شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام
ج / 2 ص -54-
الباب الحادي والثلاثون:
ذكر نسبهم:
أما نسبهم فاختلف فيه؛ فقيل: إنهم من عدنان، من
ولد قمعة بن إلياس بن كنانة، وذكر هذا القول ابن قتيبة فيما نقله عنه
القطب الحلبي. ونص كلامه: قال ابن قتيبة: وأما النضر بن مالك، فهو: أبو
مالك بن النضر، فهو أبوها كلها1... انتهى.
وليس كل خزاعة -على هذه المقالة- من ولد الصلت؛ وإنما بعضهم من ولده؛
لأن ابن إسحاق قال في "سيرته": والذين يعزون إلى الصلت بن النضر بن
خزاعة: فبنو مليح بن عمرو، رهط كثير عزة. وأنشد ابن إسحاق في ذلك شعرا،
وقيل: أنهم من قحطان. والقول الأول ينسب لنساب مضر؛ لأن ابن إسحاق قال
في سيرته: وأما قمعة فيزعم نساب مضر أن خزاعة من ولد عمرو بن لحي بن
قمعة بن إلياس... انتهى.
ونقل ابن عبد البر عن ابن إسحاق قال: وخزاعة قال: نحن بنو عمرو بن عامر
من اليمن.
قال ابن هشام: وتقول خزاعة: نحن بنو عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن
عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأسد بن الغوث،
وخندف أمنا،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المعارف لابن قتيبة "ص: 67".
ج / 2 ص -55-
وإنما سميت خزاعة؛ لأنهم تخزعوا من ولد
عمرو بن عامر، حين أقبلوا من اليمن يريدون الشام، فنزلوا بمر1 الظهران،
فأقاموا بها... انتهى.
وممن ذكر أن خزاعة من قحطان: أبو عبيدة -معمر بن المثنى-؛ لأنه قال
فيما نقله عن الزبير بن بكار: فلما لم تتناه جرهم عن بغيهم، وتفرق
أولاد عمرو بن عامر من اليمن، لانخزع بنو حارثة بن عمرو بن عهامر،
فأوطنوا تهامة2. وسميت خزاعة، خزاعة كعب، وفتح، وسعد، وعوف وعدي، بنو
عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر، وأسلم وملكان ابنا قصي بن
حارثة بنعمرو بن عامر... انتهى.
وقال ابن الكلبي: عمرو بن لحي هو أبو خزاعة كلها، منه تفرقت، وذكر أن
لحيا هو ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن
ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن النبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن
سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
وقال ابن الكلبي: فولد عمرو بن ربيعة -يعني عمرو بن لحي- كعبا بطن،
وملحا بطن وعهديان بطن، وعوفا، وسعدا، وكل من ولد ربيعة بن حارثة فهم
خزاعة؛ وإنما قيل لهم: خزاعة؛ لأنهم تخزعوا من ولد عمرو بن عامر،
تخلفوا عنهم وفارقوهم، وكذلك يقال أيضا لبني أقصى بن حارثة؛ لأنهم
تخزعوا من ولد مازن بن الأزد في إقبالهم من اليمن، ثم تفرقوا في
البلدان، وفي خزاعة بطون كثيرة.
وقال محمد بن عبدة بن سليمان -النسابة-: افترقت خزاعة على أربعة شعوب:
فالشعب الأول: ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر الأشتر بن ربيعة بن
حارثة، وهم بنو جفنة، ويقال: جفينة؛ الذين بالشام من غسان.
والشعب الثاني: أسلم بن أقصى.
والشعب الثالث: ملكان.
والشعب الرابع: مالك بن أقصى بن حارثة بن عمرو بن عامر.
وقال: وإنما قيل لهم خزاعة: لأنها تخزعت عن عظم الأزد، والانخزاع:
التقاعس والتخلف -فأقامت بمر الظهران، بجنبان الحرم، وولوا حجابة البيت
دهرا.
وما نقلناه عن أبي عبيدة وابن الكلبي، نقله عنهما ابن عبد البر في كتاب
له في الأنساب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو وادي فاطمة كما يسميه الحجازيون اليوم.
2 تهامة كل ما كان منخفضا من الأرض، ويطلق هذا الاسم على كل البلاد
الحجازيون الواقعة على سيف البحر، وتمتد إلى سفوح جبال السراة، وهي
بكسر التاء.
ج / 2 ص -56-
وقد ظهر بذلك، ومما ذكرناه عن أبي عبيدة وابن هشام: أن حزاعة -على
القول بأنهم من قحطان- من ولد حارثة بن عمرو بن عامر؛ وذلك يرد ما ذكره
السهيلي في "الروض الأنف"1؛ لأنه ذكر في غير موضع من كتابه هذا ما
يقتضي أن خزاعة من ولد حارثة بن عامر، لأنه قال: وأسلم إخوة خزاعة، وهو
بنو حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر، ذكر ذلك لما تكلم على الحديث الذي
احتج به على أن قحطان من ذلك لقوم من عدنان. وهو قوله عليه السلام:
"ارموا يا بنى إسماعيل، فإن أباكم كان راميا"،
حين قال ذلك لقوم من أسلم بن أقصى، رآهم النبي صلى الله عليه وسلم
يرمون.
قال السهيلي أيضا: لما تكلم عن حديث عمرو بن لحي: وقد تقدم في نسب
خزاعة وأسلم أنهما ابنا حارثة بن ثعلبة1... انتهى.
وقد وافق السهيلي على ما ذكره في خزاعة صاحب "الاكتفاء" الحافظ أبو
الربيع سليمان بن سالم الكلاعي.
وقد ذكر ابن حزم في "الجمهرة" ما يخالف ما ذكره السهيلي في ثعلبة؛ لأنه
قال لما ذكر أولاد عمرو بن عامر: وثعلبة العيفاء بن عمرو من ولده الأوس
والخزرج2... انتهى.
وابن حزم أقعد من السهيلي بالأنساب؛ لأنه ممن يعول عليه فيها، كيف وفي
كلام غيره من أئمة النسب ما يقتضي أن جد خزاعة -على القول بأنهم من
قحطان- حارثة بن عمرو لا ثعلبة بن عمرو؟
وذكر السهيلي -رحمه الله- وجها في الجمع بين قول من قال: إن خزاعة من
مضر، وبين قول من قال: إنهم من قحطان؛ لأنه قال: وقول النبي صلى الله
عليه وسلم لأسلم:
"ارموا يا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميا" وهو معارض بحديث أكثم بن أبي الجون في الظاهر؛ إلا أن بعض النسب
ذكر أن عمرو بن لحي كان حارثة قد خلف على أمهم بعد أن تأيمت من قمعة،
ولحي صغير، ولحي هو: ربيعة، فتبناه حارثة، وانتسب إليه، فيكون النسب
صحيحا بالوجهين جميعا، إلى حارثة بالتبني، وإلى قمعة بالولادة.
