البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي

فصل في تجديد قريش بناء الكعبة قبل المبعث بخمس سنين ذكر البيهقي (5) بناء الكعبة قبل تزويجه عليه الصلاة والسلام خديجة.
والمشهور أن بناء قريش الكعبة بعد تزويج خديجة كما ذكرناه بعشر سنين.
ثم شرع البيهقي في ذكر بناء الكعبة في
__________
(1) قاله لما مر ببلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعذب برمضاء مكة ونهاهم عنه فلم ينتهوا ; فقال: والله لئن قتلتموه لاتخذن قبره حنانا (بلوغ الارب - 2 / 271).
(2) في بلوغ الارب للالوسي وعجزه: فإن دعيتم فقولوا دونه حدد.
والحدد: بفتح الحاء والدال: المنع.
(3) عند الالوسي: سبحان ذي العرش لا شئ يعادله * رب البرية فرد واحد صمد سبحانه ثم سبحانا نعوذ به * وقبلنا سبح الجودي والجمد
(4) في الالوسي: ولا سليمان إذا دان الشعوب له * والجن والانس تجري بينها البرد (5) أنظر دلائل النبوة ج 2 / 43 وما بعدها.
[ * ]

(2/364)


زمن إبراهيم كما قدمناه في قصته، وأورد حديث ابن عباس المتقدم في صحيح البخاري وذكر ما ورد من الاسرائيليات في بنائه في زمن آدم ولا يصح ذلك، فإن ظاهر القرآن يقتضي أن إبراهيم أول من بناه مبتدئا وأول من أسسه، وكانت بقعته معظمة قبل ذلك معتنى بها مشرفة في سائر الاعصار والاوقات قال الله تعالى: (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين، فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) [ آل عمران: 96 - 97 ] وثبت في الصحيحين (1) عن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله أي مسجد وضع أول ؟ قال: " المسجد الحرام " قلت ثم أي ؟ قال: " المسجد الاقصى " قلت كم بينهما ؟ قال: " أربعون سنة " وقد تكلمنا على هذا فيما تقدم، وإن المسجد الاقصى أسسه اسرائيل وهو يعقب عليه السلام.
وفي الصحيحين أن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والارض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة.
وقال البيهقي (2) أخبرنا أبو عبد الله الحافظ حدثنا أبو عبد الله الصفار حدثنا أحمد بن مهران حدثنا عبيد الله [ بن موسى ] حدثنا اسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو، قال: كان البيت قبل الارض بألفي سنة، (وإذا الارض مدت) [ الانشقاق: 3 ] قال من تحته مدت.
قال وقد تابعه منصور عن مجاهد.
قلت: وهذا غريب جدا وكأنه من الزاملتين اللتين أصابهما عبد الله بن عمرو يوم اليرموك وكان فيهما اسرائيليات يحدث منها وفيهما منكرات وغرائب.
ثم قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرنا أبو جعفر محمد بن محمد بن محمد (3) بن عبد الله البغدادي حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح حدثنا أبو صالح الجهني حدثني ابن لهيعة عن يزيد بن (4) أبي الخير عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بعث الله
جبريل إلى آدم وحواء فقال لهما ابنيا لي بيتا، فخط لهما جبريل فجعل آدم يحفر وحواء تنقل، حتى أجابه الماء نودي من تحته حسبك يا آدم، فلما بنيا أوحى الله تعالى إليه أن يطوف به وقيل له أنت أول الناس، وهذا أول بيت، ثم تناسخت القرون حتى حجه نوح، ثم تناسخت القرون حتى رفع إبراهيم القواعد منه ".
قال البيهقي: تفرد به ابن لهيعة هكذا مرفوعا.
__________
(1) أخرجه البخاري في 60 كتاب الانبياء 10 باب حدثنا موسى بن إسماعيل الفتح 6 / 407 وأخرجه مسلم في أول كتاب المساجد ح (1) صفحة (370).
(2) دلائل ج 2 / 44، وأخرجه الحاكم في المستدرك 2 / 518 وقال حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(3) في الدلائل ج 2 / 44 محمد بن محمد بن عبد الله.
(4) كذا في الاصل وفي الدلائل: يزيد عن أبي الخير.
[ * ]

(2/365)


