شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام

ج / 2 ص -336-    الباب الأربعون:
في ذكر الأصنام التي كانت بمكة وحولها وشيء من خبرها:

روينا بالسند المتقدم إلى الأزرقي قال: "ما داء في أول من نصب الأصنام في الكعبة والاستسقاء بالأزلام": حدثني جدي، حدثنا سعيد بن سالم القداح، عن عثمان بن ساج قال: أخبرني محمد بن إسحاق قال: إن البئر التي كانت في الكعبة1 كانت على يمين من دخلها، وكان عمقها ثلاثة أذرع، يقال إن إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- حفراها ليكون فيها ماء يهدي للكعبة؛ فلم يزل كذلك حتى كان عمرو بن لحي، فقدم بصنم يقال له هبل من "هيت" من أرض الجزيرة، وكان هبل من أعظم أصنام قريش عندها؛ فنصبه على البئر في بطن الكعبة، وأمر الناس بعبادته، فكان الرجل إذا قدم من سفر، بدأ به على أهله بعد طوافه بالبيت، وحلق بأسه عنده، وهبل الذي يقول له أبو سفيان يوم أحد: أعل هبل، أي أظهر دينك، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم:
"الله أعلى وأجل"، وكان اسم البئر الذي كان في بطن الكعبة: الأخسف، وكان العرب تسميها: الأخشف.
قال محمد بن إسحاق: وكان عند هبل في الكعبة سبعة2 قداح كل قدح فيه كتاب: قدح فيه العقل، إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم، ضربوا بالقداح السبعة عليه؛ فعلى من خرج حمله، وقدح فيه "نعم" للأمر، إذا أرادوه ضرب به في القداح، فإن خرج فيه "نعم" عملوا به، وقدح فيه "لا" فإذا أرادوا الأمر ضربوا بالقداح، وإذا خرج ذلك القدح، لم يفعلوا ذلك الأمر، وقدح فيه "منكم"، وقدح فيه "ملصق"، وقدح فيه: "من غيركم"، وقدح فيه: "المياه"3؛ فإذا أرادوا أن يحفروا الماء ضربوا بالقداح، وفيها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 117: "في جوف الكعبة".
2 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 117، والأصنام "ص: 28": "تسعة".
3 كذا في جميع الأصول، وكذلك في السيرة لابن إسحاق، وفي "الأصنام" لابن الكلبي "ص: 28":=
"الميت".

 

ج / 2 ص -337-    ذلك القدح؛ فحيث ما خرج عملوا به، وكانوا إذا أرادوا أن يختنوا غلاما، أو ينكحوا منكحا، أو يدفنوا ميتا، أو شكلوا في نسب أحد منهم، ذهبوا به إلى هبل، وبمائة درهم وجزور، فأعطوها صاحب القداح الذي يضرب بها، ثم قربوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون، ثم قالوا: يا إلهنا، هذا فلان أردنا به كذا وكذا، فأخرج الحق فيه، ثم يقولون لصاحب القداح: اضرب، فإن خرج "منكم" كان منهم وسطا، وإن خرج عليه "من غيركم" كان حليفا، فإن خرج عليه "ملصقا" كان ملصقا على منزلته فيهم، لا نسب له ولا حلف، وإن خرج عليه شيء ما سوى هذا مما يعلمون به عملوا به، وإن خرج "لا" أخروه عامه ذلك؛ حتى يأتوا به مرة أخرى، ينتهون في أمرهم ذلك، إلى ما خرجت به القداح. وكذلك فعل عبد المطلب بابنه حين أراد أن يذبحه1.
قال محمد بن إسحاق: كان هبل من حجر العقيق، على صورة إنسان وكانت يده اليمنى مكسورة فأدركته قريش؛ فجعلت له يدا من ذهب، وكانت له خزانة للقربان، وكانت له سبعة قداح يضرب بها على الميت والعذرة والنكاح، وكان قربانه مائة بعير، وكان له حاجب، وكانوا إذا جاءوا هبل بالقربان ضربوا بالقدح وقالوا:

إنا اختلفنا فهب السراحا    ثلاثة يا هبل فصاحا

الميت والعذرة والنكاحا    والبرء في المرضى والصحاحا

إن لم تقله فمر القداحا2

ما جاء في أول من نصب الأصنام وما كان من كسرها:
وبالسند المتقدم إلى الأزرقي قال: حدثني جدي، عن سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج قال: حدثني محمد بن إسحاق قال: إن جرهما لما طغت في الحرم، دخل رجل منهم بامرأة منهم الكعبة، ففجر بها، ويقال إنه قبلها فيها، فمسخا حجرين، اسم الرجل إساف بن بغاء، واسم المرأة نائلة بنت ذئب، فأخرجا من الكعبة، ونصب أحدهما على الصفا، والآخر على المروة؛ وإنما نصبا هناك ليعتبر بهما الناس ويزجروا عن ما ارتكبا، لما يرون من الحال الذي صارا إليها؛ فلم يزل الأمر يدرس ويتقادم، حتى صارا يمسحان، يتمسح بهما من وقف على الصفا والمروة، إلى أن صارا وثنين يعبدان؛ فلما كان عمر بن لحي أمر الناس بعبادتهما والتمسح بهما، وقال للناس: إن من كان قبلكم كان يعبدهما؛ فكان كذلك، حتى كان قصي بن كلاب، فصارا أمر الحجابة إليه،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأصنام لابن الكلبي "ص: 28".
2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 117-119، الأصنام لابن الكلبي "ص: 27".

 

ج / 2 ص -338-    وكذا أمر مكة فحولهما من الصفا والمروة، فجعل أحدهما بلصق الكعبة، وجعل الآخر في موضع زمزم، ويقال: جعلهما جميعا موضع زمزم، وكان ينحر عندهما1 وكان أهل الجاهلية يمرون بإساف ونائلة ويتمسحون بهما، وكان الطائف إذا طاف بالبيت يبدأ بإساف فيستلمه؛ فإذا فرغ من طوافه ختم بنائله فاستلمها، فكان كذلك حتى كان يوم الفتح، فكسرهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع ما كسر من الأصنام2.
وبه إلى الأزرقي قال: حدثنا محمد بن يحيى قال: حدثنا عبد العزيز بن عمران، عن محمد بن عبد العزيز، عن ابن شهاب الدين، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة، وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما، منها ما قد شد بالرصاص3؛ فطاف -صلى الله عليه وسلم- على راحلته وهو يقول:
{جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81]، ويشير -صلى الله عليه وسلم- إليها، فما منهم صنم أشار إلى وجهه إلا وقع على دبره، ولا أشار إلى دبره إلا وقع على وجهه، حتى وقعت كلها.
وقال ابن إسحاق: ولما صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- الظهر يوم الفتح، أمر بالأصنام التي حول الكعبة كلها؛ فجمعت ثم حرقت بالنار وكسرت، وفي ذلك يقول فضالة بن عمر بن الملوح الليثي في ذكر يوم الفتح:

لو ما رأيت محمدا وجنوده    بالفتح يوم تكسر الأصنام

لرأيت نور الله أصبح بينا   والشرك يغشى وجهه الإظلام

حدثني جدي، وحدثني محمد بن إدريس، عن الواقدي، عن ابن أبي سبرة، عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، عن عكرمة، عن ابن أبي عباس -رضي الله عنهما- قال: ما يزيد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أن يشير بالقضيب إلى الصنم، فيقع بوجهه، ثم قال: وأمر -صلى الله عليه وسلم- بهبل فكسر، وهو واقف عليه، فقال الزبير بن العوام -رضي الله عنه- لأبي سفيان: يا أبا سفيان بن حرب، قد كسر هبل، أما إنك قد كنت منه في يوم أحد في غرور، حين تزعم أنه قد أنعم عليك، فقال أبو سفيان -رضي الله عنه: دع هذا عنك يا ابن العوام؛ فقد أرى لو كان مع إله محمد غيره لكان غير ما كان4... انتهى باختصار.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه الرواية بعيدة عن المعروف عن قصي من عبادته لله على دين الحنيفية البيضاء.
2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 119، 120، الأصنام لابن الكلبي "ص: 29".
3 في أخبار مكة 1/ 121: "قد شدهما إبليس بالرصاص".
4 أخبار مكة للأزرقي 1/ 121، 122.

 

ج / 2 ص -339-    وبه إلى الأزرقي قال: حدثني جدي، عن محمد بن إدريس، عن الواقدي عن أشياخه، فذكر شيئا من خبر إساف ونائلة1: منها: أنها بنت سهيل، وإساف بن عمرو، ثم قال: فلما كسرت الأصنام كسرا، فخرج من أحدهما امرأة سوداء شمطاء تخمش وجهها، عريانة ناشرة الشعر، تدعو بالويل؛ فقيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، فقال -صلى الله عليه وسلم: "تلك نائلة قد أيست أن تعبد في بلادكم أبدا"2.
وذكر الواقدي عن أشياخه قال: نادى منادي رسول الله -صلى الله عليه وسلم يوم الفتح بمكة: من كان يؤمن بالله ورسوله فلا يدع في بيته صنما إلا مشى إليه حتى يكسره؛ فجعل المسلمون يكسرون تلك الأصنام. قال: وكان عكرمة بن أبي جهل حين أسلم لا يسمع بصنم في بيت من بيوت قريش إلا مشى إليه حتى يكسره، وكان أبو نحراة3 يعملها في الجاهلية ويبيعها، فلم يكن في قريش رجل بمكة إلا وفي صنم.
قال الواقدي: وحدثني ابن أبي سبرة، عن سليمان بن سحيم، عن بعض آل جبير بن مطعم، عن جبير بن مطعم -رضي الله عنه- قال: لما كان يوم الفتح نادى منادي رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"من كان يؤمن بالله ورسوله4 واليوم الآخر، فلا يتركن في بيته صنما إلا كسره أو أحرقه، وثمنه حرام"، قال جبير -رضي الله عنه: وكنت أرى قبل ذلك الأصنام يطاف بها بمكة، فيشتريها أهل البدو، فيخرجون بها إلى بيوتهم، وما بقي رجل5 من قريش إلا وفي بيته صنم، إذا دخل يمسخه، وإذا خرج بمسحه؛ تبركا به.
قال الواقدي: وأخبرنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن عبد الحميد بن سهيل قال: لما أسلمت هند بنت عتبة، جعلت تضرب صنما في بيتها بالقدوم فلذة فلذة، وهي تقول: كنا منك في غرور.
وبه قال الأزرقي: باب ما جاء في الأصنام التي كانت على الصفا والمروة ومن نصبها، وما جاء في ذلك:
حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم القداح، عن عثمان بن ساج قال: أخبرني ابن إسحاق قال: نصب عمرو بن لحي الخلصة6 بأسفل مكة؛ فكانوا يلبسونها القلائد،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأصنام لابن الكلبي "ص: 29".
2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 122.
3 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 123: "أبو شنجارة".
4 "رسوله": سقطت من أخبار مكة للأزرقي 1/ 123.
5 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 123: "ما من رجل".
6 اسمه في كتاب الأصنام لابن الكلبي "ص: 34": "ذو الخلصة"، وأخبر بأنها كانت بين مكة واليمن، والخبر في بلوغ الأرب 2/ 223، معجم البلدان 2/ 4/ 80، وفيه: وهي قرية من أعمال الطائف، معروفة بهذا الاسم إلى اليوم، وهي محاذية لوادي ركبة.

 

ج / 2 ص -340-    ويهدون لها الشعير والحنطة، ويصبون عليها اللبن، ويذبحون لها، ويعلقون عليها بيض النعام، ونصب على الصفا صنما يقال له: نهيك مجاور الرمح، ونصب على المروة صنما يقال له: مطعم الطير1.
ذكر ما جاء في اللات والعزى وما جاء في بدئها كيف كان:
حدثني جدي قال: حدثني سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج، عن محمد بن السائب الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: إن رجلا ممن مضى كان يقعد على صخرة لثقيف يبيع السمن من الحاج إذا مروا، فيلت سويقهم، وكان ذا غنم، فسميت صخرة اللات، فمات؛ فلما فقده الناس، قال لهم عمرو بن لحي: إن ربكم كان اللات، فدخل في جوف الصخرة، وكانت العزى ثلاث شجرات بنخلة، وكان أول من دعا إلى عبادتها عمر بن ربيعة، والحارث بن كعب، وقال لهم عمرو: إن ربكم يتصيف باللات لبرد الطائف، ويشتي2 بالعزى لحر تهامة. وكان في كل واحدة شيطان يعبد.
فلما بعث الله محمدا -صلى الله عليه وسلم- بعث بعد الفتح خالد بن الوليد -رضي الله عنه- إلى العزى ليقطعها فقطعها، ثم جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم؛ فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم:
"ما رأيت فيهن؟" قال: لا شيء. قال -صلى الله عليه وسلم: "ما قطعتهن فارجع فاقطع". فرجع فقطع، فوجد تحت أصلها امرأة ناشرة شعرها، قائمة عليهن كأنها تنوح عليهن، فرجع فقال: إني وجدت كذا وكذا، قال: صدقت.
حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج قال: أخبرنا ابن إسحاق: أن عمرو بن لحي اتخذ العزى بنخلة3؛ فكانوا إذا فرغوا من حجهم وطوافهم بالكعبة، لم يلحوا حتى يأتوا العزى، فيطوفون بها ويحلون عندها ويعكفون عندها يوما، وكانت لخزاعة، وكانت قريش بنو كنانة كلها تعظم العزى مع خزاعة وجميع مضر، وكان سدنتها الذين يحجبونها بنو شيبان من بني سليم حلفاء بني هاشم.
وقال عثمان: وأخبرنا محمد بن السائب الكلبي قال: كانت بنو مضر وجشم، وسعد بن بكر -وهم عجز هوازن- يعبدون العزى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 124.
2 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 126: "يشتون".
3 قال الكلبي: "العزى" هي أحدث من اللات ومناة، وكانت بواد من نخلة الشامية، يقال له: حراض، بإزاء الغمير عن يمين المصعد إلى العراق من مكة: "الأصنام ص: 17، 18".

