البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
[ ذكر ] (2)
خراب بيت المقدس وقوله تعالى: (وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني
إسرائيل أن لا تتخذوا من دوني وكيلا ذرية من حملنا مع نوح أنه كان عبدا
شكورا.
وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الارض مرتين ولتعلن علوا
كبيرا.
فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال
الديار وكان وعدا مفعولا.
ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين
وجعلناكم أكثر نفيرا إن أحسنتم أحسنتم لانفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء
وعد الآخرة ليسوؤا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا
ما علوا تتبيرا.
عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا) [
الاسراء: 2 - 8 ].
وقال وهب بن منبه أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له
أرميا حين ظهرت فيهم المعاصي: أن قم بين ظهراني قومك فأخبرهم أن لهم
قلوبا ولا يفقهون، وأعينا ولا يبصرون، وآذانا ولا يسمعون، وإني تذكرت
صلاح آبائهم فعطفني ذلك على أبنائهم.
فسلهم كيف وجدوا غب طاعتي، وهل سعد أحد ممن عصاني بمعصيتي، وهل شقي أحد
ممن أطاعني بطاعتي ؟ إن الدواب تذكر أوطانها فتنزع إليها وإن هؤلاء
القوم تركوا الامر الذي أكرمت عليه آباءهم والتمسوا الكرامة من غير
وجهها، أما أحبارهم فأنكروا حقي وأما قراؤهم فعبدوا غيري، وأما نساكهم
فلم ينتفعوا بما علموا، وأما ولاتهم فكذبوا علي وعلى رسلي.
خزنوا المكر في قلوبهم وعودوا الكذب ألسنتهم.
وإني أقسم بجلالي وعزتي لاهيجن عليهم جيولا لا يفقهون ألسنتهم، ولا
يعرفون وجوههم، ولا يرحمون بكاءهم، ولابعثن فيهم ملكا جبارا قاسيا له
عساكر كقطع السحاب ومواكب كأمثال الفجاج (3) كأن خفقان راياته طيران
النسور وكأن حمل فرسانه كر (4)
__________
(1) روى الخبر في تاريخه 2 / 384 تهذيب.
(2) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(3) في الطبري: العجاج.
(4) في الطبري: كرير.
[ * ]
(2/41)
العقبان يعيدون
العمران خرابا ويتركون القرى وحشة، فياويل أيليا وسكانها كيف أذللهم
للقتل وأسلط عليهم السبا وأعيد بعد لجب الاعراس صراخا، وبعد صهيل الخيل
عواء الذئاب، وبعد شرافات القصور مساكن السباع وبعد ضوء السرج وهج
العجاج وبالعز ذلا وبالنعمة العبودية وأبدلن نساءهم بعد الطيب التراب.
وبالمشي على الزرابي الخبب، ولاجعلن أجسادهم زبلا
للارض وعظامهن ضاحية للشمس ولادوسنهم بألوان العذاب، ثم لآمرن السماء
فتكون طبقا من حديد والارض سبيكة من نحاس، فإن أمطرت لم تنبت الارض،
وإن أنبتت شيئا في خلال ذلك فبرحمتي للبهائم.
ثم أحبسه في زمان الزرع وأرسله في زمان الحصاد، فإن زرعوا في خلال ذلك
شيئا سلطت عليه الآفة فإن خلص منه شئ نزعت منه البركة، فإن دعوتي لم
أجبهم، وإن سألوا لم أعطهم وإن بكوا لم أرحمهم، وإن تضرعوا صرفت وجهي
عنهم.
رواه ابن عساكر بهذا اللفظ (1).
وقال إسحاق بن بشر: أنبأنا إدريس، عن وهب بن منبه قال: إن الله تعالى
لما بعث أرميا إلى بني إسرائيل وذلك حين عظمت الاحداث فيهم فعملوا
بالمعاصي وقتلوا الانبياء طمع بخت نصر فيهم وقذف الله في قلبه وحدث
نفسه بالمسير إليهم لما أراد الله أن ينتقم به منهم فأوحى الله إلى
أرميا إني مهلك بني إسرائيل ومنتقم منهم فقم على صخرة بيت المقدس يأتيك
أمري ووحيي فقام أرميا فشق ثيابه وجعل الرماد على رأسه وخر ساجدا وقال:
يا رب وددت أمي لم تلدني حين جعلتني آخر أنبياء بني إسرائيل فيكون خراب
بيت المقدس وبوار بني إسرائيل من أجلي فقال له: ارفع رأسك فرفع رأسه
فبكى ثم قال: يا رب من تسلط عليهم فقال عبدة النيران لا يخافون عقابي،
ولا يرجون ثوابي، قم يا أرميا فاستمع وحيي أخبرك خبرك وخبر بني
إسرائيل.