قلت: وهو ضعيف، ووقفه على عبد الله بن عمرو أقوى وأثبت والله أعلم.
وقال الربيع [ بن سليمان ]: أنبأنا الشافعي أنبأنا سفيان عن ابن أبي لبيد عن محمد بن كعب القرظي - أو غيره - قال: حج آدم فلقيته الملائكة فقالوا بر نسكك يا آدم لقد حججنا قبلك بألفي عام.
وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق حدثني بقية - أو قال ثقة - من أهل المدينة عن عروة بن الزبير أنه قال: ما من نبي إلا وقد حج البيت إلا ما كان من هود وصالح.
قلت: وقد قدمنا حجهما إليه.
والمقصود الحج إلى محله وبقعته وإن لم يكن ثم بناء والله أعلم.
ثم أورد البيهقي حديث ابن عباس المتقدم في قصة إبراهيم عليه السلام بطوله وتمامه وهو في صحيح البخاري.
ثم روى البيهقي من حديث سماك بن حرب عن خالد بن عرعرة قال: سأل رجل عليا عن قوله تعالى: (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين) أهو أول بيت بني في الارض ؟ قال لا ولكنه أول بيت وضع فيه البركة للناس والهدى ومقام
إبراهيم، ومن دخله كان آمنا.
وإن شئت نبأتك كيف بناؤه.
إن الله تعالى أوحى إلى ابراهيم أن ابن لي بيتا في الارض، فضاق به ذرعا فأرسل [ الله ] إليه السكينة، وهي ريح خجوج لها رأس، فاتبع أحدهما صاحبه حتى انتهت ثم تطوقت في موضع البيت تطوق الحية، فبنى إبراهيم [ وكان يبني هو ساقا كل يوم ] حتى بلغ مكان الحجر، قال لابنه أبغني حجرا، فالتمس حجرا حتى أتاه به، فوجد الحجر الاسود قد ركب، فقال لابيه من أين لك هذا ؟ قال جاء به من لا يتكل على بنائك، جاء به جبريل، من السماء فأتمه (1).
قال فمر عليه الدهر فانهدم، فبنته العمالقة، ثم انهدم فبنته جرهم، ثم انهدم فبنته قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ رجل شاب.
فلما أرادوا أن يرفعوا الحجر الاسود اختصموا فيه، فقالوا: نحكم بيننا أول رجل يخرج من هذه السكة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من خرج عليهم فقضى بينهم أن يجعلوه في مرط ثم ترفعه جميع القبائل كلهم.
وقال أبو داود الطيالسي حدثنا حماد بن سلمة وقيس وسلام كلهم عن سماك بن حرب عن خالد بن عرعرة عن علي بن أبي طالب.
قال: لما انهدم البيت بعد جرهم بنته قريش، فلما أرادوا وضع الحجر تشاجروا من يضعه، فاتفقوا أن يضعه أول من يدخل من هذا الباب، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب بني شيبة فأمر بثوب فوضع الحجر في وسطه وأمر كل فخذ أن يأخذوا بطائفة من الثوب فرفعوه وأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه، قال يعقوب بن سفيان أخبرني أصبغ بن فرج أخبرني ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحلم جمرت امرأة الكعبة، فطارت شرارة من مجمرها في ثياب الكعبة فاحترقت فهدموها، حتى إذا بنوها، فبلغوا موضع الركن اختصمت قريش في الركن أي القبائل تلي رفعه.
فقالوا: تعالوا نحكم أول من
__________
(1) أخرجه الطبري في تفسيره (3 / 69 - 71) ورواه في أخبار مكة (1 / 24 - 25) ورواه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
ووافقه الذهبي.
[ * ]

(2/366)


