شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام
ج / 2 ص -118-
الباب الخامس والثلاثون:
ذكر شيء من خبر حلف الفضول:
روينا في "السيرة لابن إسحاق تهذيب ابن هشام"، وروايته عن زياد البكائي
شيئا من خبره، ونص ذلك على ما في السيرة، قال ابن هشام: "وأما حلف
الفضول، فحدثني زياد بن عبد الله، عن محمد بن إسحاق قال: تداعت قبائل
من قريش إلى حلف الفضول؛ فاجتمعوا له في دار عبد الله بن جدعان بن عمرو
بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي لشرفه وسنة؛ فكان حلفهم
عنده: بنو هاشم وبنو المطلب، وأسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب، وتيم
بن مرة، فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم
ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلم حتى ترد عنه
مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف "حلف الفضول".
قال ابن إسحاق فحدثني محمد بن زيد، عن المهاجر بن قنفذ التيمي أنه سمع
طلحة بن عبد الله بن عوف الزهري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم:
"لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا، ما أحب أن لي به حمر النعم،
ولو أدعى به في الإسلام لأجبت"1...
انتهى.
وقد ذكر الزبير بن بكار أشياء من خبر حلف الفضول، وأفاد في ذلك غير ما
سبق؛ لأنه قال فيما رويناه عنه: حدثني أبو الحسن الأثرم عن أبي عبدية،
قال: كان سبب حلف الفضول أن رجلا من أهل اليمن قدم مكة ببضاعة،
فاشتراها رجل من بني
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيرة ابن هشام 1/ 123، إتحاف الورى 1/ 121.
ج / 2 ص -119-
سهم؛ فلوى الرجل بحقه؛ فسأله ماله، فأبى
عليه، فسأله متاعه فأبى عليه، فقام على الحجر وقال:
يا آل فهر لمظلوم بضاعته
ببطن مكة نائي الدار والنفر
وأشعث محرم لم يقض حرمته1
بين الإله وبين الحجر والحجر
أقائم من بني سهم بذمتهم
أم ذاهب في ضلال مال معتمر
إن الحرام لو تمت حرامته
ولا حرام لثوب الفاجر الغدر
ثم ذكر الزبير خبرا يقتضي أن الرجل الذي باع سلعته من السهمي
كان من زبيد، ولا منافاة بين كونه من اليمن، وكونه من زبيد، لجواز كون
نسبته إلى اليمن، باعتبار يكناه به، والله أعلم.
وفي الخبر الذي فيه أن البائع من زبيد فوائد ليست في الخبر الذي فيه أن
البائع من اليمن، فاقتضى ذلك ذكرنا له، ونص ذلك على ما في كتاب الزبير:
حدثني محمد بن فضالة عن عبد الله بن زياد بن سمعان، عن ابن شهاب قال:
كان شأن حلف الفضول أنه بدأ ذلك أن رجلا من بني زبيد قدم مكة معتمرا في
الجاهلية، ومعه تجارة له فاشتراها منه رجل من بني سهم؛ فأواها إلى
بيته، ثم تغيب، فابتغى متاعه الزبيدي، فلم يقدر عليه، فجاء إلى بني سهم
يستعديهم عليه، فأغلظوا عليه، فعرف أن لا سبيل إلى ماله، فطوف في قبائل
قريش يستعين بهم، فتخاذلت القبائل عنه؛ فلما رأى ذلك أشرف على أبي قبيس
حين أخذت قريش مجالسها، ثم قال بأعلى صوته:
يا آل فهر لمظلوم بضاعته
ببطن مكة نائي الأهل والوطر
ومحرم شعث لم يقض عمرته
يا آل فهر وبين الحجر والحجر
هل محضر من بني سهم بحضرتهم
فعادل، أم حلال مال معتمر
فما نزل من الجبل أعظمت ذلك قريش؛ فتكلموا فيه. فقال
المطيبون: والله لئن قمنا في هذا لنقضين على الأحلاف، وقال الأحلاف:
والله لئن تظلمنا في هذا لنقضين على المطيبين؛ فقال ناس من قريش:
تعالوا فلنكن حلفاء فضولا دون المطيبين ودون الأحلاف، فاجتمعوا في دار
عبد الله بن جدعان، وصنع لهم يومئذ طعاما كثيرا، وكان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يومئذ معهم قبل أن يوحى إليه، وهو ابن خمس وعشرين سنة،
فاجتمعت بنو هاشم، وأسد، وزهرة، وتيم، وكان الذي تعاقد عليه القوم
وتحالفوا أن لا يظلم بمكة غريب ولا قريب، ولا حر ولا عبد؛ إلا كانوا
معه حتى يأخذوا له بحقه، ويردوا2 إليه مظلمته من أنفسهم ومن غيرهم، ثم
عمدوا إلى ماء من زمزم فجعلوه في جفنة، ثم بعثوا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الروض الأنف 1/ 156: "عمره".