 

ج / 2 ص -341-    قال الكلبي: وكان اللات والعزى ومناة في كل واحدة منهن شيطانة تكلمهم، وتراءا للسدنة، وهم الحجبة؛ وذلك من صنيع إبليس وأمره، ثم قال: وكان هدمها لخمس ليال بقين من شهر رمضان سنة ثمان1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 126، 127.

ذكر أسواق مكة في الجاهلية والإسلام:
روينا في "تاريخ الأزرقي خبرا فيه حج الجاهلية ومواسمهم وأسماء الشهور، رواه بسنده إلى الكلبي، قال فيه: فإذا كان الحج في الشهر الذي يسمونه ذي الحجة، خرج الناس إلى مواسمهم، فيصبحون بعكاظ يوم هلال ذي القعدة فيقيمون به عشرين ليلة، ويقوم فيها أسواقهم بعكاظ، والناس على مراعيهم ورايتهم منحازين في المنازل، يضبط كل قبيلة أشرافها وقادتها، ويدخل بعضهم في بعض للبيع والشراء، ويجتمعون في بطن السوق، فإذا مضت العشرون انصرفوا إلى مجنة؛ فأقاموا بها عشرا، وأسواقهم قائمة، فيقيمون بها إلى يوم التروية، ويخرجون يوم التروية من ذي المجاز إلى عرفة فيترون ذلك اليوم من الماء بذي المجاز؛ وإنما سمي يوم التروية لترويهم من في الماء بذي المجاز ينادي بعضهم بعضا: ترووا من الماء؛ لأنه لا ماء بعرفة ولا بالمزدلفة -يومئذ- وكان يوم التروية آخر أسواقهم؛ وإنما كان يحضر هذه المواسم بعكاظ، ومجنة وذي المجاز التجار ومن كان يريد التجارة، ومن لم يكن له تجارة ولا بيع فإنه يخرج من أهله متى أراد، ومن كان من أهل مكة ممن لا يريد التجارة خرج من مكة يوم التروية، فيتروى من الماء، فينزل الحمس أطراف المسجد الحرام من غرة يوم عرفة، وينزل الحلة عرفة، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- في سنينه التي دعا فيها بمكة قبل الهجرة لا يقف مع قريش والحمس في طرف الحرم، وكان يقف مع الناس بعرفة.
ثم قال: وكانوا لا يتبايعون في يوم عرفة، ولا أيام مني؛ فلما أن جاء الله تعالى بالإسلام أحل الله -عز وجل- ذلك لهم، فأنزل الله عز وجل في كتابه
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] وفي قراءة أبي بن كعب: في مواسم الحج، يعني: منى، وعرفة، وعكاظ، ومجنة، وذي المجاز، فهذه مواسم الحج2.
ثم قال الكلبي: وكانت هذه الأسواق: عكاظ، ومجنة، وذي المجاز، قائمة في الإسلام، حتى كان حينا من الدهر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 126، 127.
2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 188، 189، وإتحاف الورى 2/ 589.

 

ج / 2 ص -342-    فأما عكاظ: فإنما تركت عام خرج الحرورية1 بمكة مع أبي حمزة المختار بن عوف الأزدي الإباضي في سنة تسع وعشرين ومائة، خاف الناس أن ينتهبوا، وخافوا الفتنة، فتركت حتى الآن.
ثم تركت المجنة وذو المجاز بعد ذلك واستغنوا بالأسواق بمكة وبمنى وعرفة2.
قال أبو الوليد الأزرقي: وعكاظ: وراء قرن المنازل بمرحلة على طريق صنعاء في عمل الطائف على بريد منها، وهي سوق لقيس عيلان وثقيف، وأرضها لنضر.
ومجنة: سوق بأسفل مكة على بريد منها، وهي سوق لكنانة، وأرضه من أرضها كنانة، وهي التي يقول فيها بلال -رضي الله عنه:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة    بفخ3 وحولي إذخر وجليل

وهل أردن يوما مياه مجنة   وهل تبدون لي شامة وطفيل

وشامة وطفيل: جبلان مشرفان على مجنة.
وذو المجاز: سوق لهذيل عن يمين الموقف من عرفة قريب من كبكب4 على فرسخ من عرفة.
وحباشة5 سوق الأزد، وهي في ديار الأوصام6 من بارق7 من صدر قنونا8.
وحلي بناحية اليمن، وهي من مكة على ست ليال، وهي آخر سوق خربت من أسواق الجاهلية، وكان والي مكة يستعمل عليها رجلا يخرج معه بجند، فيقيمون بها ثلاثة أيام من أول شهر رجب متوالية، حتى قتلت الأزد واليا كان عليها بعثه داود بن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الحرورية طائفة من الخوارج تنسب إلى "حروراء" قرب الكوفة؛ لأنه كان بها أول اجتماع لهم حين خالفوا علينا -رضي الله عنه.
2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 190.
3 فخ: هو واد معروف بمكة واقع في مدخلها بين طريق جدة وبين طريق التنعيم ووادي فاطمة، ويسمى أيضا وادي الزاهر؛ لكثرة  الأشجار والأزهار التي كانت فيه قديما، أما اليوم فيعرف باسم الشهداء، إشارة إلى واقعة يوم التروية عام 169هـ بين الحسين بن علي بن الحسين، وجيوش بني العباس التي قتل فيها الحسين، وقد أسس في هذا الوادي قصر المنصور الذي بناه الملك عبد العزيز آل سعود عام 1347هـ.
4 كبكب: بالفتح والتكرير اسم جبل خلف عرفات مشرف عليها "معجم البلدان 4/ 434".
5 حباشة: بالضم؛ سوق من أسواق العرب في الجاهلية في تهامة "معجم البلدان 2/ 210".
6 الأوصام: قرية باليمن.
7 بارق: جبل بتهامة "معجم البلدان 1/ 319".
8 وادي من أودية السراة يصب إلى البحر في أوائل أرض اليمن من جهة مكة قرب حلي، "معجم البلدان 4/ 409".