يطلع علينا، فطلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام عليه وشاح نمرة، فحكموه فأمر بالركن فوضع في ثوب، ثم أخرج سيد كل قبيلة، فأعطاه ناحية من الثوب، ثم ارتقى هو فرفعوا إليه الركن،
فكان هو يضعه، فكان لا يزداد على السن الارضي (1) حتى دعوه الامين قبل أن ينزل عليه الوحي، فطفقوا لا ينحرون جزورا إلا التمسوه فيدعو لهم فيها، وهذا سياق حسن، وهو من سير الزهري، وفيه من الغرابة قوله: فلما بلغ الحلم.
والمشهور أن هذا كان ورسول الله صلى الله عليه وسلم عمره خمس وثلاثون سنة، وهو الذي نص عليه محمد بن إسحاق بن يسار رحمه الله (2).
وقال موسى بن عقبة: كان بناء الكعبة قبل المبعث بخمس عشرة سنة.
وهكذا قال مجاهد، وعروة، ومحمد بن جبير بن مطعم، وغيرهم.
فالله أعلم.
وقال موسى بن عقبة: كان بين الفجار وبين بناء الكعبة خمس عشرة سنة.
قلت: وكان الفجار وحلف الفضول في سنة واحدة إذ كان عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرون سنة.
وهذا يؤيد ما قال محمد بن إسحاق والله أعلم (3).
قال موسى بن عقبة: وإنما حمل قريشا على بنائها أن السيول كانت تأتي من فوقها، من فوق الردم الذي صفوه فخر به فخافوا أن يدخلها الماء.
وكان رجل يقال له مليح سرق طيب الكعبة.
فأرادوا أن يشيدوا بنيانها وأن يرفعوا بابها حتى لا يدخلها إلا من شاؤوا فأعدوا لذلك نفقة وعمالا.
ثم غدوا إليها ليهدموها على شفق وحذر أن يمنعهم الذي ارادوا.
فكان أول رجل طلعها وهدم منها شيئا: والوليد بن المغيرة، فلما رأوا الذي فعل الوليد تتابعوا فوضعوها، فأعجبهم ذلك.
فلما أرادوا أن يأخذوا في بنيانها أحضروا عمالهم فلم يقدر رجل منهم أن يمضي أمامه موضع قدم فزعموا أنهم رأوا حية قد أحاطت بالبيت، رأسها عند ذنبها.
فأشفقوا منها شفقة شديدة، وخشوا أن يكونوا قد وقعوا مما عملوا في هلكة.
وكانت الكعبة حرزهم ومنعتهم من الناس وشرفا لهم فلما سقط في أيديهم والتبس عليهم أمرهم قام فيهم المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم فذكر ما كان
__________
(1) في الدلائل: ثم طفق لا يزداد على السن إلا رضا.
(2) رواه الازرقي في أخبار مكة 1 / 99.
(3) قال ابن هشام: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة سنة أو خمس عشرة هاجت حرب الفجار.
وقال ابن إسحاق: هاجت حرب الفجار ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة.
وقال ابن سيد الناس: ولما بلغ
رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة اجتمعت قريش لبنيان الكعبة.
وقال الازرقي: اختصمت قريش..وطلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام عليه وشاحا نمرة والذي جزم به ابن إسحق أن بنيان الكعبة كان قبل المبعث بخمس سنين.
1 / 159.
نقول يمكن أن يكون الحريق تقدم وقته على الشروع في البناء، أو لعل البناء كان في فترات..انتهت قبل المبعث بخمس سنوات.
ويمكن أن يكون قد وقع التباس لدى المؤرخين في زمن احتراق الكعبة (فقال الزهري لما بلغ رسول الله الحلم احترقت..و) والانتهاء من هدمها وبنائها.
[ * ]

(2/367)