2 هكذا في الأصل.
ج / 2 ص -120-
به إلى البيت؛ فغسلت به أركانه، ثم أتوا
به فشربوه، فحدث هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين -رضي
الله عنها- قالت إنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان، من حلف الفضول ما لو دعيت إليه
اليوم لأحببت، وما أحب أن لي به حمر النعم".
قال الزبير: حدثني عبد العزيز بن عمرو العنبسي أن الذي اشترى من
الزبيدي المتاع: العاص بن وائل السهمي، وقال: حلف الفضول بنو هاشم وبنو
المطلب، وبنو أسد بن عبد العزى، وبنو زهرة، وبنو تيم، تحالفوا بينهم
بالله، لا يظلم أحد بمكة إلا كنا جميعا مع المظلوم على الظالم، حتى
نأخذ له مظلمته ممن ظلمه، شريفا أو وضيعا، منا أو غيرنا. ثم انطلقوا
إلى العاص بن وائل؛ فقالوا: والله لا نفارقك حتى تؤدي إليه حقه، فأعطى
الرجل حقه، فمكثوا كذلك لا يظلمن أحد حقه بمكة إلإ أخذوه له؛ فكان عتبة
بن ربيعة بن عبد شمس يقول: لو أن رجلا وحده خرج من قومه لخرجت من عبد
شمس حتى أدخل في حلف الفضول، وليست عبد شمس في حلف الفضول1.
وحدثني محمد بن حسن بن محمد بن طلحة عن موسى بن محمد بن إبراهيم، عن
أبيه، وعن محمد بن فضالة، عن هشام بن عروة، وعن إبراهيم بن محمد، عن
يزيد بن عبد الله بن الهادي قال إن بني هاشم وبني المطلب، وبني أسد بن
عبد العزي، وبني تيم بن مرة، تحالفوا على أن لا يدعوا بمكة كلها ولا في
الأحابيش مظلوما يدعوهم إلى نصرته إلا أنجدوه حتى يردوا إليه مظلمته،
أو يبلغوا في ذلك عذرا، وعلى أن لا يتركوا لأحد فضلا إلا فخذوه، وعلى
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبذلك سمي حلف الفضول: بالله على
الظالم حتى نأخذ للمظلوم حقه ما بل بحر صوفة، وما رسا حراء وثبير في
مكانهما، وعلى الناس في المعاش.
وذكر الزبير ما يوهم أن سبب حلف الفضول بغير ما سبق؛ لأنه قال: وقال
بعض العلماء إن قيسا السلمي باع متاعا من أبي بن حلف، فلواه وذهب بحقه،
فاستجار برجل من بني جمح، فلم يقم بجواره؛ فقال قيس:
يال قصي كيف هذا في الحرم
وحرمة البيت وأخلاق الكرم
أظلم لا يمنع مني من ظلم2
وبلغ الخبر عباس بن مرداس فقال:
إن كان جارك لم تنفعك ذمته
وقد شربت بكأس الذل أنفاسا
فأت البيوت وكن من أهلها صددا
ولا تبد باديهم فحشا ولا باسا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الاكتفاء 1/ 91، إتحاف الورى 1/ 121.
2 الروض الأنف 1/ 157.
ج / 2 ص -121-
وثم كن بفناء البيت معتصما
تلقي ابن حرب وتلقي
المرء عباسا
ساقي الحجيج وهذا ياسر فلح
والمجد يورث أسداسا وأخماسا
وقام العباس وأبو سفيان حتى ردا عليه متاعه. واجتمعت بطون
قريش فتحالفوا على رد الظلم بمكة، وأن لا يظلم أحد إلا منعوه وأخذوا له
بحقه، وكان حلفهم في دار ابن جدعان؛ فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم:
"شهدت حلفا في دار ابن جدعان1، ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به لأحببت"
فقال قوم من قريش: هذا والله أفضل من الحلف؛ فسمي: حلف الفضول.