وكذلك أسلم بن أقصى بن حارثة، فإنه أخو خزاعة، والقول فيه كالقول في
خزاعة، وقيل في أسلم بن أقصى بن حارثة: إنه من بني أبي حارثة بن عامر،
لا من بني حارثة... انتهى.
وهذا الجمع يتجه إن كان المتزوج لأم لحي: حارثة بن عمرو بن عامر، لا
حارثة بن ثعلبة بن عمرو، لما سبق في ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الروض الأنف 1/ 19.
2 جمهرة أنساب العرب "ص: 332".
ج / 2 ص -57-
وقد بين ابن حزم نسب خزاعة على القول بأنهم
من مضر، وبين الحجة على ذلك؛ فنذكر ما ذكره لما في ذلك من الفائدة.
فأما ما احتج به ابن حزم على أن خزاعة من مضر فهو حديث أبي هريرة -رضي
الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار، وكان أول من سيتب السوائب"1.
وحديث أبو هريرة -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"عمرو بن لحي بن فمعة بن خندف أبو خزاعة"، وقال ابن حزم: ليس هذا
مخالفا لما قبله؛ إذ قد ينسبه إلى والده جده نسبة إضافة، كما قال النبي
صلى الله عليه وسلم:
"أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب"2، وحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف، أبا بني كعب هؤلاء يجر قصبه في
النار".
وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "عرضت على النار؛ فرأيت فيها عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في
النار، وهو أول من غير دين إبراهيم عليه السلام، أشبه من رأيت به أكثم
بن أبي الجون"، فقال أكثم: أيضرني شبهه يا رسول الله؟
قال صلى الله عليه وسلم
"لا لأنه كافر، وأنت مسلم".
وحديث سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه
وسلم على قوم من أسلم يتناضلون بالسوق، فقال:
"ارموا بني إسماعيل؛ فإن
أباكم كان راميا".
وهذه الأحاديث كلها في الصحيحين, وأخرج ابن حزم منها الأول والثاني
والخامس من صحيح البخاري، وأخرج الثالث من "صحيح مسلم" بسنده، وأخرج
الرابع من طريق الدارقطني عن المحاملي.
وقال ابن حزم: وأما الحديث الأول، والثالث، والرابع؛ ففي غاية الصحة
والثبات، وأما الثاني ففيه إسرائيل، ولكن في الأحاديث حجة قاطعة
وكفاية، ولا يجوز تعدي القول بما فيها، فخزاعة من ولد قمعة بن إلياس بن
مضر بلا شك، وليس لأحد مع مثل هذا الكلام القول بما فيه؛ فخزاعة من
ولد قمعة بن إلياس بن مضر؟ وأسلم إخوة خزاعة بلا شك عند أحد من
النسابين، وقال: فولد قمعة بن إلياس: عامر بن قمعة، فولد عامر بن قمعة:
أقصى وربيعة، وهو: لحي بن3 عامر بن قمعة، فولد لحي بن عامر بن قمعة:
عامر بن لحي، فولد عامر بن لحي: عمرو بن لحي. وهو:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جمهرة أنساب العرب "ص: 233".
2 الحديث أخرجه: البخاري 4/ 37، مسلم "الجهاد: 78، وأبو داود: 478،
والترمذي: 1688، وأحمد: 1/ 264".
3 في جمهرة أنساب العرب "ص: 233": "ابنا".
ج / 2 ص -58-
عمرو بن لحي، نسب إلى جده، وهو أول من غير
دين إبراهيم1 وإسماعيل -عليهما السلام، ودعا العرب إلى عبادة الأوثان،
وولد عمرو بن عامر بن لحي كعبا بطن، ومليحا بطن. وعوفا بطن. وأمهم
أسدية. وعديا بطن، أمه أيضا أسدية، وسعدا أمه خارجة البلخية، التي يقال
لها: أسرع من نكاح أم خارجة2... انتهى.
وإذا تقرر أن خزاعة من مضر؛ فلا يظهر تسميتها بخزاعة معنى، وإذا كانوا
من قحطان فذلك لانخزاعهم عن قومهم بمكة. والانخزاع: هو المفارقة، وفي
ذلك يقول عون بن أيوب الأنصاري الخزرجي:
فلما هبطنا بطن مر تخزعت
خزاعة منا في حلول كراكر
حمت كل واغد من تهامة واحتمت
بصم القنا والمرهفان البواتر
هكذا ذكر ابن هشام في السيرة هذين البيتين لعون بن أيوب
الأنصاري، وقال: هذان البيتان، له في قصيدة3.
وأنشدهما الأزرقي لحسان بن ثابت الأنصاري؛ وذلك في خبر طويل رواه عن
أبي صالح، ذكر فيه خبر جرهم وخزاعة، وفيه قال حسان بن ثابت الأنصاري
يذكر انخزاع خزاعة بمكة، ومسير الأوس والخزرج إلى المدينة، وغسان إلى
الشام:
فلما هبطنا بطن مر تخزعت
خزاعة منا في حلول كراكر4
حموا كل واد في5 تهامة واحتموا
بصم القنا والمرهفات البواتر6
فكان لها المرباع في كل غارة
بنجد وفي كل الفجاج الغوابر
ونحن ظللنا أهل7 اجتهاد وهجرة
وأنصارنا جند النبي المهاجر
وذكر بقيتها، وهي تسعة أبيات، تتضمن مدح الأنصار، وغسان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "إبراهيم" ليس في جمهرة أنساب العرب "ص: 233".
2 جمهرة أنساب العرب "ص: 234، 235".
3 سيرة ابن هشام 1/ 92.
4 كراكر: جماعات. وقيل: هي جماعات الخيل خاصة.
5 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 95: "من" بدل "في".
6 البواتر: القواطع.
7 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 95: "خزاعتنا أهل اجتهاد".
ذكر سبب ولاية خزاعة لمكة في الجاهلية:
سبق في أخبار جرهم ابتداء ولاية خزاعة لمكة، واختلاف ما ذكره ابن إسحاق
والكلبي في سبب ولايتهم لمكة، فأغنى ذلك عن إعادته، ونذكر هاهنا غير ما
سبق، ما يقتضي ذلك.
ج / 2 ص -59-
قال الفاكهي بعد أن روى في هذا المعنى
أخبارا: قال ابن أبي سلمة، وابن إسحاق في حديثهما: فلم يزل الأمر
لجرهم، وغبشان، وبكر، حتى اقتتلوا؛ فغلبتهم بكر وغبشان, وظهروا عليهم،
ووطئوهم، ونفوهم من مكة إلى ما حولها، وولوا عليهم البيت، زاد ابن أبي
سلمة والمخزومي في حديثهما: وولوا عليهم البيت وما كانوا يلون بمكة من
الحكم وغيره1... انتهى.