من قبل أن أخلقك اخترتك.
ومن قبل أن أصورك في رحم أمك قدستك ومن قبل أن أخرجك من بطن أمك طهرتك،
ومن قبل أن تبلغ نبأتك ومن قبل أن تبلغ الاشد اخترتك (2) ولامر عظيم
أجتبيتك فقم مع الملك تسدده وترشده فكان مع الملك يسدده ويأتيه الوحي
من الله حتى عظمت الاحداث [ في بني إسرائيل وركبوا المعاصي واستحلوا
المحارم ] ونسوا ما نجاهم الله به من عدوهم سنحاريب وجنوده فأوحى الله
إلى أرميا [ أن ائت قومك من بني إسرائيل ] قم فاقصص عليهم ما آمرك به
وذكرهم نعمتي عليهم وعرفهم أحداثهم فقال أرميا: " يا رب إني ضعيف إن لم
تقوني عاجز إن لم تبلغني مخطئ إن لم تسددني مخذول إن لم تنصرني ذليل إن
لم تعزني " فقال تعالى: " أو لم تعلم أن الامور كلها تصدر عن مشيئتي
وأن الخلق والامر كله لي وأن القلوب والالسنة (3) كلها بيدي فأقلبها
__________
(1) رواه ابن عساكر في تاريخه 2 / 388، 389، 390 تهذيب.
وروى الخبر الطبري في تاريخه مطولا بنحوه ج
1 / 286 وما بعدها.
(2) في الطبري: اختبرتك.
(3) في الطبري: والالسن.
[ * ]
(2/42)
كيف شئت
فتطيعني فأنا الله الذي ليس شئ مثلي.
قامت السموات والارض وما فيهن بكلمتي.
وإنه لا يخلص التوحيد ولم تتم القدرة إلا لي، ولا يعلم ما عندي غيري.
وأنا الذي كلمت البحار ففهمت قولي، وأمرتها ففعلت أمري، وحددت عليها
حدودا فلا تعدو حدي، وتأتي بأمواج كالجبال، فإذا بلغت حدي ألبستها مذلة
لطاعتي وخوفا واعترافا لامري وإني معك، ولن يصل إليك شئ معي، وإني
بعثتك إلى خلق عظيم من خلقي لتبلغهم رسالاتي فتستوجب لذلك أجر من أتبعك
ولا ينقص ذلك من أجورهم شيئا.
انطلق إلى قومك فقم فيهم وقل لهم إن الله قد ذكركم بصلاح آبائكم فلذلك
استبقاكم يا معشر ابناء الانبياء.
وكيف وجد آباؤكم مغبة طاعتي ؟ وكيف وجدتم مغبة معصيتي ؟ وهل وجدوا أحدا
عصاني ؟ فسعد بمعصيتي ؟ أو هل علموا أحدا أطاعني فشقي بطاعتي ؟ إن
الدواب إذا ذكرت أوطانها الصالحة نزعت إليها وإن هؤلاء القوم رتعوا في
مروج الهلكة وتركوا الامر الذي به أكرمت آباءهم وابتغوا الكرامة من غير
وجهها.
أما أحبارهم ورهبانهم فاتخذوا عبادي خولا يتعبدونهم ويعملون فيهم بغير
كتابي حتى أجهلوهم أمري وأنسوهم ذكري وسنتي وعزوهم عني.
فدان لهم عبادي بالطاعة التي لا تنبغي إلا ليي فهم يطيعونهم في معصيتي.
وأما ملوكهم وامراؤهم فبطروا نعمتي وآمنوا مكري وغرتهم الدنيا حتى
نبذوا كتابي ونسوا عهدي، فهم يحترمون كتابي ويفترون على رسلي جرأة منهم
وغرة بي فسبحان جلالي وعلو مكاني، وعظمة شأني هل ينبغي أن يكون لي شريك
في ملكي ؟ وهل ينبغي لبشر أن يطاع في معصيتي ؟ وهل ينبغي لي أن اخلق
عبادا أجعلهم أربابا من دوني ؟ أو آذن لاحد بالطاعة لاحد.
وهي لا تنبغي إلا لي.