قال: وقال الآخرون: تحالفوا على مثال حلف تحالف عليه قوم من جرهم في
هذا الأمر؛ ألا يقروا ظلما ببطن مكة إلا غيروه، وأسماهم: الفضل بن
شراعة، والفضل بن وداعة، والفضي بن قضاعة. والله أعلم أي ذلك كان؟
وذكر الزبير خبرا يقتضي أن البائع من أبي بن خلف رجل من ثمالة؛ لأنه
قال: حدثني علي بن صالح، عن جدي عبد الله بن مصعب، عن أبيه، فذكر قصته،
ثم قال: فبلغ ذلك معاوية، وعنده جبير بن مطعم، فقال له معاوية: يا أبا
محمد كنا في حلف الفضول؟ قاله جبير بن مطعم: لا، وقد مر رجل من ثمالة؛
فباع سلعة له من أبي بن خلف ووهب بن حذافة بن جمح، فظلمه، وكان سيء
المخالطة؛ فأتى الثمالى أهل حلف الفضول فأخبرهم؛ فقالوا: اذهب فأخبره
بأنك قد آتيتنا، فإن أعطاك حقك وإلا فارجع إلينا. فأتاه فأخبره ما قال
له أهل حلف الفضول، وقال له: فما تقول؟ فأخرج إليه حقه، فأعطاه إياه،
فقال:
أتعجزني ببطن مكة ظالما
وإني ولا قومي لدي ولا صحبي
وناديت قومي بارقا لتجيبني
وكم دون قومي من فياف ومن شهب؟
ويأبى لكم حلف الفضول ظلامتي
بني جمحخ والحق يؤخذ بالغصب
وذكر الزبير حبرا يوهم أن سبب حلف الفضول غير ما سبق؛ لأنه
قال: حدثني غير واحد من قريش، منهم عبد العزيز بن عمر العنبسي، عن معن
بن عبد الله بن عنبسة قال: إن رجلا من خثعم قدم مكة تاجرا2، ومعه ابنه
له يقال له يقال لها القتول، أوضأ نساء العالمين: فعلقهما نبيه بن
الحجاج بن عامر بن حذيفة بن سعد بن سهم، فلم يبرح حتى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كان عبد الله بن جدعان من أشراف قريش وساداتها وأثريائها، وهو الذي
مدحه أمية بن أبي الصلت في شعره وفيه يقول قصيدته المشهورة:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني
حياؤك إن شيمتك الحياء
2 في الروض الأنف 1/ 157: "معتمرا أو حاجا".
ج / 2 ص -122-
نقلها إليه، وغلب أباها عليها، فقيل
لأبيها: عليك بحلف الفضول، فأتاهم وشكا ذلك إليهم، فأتوا نبيه بن
الحجاج، وقالوا: أخرج ابنة هذا الرجل -وهو يومئذ بناحية مكة وهي معه-
وإلا فإنا من قد عرفت؛ فقال: يا قوم متعوني بها الليلة، فقالوا: قبحك
الله ما أجهلك، لا والله ولا شخب لقحه1. قال: وهي أوسع أحاليل من الشاة
فأخرجها إليهم، فأعطوها أباها، وركب معهم الخثعمي؛ فذلك يقول نبيه بن
الحجاج:
راح صحبي ولم أحي القتولا
لم أودعهم وداعا جميلا
وذكر بقية الأبيات، وقال نبيه في ذلك أبياتا أخر2.
وذكر الفاكهي من خبر حلف الفضول عن الزبير بن بكار جميع ما ذكرناه عن
الزبير3.
وذكر الفاكهي في ذلك غير ما سبق، فاقتضى ذلك ذكرنا له لما فيه من
الفائدة، ونص ما ذكر الفاكهي: :ذكر حلف الفضول، وسببه، وتفسيره، وغيره
من الحلف".
ثم إن قريشا تداعت إلى الفضول؛ وذلك بعد رجوعهم من عكاظ، ويقال: بعد
فراغهم من بنيان الكعبة، وكان حلفا جميلا على قريش؛ لأن رسول الله صلى
الله عليه وسلم حالف فيه، فاجتمعوا في ذلك في دار ابن جدعان لشرفه
وموضعه في قومه، وكانت له أسباب سأذكرها إن شاء الله تعالى.