من نصحه لهم وأمره إياهم أن لا يتشاجروا ولا يتحاسدوا في بنائها.
وأن يقتسموها أرباعا.
وأن لا يدخلوا في بنائها مالا حرام.
وذكر أنهم لما عزموا على ذلك ذهبت الحية في السماء وتغيبت عنهم ورأوا أن ذلك من الله عز وجل.
قال: ويقول بعض الناس إنه اختطفها طائر وألقاها نحو أجياد (1).
وقال محمد بن إسحاق بن يسار: فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة اجتمعت قريش لبناء الكعبة وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها ويهابون هدمها.
وإنما كانت رضما فوق القامة.
فأرادوا رفعها وتسقيفها وذلك أن نفرا سرقوا كنز الكعبة، وإنما كان في بئر في جوف الكعبة.
وكان الذي وجد عنده الكنز دويك مولى لبني مليح بن عمرو بن خزاعة.
فقطعت قريش يده وتزعم قريش أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك.
وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة (2) لرجل من تجار الروم.
فتحطمت.
فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها.
قال الاموي: كانت هذه السفينة لقيصر ملك الروم تحمل آلات البناء من الرخام والخشب والحديد سرحها قيصر مع باقوم الرومي إلى الكنيسة التي أحرقها الفرس للحبشة فلما بلغت مرساها من جدة بعث الله عليها ريحا فحطمتها.
قال ابن إسحاق: وكان بمكة رجل قبطي نجار فتهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها.
وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي كانت تطرح فيها ما يهدى إليها كل يوم.
فتشرف (3) على جدار الكعبة وكانت مما يهابون، وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احزألت (4) وكشت وفتحت
فاها، فكانوا يهابونها، فبينما هي يوما تشرف على جدار الكعبة كما كانت تصنع، بعث الله عليها طائرا فاختطفها فذهب بها.
فقالت قريش: إنا لنرجو أن يكون الله تعالى قد رضي ما أردنا، عندنا عامل رقيق وعندنا خشب وقد كفانا الله الحية.
وحكى السهيلي: عن رزين أن سارقا دخل الكعبة في أيام جرهم ليسرق كنزها.
فانهار البئر عليه حتى جاؤوا فأخرجوه وأخذوا منه ما كان أخذه، ثم سكنت هذا البئر حية رأسها كرأس الجدي وبطنها أبيض وظهرها أسود فأقامت فيها خمسمائة عام وهي التي ذكرها محمد بن إسحاق.
قال محمد بن إسحاق: فلما أجمعوا أمرهم لهدمها وبنيانها قام أبو وهب عمرو بن عابد بن عبد بن عمران بن مخزوم - وقال ابن هشام عابد بن عمران بن مخزوم - فتناول من الكعبة حجرا فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه.
فقال: يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبا.
لا يدخل فيها مهر بغي ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس -
__________
(1) أجياد، وفي الدلائل جياد.
(2) في الاخبار الازرقي بالشعيبة ; وهي واقعة جنوب جدة وتبعد عنها مقدار مرحلتين.
(3) في سيرة ابن هشام: تتشرق أي تبرز للشمس ويقال تشرقت: إذا قعدت للشمس لا يحجبك عنها شئ.
(4) احزألت: رفعت رأسها وتجمعت تستعد للوثوب.
[ * ]

(2/368)


والناس ينحلون هذا الكلام الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم.
ثم رجح ابن إسحاق أن قائل ذلك أبو وهب بن عمرو - قال وكان خال أبي النبي صلى الله عليه وسلم وكان شريفا ممدحا.
وقال ابن إسحاق: ثم إن قريشا تجزأت الكعبة.
فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة، وما بين الركن الاسود والركن اليماني لبني مخزوم (1) وقبائل من قريش انضموا إليهم.
وكان ظهر الكعبة لبني جمح وسهم (2).
وكان شق الحجر لبني عبد الدار بن قصي ولبني أسد بن عبد العزى ولبني عدي بن كعب، وهو الحطيم (3).
ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه.
فقال الوليد بن المغيرة أنا أبدؤكم في هدمها فأخذ المعول ثم قام عليها وهو يقول: اللهم لم ترع اللهم إنا لا نريد
إلا الخير.
ثم هدم من ناحية الركنين فتربص الناس تلك الليلة، وقالوا: ننظر فإن أصيب لم تهدم منها شيئا ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شئ، فقد رضي الله ما صنعنا من هدمها.
فأصبح الوليد غاديا على عمله، فهدم وهدم الناس معه - حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الاساس - أساس إبراهيم عليه السلام - أفضوا إلى حجارة خضر كالاسنة (4) أخذ بعضها بعضا - ووقع في صحيح البخاري عن يزيد بن رومان كأسنمة الابل - قال السهيلي وأرى رواية السيرة كالالسنة وهما والله أعلم.
قال ابن أسحاق: فحدثني بعض من يروي الحديث أن رجلا (5) من قريش ممن كان يهدمها ادخل عتلة بين حجرين منها ليقلع بها أحدهما، فلما تحرك الحجر انتفضت مكة بأسرها.
فانتهوا عن ذلك الاساس.
وقال موسى بن عقبة: وزعم عبد الله بن عباس أن أولية قريش كانوا يحدثون أن رجلا (6) من قريش لما اجتمعوا لينزعوا الحجارة [ وانتهوا ] إلى تأسيس إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام عمد رجل منهم إلى حجر من الاساس الاول فرفعه وهو لا يدري أنه من الاساس الاول، فأبصر
__________
(1) زاد في تاريخ مكة: وبني تميم.
(2) زاد في اخبار مكة فذكر: بني عامر بن لؤي.
(3) الحطيم: سمي حطيما، كما قيل، لان الناس يزدحمون فيه حتى يحطم بعضهم بعضا.
(4) في رواية الازرقي: كأنها الابل الخلف لا يطيق الحجر منها ثلاثون رجلان.
ومن قال الاسنمة فهي جمع سنام، وأراد أن الحجارة تدخل بعضها في بعض كما تدخل عظام الاسنمة بعضها ببعض.
ومن قال الاسنة فهي جمع سنان: أي أسنة الرماح.
(5) في تاريخ الازرقي: هو الوليد بن المغيرة.
وفي رواية له عن سعيد بن المسيب قال: أبو وهب بن عمرو بن عائد بن عمران بن مخزوم.
وعن جبير بن مطعم قال: عامر بن نوفل بن عبد مناف وقال الواقدي: وقد ثبت أنه أبو وهب.
(6) كذا في الاصل، والصواب من الدلائل رجالا.
[ * ]