وذكر الزبير وغيره من أهل الأخبار ما يقتضي أن سبب ولاية خزاعة للبيت
غير ما ذكره ابن إسحاق؛ وذلك أن امرأة من خزاعة يقال لها: قدامة كانت
متزوجة في بني إياد بن نزار، نظرت إلى بني إياد لما دفنوا الحجر الأسود
حين خرجوا إلى العراق، بعد أن تعذر عليهم حمله؛ فإنهم لم يحملوه على
شيء إلا عجزوا، وافتقدت مضر الركن؛ فعظم ذلك في نفوسها، ورأت المرأة
الخزاعية عظم مشقة ذكل عليهم، فأمرت قومها أن يأخذوا على مضر أن يولوهم
حجابة البيت، وتدلهم المرأة على الركن، ففعلوا ذلك ووافقتهم عليه مضر،
ودلتهم المرأة على الحجر الأسود، فابتحثوه من تحت الشجرة، وأعيد إلى
مكانه، ووليت خزاعة عند ذلك البيت؛ فلم يبرح في أيديهم حتى قدم قصي؛
هذا معنى ما ذكره الزبير والكلبي في هذا الخبر، وقد سبق قريبا.
وبان بذلك أن سبب ولاية خزاعة للبيت غير ما ذكره ابن إسحاق، والله أعلم
بالصواب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 152.
ذكر مدة ولاية خزاعة لمكة في الجاهلية:
قال الأزرقي فيما رويناه عنه بالسند المتقدم: قال: حدثني جدي، قال:
حدثنا سعد بن سالم، عن عثمان بن ساج، عن ابن جريج، وعن ابن إسحاق
-يزيد أحدهما على الآخر- قالا: قامت خزاعة على ما كانت عليه من ولاية
البيت والحكم بمكة ثلاثمائة سنة، وكان بعض التباعية قد سار إليه وأراد
هدمه وتخريبه؛ فقامت دونه خزاعة، فقاتلت عليه أشد القتال حتى رجع، ثم
آخر فكذلك؟.
وقال الأزرقي -أيضا- فيما رويناه عنه بالسند المتقدم: حدثني جدي، قال:
حدثنا سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج، عن الكلبي، عن أبي صالح، فذكر
خبرا طويلا في خبر جرهم وخزاعة، قال فيه: فكان عمرو بن لحي يلي البيت
وولده من بعده خمسمائة سنة، حتى كان آخرهم حليل بن حبشية بن سلول بن
كعب بن عمرو، فزوج إليه قصي ابنته حبي ابنة حليل، وكانوا هم حجابه
وخزانة، والقوام به، وولاة الحكم بمكة دهر
ج / 2 ص -60-
عامر، لم يخرب فيه خراب، ولم تبن خزاعة فيه
شيئا بعد جرهم، ولم يسرق منه شيء علمناه ولا سمعنا به، ترادفوا على
تعظيمه والذب عنه.
وقال في ذلك عمرو بن الحارث بن عمرو الغبشاني:
نحن وليناه فلم تغشه
وابن مضاض قائم يهشه
يأخذ ما يهدى له بعشه1
نترك مال الله ما نمسه2
... انتهى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 102: "بغشه".
2 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 102: "نمشه" بالشين المعجمة.
ذكر أول من ولي البيت من خزاعة وغير ذلك من خبر
جرهم:
اختلف في أول ملوك خزاعة بمكة؛ فقيل: عمرو بن لحي، ولحي هو ربيعة بن
حارثة بن عمرو بن عامر، على القول بأنهم من قحطان، ويدل لذلك خبر رواه
الزبير بن بكار، عن أبي عبيدة، فيه ذكر شيء من خبر جرهم وخزاعة، لأن
فيه: فاجتمعت خزاعة ليجعلوا من بقي، ورأس خزاعة عمرو بن ربيعة بن حارثة
بن عمرو بن عامر، وأمه فهيرة بنت عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي -وليس
بابن مضاض الأكبر- فاقتلوا.
ثم قال فيه بعد ذكره لخروج من بقي من جرهم إلى جشم من أرض جهينة: وولي
البيت عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر... انتهى.
وذكر الفاكهي خبرا يقتضي أن عمرو بن لحي أول ملوك خزاعة، وفيه ذكر شيء
منخبره وخبر جرهم؛ لأنه قال: ويقال في روايته أبي عمرو الشيباني: إن
حجابة البيت صارت إلى خزاعة، لأن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر بن
حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن تزوج فهيرة بنت الحارث بن مضاض
الجرهمي؛ فولدت له عمرو بن ربيعة؛ فلما شب عمرو، وساد وشرف، طلب حجابه
البيت؛ فعند ذلك نشبت الحرب بينهم وبين جرهم.
وذكروا: أن عمرو بن ربيعة عاش ثلاثمائة وخمسا وأربعين سنة، وبلغ ولده
في حياته ألف مقاتل، من ولد كعب، وعدي، وسعد ومليح، وعوف بن عمرو،
وكانت بينهم حروب طويلة وقتال شديد، ثم إن خزاعة غلبوا جرهما على
البيت، وخرجت جرهم حتى نزلت وادي إضم1، فهلكوا فيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إضم بالكسر في أوله: واد في الشمال من مكة يصب في البحر.
ج / 2 ص -61-
وكان عمرو بن ربيعة أول من غير دين إبراهيم
-عليه الصلاة والسلام- وأنه خرج إلى الشام، واستخلف على البيت رجلا من
بني عبد بن ضخم، يقال له: آكل المروة1، وعمرو يومئذ وأهل مكة على دين
إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
فلما تقدم الشام نزل البلقاء2؛ فوجد قوما يعبدون أوثانا، فقال: ما هذه
الأنصاب التي أراكم تبعدون؟ فقالوا: أربابا نتخذها، ونستنصر بها على
عدونا فننصر، ونستشفي بها من المرض فنشفي، فوقع قولهم في نفسهم. فقال:
هبوا لي منها واحد نتخذه ببلدي؛ فإني صاحب بيت الله الحرام، وإلى وفد
العرب من كل صوب، فأعطوه صنما يقال له: هبل؛ فحمله حتى نصبه للناس
بمكة، فتابعته العرب على ذلك.
وذكر بقية الخبر، وقد سبق في القول الرابع في سبب خروج جرهم.