حدثني عبد الله بن شبيب الربعي مولى بني قيس بن ثعلبة قال: حدثني أبو
بكر بن أبي شيبة، عن عبد الرحمن بن عبد الملك بن شيبة الخزاعي، قال:
حدثني عمرو بن أبي بكر العدوي، قال: حدثنا عثمان بن الضحاك، عن أبيه،
عن عبد الله بن عمرو، قال: سمعت جدي حكيم بن حزام يقول: انصرفت قريش من
الفجار، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة؛ وكان حلف
الفضول في شوال، وكان أشرف حلف وأعظم بركة؛ وذلك أن الرج لمن العرب أو
غيرها من العجم، كان يقدم مكة بسلعته، فربما ظلم ثمنها، وكان آخر من
ظلم بها رجل من زبيد4، فقدم مكة بسلعةله؛ فباعها من العاص بن وائل،
فظلمه ثمانها، فطاف في الأحلاف: عبد الدار، وجمح، وسهم، ومخزوم، فسألهم
أن يعينوه على العاص بن وائل، فزجروه وتجهموه، وأبوا أن يغلبوه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "الشخب": ما خرج من الضرع من لبن، واللقحة: الناقة القريبة العهد
بالنتاج وتكون عادة غزيرة اللبن.
2 الروض الأنف 1/ 157.
3 أخبار مكة للفاكهي 5/ 190-195.
4 في الأصول: "من بن يزبيد: والمثيب عن سيرة ابن هشام 1/ 259، والسيرة
الشامية 2/ 208، "زبيد".
ج / 2 ص -123-
على العاص؛ فلما نظر إلى سلعته قد حيل
دونها، رقي على جبل أبي قبيس عند طلوع الشمس وقريش في أنديتها، فصاح
بأعلى صوته:
يا آل فهر لمظلوم بضاعته
ببطن مكة، نائي الدار والنفر
ومحرم أشعث لم يقض عمرته
يال الرجال وبين الحجر والحجر
هل محضر من بني سهم بخفرته
وعادل أم ضلال مال معتمر
إن الحرام لمن تمت حرامته
ولا حرام لثوب الفاخر الغدر
فقال الزبير بن عبد المطلب: إن هذا الأمر ما ينبغي لنا أن
نسمك عنه؛ فطاف في بني هاشم، وزهرة، وأسد، وتيم، فاجتمعوا في دار عبد
الله بن جدعان، وتحالفوا بالله القائل، لنكون يدا للمظلوم على الظالم،
حتى يؤدي إليه حقه ما بل بحر صوفة، ومارسا حراء وثبير في مكانهما، وعلى
التأسي في المعاش: ثم نهضوا إلى العاص بن وائل فنزعوا سلعة الزبيدي،
ودفعوها إليه، فقالت قريش: إنه قد دخل هؤلاء في فضل من الأمر، فسمي:
حلف الفضول، فقال الزبير بن عبد المطلب:
حلفت لنعقدن حلفا عليهم
وإن كنا جميعا أهل دار
نسميه الفضول إذا عقدنا
مقربة الغريب لذي الجوار
ويعلم من حوالي البيت أنا
أباة الضيم نمنع كل عار1
إذا لام الغدار لنا حراما
أقمنا بالسيوف ذا الازورار
قال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثني عمرو بن أبي بكر قال: كان
يقال: كان في جرهم مثل هذا الحلف؛ فمشى فيه رجال، منهم فضل، وفضال،
وفضالة، فسموه حلف الفضول، وقال: الزبير بن عبد المطلب:
إن الفضول تحالفوا وتعاقدوا
أن لا يقيم ببطن مكة ظالم
أمر عليه تعاقدوا2 وتواثقوا
فالجار والمعتر فيهم سالم3
وقد بان بما ذكرناه من هذه الأخبار المتعلقة بحلف الفضول
فوائد كثيرة تتعلق بذلك؛ وإنما سبب تسميته بحلف الفضول، كون الذين
تحالفوا عليه تحالفوا على حلف مثله، سبق إليه جماعة من جرهم، يقال لكم
منهم: الفضل، أو ما يقرب من معناه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 195، إتحاف الورى 1/ 121، الروض الأنف 1/ 156،
السيرة لابن كثير 1/ 259.
2 في الروض الأنف 1/ 157، وإتحاف الورى 1/ 121: "تعاهدوا".
3 أخبار مكة للفاكهي 5/ 194-195.
ج / 2 ص -124-
وأشار السهيلي إلى أن تسميته بحلف الفضول؛
لكون الذين تحالفوا عليه تحالفوا على أن يردوا الفضول على أهلها؛ لأنه
قال، بعد أن حكي عن ابن قتيبة: إن سبب تسميته أن جماعة من جرهم يقال
لأحدهم الفضل بن فضالة، والثاني الفضل بن وداعة، والثالث فضيل بن
الحارث، ومن تبعهم سبقوا قريشا إلى مثل هذا الحلف. والذي قاله ابن
قتيبة حسن؛ ولكن في الحديث ما هو أقوى منه وأولى.