وأما قراؤهم وفقهاؤهم فيدرسون ما يتخيرون فينقادون للملوك فيتابعونهم
على البدع التي يبتدعون في ديني، ويطيعونهم في معصيتي، ويوفون لهم
بالعهود الناقضة لعهدي، فهم جهلة بما يعملون لا ينتفعون بشئ مما علموا
من كتابي.
وأما أولاد النبيين، فمقهورون ومفتونون، يخوضون مع الخائضين، يتمون مثل
نصري آباءهم والكرامة التي أكرمتهم بها، ويزعمون أنه لا أحد أولى بذلك
منهم بغير صدق منهم ولا تفكر ولا يذكرون كيف كان صبر آبائهم.
وكيف كان جهدهم في أمري حين اغتر المغترون، وكيف بذلوا أنفسهم ودماءهم
بصروا وصدقوا حتى عز أمرى وظهر ديني فتأنيت هؤلاء القوم لعلهم يستحيون
مني.
فتطولت عليهم وصفحت عنهم فأكثرت ومددت لهم في العمر، وأعذرت لهم لعلهم
يتذكرون.
وكل ذلك أمطر عليهم السماء وأنبت لهم الارض وألبسهم
(2/43)
العافية
وأظهرهم على العدو، ولا يزدادون إلا طغيانا وبعدا مني، فحتى متى هذا ؟
أبي يسخرون ؟ أم بى يتحرشون ؟ أم إياي يخادعون ؟ أم علي يجترئون فإني
أقسم بعزتي لاتيحن عليهم فتنة يتحير فيها الحكيم (1)، ويضل فيها رأي
ذوي الرأي وحكمة الحكيم، ثم لاسلطن عليهم جبارا قاسيا عاتبا ألبسه
الهيبة وأنزع من قلبه الرأفة والرحمة، وآليت أن يتبعه عدد وسواد مثل [
سواد ] الليل المظلم.
له فيه عساكر مثل قطع السحاب ومواكب مثل العجاج، وكأن حفيف (2) راياته
طيران النسور وحمل فرسانه كسرب (3) العقبان يعيدون العمران خرابا
والقرى وحشا ويعثون في الارض فسادا ويتبرون ما علوا تتبيرا قاسية
قلوبهم لا يكترثون ولا يرقبون ولا يرحمون.
ولا يبصرون ولا يسمعون يجولون في الاسواق بأصوات مرتفعة مثل زئير الاسد
تقشعر من هيبتها الجلود وتطيش من سمعها الاحلام بألسنة لا يفقهونها
ووجوه ظاهر عليها المنكر لا يعرفونها.
فوعرتي لاعطلن ببوتهم من كتبي وقدسي ولاخلين مجالسهم من حديثها ودروسها
ولاوحشن مساجدهم من عمارها وزوارها الذين كانوا يتزينون بعمارتها
لغيري، ويتهجدون فيها ويتعبدون لكسب الدنيا بالدين، ويتفقهون فيها لغير
الدين ويتعلمون فيها لغير العمل، لابدلن ملوكها بالعز الذل وبالامن
الخوف وبالغني
الفقر وبالنعمة الجوع وبطول العافية والرخاء أنواع البلاء وبلباس
الديباج والحرير مدارع الوبر والعباء، وبالارواح الطيبة والادهان جيف
القتل، وبلباس التيجان أطواق الحديد والسلاسل والاغلال.
ثم لاعيدن فيهم بعد القصور الواسعة، والحصون الحصينة الخراب، وبعد
البروج المشيدة مساكن السباع، وبعد صهيل الخيل عواء الذئاب، وبعد ضوء
السراج دخان الحريق، وبعد الانس الوحشة والقفار.
ثم لابدلن نساءها بالاسورة الاغلال، وبقلائد الدر والياقوت سلاسل
الحديد.
وبألوان الطيب والادهان النقع والغبار، وبالمشي على الزرابي عبور
الاسواق والانهار والخبب إلى الليل في بطون الاسواق، وبالخدور والستور
الحسور عن الوجوه، والسوق والاسفار والارواح السموم.
ثم لادوسنهم بأنواع العذاب حتى لو كان الكائن منهم في حالق (4) لوصل
ذلك إليه، إني إنما أكرم من أكرمني، وإنما أهين من هان عليه أمري.
ثم لآمرن السماء خلال ذلك فلتكونن عليهم طبقا من حديد ولآمرن الارض
فلتكونن سبيكة من نحاس فلا سماء تمطر ولا أرض تنبت.