وذكر الأزرقي شيئا من خبر عمرو بن لحي، وأبان فيه غير ما سبق؛ لأنه روي
خبرا طويلا في ولاية خزاعة بعد جرهم؛ وفي الخبر: فتزوج لحي -وهو ربيعة
بن حارثة بن عمرو بن عامر- فهيرة بنت عامر بن عمرو بن الحارث بن مضاض
بن عمرو الجرهمي ملك جرهم؛ فولدت له عمرا، وهو عمرو بن لحي، وبلغ -بمكة
وفي العرب- من الشرف ما لم يبلغ عربي قبله ولا بعده في الجاهلية، وهو
الذي قسم بين العرب في حطمة حطموها عشرة آلاف ناقة، وقد كان أعور عشرين
فحلا، وكان الرجل في الجاهلية إذا ملك آلأف ناقة فقا عين فحل إبله؛
فكان قد فقا عشرين فحلا، وكان أول من أطعم الحاج بمكة سدائف الإبل
ولحمانها على الثريد، وعم في تلك السنة جميع حاج العرب بثلاثة أثواب من
يرود اليمن.
وكان قد ذهب شرفه في العرب كل مذهب، وكان قوله فيهم دينا متبعا لا
يخالف، وهو الذي بحر البحيرة، ووصل الوصيلة، وحمى الحام، وسيب السوائب،
ونصب الأصنام حلو الكعبة، وجاء بهبل من "هيت" من أرض الجزيرة؛ فنصبه في
بطن الكعبة، فكانت قريشا والعرب تستقسم عنده بالأزلام، وهو من غير
الحنيفية دين إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- وكان أمره بمكة في العرب
مطاعا لا يعصى.
وكان بمكة رجل3 من جرهم على دين إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- وكان
شاعرا، فقا لعمرو بن لحي حين غير دينه الحنيفية:
يا عمرو لا تظلم بمكة
إنها بلد حرام
سائل بعاد أين هم
وكذلك تخترم الأنام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل: وصوابها آكل المرار "المحبر 368".
2 البلقاء: هي ما تسمى اليوم بالأردن.
3 هو الحارث بن مضاض.
ج / 2 ص -62-
وبني1 العماليق الذيـ
ـن لهم بها كان السوام
فزعموا أن عمرو بن لحي أخرج ذلك الجرهمي من مكة؛ فنزل بإطم
من أعراض مدين النبي صلى الله عليه وسلم نحو الشام؛ فقال الجرهمي وتشوق
إلى مكة:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
وأهلي معا بالمأزمين حلول
وهل رأيت العيس2 تنفخ في الثرى
لها بمنى والمأزمين زميل3
منازل كنا أهلها له يحل بنا
زمان بها فيما أراه يحول
مضى أولونا راضيين بشأنهم
جميعا وغالتنا بمكة غول4
... انتهى.
وقيل: أن أول ملوك مكة من خزاعة: لحي؛ وهو ربيعة بن حارثة بن عمرو بن
عارم والد عمرو بن لحي السابق ذكره، وهذا القول ذكره الأزرقي؛ لأنه روي
بسنده خبرا روي بسنده خبرا طويلا في خروج جرهم من مكة، وولاية خزاعة
لها بعدهم، وفيه بعد أن ذكر تفرق أولاد عمرو بن عامر في البلاد:
وانخزعت خزاعة بمكة؛ فأقام بها ربيعة من حارثة بن عمرو بن عامر، وهو
لحي، فولي أمر مكة وحجابة البيت5... انتهى.
وقيل: إن أول ملوك خزاعة بمكة: عمرو بن الحارث الغبشاني، ويدل بهذا
القول ما ذكره الزبير بن بكار عن أبي عبيدة؛ لأن في الخبر الذي ذكره في
إخراج خزاعة لجرهم من مكة بعد قوله: وولي البيت عمرو بن ربيعة بن حارثة
بن عمرو بن عامر، وقال بنو قصي: بل وليه عمرو بن الحارث بن عمرو، أحد
بني غبشان بن سليم من بني ملكان بن أقصى، وولي البيت، وهو الذي يقول:
ونحن ولينا البيت من بعد جرهم
لنعمره من كل باغ وملحد
وقال أيضا:
واد حرام طيره ووحشه
نحن ولاته فلا نغشه
ويروى:
نحن وليناه فلا نغشه
وزاد غير أبي عبيدة:
وابن مضاض قائم يهشه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وفي أخبار مكة للأزرقي 1/ 101: "وبنى". وكذا عند المسعودي 2/ 56.
2 العيس: الإبل.
3 الزميل: صوت الإبل في حدائها.
4 أخبار مكة للأزرقي 1/ 1000-101.
5 أخبار مكة للأزرقي 1/ 95: وفيه "الكعبة" بدل "البيت".
ج / 2 ص -63-
ونقل الفاكهي ما يقتضي: أن عمرو بن الحارث
أول من ولي البيت؛ لأنه قال: قال الواقدي: وحدثني حرام بن هشام، عن
أبيه قال: أول من وليه من غبشان من خزاعة، وكان الذي وليه منهم: عمرو
بن الحارث بن لؤي بن ملكان بن أقصى؛ فنصب هبل صنما بمكة، فقال الحارث
بن مضاض، وهو يعظ عمرا:
يا عمرو لا تفجر بمكـ
ـة إنها بلد حرام1
فتحصل من هذه الأخبار ثلاثة أقوال في أول من ولي بمكة من
خزاعة، هل هو عمرو بن لحي، كما ذكر أبو عبيدة والفاكهي، أو أبوه لحي،
كما ذكر الأزرقي؟ أو ابن الحارث الغبشاني، كما ذكر أبو عبيدة وابن
الكلبي؟ والله أعلم.
وتحصل منه فيمن نصب هبل هؤلاء: أحدهما: أنه عمرو بن لحي، وهو القول
المشهور.
والآخر: عمرو بن الحارث الغبشاني، كما نقل الواقدي عن ابن الكلبي.
ورأيت في "المورد العذب الهني في شرح سيرة عبد الغني" للحافظ قطب الدين
الحلبي في ذلك قولا ثالثا؛ لأنه قال لما ذكره خزيمة جد النبي صلى الله
عليه وسلم: وخزيمة هو الذي نصب هبل على الكعبة، وكان يقال: هبل خزيمة،
هكذا ذكر ابن الأثير2... انتهى.
وذكر ابن إسحاق ما يقتضي أن غبشان من خزاعة انفردت بالكعبة دون بني بكر
بن عبد مناة بن كنانة؛ لأنه بعد أن ذكر إخراج بني بكر وغبشان لجرهم من
مكة: ثم إن غبشان من خزاعة، وليت البيت دون بني بكر بن عبد مناة، وكان
الذي يليه منهم عمرو بن الحارث الغبشاني، وقريش إذ ذاك حلول وصرم
وبيوتات متفرقون في قومهم من بني كنانة؛ فوليت خزاعة البيت، يتوارثون
ذلك كابرا عن كابر، حتى كان آخرهم حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن
عمرو الخزاعي3... انتهى؟.