روى الحميدي عن سفيان عن عبد الله عن محمد وعبد الرحمن ابني أبي بكر
قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"شهدت في دار عبد الله بن جدعان
حلفا لو دعيت به في الإسلام لأجبت، تحالفوا أن يردوا الفضول على أهلها،
وأن لا يعين ظالم مظلوما".
ورواه في مسنده الحارث بن عبد الله بن أبي أسامة التميمي.
وقد بين هذا الحديث: لم سمي حلف الفضول. وكان حلف الفضول بعد الفجار؛
وذلك أن حرب الفجار كانت في شعبان، وكان حلف الفضول في ذي القعدة قبل
المبعث بعشرين سنة وكان حلف الفضول أكرم حلف سمع به، وأشرفه في العرب1،
والفضول جمع فضل... انتهى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الروض الأنف 1/ 155-156.
ذكر شيء من خبر ابن جدعان الذي كان في داره حلف
الفضول:
هو عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن
لؤي بن غالب، القرشي التيمي المكي، يكنى أبا زهير، من رهط أبي بكر
الصديق -رضي الله عنه- وكان من رؤساء قريش وأجوادهم، وله في الجود
أخبار مشهورة؛ منها: أنه كانت له جفنة للأضياف يستظل بظلها في الهاجرة؛
لأن في "غريب الحديث" لابن قتيبة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال:
"كنت أستظل فيها بظل جفنة
عبد الله بن جدعان بمة في الهاجرة".
قال ابن قتيبة: كانت جفنته يأكل منها الراكب على البعير، وسقط فيها صبي
فغرق، أي مات فيها1.
ومنها على ما قال هشام بن الكلبي: كان له مناديان يناديان؛ أحدهما
بأسفل مكة، والآخر بأعلى مكة، وكان المناديان سفيان بن عبد الأسد، وأبو
قحافة، وكان أحدهما ينادي: ألا من أراد اللحم والشحم فليأت دار ابن
جدعان. وينادي الآخر: ألا من أراد الفالوذج فليأت دار ابن جدعان وهو
أول من أطعم الفالوذج بمكة؛ ذكر هذا الخبر عن ابن الكلبي الفاكهي في
"أخبار مكة"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الروض الأنف 1/ 158.
2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 169.
ج / 2 ص -125-
ومنها: أن أمية بن أبي الصلت1 قبل أن يمدح
ابن جدعان: كان قد أتى بني الديان من بني الحارث بن كعب، فرأى طعام بني
عبد الديان2 منهم لباب البر والشهد والسمن، وكان ابن جدعان التمر
والسويق ويسقي اللبن، فقال، أمية:
ولقد رأيت الفاعلين وفعلهم
فرأيت أكرمهم بني الديان
البر يلبك بالشهاد طعامهم
لا ما يعللنا بنو جدعان
فبلغ شعره عبد الله بن جدعان؛ فأرسل ألفي بعير إلى الشام
تحمل إليه البر والشهد والسمن، وأمر مناديا ينادي على الكعبة: ألا
هلموا إلى جفنه عبد الله بن جدعان، فقال أمية عند ذلك:
له داع بمكة مشمعل3
وآخر فوق كعبتها ينادي
إلى ردح من الشيزى عليها
لباب البر يلبك بالشهاد4
وكان ابن جدعان في بدء أمره صعلوكا ترب اليدين، وكان مع ذلك
سريرا فاتكا، لا يزال يجني الجنايات فيعقل عنه أبوه وقومه، حتى أبغضته
عشريته، ونفاه أبو وحلف أن لا يأويه أبدا، لما أثقل به من الغرم. وحمله
من الديات، فخرج في شعاب مكة حائرا يتمنى الموت ينزل به، فرأى شقا في
الجبل، فظن فيه حية، فتعرض للشق يرجو أن يكون فيه ما يقتله فيستريح؛
فلم ير شيئا، فدخل فيه، فإذا فيه ثعبان عظيم، له عينان تقدان
كالسراجين، فحمل عليه الثعبان. فأخرج له فانسابت عيناه مستديرتان
ينظران نحو بيت، فخطا خطوة، فصفر به الثعبان، وأقبل عليه كالسهم، فأخرج
له، فانساب عنه قدما لا ينظر إليه، فوقع في نفسه أن مصنوع، فأمسكه
بيده، فإذا هو مصنوع من ذهب، وعيناه ياقوتتان، فكسره وأخذ عينيه، ودخل
البيت، فإذا جثث على سرر طوال لم ير مثله طويلا وعظما، وعند رؤوسهم لوح
من فضة، فيه تاريخهم، وإذا هم رجال من ملوك جرهم، وآخرهم موتا الحارث
بن مضاض صاحب الغربة الطويلة، وإذا عليهم ثياب لا يمس منها شيء إلا
انتثر كالهباء من طوال الزمن، وشعر مكتوب في اللوح، فيه عظات، آخر بيت
منه:
صاح هل رأيت أو سمعت براع
رد في الضرع ما قرى في الحلاب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 شاعر جاهلي، طلب النبوة، وكان يحدث في شعره بأحاديث خلق الكون وقصص
الأنبياء، ورثى قتلى بدر، وتوفي عام 9هـ.
