطون إقطا، ولا يسلون سمنا3، ولا
يبيعون جرارا، ولا يقفون إلا بالمزدلفة، ولا يطوفون بالبيت عراة، ولا
يسكنون في بيوت الشعر.
وقال غيره: كانوا يعظمون الشهور الحرم، ويتعاطون الحقوق، ويزعون عن
المظالم، وينصفون المظلوم.
وحدثني محمد بن فضالة، عن مبشر بن حفص، عن مجاهد قال: الحمس: قريش،
وبنو عامر بن صعصعة، وثقيف، وخزاعة، ومدلج، وعدوان، والحارث بن عبد
مناة، وعضل أتباع قريش، وسائر العرب الحلة.
وحدثني محمد بن حسن، عن محمد بن طلحة، عن موسى بن محمد، عن أبيه، قال:
لم يكن التحمس بحلف؛ ولكنه دين شرعته قريش واجتمعوا عليه.
وكانت الحلة لا تطوف في حجها إلا في ثياب جدد، أو ثياب أهل الله، سكان
الحرم، ويكرهون أن يطوفون في ثياب عملت فيها المعاصي؛ فمن لم يجد طاف
عريانا، ومن طاف من الحلة في ثيابه ألقاها إذا فرغ، فلم ينتفع بهغا ولا
غيره حتى تبلى.
قال: وكانت الحمس تطوف في ثيابها، وكانت الحلة تخرج إلى عرفات وتراها
موقفا ومنسكا، وكان موقفها بالعشي دون الأنصاب، ومن آخر الليل مع الناس
يقزح،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عرف السهيلي الحمس بقوله: التحمس، التشدد. "الروض الأنف 1/ 229".
2 الحلة هم ما عدا الحمس. "الروض الأنف 1/ 23".
3 في الروض 1/ 229: لا يسلئون السمن، وسلأ السمن أن يطبخ حتى يصير
سمنا.
ج / 2 ص -52-
وكان بعض أهل الحلة لا يرى الصفا والمروة1،
وبعضهم يراها، وكان الذين يرونها: خندف، وكان سائر الحلة لا يرونها.
فلما جاء الله بالإسلام أمر الحمس أن يقفوا مع الحلة بعرفة، وأن يفيضوا
من حيث أفاض الناس منها مع الحلة، وأمر الحلة أن يطوفوا بين الصفا
والمروة، وقال: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ
الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ
بِهِمَا} [البقرة: 158]؛ وذلك أن ناسا قالوا: ما كان أهل الجاهلية ممن يطوف
بهما، لا يطاف إلا لإساف ونائلة -وكان إساف على الصفا، ونائلة على
المروة- فأعلمهم الله -عز وجل- أنهما مشعران... انتهى.
وقد ذكر من العرب في الحمس غير من لم يذكره عبد العزيز بن عمران
ومجاهد؛ لأن الأزرقي قال: حدثنا جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم، عن عثمان
بن ساج، عن محمد بن إسحاق عن الكلبي، عن أبي صالح -مولى أم هانئ- عن
ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كانت العرب على ديني: حلة وحمس؛ فالحمس
قريش وكل من ولدت من العرب، وكنانة، وخزاعة، والأوس، والخزرج، وخثعم،
وبنو ربيعة بن عامر بن صعصعة، وأزد شنوءة، وجذم، وزبيد، وبنو ذكوان من
بين سليم، وعمرو اللات، وثقيف، وغطفان، والغوث، وعدوان، وعلاف
قضاعة2... انتهى.
وغالب المذكورين، في هذا الخير لم يذكروا في الخبرين اللذين ذكرهما
الزبير عن عبد العزيز بن عمران، ومجاهدا؛ في بيان الحمس، وهم: الأوس،
والخزرج، وجشم، وأزد شنوءة، وجذم، وزبيد، وبنو ذكوان، وغطفان، والغوث،
وعلاف قضاعة -وما عرفت علاف قضاعة- وعمرو اللات ومكا عرفته أيضا.
وجشم المشار إليهم في هذا الخير: المنسوبون إلى جشم بن معاوية بن بكر
بن هوزان بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس عيلان، أو إلى جشم بن سعد
بن زيد إلى جشم بن الخزرج من الأنصار؛ لكون جشم بن الخزرج يدخلون في
الخزرج المذكورين في هذا الخبر، والله أعلم.
وليس كل من ذكر فيه ممن لم يذكر في الخبر الذي ذكره عبد العزيز بن
عمران ومجاهد في بيان الحمس، يدخل فيمن عد في قريش، ممن ولدته قريش؛
لأن قريشا لم تلد هذه القبائل كلها، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي لا يرى وجوب الطواف والسعي بينهما.
2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 179.
ج / 2 ص -53-
وفي الخبر الذي ذكره الأزرقي في بيان الحمس، ما يقتضي أن سبب تسميتهم
الحمس لشدتهم في دجينهم؛ لأن فيه: وإنما سميت الحمس حمسا للتشديد في
دينهم، والأحمسي في لغتهم: المشدد في دينه1... انتهى.
وهذا يخالف ما ذكره عبد العزيز بن عمران في تسمية الحمس؛ لأنه قال في
الخبر السابق عنه من كتاب الزبير: وإنما سموا الحمس بالكعبة؛ لأنها
حمساء، حجرها أبيض يضرب إلى السواد... انتهى.
وذكره الأزرقي في خبر عن ابن جريج فيه ما يوافق الخبر السابق في سبب
تسمية الحمس؛ لأن فيه: والأحمسي: المشدد فيدينه، وهذا الخبر ذكره
الأزرقي في الترجمة التي ترجم عليها بقوله: "ما جاء في فتح الكعبة، ومن
كانوا يفتحونها"، وهي قبل الترجمة2 التي فيها الخبر السابق في بيان
الحمس، وسبب تسميتهم.
وقيل في سبب تسميتهم بالحمس غير ما سبق، وهو: أنهم سموا حمسا لشجاعتهم
والحماسة الشجاعة. وذكر هذا الخبر المحب الطبري في "القرى" مع القولين
السابقين في سبب تسميتهم في الباب الثامن عشر، من "القرى لقاصد أم
القرى"3، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وفي الخبر الذي فيه بيان
الحمس من حالهم غير ما ذكره الزبير من حالهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 181.
2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 175.
3 القرى لقاصد أم القرى "ص: 381".
ذكر الطلس:
هم طائفة من العرب تطوف بالبيت على صفة تختص بها، ذكرهم السهيلي بعد أن
ذكر شيئا من خبر الحمس والحلة؛ لأنه قال: ولم يذكر -يعني ابن إسحاق-
الطلس من العرب، وهم صنف ثالث غير الحلة والحمس، وكانوا يأتون من أقصى
اليمن طلسا من الغبار؛ فيطوفون بالبيت في تلك الثياب الطلس، فسموا
بذلك. ذكره محمد بن حبيب1... انتهى.
والطلس: لقب لجماعة من أعيان السلف؛ لكونهم لا شعر في وجوههم، منهم:
أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير الأسدي -رضي الله عنهما- وشريح بن
الحارث القاضي، قاضي الكوفة ستين سنة أو أزيد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المحبر ص: 179-181. |