وذكر الفاكهي عن ابن إسحاق ما يقتضي أن بني بكر لم تل مع غبشان البيت؛
وإنما كلامه: حدثنا عبد الله بن عمران المخزومي، قال: حدثنا سعيد بن
سالم، قال: قال عثمان -يعني ابن ساج: أخبرني محمد بن إسحاق، وحدثني عبد
الملك بن محمد، عن زياد بن عبد الله، عن ابن إسحاق -يزيد أحدهما على
صاحبه في اللفظ- قال: ثم إن غبشان من خزاعة وليت البيت من بعد جرهم دون
بكر بن كنانة؛ فكانت بكر لهم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 155.
2 الكامل لابن الأثير 2/ 28.
3 أخبار مكة للفاكهي 5/ 155، 156.
ج / 2 ص -64-
عضدا وناصرا ممن بغي عليهم، وقريش إذ ذاك
حلول في أصرام، وهم بيوتات متفرقون في قومهم من بني كنانة، وكان الذي
يلي البيت من عبشان عمروبن الحارث بن لؤي بن ملكان بن أقصى، وهو الذي
يقول:
نحن وليناه فلم نغشه
وابن مضاض قائم يهشه
يأخذ ما يهدي له يعسه
نترك مال الله لا تمسه
وقال أيضا:
نحن ولينا من بعد جرهم
لنمنعه من كل باغ وظالم
ونمنعه من كل باغ يريده
فيرجع منا عند غير سالم
ونحفظ حق الله فيه وعهدنا
ونمنعه من كل باغ وآثم
ونترك ما يهدي له نمسه
نخاف عقاب الله عند المحارم
وكيف نريد الظلم فيه وربنا
بصير بأمر الظلم من كل غاشم
فوالله لا ينفك بحفظ أمره
ويعمره ما حج هل المواسم
ونحن نفينا جرهما عن بلادها
إلى بلدة فيها صنوف المآثم
قال: فوليت خزاعة البيت زمانا طويلا، وهم أخرجوا إسافا
ونائلة من الكعبة، فوضعوها على زمزم1.
وذكر الفاكهي خبرا يقتضي بأن قيس بن عيلان، من مضر، أرادوا إخراج خزاعة
من لحي ولي البيت من بعده كبع بن عامر، فاجتمعت قيس على عامر بن الظرب
العدواني، فسار بهم إلى مكة ليخرج خزاعة، فقاتلهم خزاعة، فانهزمت قيس
ووليت خزاعة البيت، لا ينازعهم أحدا2... انتهى.
واستفدنا من هذا الخبر ولاية كعب بن عمرو بن لحي البيت بعد أبيه عمرو.
وذكر الفاكهي لبعض عدوان شعرا، نال فيه من خزاعة؛ لأن بعض خزاعة قال
شعرا، تعرض فيه لعدوان فيما يظهر، والله أعلم.
ونص ما ذكره الفاكهي: وقال حليل:
نحن بنو عمرو ولاة المشعر
نذب بالمعروف أهل المنكر
حمسا ولسنا نهزه للمحصر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 1555، 156.
2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 156.
ج / 2 ص -65-
وقال: فأجابه نصر بن الأحت العدواني:
إن الخنا منكم وقول المنكر
جئناكم بالزحف في المسور
بكل ماض في اللقاء مسعر
وذكر الفاكهي: عن حليل بن حبشية -هذا- شعرا آخر؛ لأنه قال:
وقال حليل بن حبشية:
واد حرام طيره ووحشه
وابن مضاض قائم يهشه
... انتهى.
وقد سبق فيما ذكره الفاكهي عن ابن إسحاق أن عمرو بن الحارث الغبشاني هو
الذي يقول:
نحن وليناه فلم نغشه
وابن مضاض قائم يهشه
ولعل حليلا قال ذلك استشهادا؛ فينتفي التعارض، والله أعلم.
وحليل هذا آخر من ولي البيت وأمر مكة من خزاعة، على ما ذكره الفاكهي،
فيما رواه بسنده عن عائشة -رضي الله عنها- وابن إسحاق وغير من أهل
الأخبار.
وذكر الفاكهي خبرا يقتضي أن أبا غبشان الخزاعي كان شريك حليل في
الكعبة، وأبو غبشان هو على ما ذكره الزبير، عن الأثرم، عن أبي عبيدة:
سليم بن عمرو بن لؤي بن ملكان بن أقصى بن حارثة بن عمرو بن عامر، ونص
الخبر الذي ذكره الفاكهي: قال الواقدي: وسمعت ابن جريج يقول: كان حليل
يفتح البيت؛ فإذا اعتل أعطى ابنته المفتاح حتى تفتحه، فإذا اعتلت أعطت
زوجها قصيا يفتحه. وكان قصي يعمل في أخذ البيت وحيازته إليه. وذكر قطع
خزاعة منه، وكان شريك حليل فيه: أبو غبشان، وكان حليل يتنزه عن أشياء
يفعلها أبو غبشان.
وذكر الفاكهي خبرا يقتضي أن حليلا أوصى بولاية البيت لأبي غبشان؛ لأنه
قال: حدثنا حسن بن حسين الأزدي قال: حدثنا محمد بن حبيب، قال: قال عيسى
بن بكر الكناني المدني، قال: قال ابن الكلبي أو غيره. يقال: إن قصيا
دعا أبا غبشان الملكاني؛ فقال: هل لك أن تدع الأمر الذي أوصى لك به
حليل إلى حبي وعبد المدان فتخلى بينهما وبينه، وتصيب عرضا من الدنيا؟
فطابت نفسي أبي غبشان وأجابهم إلى ذلك؛ فأعطاهم قصي أثوابا وأبعرة. ولم
يكن أبو غبشان وارثا لحليل، ولا وليا؛ وإنما كان وصيا فحاز وصيته،
وصيرت حبي إلى ابنها حجابة البيت، ودفعت المفاتيح إليه1... انتهى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 157-159.
ج / 2 ص -66-
وذكر الزبير بن بكار خبرا يقتضي أن حليل بن
حبشية جعل لأبي غبشان فتح البيت وإغلاقه، وأن قصيا اشترى ولاية البيت
من أبي غبشان بزق خمر أو قعود. وسيأتي -إن شاء الله تعالى- هذا الخبر
في أخبار قصي، وهذا الخبر نقله الزبير عن الأثرم عن أبي عبيدة.
وقال الزبير: قال محمد بن الضحاك: اشترى قصي مفتاح بيت الله الحرام من
أبي غبشان الخزاعي، بكبش وزق خمر. فقال الناس: أخسر من صفقة أبي غبشان،
فذهبت مثلا1... انتهى.