2 في الروض الأنف 1/ 158: "المدان".
3 مشمعل: بعيد الصوت أو سريع.
4 الروح: جمع رواح، وهي الجفان الكبيرة، الشيزى: نوع من الخشب تتخذ منه
القصاع، اللباب: خالص الشيء يلبك: يخلط أو يعجن، الشهاد: نوع من العسل.
ج / 2 ص -126-
وقال ابن هشام: كان اللوح من رخام، وكان
فيه: أنا ثعلبة بن عبد المدان بن خشرم بن عبد يا ليل بن جرهم بن قحطان
بن هود نبي الله، عشت خمسمائة عام، وقطعت غور الأرض باطنها وظاهرها في
طلب الثروة والمجد والملك؛ فلم يكن ذلك ينجيني من الموت، وتحته مكتوب:
قد قطعت البلاد في طلب الثر
وة والمجد قالص1 الأثواب
وسريت البلاد قفرا لقفر
بضماني2 وقوتي واكتسابي
فأًصاب الردى بنات فؤادي
بسهام من المنايا صباب
فانقضت شدلي وأقصر جهلي
واسترحت عواذلي عن عتاب
ودفعت السعادة بالحكم لما
نزل الشيب في محل الشباب
صاح هل رأيت أو سمعت براع
در في الضرع ما قرى في الحلاب
وإذا في وسط البيت كوم عظيم من الياقوت واللؤلؤ والذهب
والفضة والزبرجد فأخذ منه ما أخذ، ثم علم على الشق بعلامة، وأغلق بابه
بالحجارة، وأرسل إلى أبيه بالمال الذي خرج به يسترضيه ويستعطفه، ووصل
عشيرته كلهم فسادهم، وجعل ينفق من ذلك الكنز ويطعم الناس ويفعل
المعروف.
وذكر حديث كنز ابن جدعان موصلا بحديث الحارث بن مضاض: ابن هشام في غير
هذا الكتاب: ووقع لنا في كتاب "ري العاطش وأنس الواحش" لأحمد بن عمار،
أن ابن جدعان حرم في الجاهلية، بعد أن كان مغرى بها؛ وذلك أنه سكر
فتناول القمر ليأخذه، فأخبر بذلك حين صحا، فحلف لا يشربها أبدا، ولما
كبر وهرم أراد بنو تيم أن يمنعوه من تبذير ماله، ولاموه في العطاء فكان
يدعو الرجل، فإذا دنا منه لطمه لطمة خفيفة ثم قال: قم فانشد لطمتك،
واطلب ديتها؛ فإذا فعل ذلك أعطته بنو تيم من مال ابن جدعان حتى يرضى...
انتهى من كتاب السهيلي3.
وذلك جميع ما ذكرناه من خبر ابن جدعان خلا ما ذكرناه من خبره عن ابن
الكلبي.
وفي مسلم أن عائشة -رضي الله عنها- قالت لرسول الله صلى الله عليه
وسلم: "إن ابن جدعان كان يطعم الطعام، ويقري الضيف؛ فهل ينفعه ذلك يوم
القيامة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "لا، إنه لا يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم
الدين"4... انتهى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قالص الأثواب: القصير منها.
2 كاذ في الأصل، وفي الروض الأنف 1/ 159: "بقائي".
3 الروض الأنف 1/ 158-160.
4 أخرجه مسلم "الإيمان، 365".