 

ج / 2 ص -343-    عيسى بن موسى في سنة سبع وتسعين ومائة؛ فأشار فقهاء أهل مكة على داود بن عيسى بتخريبها، فخربها، وترك إلى اليوم.
وإنما ترك ذكر حباشة مع هذه الأسواق؛ لأنها لم تكن في مواسم الحج، ولا في أشهره؛ وإنما كانت في رجب... انتهى باختصار1.
وقد خولف الأزرقي فيما ذكره في مجنة، وشامة، وطفيل، من وجوه:
منها: أن الفاكهي ذكر ما يقتضي أن مجنة في غير المحل الذي سبق ذكره؛ لأنه قال: حدثني عبد الملك بن محمد بن زياد بن عبد الله، عن ابن إسحاق قال: كانت عكاظ، ومجنة، وذو المجاز، الأسواق التي يجتمع بها العرب للتجارة كل عام إذا حضر الموسم، يحج العرب فيها، ويأمن بعضهم بعضا حتى تنقضي أيامها، وكانت مجنة بمر الظهران إلى جبل يقال له: الأصفر، وكانت عكاظ فيما بين نخلة والطائف إلى بلد يقال له العنق، وكانت ذو المجاز ناحية عرفة إلى جانبها، قال عبد الملك: الأيسر؛ وإنما هو الأيمن إذا وقفت على الموقف... انتهى.
ومنها أن كلام الأزرقي يقضي أن مجنة عن بريد من مكة.
وذكر القاضي عياض في "المشارق" ما يخالف؛ ذلك لأنه قال: طفيل وشامة جبلان على نحو من ثلاثين ميلا من مكة2... انتهى.
ووجه مخالفة هذا لما ذكره الأزرقي: أن شامة، وطفيل، جبلان مشرفان على مجنة على ما ذكره الأزرقي، وإذا كانا كذلك وكانا من مكة على المقدار الذي ذكره القاضي عياض، وكانا مشرفين على مجنة كما ذكر الأزرقي؛ فتكون مجنة من مكة على المقدار الذي ذكره القاضي عياض وهو نحو ثلاثين ميلا؛ وذلك بريدان أو أزيد، فإن البريد اثنا عشر ميلا، والعيان يشهد لصحة ما ذكره القاضي عياض في شامة، وطفيل؛ لكون الجبلين المعروفين عند الناس: شامة، وطفيل: من مكة على بريدين على مقتضى ما ذكر الأزرقي من أن شامة وطفيل مشرفان على مجنة، ولعل الأزرقي أراد أن يكتب أن مجنة على بريدين من مكة فسها عن الياء والنون فكتب بريد، والله أعلم.
وذكر المحب الطبري ما يوافق ما ذكره القاضي عياض في مقدار ما بين مكة، وشامة، وطفيل، وسيأتي كلامه -إن شاء الله تعالى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 190-192، وإتحاف الورى 2/ 260.
2 المشارق 1/ 327، وعزاه للفاكهي، وذكر أقوالا أخرى.

 

ج / 2 ص -344-    ومنها: أن كلام الأزرقي يقتضي أن شامة، وطفيل، جبلان، وذكر ما يخالف ذلك، وحكى عنه ذلك القاضي عياض؛ لأنه قال بعد أن قال ما سبق ذكره في شامة وطفيل: قال الخطابي: كنت أحسب أنهما جبلين حتى أثبت لي أنهما عينان1... انتهى.
وذكر المحب الطبري ما ذكره الخطابي، ولم يعزه، ورجح ما ذكره الأزرقي؛ لأنه قال: وشامة، وطفيل قيل: جبلان مشرفان على مجنة، وقيل: عينان عندها، والأول أشهر، والمعروف عند العرب اليوم أن شامة وطفيل جبلان على مرحلتين وأكثر من مكة، في جهة اليمن... انتهى.
وقول المحب: والمعروف... إلى آخره، هو ما أشرنا إلى أنه يأتي ذكره من كلامه، ولا يبعد أن يترجح كونهما جبلين؛ فإنهما لو كانا عينين لتمنى بلال -رضي الله عنه- ورودهما، كما تمنى ورود مياه مجنة، والله أعلم.
ومنها: أن الأزرقي قال: شامة بالميم، وكذا في الصحيحين وغيرهما: وقيل في شامة: شابة بالباء؛ ذكر ذلك ابن الأثير، ورجحه الصاغاني؛ لأن المحب الطبري قال: قال ابن الأثير -رحمه الله: وبعضهم يقول شابة بالباء الموحدة، وهو جبل حجازي، وصحح هذا الوجه شيخنا رضي الدين الحسن الصاغاني اللغوي... انتهى.
ومجنة بفتح الميم وكسرها، وبالفتح قيدها الحيالي، والفتح أكثر على ما ذكر المحب الطبري؛ لأنه قال: وبعضهم يكسر ميمها، والفتح أكثر، وهي زائدة، ورأيت بخطه في نسخة من كتاب "القرى" ما استشكله، على ما ذكره الأزرقي في جهة موضع مجنة، وصورة ما رأيته: ومجنة موضع بأعلى مكة على أميال، كان يقام للعرب بها سوق... انتهى.
ووجه استشكال ذلك مع ما ذكره الأزرقي: أن الذي رأيته في "القرى" يقتضي أن مجنة بأعلى مكة، وكلام الأزرقي يقتضي أنها بأسفل مكة؛ لقوله: ومجنة سوق بأسفل مكة؛ والظاهر أن الذي في "القرى" سبق قلم من المؤلف، والله أعلم.
ومجنة غير معروفة الآن، ورأى من يتخيل أنها الموضع المعروف بالأطواء2 في طريق اليمن إلى مكة، وعلل ذلك؛ لأنها تسمى عند العرب الحنينة لطيب مائها، وفي ذلك نظر؛ لما ذكره الأزرقي من أن شامة وطفيل جبلان مشرفان على مجنة، والجبلان المعروفان عند الناس شامة وطفيل لا يشرفان على الموضع المعروف بالأطواء لبعدهما منه، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المشارق 1/ 327.
2 الأطواء: بالفتح ثم السكون، قرية من أرض اليمامة ذات نخل وزرع كثير "معجم البلدان 1/ 219".