فتحصل من هذه الأخبار، فيما اشترى به قصي من أبي غبشان منا كان له في
الكعبة ثلاثة أقوال: هل ذلك أثواب وأبعرة؟ أو هو زق خمر وقعود؟ أو هو
كبش وزق خمر؟
وفي ذلك قول آخر رابع، وهو: زق خمر فقط، وذكر الزبير في خبر يأتي ذكره
-إن شاء الله تعالى- فيما بعد في أخبار قصي، وفيه: أن أبا غبشان كان
يلي البيت.
وأفاد الفاكهي سببا في بيع أبي غبشان ما كان له في البيت؛ لأن في الخبر
الذي نقله الفاكهي، عن الواقدي، عن ابن جريج بعد قوله: "وكان حليل
يتنزه عن أشياء يفعلها أبو غبشان": وكانت البحائر تنحر عند البيت، عند
إساف ونائلة؛ فكان أبو غبشان قد سن له من كل بحيرة رأسها والعنق، ثم
إنه استقل ذلك؛ فأبى أن يرضي بذلك؛ فقال: يزيدون الأكتاف، ففعلوا، ثم
أدب لهم، فقال: يزيدون العجز، فأبى الناس ذلك عليه، فأتى رجل من بني
عقيل يقال له: مرة بن كثير -أو كبير- ببدنه له، وكانت سمينة، فما بقي
إذا لمن سيقت إليه؟! قال: الأكارع، قال: فرفضه الناس ومن حضر من قريش
وغيرهم، وقالوا: عبث، كنت أولا تقول: الرأس والعنق؛ فكان هذا أخف من
غيره، ثم تعديت إل الأكارع، فقال: لا أقيم في هذا البلد أبدا إلا على
ذلك؛ فلما أبوا عليه، قال: من يشتري نصيبي من البيت بإدواة تبلغني إلى
اليمن، أو بزق من خمر؟ فاشترى نصيبه في ذلك قصي، وارتحل أبو غبشان إلى
اليمن؛ فقال الناس: أخسر من صفقة أبي غبشان.
قال الواقدي: وقد رأيت مشيخة خزاعة تنكر هذا2.
ونقل الفاكهي عن الزبير بن بكار ما يقتضي أن قصيا اشترى مفتاح البيت من
أبي غبشان بالطائف3، وهذا يخالف ما في الخبر الذي قبله؛ فإنه يقتضي أن
شراء قصي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 159، 160.
2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 160.
3 السابق
ج / 2 ص -67-
لذلك كان بمكة، وسيأتي -إن شاء الله تعالى-
هذا الخبر في أخبار قصي، ويأتي في أخباره -أيضا- ما كان بينه وبين
خزاعة من القتال، وتوليه لما كانت خزاعة يليه من ولاية مكة وحجابة
البيت، وسكنى خزاعة معه بمكة في منازلهم التي جاء الإسلام وهم عليها.
وقد ذكر ابن عبد البر في كتاب له في الأنساب شيئا من فضل خزاعة يحسن
ذكره هنا؛ وذلك أنه قال بعد أن ذكر نسبهم ونزول حزاعة الحرم ومجاورتهم
قريشا: قال ابن عباس -رضي الله عنهما: نزل القرآن بلغة الكعبيين: كعب
بن لؤي، وكعب بن عمرو بن لحي؛ وذلك أن دراهم كانت واحدة، ويقال لخزاعة:
حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم حلفاء بني حزاعة وبني بكر،
فأعان مشركو قريش حلفاءهم بني بكر، ونقضوا بذلك العهد؛ فكان ذلك سبب
فتح مكة لنصر رسول الله صلى الله عليه وسلم خزاعة، حلفاءه1. وروي عنه
صلى الله عليه وسلم أنه قال يومئذ لسحابة رآها:
"هذه السحابة تستهل بنصر بني كعب"، وأعطاهم النبي صلى الله عليه
وسلم منزلة لم يعطها أحد من الناس، أن جعلهم مهاجرين بأرضهم، وكتب لهم
بذلك كتابا... انتهى.
ووقع فيما ذكرناه من خبر عمرو بن لحي ذكر البحيرة، والسائبة، والوصيلة،
والحام، من غير بيان ذلك.
وقد بين ذلك ابن إسحاق وابن هشام في السيرة؛ لأن فيها قال ابن إسحاق:
أما البحيرة فهي بنت السائبة: الناقة إذا تابعت من بين عشر إناث ليس
بينهن ذكر، سيبت؛ فلم يركب ظهرها، ولم يجز وبرها، ولم يشرب لبنها إلا
ضيف، فما أنتجت بعد لك من أنثى شقت أذنها، ثم خلي سبيلها مع أمها، فلم
يركب ظهرها، ولم يجز وبرها، ولم يشرب لبنها إلا ضيف، كما ضيف، كما فعل
بأمها، فهي البحيرة بنت السائبة.
والوصيلة: الشاة إذا أنتجت عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن، ليس بينهن
ذكر، جعلت وصيلة. قالوا: قد وصلت؛ فكان ما ولدت بعد ذلك للذكور منهم
دون الإناث، إلى أنه منها شيء، فيشركون في أكله، ذكورهم وإناثهم.
قال ابن هشام: ويروي: فكان ما ولدت بعد ذلك للذكور منهم دون إناثهم.
قال ابن إسحاق: والحام: الفحل إذا أنتج له عشر إناث متتابعات ليس بينهن
ذكر، حمى ظهره؛ فلم يركب، ولم يجز وبره، وخلي في إبله يضرب فيها، لا
ينتفع منه بغير ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تهذيب سيرة ابن هشام "ص 243، 244".
ج / 2 ص -68-
قال ابن هشام: هذا كله عند العرب على غير
هذا إلا الحام؛ فإنه عندهم على ما قال ابن إسحاق: فالبحيرة عندهم:
الناقة تشق أذنها فلا يركب ظهرها، ولا يجز وبرها، ولا يشرب لبنها إلا
ضعيف، أو يتصدق به، وتهمل لآلهتهم.
والسائبة: التي ينذر الرجل أن يسيبها إن برأ من مرضه، أو أصاب أمرا
يطلبه؛ فإذا كان كذلك ساب من إبلعه ناقة أو جملا لبعض آلهتهم، فساب
فصارت لا ينتفع بها.
والوصيلة: التي تلد أمها اثنين في كل بطن؛ فيجعل صاحبها لآلهته الإناث
منها، ولنفسه الذكور، فتلدها أمها ومعها ذرك في بطنها، فيقولون: وصلت
أخاها، فيسيب أخوها معها فلا ينتفع به، حدثني به يونس غيره، وروي بعض
ما لم يرو بعض.