فإن أمطرت خلال ذلك شيئا سلطت عليهم الآفة فإن خلص منه شئ نزعت منه
البركة، وإن دعوني لم أجبهم وإن سألوني لم أعطهم وإن بكوا لم أرحمهم،
وإن تضرعوا إلي صرفت وجهي عنهم.
وإن قالوا اللهم أنت الذي ابتدأتنا وآباءنا من قبلنا برحمتك وكرامتك،
وذلك بأنك اخترتنا لنفسك، وجعلت فينا نبوتك وكتابك ومساجدك ثم مكنت لنا
في البلاد،
__________
(1) في الطبري: الحليم.
(2) في الطبري: خفيق.
(3) في الطبري 1 / 287: كرير العقبان.
(4) حالق: المكان المرتفع.
[ * ]
(2/44)
واستخلفتنا
فيها وربيتنا وآباءنا من قبلنا بنعمتك صغارا، وحفظتنا وإياهم برحمتك
كبارا فأنت أوفى المنعمين وإن غيرنا.
ولا تبدل.
وإن بدلنا، وإن تتم فضلك ومنك وطولك وإحسانك، فإن قالوا ذلك قلت لهم
إني ابتدئ عبادي برحمتي ونعمتي.
فإن قبلوا أتممت وإن استزادوا زدت، وإن
شكروا ضاعفت، وإن غيروا غيرت، وإذا غيروا غضبت.
وإذا غضبت عذبت وليس يقوم شئ بغضبي.
قال كعب: فقال أرميا: برحمتك أصبحت أتعلم بين يديك، وهل ينبغي ذلك لي
وأنا أذل وأضعف من أن ينبغي لي أن أتكلم بين يديك، ولكن برحمتك أبقيتني
لهذا اليوم، وليس أحد أحق أن يخاف هذا العذاب وهذا الوعيد مني بما رضيت
به مني طولا، والاقامة في دار الخاطئين وهم يعصونك حولي بغير نكر ولا
تغيير مني، فإن تعذبني فبذنبي، وإن ترحمني فذلك ظني بك.
ثم قال: يا رب سبحانك وبحمدك، وتباركت ربنا وتعاليت أتهلك هذه القرية
وما حولها وهي مساكن أنبيائك ومنزل وحيك ؟ يا رب سبحانك وبحمدك وتباركت
ربنا وتعاليت لمخرب هذا المسجد وما حوله من المساجد ومن البيوت التي
رفعت لذكرك، يا رب سبحانك وبحمدك وتباركت وتعاليت لمقتل هذه الامة
وعذابك إياهم وهم من ولد إبراهيم خليلك، وأمة موسى نجيك، وقوم داود
صفيك، يا رب أي القرى تأمن عقوبتك بعد ؟ وأي العباد يأمنون سطوتك بعد
ولد خليلك إبراهيم ؟ وأمة نجيك موسى ؟ وقوم خليفتك داود ؟ تسلط عليهم
عبدة النيران قال الله تعالى: يا أرميا من عصاني فلا يستنكر نقمتي،
فإني إنما أكرمت هؤلاء القوم على طاعتي، ولو أنهم عصوني لانزلنهم دار
العاصين إلا أن أتداركهم برحمتي ".
قال أرميا: يا رب اتخذت إبراهيم خليلا وحفظتنا به.
وموسى قربته نجيا فنسألك أن تحفظنا ولا تتخطفنا ولا تسلط علينا عدونا
فأوحى الله إليه: " يا أرميا إني قدستك في بطن أمك وأخرتك إلى هذا
اليوم فلو أن قومك حفظوا اليتامى والارامل والمساكين وابن السبيل لمكنت
الداعم لهم وكانوا عندي بمنزلة جنة ناعم شجرها طاهر ماؤها ولا يغور
ماؤها ولا تبور ثمارها ولا تنقطع، ولكن سأشكو إليك بني إسرائيل: إني
كنت لهم بمنزلة الداعي الشفيق أجنبهم كل قحط وكل عسرة وأتبع بهم الخصب
حتى صاروا كباشا ينطح بعضها بعضا فياويلهم ثم يا ويلهم إنما أكرم من
أكرمني وأهين من هان عليه أمري، إن من كان قبل هؤلاء القوم من القرون
يستخفون بمعصيتي، وإن هؤلاء القوم يتبرعون بمعصيتي تبرعا فيظهرونها في
المساجد والاسواق وعلى رؤوس الجبال
وظلال الاشجار حتى عجت السماء إلي منهم وعجت الارض والجبال، ونفرت منها
الوحوش بأطراف الارض وأقاصيها وفي كل ذلك لا ينهون ولا ينتفعون بما
علموا من الكتاب ".