 

ج / 2 ص -345-    ذكر شيء مما قيل من الشعر في التشوق إلى مكة الشريفة وذكر معالمها المنيفة:
أنشدني المعمر بن محمد بن داود الصالحي إذنا مكاتبة، والأصيلة أم الحسن فاطمة بنت مفتي مكة شهاب الدين أحمد بن قاسم العمري إذنا مشافهة، أن الإمام المحدث فخر الدين عثمان بن محمد بن عثمان المالكي أنشدهما إذنا مشافهة، قال: أنشدنا الأديب أبو بكر محمد بن محمد بن عبد الله بن رشيد البغدادي قصيدة نفيسة سماها "الذهبية في الحجة الملكية والزورة المحمدية"، جاء فيها:

فيا أين أيام تولت على الحما   وليل مع العشاق فيه سهرناه

ونحن لجيران المحصب جيرة    نوفي لهم حسن الوداد ونرعاه

ومنها قوله:

فهاتيك أيام الحياة وغيرها    ممات فيا ليت النوى ما شهدناه

ويا ليت عنا أغمض الدهر طرفه    ويا ليت وقتا للفراق فقدناه

وترجع أيام المحصب من منى   ويبدو ثراه للعيوب وحصباه

وتسرح فيه العيس بين ثمامة   وتستنشق الأرواح طيب خزاماه

ومنها قوله:

فشدوا مطايانا إلى الربع ثانيا   فإن الهوى عن ربعهم ما ثنيناه

ففي ربعهم لله بيت مبارك    إليه قلوب الناس تهوى وتهواه

يطوف به الجاني فيغفر ذنبه    ويسقط عنه إثمه وخطاياه

وكم لذة كم فرحة لطوافه    فلله ما أحلى الطواف وأهناه

نطوف كأنا بالجنان نطوفها   ولا هم لا غم جميعا نفيناه

فيا شوقنا نحو الطواف وطيبة   فذلك طيب لا يعبر معناه

فمن لم يذقه لم يذق قط لذة   فذقه تذق يا صاح ما نحن ذقناه

ترى رجعة أو عودة لطوافنا   وذاك الحمى قبل المنية نغشاه

فوالله لا ننسى الحمى فقلوبنا    هناك تركناها فيا كيف ننساه

ووالله لا ننسى زمان مسيرنا   إليه وكل الركب يلتذ مسراه

وقد نسيت أولادنا ونساؤنا   وإخوننا والقلب عنهم شغلناه

تراءت لنا أعلام وصل على اللوى    فمن ثم أمسى القلب عنهم لويناه

جعلنا إله العرش نضب عيوننا   ومن دونه خلف الظهور نبذناه

وسرنا نشق البيد للبلد الذي    بجهد وشق للنفوس بلغناه

رجالا وركبانا على كل ضامر   ومن كل فج مقفر قد أتيناه

 

ج / 2 ص -346-    نخوض إليه البحر والبر والدجا    ولا مفظع إلا إليه قطعناه

ونطوي الفلا من شدة الشوق للقا    فنمشي الفلا نحكي السجل طويناه

ولا صدنا عن قصدنا فقد أهلنا   ولا هجر جار أو حبيب ألفناه

وأموالنا مبذولة ونفوسنا    ولا نبغ شيئا منعناه

ومنها قوله:

عرفنا الذي نبغي ونطلب فضله    فهان علينا كل شيء بذلناه

ولو قيل إن النار دون مزاركم    دفعنا إليها والعذول دفعناه

ومنها قوله:

ترادفت الأشواق واضطرم الحشا    فمن ذا له ضرم وتضرم أحشاه

وأسرى بنا الحادي وأمعن في السرا   وولي الكرى نوم الجفون نفيناه

ومنها قوله:

نحج لبيت حجه الرسل قبلنا    لنشهد نفعا في الكتاب وعدناه

دعانا إليه الله عند بنائه   فقلنا له لبيك داع أجبناه

وما زال وفد الله يقصد مكة   إلى أن بدا البيت العتيق وركناه

فضجت ضيوف الله بالذكر والدعا   وكبرت الحجاج حين رأيناه

وقد كادت الأرواح تزهق فرحة    لما نحن من عظم السرور وجدناه

وطفنا به سبعا رملنا ثلاثة   وأربعة مشيا كما قد أمرناه

كذلك طاف الهاشمي محمد    طواف قدوم مثل ما طاف طفناه

وسالت دموع من غمام جفوننا   على ما مضى من إثم ذنب كسبناه

ونحن ضيوف الله جئنا لبيته    نريد القرى نبغي من الله حسناه

فنادى بنا أهلا ضيوفي تباشروا   وقروا عيونا فالحجيج أضفناه

فأي قرى يعلو قرانا لضيفنا   وأي ثواب فوق ما قد أثبناه

ومنها قوله:

فطيبوا وسيروا وافرحوا وتباشروا    تهنوا وهموا بابها قد فتحناه

ولا ذنب إلا وقد غفرناه منكم    وما كان من عيب عليكم سترناه

ومنها قوله:

ويوم منى سرنا إلى الجبل الذي    من البعد قد حيانا كما قد عهدناه

فلا حج إلا أن يكون بأرضه   وقوف وهذا في الصحاح رويناه

إليه فؤاده المرء يشعر بالهنا    ولولا ما كان الحجار سلكناه

 

ج / 2 ص -347-   وبتنا بأقطار المحصب من منى   فيا طيب ليل بالمحصب بتناه

وسرنا إليه طالبين وقوفنا   عليه ومن كل الوجوه أممناه

على علميه للوقوف جلالة   فلا زالتا تحمي وتحرس أرجاه

وبينهما حزنا إليه برحمة    فيا طيبها ليت الزحام رجعناه

ولما رأيناه تعالى عجيجنا   نلبي وبالتهليل منا ملأناه

وفيه نزلنا بكرة بذنوبنا   وما هو من ثقل المعاصي حملناه

وبعد زوال الشمس كان وقوفنا   إلى الليل نبكي والدعاء قد أطلناه

ومنها قوله:

على عرفات قد وقفنا بموقف   به الذنب مغفور وفيه محوناه

وقد أقبل الباري علينا بوجهه   وقال: ابشروا فالعفو فيكم نشرناه

وعنكم ضمنا كل تابعة جرت    عليكم وأما حقنا قد وهبناه

أقلناكم من كل ما قد جنيتم    ومن كان ذا عذر إلينا عذرناه

ومنها قوله:

وطوبى لمن ذاك المقام مقامه   وبشراه في يوم التغابن بشراه

نرى موقفا فيه الخزائن فتحت   ووالى علينا الله منه عطاياه

ومنها قوله:

ودارت علينا الكأس بالوصل والرضا    سقينا شرابا مثله ما سقيناه

فإن شئت تسقي ما سقينا على الحمى   فخلِ التواني واقصد محلا حللناه

ومنها قوله:

فظل حجيج الله لليل واقفا    فقيل انفروا فالكل منكم قبلناه

أفيضوا وأنتم حامدون إلهكم    إلى مشعر جاء الكتاب بذكراه

وسيروا إليه واذكروا الله عنده   فسرنا ومن بعد العشاء نزلناه

وفيه جمعنا مغربا لعشائنا    ترى عابد جمع بجمع جمعناه

وبتنا به منه التقطنا جمارنا    وربا ذكرناه على ما هداناه

ومنه أفضنا حيث ما الناس قبلنا    أفاضوا وغفران الإله طلبناه

ونحو منى ملنا بها كان عيدنا   ونلنا بها ما القلب كان تمناه

فمن منكم بالله عيد عيدنا   فعيد منى رب البرية أعلاه

وفيها رمينا للعقاب جمارنا    ولا جرم إلا مع جمار رميناه

 

ج / 2 ص -348-    ومنها قوله:

وبالخفيف أعطانا الإله أماننا   وأذهب عنا كل ما نحن خفناه

وردت إلى البيت الحرام وفودنا    رجعنا لها كالطير حن لمأواه

وطفنا طوافا للإفاضة حوله   ولذنا به بعد الجمار وزرناه

ومن بعد ما زرنا دخلناه دخلة   كأنا دخلنا الخلد حين دخلناه

ونلنا أمان الله عند دخوله    كما أخبر القرآن فيما قرأناه

فيا منزلا قد كان أبرك منزل   نزلناه في الدنيا وبيت وطئناه

ترى حجة أخرى إليك ورحلة   وذاك على رب العلا تمناه

فإخواننا ما كان أحلى دخولنا   إليه لبثا في حماه لبثناه

فإخواننا أوحشتمونا هنا لكم    فيا ليتكم معنا وأنا حففناه

ومنها قوله:

وبالحجر الميمون لذنا فإنه    لرب السما في أرضه يمناه

نقبله من حبنا لإلهنا   فكم أشعث كم اغبر قد رحمناه

وذاك لنا يوم القيامة شاهد   وفيه لنا عهد قديم عهدناه

ونستلم الركن اليماني طاعة    نستغفر المولى إذا ما لمسناه

وملتزم فيه التزمنا لذنبنا    عهود وعفو الله فيه لزمناه

وكم موقف فيه مجاب لنا الدعا    دعونا به القصد فيه نويناه

وصلى بأركان المقام حجيجنا    وفي زمزم ماء طهور وردناه

وفيه الشفا فيه بلوغ مرادنا   لما نحن ننويه إذا ما شربناه

وبين الصفا والمروة الحاج قد سعى   فإن تمام الحج تكميل مسعاه

ومنها قوله:

وبينا حجيج الله بالبيت محدق    ورحمة رب العرش تدنو وتغشاه

تداعت رفاق بالرحيل فما ترى   سوى دمع عين بالدماء مزجناه

لفرقة بيت الله والحجر الذي    لأجلهما شاق الأمور شققناه

وودعت الحجاج بيت إلهها    وكلهم تجري من الحزن عيناه

فلله كم باك وصاحب حسرة   يود بأن الله كان توفاه

ولا يشهد التوديع يوما لبيته   وإن فراق البيت مرد وجدناه

فما فرقه إلا والله إنه    أمر وأدهى ذاك شيء خبرناه

 

ج / 2 ص -349-    ومنها قوله:

ووالله لولا أن نؤمل عودة   لذقنا طعام الموت حين فجعناه

ومن بعد ما طفنا طواف وداعنا   رحلنا إلى قبر الحبيب ومعناه

وأنشدني محمد بن محمد بن داود الصالحي مكاتبة منه، وفاطمة بنت أحمد الفقيه مشافهة بطيبة، أن أبا عمرو الإفريقي أنشدهما إذنا قال: أنشدنا أبو اليمن ابن عساكر1 نزيل مكة لنفسه، بقراءتي عليه بمسجد الخيف بمنى:

يا جبرتي بين الحجون إلى الصفا   شوقي إليكم مجمل ومفصل

أهوى دياركم ولي يربوعها    وجد يؤرقني وعهد أول

ويزيدني فيها العذول صبابة   فيظل يغريني إذا ما يعدل

ويقول لي لو قد تبدلت الهوى    فأقول: قد عز الغداة تبدل

بالله قل لي: كيف تحسن سلوتي   عنها وحسن تصبري هل يجمل؟

هل في البلاد محلة معروفة    مثل المعرف أو محل بحلل؟

أم في الزمان كليلة النفر التي    فيها من الله العوارف تجزل

أم مثل أيام تقضت في منى   عمر الزمان بها أغر محجل

في جنب مجتمع الرفاق ومنزع الأ    شواق حياها السحاب المسبل

وأنشدتني أم الحسن فاطمة بنت مفتي مكة شهاب الدين أحمد بن قاسم الحرازي إذنا مشافهة بطيبة -إن لم يكن سماعا- قالت: أنشدني جدي الإمام رضي الدين إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الطبري2 سماعا قال: أنشدنا الإمام الحافظ أبو بكر بن محمد بن يوسف بن مسدي لنفسه من قصيدة له:

سقى تهامة ما تهمي السحاب به   سحا يسح وتهتانا بتهتان

حيث الحجيج إن حجيجي تخذت بها   ربعا بربع وأخذانا بأخدان

ومنها قوله:

أنكرت سلمى وأياما بذي سلم   لوقفة بين تعريف وعرفان

حيث الأراك والنسيم صبا    بقنا في شيخ أفنان بأفنان

والدار آهلة من كان مغترب   يعرو إليها بتهليل وقرآن


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو عبد الصمد بن عبد الوهاب بن الحسن. توفي سنة "686هـ"، لحظ الألحاظ "ص: 81".
2 ترجمته في لحظ الألحاظ "ص: 100، 101".

 

ج / 2 ص -350-    واسم الحبيب شعار العاشقين بها   تيك المشاعر من شيب وشيبان

لبيك لبيك توحيدا يؤكده   توابع الشوق في سر وإعلان

وللإجابة سمع ليس يشغله    شأن كثير من القول عن شان

وينفرون إلى الزلفى بمزدلف   جمعا بجمع ووجدانا بوجدان

من كل مستغفر مستقبل ثقة   من الحبيب بإقبال وغفران

من لم يقف برسوم الموقفين فما   مشت به قط للأحباب رجلان

وفي منى للمنى ذاك المنال فلا    تبعد بك الدار عن قرب وقربان

ومنها قوله:

وفي الإفاضة فيض الجود من ملك    يلقى المسيء إذا استعفى بإحسان

ومنها قوله:

يا طائفين بنا إنا نطوف بكم   باعا يباع ووجدانا بوجدان

ورب ماش تبادرناه هرولة    إليه تلقاه بشرى قبل تلقاني

أما الغريب وإن عز المكان فلا    يبعدنك الوهم في تقرير إمكان

من فاوض الركن قد فاوضته بيدي    هذا يميني فحيوها بأيمان

من يستجر فإن بالمستجار له   نعم المجير إذا يلجأ لي الجاني

وعند ملتزم منا لملتزم   لو شاء ما شاء منا غير منان

ومنها قوله:

ولي مقام أمين بالمقام فما   نوفي فيه إلا كل أمان

ولي بزمزم سر فيه زمزمة    عنوانها عند أزمات وأزمان

ومنها قوله:

هذي الأماني لا أيام ذي سلم    دار الأمان فما دار بغمدان

كفاني الله تبديلا بمظهرها   حتى أغيب في لحدي وأكفاني

وأنشدني خالي قاضي الحرمين محب الدين النويري -تغمده الله برحمته- سماعا بالمسجد الحرام، أن القاضي عز الدين عبد العزيز ابن القاضي بدر الدين بن جماعة الشافعي أنشده سماعا، قال: أنشدني والدي لنفسه، وأنشدني عاليا الإمامان: أبو أحمد إبراهيم بن محمد اللهمي وأبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد المصري إذنا عن القاضي بدر الدين بن جماعة1 قال:

ما بال قلبي لا يقر قراره    حتى يقضي من منى أوطاره


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو محمد بن إبراهيم بن سعد الله توفي سنة 733هـ وترجمته في "لحظ الألحاظ".

ج / 2 ص -351-    ما ذاك إلا أنه من شوقه   قد شام من وادي الحمى تذكاره

يا سائق الأظعان إن جزت الحمى   سلم على من بالمحصب داره

واشرح له ما يلتقي مشتاقه    من فرط شوق أحرقته ناره

يصبو إذا ذكر الحطيم وزمزم    والركن والبيت المكرم جاره

ويهيم من شوق يفتت كبده   إذ عز ملقاه وطال مزاره

وأنشدني الرئيس شهاب الدين أحمد بن الحافظ صلاح الدين خليل بن كيلكلدي1 العلائي بقراءتي عليه في المسجد الأقصى بالرحلة الأولى أن الأستاذ أبا حيان محمد بن يوسف الأندلسي2 النحوي أنشدني لنفسه قصيدة نبوية على وزن بانت سعاد، قال فيها:

وإذا قضيت غزاة فأتنف عملا   للحج والحج للإسلام تكميل

ثم قال بعد وصفه للحجاج:

يسوقهم طرب نحو الحجاز فهم    ذوو ارتباح على أكوارها ميل

شعث رؤوسهم بلس شفاههم   حوص عيونهم غرث مهازيل

حتى إذا لاح من بيت الإله لهم    نور إذا هم على الغبرا أراجيل

يعفرون وجوها طال ما سهمت   باكين حتى أديم الأرض مبلول

حفوا بكعبة مولاهم فكعبهم    عال بها لهم طوف وتقبيل

وبالصفا وقتهم صاف بسعيهم    وفي منى لمناهم كان تنويل

تعرفوا عرفات واقفين بها   لهم إلى الله تكبير وتهليل

وأنشدني العلامة الأديب المفنن برهان الدين إبراهيم بن عبد الله بن محمد المعروف بالقيراطي لنفسه إجازة من قصيدة، وأنشدنيها سماعا قاضي مكة جمال الدين محمد بن عبد الله بن ظهيرة -رحمه الله عليه- عن القيراطي سماعا قال:

ثم أنشأت من جفوني سحبا   أي نثر كالدر من إنشاء

كم سكبناه بل سكبناه تبرا    فاز منه ثرى الحما بالثراء

فإذا جئت المحصب فانثر    من يواقيته على الحصباء

أتمنى عيشا مضى وتقضى   وتولى على الصفا بالصفاء

ميت أحيا يناديك حيا    إنما الميت ميت الأحياء

لا يمل الثاوي هناك مقاما    رب ثاو يمل طول الثواء


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ترجمته في "الضوء اللامح" 1/ 296.
2 ترجمته في "الدر الكامنة" 4/ 302-310 رقم 833، ذيل تذكرة الحفاظ "ص: 23-27".

ج / 2 ص -352-    حسبه هواه الرطب فينا   فذكرناه مجامع الأهواء

بك داء فارحل وجز بكداء    وهو داء من الذنوب كداء

ومنها قوله:

ما حنينا للمنحني الجيد إلا   واستقمنا بذلك الإنحناء

ومنها قوله:

أنا ما لي عن مكة من براح   وبها أشتفي من البرحاء

حبذا الكعبة التي قد تبدت   وهي تزهو في حلة سوداء

فصفا سترها مساء صباح   وبياض الثنا صباح مساء

قبل الخال لا أبا لك عشرا   يا أخا حيها بغير إباء

واملأ الحجر باللآلئ من الـ    ـدمع ونزهه عن عقيق الدماء

واشربن من شراب زمزم كاسا    دب منه السرور في الأعضاء

فهي حقا طعام طعم لجوع   وبها للسقيم أي شفاء

فسقى المسجد الحرام غمام    ورعى عشنا على البطحاء

كم حطمنا لدى الحطيم ذنوبا    كثر عدها عن الإحصاء

صاح قم طف للإله سبعا    بيت رمى الفيل فيه بالدهماء

مر بالمروين وارق لترقى    بجنان مراقي السعداء

واكحل العين عند مسعاك    بالميل ففيه شفاء ذاك العماء

ثم قف خاضعا على عرفات   عل تعطى عوارف الإعطاء

وارمها في منى إلى جمرات   اللظى بها في انطفاء

وأنشدنا الإمام بدر الدين أحمد بن محمد المعروف بابن الصاحب رحمه الله، إجازة لنفسه، وأنشدني ذلك قاضي القضاة جمال الدين بن ظهيرة من لفظه عن ابن الصاحب هذا سماعا، قال من قصيدة نبوية:

على الأبطح المكي طيب سلامي    وأزكى تحيات كمسك ختام

وسقيا له من أدمع بهوامع    تجود بحفظ الود جود كرام

فذاك هو الحي الذي طاير المنى    له فيه بالإطراب سجع حمام

إذا ذكروا في الحي طيب حديثه    خلعت على السماء ثوب منام

وإن ظفرت نفسي بلثم ترابه   لبست بذاك اللثم خير لثام

منازل أفراحي وأنسي ولذتي   وموسم أعيادي ودار هيام

إذا مر بي من نحوها نسمة الصبا   وجدت لها بردا لحر أوامي

فتبعث في الروح حتى أكاد أن    أطير وقد قص الجناح سقامي

 