قال ابن إسحاق: فلما بعث الله -تبارك وتعالى- رسوله محمدا صلى الله
عليه وسلم أنزل عليه:
{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا
سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 103]، وأنزل عليه:
{وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ
لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً
فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ
عَلِيمٌ}
[الأنعام: 139] وأنزل عليه:
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا
أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً
وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] وأنزل عليه:
{مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ
آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ
عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ، وَمِنَ الْأِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ
اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا
اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ
شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ
افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ
إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 143، 144]...
انتهى.
وقال السهيلي: فصل: وذكر البحيرة والسائبة، وفسر ذلك، وفسره ابن هشام
تفسير آخر، وللمفسرين في تفسيرهما أقوال، منها ما يقرب، ومنها ما يبعد
عن قولهما، وحسبك ما وقع في الكتاب؛ لأنها أمور كانت في الجاهلية
أبطلها الإسلام، فلا تمس الحاجة إلى علمها... انتهى1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الروض الإنف 1/ 121.
ذكر شيء من خبر عمرو بن عامر الذي تنسب إليه
خزاعة وشيء من خبر بنيه:
أما عمرو بن عامر -المشار إليه- فهو: عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ
القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن
كهلان بن
ج / 2 ص -69-
سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان الأزدي
المازني؛ هكذا نسبه ابن هشام، وابن حزم، وابن الكلبي، فيما ذكر ابن عبد
البر، ونسبه ابن الكلبي على ما وجدت في تاريخ الأزرقي على خلاف ذلك،
وهو أنه جعل ثعلبة بين حارثة وامرئ القيس1، ونسبه هكذا المسعودي في
تاريخه2.
وذكر غير واحد أنه يقال لعمرو هذا: مزيقيا، ولابنه عامر: ماء السماء،
ولجده: حارثة الغطريف؛ وإنما قيل له: مزيقيا -على ما ذكر بعضهم- لأنه
كان يلبس في كل يوم حلة ثم يمزقها لئلا يلبسها أحد بعده3؛ وإنما قيل
لابنه ماء السماء -على ما ذكر السهيلي: لجوده، وقيامه عندهم مقام
الغيث.
وكان عمرو بن عامر مالك مأرب -بهمزة ساكنة- وهي بلاد سبأ باليمن التي
مزق الله أهلها وباعد بين أسفارهم، وأخربها سيل العرم، كما ذكر الله
-عز وجل- في كتابه العزيز، حيث قال:
{لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي
مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ
رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ
غَفُورٌ، فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ}
[سبأ: 15، 16].
واختلف في معنى العرم، فقيل: هو صفة السيل، وهو اسم للوادي، وقيل: اسم
لسد عارم كان يقيها من السيل، ويحبس الماء على أهلها، فيصرفونه حيث
شاؤوا من بلادهم.
وهذا السد بناه سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وساق إليه سبعين واديا
-على ما قيل، ومات قبل أن يكلمه، وأكمله بعده ملوك حمير، وقيل: بناه
لقمان بن عاد الأكبر على ما ذكره المسعودي4، وذكر أنه كان فرسخا في
فرسخ، وأن طول البلد أكثر من شهرين للراكب المجد، وكذلك عرضها5 والخصب،
طيبة الفضاء، وكان أهلها في غاية الكثرة؛ حتى قيل إنهم كانوا يقتبسون
النار من بعضهم بعضا مسيرة ستة أشهر، مع اجتماع الكلمة والقوة، ثم
مزقهم الله تعالى، وباعد بين أسفارهم، وأخرب بلادهم بسيل العرم، كما
ذكره الله عز وجل في كتابه العزيز6.
وكان سبب تمزقهم: تخوفهم من خراب بلادهم بالسيل، فإن طريفة الكاهنة
امرأة عمرو بن عامر -على ما قيل- رأت في كهانتها أن سيل العرم يخرب سد
مأرب،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 92.
2 مروج الذهب للمسعودي 2/ 190.
3 الروض الأنف 1/ 21.
4 مروج الذهب 2/ 180.
5 هذه الروايات فيها مبالغة ظاهرة؛ لأن الآثار الباقية في شبه الجزيرة
العربية تدل على أن مملكة سبأ كانت جزءا محدودا من بلاد اليمن، كما
تشير إلى ذلك الروايات التاريخية، في مختلف المراجع.
6 مروج الذهب 2/ 181، 182.
ج / 2 ص -70-
فذكرت ذلك لملكهم عمرو بن عامر، وأرته لذلك
علامات، ومنها: جزر يحفر في السد؛ فلما تحقق لك كتمه عن قومه، وعزم على
الانتقال من بلاده بمكيدة دبرها، وهو أنه قال لأصغر ولده: إذا تحدثت
بحضرة الناس رد على حديثي؛ فأظهر الغضب عليك وألطمك، فافعل بي مثل ذلك،
ثم عمل عمرو وليمه عظيمة، ودعا أهل مآرب؛ فلما اجتمعوا عنده تحدث،
فجاراه ولده الحديث؛ ورد عليه، فغضب أبوه ولطمه، ففعل به الولد مثل
ذلك. فأظهر عمرو أنه يريد قتله، فلم يزل الناس به حتى كفوه عنه؛ فقال:
لا أقيم ببلد يلطم فيه وجهي أصغر ولدي -وقيل: إن الذي فعل به ذلك، يتيم
كان في حجره -وعرض عمرو أمواله للبيع؛ فقال بعض أشراف قومه: اغتنموا
غضبه عمرو واشتروا منه قبل أن يرضى، ففعلوا؛ فلما صار الثمن إليه أخبر
الناس بشأن سيل العرم وخرج من بلاده1.
وذكر ابن هشام أنه انتقل في ولده، وولد ولده، قال: قالت الأسد -يعني
الأزد: لا نتخلف عن عمرو بن عامر؛ فباعوا أموالهم وخرجوا معه، فساروا
حتى نزلوا بلاد عك2 مجتازين يرتادون البلدان، فحاربتهم عك، فكانت حربهم
سجالا؛ ففي ذلك قال عباس بن مرداس البيت الذي كتبناه، يعني قوله:
وعك بن عدنان الذين بغوا
بغسان حتى طردوا كل مطرد
ثم ارتحلوا عنه فتفرقوا في البلدان، فنزل جفنة بن عمرو بن
عامر الشام، ونزلت ثم ارتحلوا عنه فتفرقوا في البلدان، فنزل جفنه بن
عمرو بن عامر الشام، ونزلت الأوس والخزرج يثرب، ونزلت خزاعة مرا، ونزلت
أسد السراة، ونزلت أزد عمان3... انتهى.
وقال شارح القصيدة العبدونية: ولما خرج عمرو بن عامر بن اليمن، خرج
لخروجه منها بشر كثير، فنزلوا أرض عك، فحاربتهم عك، ثم اصطلحوا،
وتفرقوا فيها حتى مات عمرو بن عامر، فتفرقوا في البلاد... انتهى.