ج / 2 ص -127-
وذكر الفاكهي في وفاة ابن جدعان هذا خبرا
غريبا؛ لأنه قال في الترجمة التي ترجم عليها بما نصه: "ذكر موت أهل
الشرف من قريش، بمكة ومراثيهم"، ثم هلك عبد الله بن جدعان بن عمرو
التيمي، فبكته الجن والإنس، فأما بكاء الجن: فحدثني إبراهيم بن يوسف
المكي، قال: حدثنا إسماعيل بن زياد، عن ابن جريج قال: إن عبد الله بن
عباس -رضي الله عنهما- كان يحدث أن النباش بن زرارة التميمي -وكان
حليفا لقريش- قال: خرجنا إلى الشام تجارا في الجاهلية وعبد الله بن
جدعان صبي حين خرجنا؛ فلما سرنا نحوا من خمس عشرة ليلة، نزلنا ذات ليلة
واشتهينا أن نصبح بذلك المكان. قال: فقام أصحابي، وأصابني أرق شديد،
فإذا هاتف يهتف يقول:
ألا هلك الهلوك غيث بن فهر
وذو العز والمج التليد وذو الفخر
قال:
فأجبته فقلت:
ألا أيها الناعي أخا المجد والذكر
من المرء تنعاه لنا من بني فهر؟
فأجابه الهاتف فقال:
نعيت ابن جدعان بن عمرو أخا الندى
وذا الحسب المعدود والمنصب الفخر
قال: فأجبته فقلت:
لعمري لقد نوهت بالسيد الذي
له الفضل معلوم على ولد النضر
فأخبرنا أنا علمت وفاته
فإنك قد أخبرت جلا من الأمر
فأجابه الهاتف فقال:
مررت بنسوان يخمشن أوجها
عليه صياحا بين زمزم والحجر
قال فأجبته فقلت:
متى إنما عهدي به منذ جمعة
وستة أيام لغرة ذا الشهر
قال: فأجابه الهاتف فقال:
ثوى منذ أيام ثلاث كوامل
مع الصبح أو في الصبح في وضح الفجر
قال: فاستيقظ الرفقة وهي تتراجع بنعي ابن جدعان، وقالوا: إن
كان أحد نعي لعز وشرف فقد نعي ابن جدعان؛ فقال الجني:
أرى الأيام لا تبقي عزيزا
لعزته ولا تبقي ذليلا
فأجبته فقلت:
ولا تبقي من الثقلين حيا
ولا تبقي الجبال ولا السهولا
ج / 2 ص -128-
فقال الجني: صدقت... انتهى1.
وذكر الهاتف شيئا من رثاء الإنس لابن جدعان2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه الرواية من أحاديث الأدب الموضوعة.
2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 196-198.
ذكر شيء من خبر أجواد قريش في الجاهلية:
كان في قريش في الجاهلية، أجواد مع ابن جدعان، لهم في الجود أخبار
مشهورة؛ ويقال لبعضهم: أزواد الركب؛ لكفايتهم من معهم المؤنة، على ما
ذكر ابن الكلبي وغيره. وفيما نقل الفاكهي وغيره. ونص ما ذكر الفاكهي:
"ذكر أزواد الركب من قريش".
حدثنا حسن بن حسين الأزدي، قال: حدثنا أبو جعفر، عن هشام بن الكلبي،
قال: وكانوا إذا سافروا لم يختبز معهم أحدا، ولم يطبخ إلا الأسود بن
عبد المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي، ومسافر بن أبي عمرو، وابن أبي
عمرو بن أمية بن عبد شمس، وأبو أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن
مخزوم، وزمعة بن عبد المطلب بن أسد... انتهى1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 198.
ذكر الحكام من قريش بمكة في الجاهلية:
هؤلاء الحكام ذكرهم الفاكهي؛ لأنه قال: "ذكرالحكام من قريش بمكة".
حدثنا محمد بن علي النجار الصنعاني قال: حدثنا عبد الرزاق -هو1 ابن
جريج- قال: أخبرني بشير بن تميم، أن الحارث2 بن عبيد بن عمرو بن مخزوم
كان حكم قريش في الجاهلية، وكان أول من حكم قريشا في الجاهلية بالقسامة
والدية؛ حكم بالقسامة في رجل، وبمائة من الإبل في رجل، وكان عقل أهل
الجاهلية الغنم.