ج / 2 ص -353-    فلله عهد من معاهد أنسه   جديد ولو أبلى الممات عظامي

فهل لي إلى تلك المواطن عودة   على رغم حسادي وأهل ملامي

وأكحل بالميل الأخيضر ناظري   بإثمد ركن البيت قبل حمام

وأنشد في عيدي بقرب أحبتي   ألا إن هذا اليوم فطر صيامي

أديروا أديروا ماء زمزم خالصا    فذا خيرا كأس في ألذ مقام

ونادوا على رأسي بأبواب شاربي   عبيد ذليل مثقل بآثام

عسى عطفه منكم عليه فإنه    تعلق من إحسانكم بزمام

وفي قوله أيضا:

في مكة الوقت قد صفا لي    بطيب جار لها ودار

وخفض عيش جوار ربي    فذاك خفضي على الجوار

وقوله أيضا:

ليل الحمى كله من طيبه سحر    أحلى من النوم فيه عندنا السهر

يستلقط البرد من أنفاسه خلسا    يطفي بها نار أحشاء لها شرور

وتجتلي الكعبة الغراء في خلع    من الجمال على من فوقها الخفر

دار الهوى برح أطيار القلوب   بداء أكبادنا روض الربا العطر

مستودع السر حضن الأمر منتقح   إلام لا كنز لديه تحقر البدر

فغنني واسقني من ماء زمزمها   هذا هو العيش لا خمر ولا وتر

وقوله أيضا:

وليل ببطحاء الحمى قد قطعته    وطائر أنسي في الهوى قد ترنما

وطاف بكاسات الأماني سرورنا   فطيب عيش في المقام وزمزما

وقوله أيضا:

بمكة قد طابت مجاورتي فيا   إلهي فاجعلها مدى العمر سرمدا

فأنت الذي أحللتني ساحة الهوى   وعودت قلبي عادة فتعودا

وقوله أيضا:

بمكة نلت الخير من كل جانب   ودست على أمنية النفس بالنعل

فعن حرم الرحمن إن سرت قاصدا   فلا كنت من نفسي الكريمة في حل

وقوله مضمنا:

مجاورتي بمكة نلت فيها    أجل مناي من أقصى مرام

وما ظفر الفتى في الدهر يوما   بأطيب من مجاورة الكرام

 

ج / 2 ص -354-    والأشعار في التشوق إلى هذه المشاعر الشريفة كثيرة، ونسأل الله تعالى أن يجعل أعيننا بدوام مشاهدتها قريرة.
وقد انتهى الغرض الذي أردنا جمعه في هذا الكتاب، ونسأل الله تعالى أن يجزل لنا فيه الثواب، وصلى الله عليه سيدنا محمد سيد المرسلين، وآله وصحبه الأكرمين.

 

ج / 2 ص -355-    خاتمة المؤلف للكتاب:
قال مؤلفه محمد بن أحمد بن علي الحسني الفاسي المكي المالكي، ألهمه الله رشده وأنجح قصده: كنت ألفت هذا الكتاب على وجه أخصر من هذا، ثم زدت فيه أمورا كثير مفيدة، تكون نحوا من مقداره أولا، وزدت في أبوابه ستة عشر بابا؛ لأني استطلت الباب الأخيرة منه أولا، وهو الباب الرابع والعشرون، فجعلته سبعة عشر بابا؛ فصارت أبوابه أربعين بابا، ولم يخل باب منها من زيادة مفيدة، وأصلحت في كثير منها مواضع كثيرة ظهر لي أن غيرها أصوب منها، وذكرت في بعض الأبواب ما كنت ذكرته في غيره، مع الإعراض عما ذكرته في الباب الذي كان فيه، لما رأيت في ذلك من المناسبة، وكان أكثر ما زدته فيه، وما أصلحت فيه، وما ذكرته في بعض الأبواب، معرضا عن ذكري له في غيره، وجعلي الباب الأخير من التأليف الأول: سبعة عشر بابا، بعد خروج التأليف المختصر الأول من يدي إلى ديار مصر والمغرب واليمن والهند، ولأجل ذلك تعذر علي أن أضع فيه ذلك، وكان اختصار للمختصر الأول في آخر سنة إحدى عشرة وثمانمائة، وفي سنة أربع عشرة وثمانمائة، وفي سنة خمس عشر وثمانمائة، وفي سنة ست عشرة وثمانمائة، وما زدته في سنة خمس عشرة وست عشرة، أكثر مما زدته فيما قبلهما بكثير، وفي سنة ست عشرة جعلت أبوابه أربعين بابا، وزدت فيه فوائد كثيرة أيضا في المحرم وصفر من سنة سبع عشرة وثمانمائة بمكة، وزدت فيه في شوال وذي القعدة من السنة المذكورة فوائد كثيرة، بمرسى جزيرة كمران1، وفيما بينها وبين باب المندب2 من البحر المالح ببلاد اليمن، وزدت فيه في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هي جزيرة باليمن.
2 باب المندب مضيق يفصل بين البحر الأحمر والمحيط الهندي.

 

ج / 2 ص -356-    بقية هذه السنة، وفي سنة ثمان عشرة، وفي سنة تسع عشرة فوائد كثيرة أيضا، وأنا حريص على أن ألحق فيه ما يناسب من المتجددات ومن الفوائد.
وأسأل الله تعالى تيسير ذلك، وأظن أن الزيادة فيه تقل جدا؛ لأن غالب ما زدته فيه أخذته من كتاب الفاكهي؛ فإني لم أظفر به إلا بعد ذلك، ومن تاريخي المسمى بالعقد الثمن في تاريخ البلد الأمين، لما فيه من الأخبار ولاة مكة، والحوادث التي ذكرتها في الباب الذي فيه ذكر ولاة مكة في الإسلام، وقد أخذت من هذا الكتاب، ومن كتاب الفاكهي ما يناسب أن يذكر في هذا الكتاب.
ونسأل الله تعالى تيسير القصد والتوفيق فيه للصواب، إنه كريم وهاب.
وصلى الله على سيدنا محمد سيد الأنام، ورضي الله عن آله واصحابه حماة الإسلام، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
آخر كتاب شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام:
تأليف الإمام العلامة الحافظ المؤرخ قاضي المسلمين: شهاب الدين أبي العباسي أحمد بن علي ابن العلامة أبي عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن علي بن عبد الرحمن الحسني الفاسي المكي المالكي تغمده الله بالرحمة والرضوان، وأسكنه فسيح الجنان ... آمين، والحمد لله رب العالمين.
وكان الفراغ من هذه النسخة في عصر يوم الاثنين الحادي والعشرين من جمادى الثاني أحد شهور سنة أربع وستين وثمانمائة. والحمد لله حق حمده، وصلواته وسلامه على سيدنا محمد خير خلقه، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا، حسبنا الله ونعم الوكيل.