البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي

تزويجه عليه الصلاة والسلام خديجة بنت خويلد قال ابن إسحاق: وكانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال تستأجر الرجال على مالها مضاربة (1).
فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغها من صدق حديثه، وعظم أمانته، وكرم أخلاقه بعثت إليه، فعرضت عليه أن يخرج لها في مال تاجرا إلى الشام وتعطيه أفضل ما تعطي غيره من التجار.
مع غلام لها يقال له ميسرة، فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم منها وخرج في مالها ذلك، وخرج معه غلامها ميسرة حتى نزل الشام، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل شجرة قريبا من صومعة راهب (2) من الرهبان، فاطلع الراهب إلى ميسرة.
فقال: من هذا الرجل الذي نزل تحت الشجرة ؟ فقال ميسرة هذا رجل من قريش من أهل الحرم فقال له الراهب ما نزل تحت هذه
الشجرة إلا نبي (3) ثم باع رسول الله صلى الله عليه وسلم سلعته - يعني تجارته - التي خرج بها واشترى ما أراد أن يشتري.
ثم أقبل قافلا إلى مكة ومعه ميسرة، فكان ميسرة - فيما يزعمون - إذا كانت الهاجرة واشتد الحر، يرى ملكين يظلانه من الشمس وهو يسير على بعيره، فلما قدم مكة على خديجة بمالها باعت ما جاء به، فأضعف أو قريبا، وحدثها ميسرة عن قول الراهب وعما كان يرى من إظلال الملائكة إياه.
وكانت خديجة امرأة حازمة شريفة لبيبة، مع ما أراد الله بها من كرامتها.
فلما أخبرها ميسرة ما أخبرها بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له - فيما يزعمون - يا بن عم أني قد رغبت فيك لقرابتك وسطتك (4) في قومك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك، ثم عرضت نفسها عليه، وكانت أوسط نساء قريش نسبا وأعظمهن شرفا وأكثرهن مالا.
كل قومها كان حريصا على ذلك منها لو يقدر عليه، فلما قالت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك لاعمامه، فخرج
__________
(1) المضاربة: المقارضة، حيث كانت خديجة تقارضهم مالها في تجارتهم بشئ تجعل لهم منه.
(2) كان اسم الراهب نسطورا وليس هو بحيرى الذي ورد ذكره في حديث أبي طالب ; وكان نزول في سوق بصرى.
عيون الاثر.
وطبقات ابن سعد.
(3) يريد بقوله إنه ما نزل تحتها هذه الساعة إلا نبي، ولم يرد ما نزل تحتها قط إلا نبي ; لبعد العهد بالانبياء قبل ذلك.
(4) كذا في الاصل وشرح المواهب وشرح السيرة والروض والطبري.
وسطتك: شرفك.
قال السهيلي: من الوسط.
والوسط من أوصاف المدح والتفضيل.
[ * ]

(2/358)


معه عمه حمزة (1) حتى دخل على خويلد بن أسد فخطبها إليه فتزوجها عليه الصلاة والسلام.
قال ابن هشام: فأصدقها عشرين بكرة وكانت أول امرأة تزوجها [ رسول الله صلى الله عليه وسلم ] ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت.
قال ابن إسحاق: فولدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولده كلهم إلا إبراهيم: القاسم وكان به يكنى، والطيب والطاهر (2)، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة.
قال ابن هشام أكبرهم القاسم، ثم الطيب، ثم الطاهر.
وأكبر بناته رقية ثم زينب، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة (3).
قال البيهقي عن الحاكم: قرأت بخط أبي بكر بن أبي خيثمة حدثنا مصعب بن عبد الله الزبيري قال أكبر ولده عليه الصلاة والسلام القاسم، ثم زينب، ثم عبد الله، ثم أم كلثوم ثم فاطمة ثم رقية.
وكان أول من مات من ولده القاسم [ مات بمكة ]، ثم عبد الله.
وبلغت خديجة خمسا وستين سنة، ويقال خمسين.
وهو أصح.
وقال غيره بلغ القاسم أن يركب الدابة والنجيبة ثم مات بعد النبوة، وقيل مات وهو رضيع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن له مرضعا في الجنة يستكمل رضاعه " والمعروف أن هذا في حق إبراهيم (4).
وقال يونس بن بكير: حدثنا إبراهيم بن عثمان عن القاسم (5) عن ابن عباس قال ولدت خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم غلامين وأربع نسوة: القاسم، وعبد الله، وفاطمة، وأم كلثوم، وزينب، ورقية.
وقال الزبير بن بكار عبد الله هو الطيب وهو الطاهر، سمي بذلك لانه ولد بعد
__________
(1) يقال إن الذي ينهض معه صلى الله عليه وسلم هو أبو طالب، وهو الذي خطب خطبة النكاح.
وقيل لعلهما خرجا معا وخطب أبو طالب الخطبة لانه كان أسن من حمزة (الروض الانف، شرح المواهب).
(2) في أولاد الرسول صلى الله عليه وسلم من خديجة خلاف فذكر بعضهم ثلاثة بنين القاسم والطاهر والطيب وقال آخرون ما نعلمها ولدت غلاما إلا القاسم.
والارجح أن الطاهر والطيب لقبان لعبد الله وقال ابن سعد: إن عبد الله ولد في الاسلام فسمي الطيب والطاهر وفي موت القاسم في الجاهلية خلاف.
فقد ذكر السهيلي عن الزبير أن القاسم مات رضيعا..فبكت خديجة.
فقال الرسول الله صلى الله عليه وسلم إن شئت أسمعتك صوته في الجنة..فهو دليل على أنه لم يهلك في الجاهلية.
(3) في الطبقات عن ابن عباس: قبل النبوة القاسم (وفي رواية عنده مات ابن سنتين وهذا يناقض ما ذهب إليه الزبير، وفي رواية للبيهقي: أن القاسم قد بلغ أن يركب الدابة ويسير على النجيب) ثم زينب ثم رقية ثم فاطمة ثم أم كلثوم ثم عبد الله.
(4) تقدم التعليق قريبا فليراجع.
وذكر ابن سعد ان ابراهيم ولد في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة.
ومات وهو
ابن ستة عشر شهرا وقال صلى الله عليه وسلم ان له ظئرا تتم رضاعه في الجنة وهو صديق.
وفي رواية ثمانية عشر شهرا.
يوم الثلاثاء لعشر ليال خلون من شهر ربيع الاول سنة عشر.
(5) عن الحكم عن مقسم أبي القاسم كما في دلائل النبوة ج 2 / 70.
[ * ]

(2/359)


النبوة فماتوا قبل البعثة.
وأما بناته فأدركن البعثة ودخلن في الاسلام وهاجرن معه صلى الله عليه وسلم قال ابن هشام: وأما إبراهيم فمن ماربة (1) القبطية التي أهداها له المقوقس صاحب اسكندرية من كورة أنصنا (2) وسنتكلم على أزواجه وأولاده عليه الصلاة والسلام في باب مفرد لذلك في آخر السيرة إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
قال ابن هشام: وكان عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تزوج خديجة خمسا وعشرين سنة فيما حدثني غير واحد من أهل العلم، منهم أبو عمرو المدني، وقال يعقوب بن سفيان كتبت عن إبراهيم بن المنذر حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي حدثني غير واحد أن عمرو بن أسد زوج خديجة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمره خمسا وعشرين سنة وقريش تبني الكعبة.
وهكذا نقل البيهقي عن الحاكم أنه كان عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تزوج خديجة خمسا وعشرين سنة وكان عمرها إذ ذاك خمسا وثلاثين - وقيل خمسا وعشرين سنة - (3).