وحدثني الحسن بن الأزدي قال: حدثنا محمد أبو جعفر، عن الكلبي في الحكام
من قريش قال: فمن بني هاشم: عبد المطلب بن هاشم، والزبير، وأبو طالب
ابنا عبد المطلب، ومن بني أمية: حرب بن أمية، أبو سفيان بن حرب، ومن
بني زهرة: العلاء بن الحارثة الثقفي، حليف بني زهرة، ومن بني مخزوم،
العدل، وهو الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم. ومن بني
سهم: قيس بن عدي بن سعد بن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 198: "عن ابن جريج".
2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 198: "ابن الحارث".
ج / 2 ص -129-
سهم، والعاص بن وائل بن هاشم بن سهم. ومن
بني عدي: كعب بن نفيل بن عبد العزى بن رزاح... انتهى.
ولم يكن أحد من هؤلاء متملكا على بقية قريش؛ وإنما ذلك بتراض من قريش
لما فيه من حسم مواد الشر، ويؤيد ذلك ما سيأتي ذكره قريبا إن شاء الله
تعالى؟.
ذكر تملك عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى
بن كلاب القرشي الأسدي على قريش بمكة وشيء من خبره:
قال الزبير بن بكار فيما رويناه عنه: حدثنا علي بن صالح، عن عامر بن
صالح، عن هشام بن عروة، عن عروة بن الزبير، قال: خرج عثمان بن الحويرث،
وكان يطمع أن يملك قريشا، وكان بمن أظرف قريش وأعقلها، حتى قدم على
قيصر، وقد رأى موضع حاجتهم إليه ومتجرهم من بلاده، فذكر له مكة ورغبة
فيها. وقال: تكون زيادة في ملكك كما ملك كسرى صنعاء؛ فملكه عليهم وكتب
له إليهم، فلما قدم عليهم قال: يا قوم إن قيصر من قد علمتم، أموالكم
ببلاده وما تصيبون من التجارة في كنفه. وقد ملكني عليكم؛ وإنما أنا ابن
عمكم وأحدكم، وإنما آخذ منكم الجراب من القرظ والعكة من السمن والإهاب،
فأجمع ذلك ثم أبعث به إليه، وأنا أخاف إن أبيتم ذلك ؟أن يمنع منكم
الشام، فلا تتجروا به، ويقطع مرفقكم منه؛ فلما قال لهم ذلك خافوا قيصر،
وأخذ بقلوبهم ما ذكر من متجرهم، فأجمعوا على أن يعقدوا على رأسه التاج
عشية، وفارقوه على ذلك: فلما طافوا عشية، بعث الله تعالى عليهم ابن عمه
أبا زمعة الأسود بن المطلب نب أسد، فصاح على أحفل ما كانت قريش في
الطواف، وقال: عباد الله ملك بتهامة، فانحاشوا انحياش حمر الوحش، ثم
قالوا: صدقت، واللات والعزى ما كان بتهامة ملك قط؛ فأسقطت قريش عما
كانت قالت له، ولحق بقيصر ليعلمه. وقال الزبير: حدثني محمد بن الضحاك
بن عثمان الحزامي عن أبيه قال: قال الأسود بن عبد المطلب حين أرادت
قريش أن تملك عثمان بن الحويرث عليها: إن قريشا لقاح لا تملك... انتهى
باختصار.
ثم روى الزبير بسنده: أن قيصر حمل عثمان على بغلة، عليها سرج عليه
الذهب، حين ملكه، قال الزبير: قال عمي: وكان عثمان بن الحويرث حين قدم
مكة بكتاب قيصر مختوم في أسفله بالذهب... انتهى.
وذكر الزبير خبرا فيما انتهى إليه أمر عثمان بن الحويرث، وملخص ذلك:
أنه خرج إلى قيصر بالشام، فسأل تجار قريش بالشام عمرو بن جفنة الغساني
أن يفسد على عثمان عند قيصر، فسأل عمرو في ذلك ترجمان قيصر فأخبر
الترجمان قيصر عن عثمان حتى حضر عثمان، وترجم عنه بأن عثمان يشتم
الملك، فأمر قيصر بإخراج عثمان، ثم تحيل
ج / 2 ص -130-
عليه عثمان حتى عرف من أين أتى ودخل على
قيصر وعرفه ما يقتضي أن الترجمان كذب عليه؛ فكتب قيصر إلى عمرو بن جفنة
يأمره أن يحبس لعثمان من أراد حبسه من تجار قريش بالشام، ففعل ذلك
عمرو، ثم سم عثمان فمات بالشام، وذكرنا هذا الخبر بنصه في أصل هذا
الكتاب، والله أعلم. |