قال فلما بلغهم أرميا رسالة ربهم وسمعوا ما فيها من الوعيد والعذاب
عصوه وكذبوه واتهموه وقالوا: " كذبت وأعظمت على الله الفرية فتزعم أن
الله معطل أرضه ومساجده من كتابه وعبادته
(2/45)
وتوحيده فمن
يعبده حين لا يبقى له في الارض عابد ولا مسجد ولا كتاب، لقد أعظمت
الفرية على الله واعتراك الجنون " فأخذوه وقيدوه وسجنوه فعند ذلك بعث
الله عليهم بخت نصر فأقبل يسير بجنوده حتى نزل بساحتهم ثم حاصرهم فكان
كما قال تعالى: (فجاسوا خلال الديار) [ الاسراء: 5 ] قال فلما طال بهم
الحصر نزلوا على حكمه ففتحوا الابواب وتخللوا الازقة وذلك قوله:
(فجاسوا خلال الديار) وحكم فيهم حكم الجاهلية وبطش الجبارين فقتل منهم
الثلث، وسبى الثلث، وترك الزمنى (1)، والشيوخ والعجائز ثم وطئهم بالخيل
وهدم بيت المقدس وساق الصبيان، وأوقف النساء في الاسواق حاسرات، وقتل
المقاتلة وخرب الحصون، وهدم المساجد، وحرق التوراة، وسأل عن دانيال
الذي كان قد كتب له الكتاب، فوجدوه قد مات وأخرج أهل بيته الكتاب إليه
وكان فيهم دانيال بن حزقيل الاصغر وميشائيل وعزرائيل وميخائيل فأمضى
لهم ذلك الكتاب وكان دانيال بن حزقيل خلفا من دانيال الاكبر.
ودخل بخت نصر بجنوده بيت المقدس ووطئ الشام كلها وقتل بني إسرائيل حتى
أفناهم.
فلما فرغ منها انصرف راجعا وحمل الاموال التي كانت بها، وساق السبايا
فبلغ معه عدة صبيانهم من أبناء الاحبار والملوك تسعين ألف (2) غلام
وقذف الكناسات في بيت المقدس وذبح فيه الخنازير، وكان الغلمان سبعة
آلاف غلام من بيت داود، وأحد عشر ألفا من سبط يوسف بن يعقوب وأخيه
بنيامين وثمانية آلاف من سبط ايشى بن يعقوب وأربعة عشر ألفا من سبط
زبالون ونفتالي ابني يعقوب وأربعة عشر ألفا من سبط دان بن يعقوب
وثمانية آلاف من سبط يستاخر بن يعقوب وألفين من سبط زيكون (3) بن يعقوب
وأربعة آلاف من سبط روبيل ولاوي واثني عشر ألفا من سائر بني إسرائيل
وانطلق حتى قدم
أرض بابل.
قال إسحاق بن بشر: قال وهب بن منبه: فلما فعل ما فعل قيل له: كان لهم
صاحب يحذرهم ما أصابهم ويصفك وخبرك لهم.
ويخبرهم أنك تقتل مقاتلتهم، وتسبي ذراريهم وتهدم مساجدهم وتحرق كنائسهم
فكذبوه واتهموه وضربوه وقيدوه وحبسوه.
فأمر بخت نصر فأخرج أرميا من السجن فقال له أكنت تحذر هؤلاء القوم ما
أصابهم ؟ قال: نعم قال: فأنى علمت ذلك ؟ قال أرسلني الله إليهم فكذبوني
قال كذبوك وضربوك وسجنوك قال: نعم قال: " بئس القوم قوم كذبوا نبيهم
وكذبوا رسالة ربهم فهل لك أن تلحق بي فأكرمك وأواسيك وإن أحببت أن تقيم
في بلادك فقد أمنتك " قال له أرميا: إني لم أزل في أمان الله منذ كنت،
لم أخرج منه ساعة قط، ولو أن بني
__________
(1) الزمني: أصحاب العاهات.
(2) في الطبري: سبعين ألف صبي.
أراد أن يقسمهم على جنوده، فأصاب كل رجل منهم أربعة غلمة.
(3) في نسخ البداية المطبوعة: زبالون وهو تحريف وسقطت من الطبري ; وفيه
زاد: وأربعة آلاف من سبط يهوذا بن يعقوب.