وإنما ذكرنا هذا الكلام لإفادته حال قبائل عمرو ببلاد عك، ما لم يفده
كلام ابن هشام، وليس ما ذكره من إقامتهم ببلاد عك، حتى مات عمرو بمقتضى
لطول إقامتهم يستلزم قصر المدة؛ لأنه يمكن أن يكون عمرو مات في زمن
الارتياد، والله أعلم.
نعم في كلام الأزرقي ما يقتضي أنه لم يقهرهم أحد، وذلك يخالف ما ذكره
ابن هشام والشارح، وقد رأيت أن أذكر كلامه لهذا المعنى، ولإفادته أمورا
أخر، من حال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مروج الذهب 2/ 188، 189.
2 "عك" بلاد بين اليمن والحجاز.
3 سيرة ابن هشام 1/ 29.
ج / 2 ص -71-
قبائل عمرو بن عامر بمكة وغيرها، وخصوصا
حال خزاعة، وما آل إليه أمرهم بمكة؛ وذلك في خبر طويل، وفيه أيضا شيء
من حال جرهم.
وهذا الخبر رواه الأزرقي في تاريخه، عن الكلبي، عن أبي صالح، قال فيه:
"فباع عمرو أمواله، وسار هو وقومه من بلد إلى بلد لا يطئون بلدا إلا
غلبوا عليه وقهروا أهله، حتى يخرجوا منه -ولذلك حديث طويل اختصرناه- ثم
قال: فلما قاربوا مكة ساروا ومعهم طريفة الكاهنة، فقالت لهم: سيروا فلن
تجتمعوا أنتم ومن خلفتهم أبدا، فهم لكم أصل وأنتم لهم فرع، ثم قالت: مه
مه وحق ما أقول، ما علمني ما أقول إلا الحكيم العليم المحكم، رب جميع
الناس من عرب وعجم، فقالوا لها: ما شأنك يا طريفة؟ قالت: خذوا البعير
الشدقم فخضبوه بالدم، تلون أرض جرهم جيران بيته المحرم، قال: فلما
انتهوا إلى مكة، وأهلها جرهم قد قهروا الناس، وحازوا ولاية البيت على
بين إسماعيل وغيرهم، أرسل إليهم ثعلبة بن عمرو بن عامر: يا قوم إنا قد
خرجنا من بلادنا؛ فلم ننزل ببلد إلا فسح أهلها لنا، وتزحزحوا عنا،
فنقيم معهم حتى نرسل روادنا فيروتادون لنا بلدا يحملنا، فافسحوا لنا في
بلادكم حتى نقيم قد ما نستريح، ونرسل روادنا إلى الشام وإلى المشرق؛
فحيث ما بلغنا أنه أمثل لحقنا به، وأرجو أن يكون مقامنا معكم يسيرا،
فأبت جرهم ذلك إباء شديدا، واستنكروا في أنفسهم، وقالوا: لا والله، ما
نحب أن تنزلوا معنا فتضيقون علينا مرابعنا وموادرنا، فارحلوا عنا بحيث
أحببتم، فلا حاجة لنا بجوارحكم؛ فأرسل إليه ثعلبة أنه لا بد لي من
القمام بهذا البلد حولا حتى ترجع إلي رسلي التي أرسلت، فإن تركتموني
نزلت طوعا وحمدتكم وواسيتكم في الماء والمرعى، وإن أبيتم أقمت على
كرهكم، ثم لم ترتعوا معي إلا فضلا، ولا تشربوا إلا نتنا.
قال أبو الوليد الأزرقي يعني: الكدر من الماء، وأنشد على ذلك بيتين:
فإن قتلتموني قاتلتكم
ثم إن ظهرت عليكم سبيت النسا
وقتلت الرجال ولم أترك منكم
أحدًا ينزل الحرم أبدا
فأبت جرهم أن تتركه طوعا، وتعبت لقتاله، فاقتتلوا ثلاثة
أيام، وأفرغ عليهم الصبر ومنعوا النصر، ثم انهزمت جرهم، فلم ينفلت منهم
إلا الشريد.
ثم قال: وأقام ثعلبة بمكة وما حولها في قومه وعساكره حولا، فأصابتهم
الحمى، وكانوا ببلد لا يدرون فيه ما الحيى؛ فدعوا طريفة، فشكوا إليها
الذي أصابتهم، فقالت لهم: قد أصابني الذي تشكون، وهو مفرق ما بيننا.
قالوا: فماذا تأمرين؟ قالت: عليكم الإجابة وعلى التبيين. وقالوا: فما
تقولين؟ قالت: من كان منكم ذا هم بعيد، وحمل شديد، ومزاد جديد، فليلحق
بقصر عمان المشيد؛ فكان أزد عمان. ثم قالت: من كان
ج / 2 ص -72-
منكم ذا جلد وقصر، وصبر على أزمات الدهر؛
فعليه بالأراك1 من بطن مر، فكانت خزاعة، ثم قالت: من كان منكم يريد
الراسيات في المنجل2، المطعمات من الحل، فليلحق بيثرب ذات النخل، فكانت
الأوس والخزرج، ثم قالت: من كان منكم يريد الخمر والخمير، والملك
والتأمير، ويلبس الديباج والحرير، فليلحق ببضرى والغوير3 يريد الثياب
الرقاق، والخيل العتاق، وكنوز الأرزاق، والدم المهراق، فليلحق بأهل4
العراق؛ فكان الذين سكنوها آل جذيمة الأبرش، ومن كان بالحيرة من غسان
وآل محرق، حتى جاءهم روادهم، فافترقوا من مكة فرقتين فرقة توجهت إلى
عمان وهم: أزد عمان، وسار ثعلبة بن عمرو بن عامر نحو الشام؛ فنزلت
الأوس والخزرج ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر، وهم الأنصار
بالمدينة، ومضت غسان فنزلوا الشام، وانخزعت خزاعة بمكة، فأقام بها
ربيعة بن حارثة بن عمروبن عامر -وهو: لحي، فولي أمر مكة، وحجاجة
الكعبة5... انتهى باختصار.
وقد بأن بما ذكرناه شيء من حال عمرو بن عامر وقومه، وفيه كفاية إن شاء
الله تعالى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأراك: وادي الأراك متصل بغيفة، وقال نصر: أراك فرغ من دون نافل قرب
مكة.
2 عند الأزرقي: "الوحل".
3 الغوير: وهي ماء لكلب بأرض السماوة وأرض السماوة المسماة ببادية
الشام. "معجم البلدان 2/ 94".
4 عند الأزرقي: "أرض".
5 أخبار مكة 1/ 92-95. |