[ * ]
(2/46)
إسرائيل لم
يخرجوا منه لم يخافوك ولا غيرك ولم يكن لك عليهم سلطان فلما سمع بخت
نصر هذا القول منه تركه، فأقام أرميا مكانه بأرض أيليا.
وهذا سياق غريب.
وفيه حكم ومواعظ وأشياء مليحة وفيه من جهة التعريب غرابة.
وقال هشام بن محمد بن السائب الكلبي: كان بخت نصر أصفهبذا لما بين
الاهواز إلى الروم للملك على الفرس وهو لهراسب.
وكان قد بنى مدينة بلخ التي تلقب بالخنساء (1)، وقاتل الترك وألجأهم
إلى أضيق الاماكن وبعث بخت نصر لقتال بني إسرائيل بالشام فلما قدم
الشام صالحه أهل دمشق، وقد قيل إن الذي بعث بخت نصر إنما هو بهمن ملك
الفرس بعد بشتاسب بن لهراسب وذلك لتعدي بني إسرائيل على رسله إليهم.
وقد روى ابن جرير: عن يونس بن عبد الاعلى، عن ابن وهب، عن سليمان بن
بلال عن يحيى بن سعيد الانصاري، عن سعيد بن المسيب: أن
بخت نصر لما قدم دمشق وجد بها دما يغلي على كبا يعني القمامة فسألهم ما
هذا الدم ؟ فقالوا أدركنا آباءنا على هذا وكلما ظهر عليه الكبا ظهر قال
فقتل على ذلك سبعين الفا من المسلمين وغيرهم فسكن.
وهذا إسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب وقد تقدم من كلام الحافظ ابن عساكر
ما يدل على أن هذا دم يحيى بن زكريا وهذا لا يصح لان يحيى بن زكريا بعد
بخت نصر بمدة والظاهر أن هذا دم نبي متقدم أو دم لبعض الصالحين أو لمن
شاء الله ممن الله أعلم به.
قال هشام بن الكلبي ثم قدم بخت نصر بيت المقدس فصالحه ملكها وكان من آل
داود وصانعه عن بني إسرائيل وأخذ منه بخت نصر رهائن ورجع.
فلما بلغ طبرية بلغه أن بني إسرائيل ثاروا على ملكهم فقتلوه لاجل أنه
صالحه فضرب رقاب من معه من الرهائن ورجع إليهم فأخذ المدينة عنوة.
وقتل المقاتلة وسبى الذرية.
قال وبلغنا أنه وجد في السجن أرميا النبي فأخرجه وقص عليه ما كان من
أمره إياهم وتحذيره لهم عن ذلك فكذبوه وسجنوه.
فقال بخت نصر: بئس القوم قوم عصوا رسول الله وخلى سبيله وأحسن إليه
واجتمع إليه من بقي من ضعفاء بني إسرائيل فقالوا: إنا قد أسأنا وظلمنا
ونحن نتوب إلى الله عزوجل مما صنعنا فادع الله أن يقبل توبتنا فدعا ربه
فأوحى الله إليه أنه غير فاعل (2) فإن كانوا صادقين فليقيموا معك بهذه
البلدة فأخبرهم ما أمره الله تعالى به فقالوا كيف نقيم بهذه البلدة وقد
خربت وغضب الله على أهلها فأبوا أن يقيموا (3).
قال ابن الكلبي: ومن ذلك الزمان تفرقت بنو إسرائيل في البلاد فنزلت
طائفة منهم الحجاز وطائفة يثرب وطائفة وادي القرى (4)، وذهبت شرذمة
منهم إلى مصر فكتب بخت نصر إلى ملكها
__________
(1) في الطبري: الحسناء.
(2) في الطبري: أنهم غير فاعلين.
(3) الخبر في الطبري (ج 1 / 281 قاموس حديث).
(4) العبارة في الطبري: ونزل بعضهم أرض الحجاز بيثرب ووادي القرى
وغيرها.
[ * ]
(2/47)
يطلب منه من شرد منهم إليه، فأبى عليه فركب في جيشه فقاتله وقهره وغلبه
وسبى ذراريهم.
ثم
ركب إلى بلاد المغرب حتى بلغ أقصى تلك الناحية.
قال ثم انصرف بسبي كثير من أرض المغرب ومصر وأهل بيت المقدس وأرض
فلسطين والاردن وفي السبي دانيال [ وغيره من الانبياء ] (1).
قلت والظاهر أنه دانيال بن حزقيل الاصغر لا الاكبر على ما ذكره وهب بن
منبه والله أعلم. |