(2/369)


القوم برقة تحت الحجر كادت تلتمع بصر الرجل، ونزا الحجر من يده فوقع في موضعه وفزع الرجل والبناة.
فلما ستر الحجر عنهم ما تحته إلى مكانه عادوا إلى بنيانهم وقالوا لا تحركوا هذا الحجر ولا شيئا بحذائه.
قال ابن إسحاق: وحدثت أن قريشا وجدوا في الركن كتابا بالسريانية فلم يعرفوا ما هو، حتى قرأه لهم رجل من يهود (1)، فإذا هو أنا الله ذو بكة، خلقتها يوم خلقت السماوات والارض، وصورت الشمس والقمر، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء لا تزول حتى يزول أخشباها - قال ابن هشام يعني جبلاها - مبارك لاهلها في الماء واللبن.
قال ابن إسحاق: وحدثت أنهم وجدوا في المقام كتابا فيه: مكة [ بيت ] الله الحرام، يأتيها رزقها من ثلاثة سبل، لا يحلها أول من أهلها.
قال وزعم ليث بن أبي سليم أنهم وجدوا في الكعبة قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة - إن كان ما ذكر حقا - مكتوبا فيه: من يزرع خيرا يحصد غبطة، ومن يزرع شرا يحصد ندامة.
يعملون السيئات ويجزون الحسنات ؟ أجل كما يجتنى من الشوك العنب.
وقال سعيد بن يحيى الاموي: حدثنا المعتمر بن سليمان الرقي عن عبد الله بن بشر الزهري - يرفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم - قال: " وجد في المقام ثلاثة أصفح، في الصفح الاول: إني أنا الله ذويكة، صنعتها يوم صنعت الشمس والقمر وخففتها بسبعة أملاك حنفاء، وباركت لاهلها في اللحم واللبن وفي الصفح الثاني: إني أنا الله ذويكة، خلقت الرحم وشققت لها من اسمي.
فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته، وفي الصفح الثالث: إني أنا الله ذوبكة، خلقت الخير والشر وقدرته.
فطوبى لمن أجريت الخير على يديه وويل لمن أجريت الشر على يديه.
قال ابن اسحاق: ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها، كل قبيلة تجمع على حدة.
ثم بنوها حتى بلغ البناء موضع الركن فاختصموا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه
دون الاخرى.
حتى تحاوروا أو تحالفوا، وأعدوا للقتال فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما.
ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة.
فسموا لعقة الدم.
فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسا ثم انهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا وتناصفوا.
فزعم بعض أهل الرواية أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم - وكان عامئذ أسن قريش (2) كلها قال: يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه.
ففعلوا.
فكان أول داخل دخل
__________
(1) كذا في الاصل وابن هشام وفي دلائل البيهقي: حبر من يهود اليمن، وفى رواية: من حمير.
(2) ذكر الازرقي أن أبا زمعة بن الاسود كان أسن القوم.
[ * ]

(2/370)


رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما رأوه قالوا: هذا الامين رضينا، هذا محمد.
فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هلموا إلي ثوبا " فأتى به، وأخذ الركن فوضعه فيه بيده، ثم قال: " لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب (1).
ثم ارفعوه جميعا " ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو بيده صلى الله عليه وسلم.
ثم بنى عليه.
وكانت قريش تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم الامين.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الصمد حدثنا ثابت - يعني أبا يزيد - حدثنا هلال يعني ابن حبان عن مجاهد عن مولاه - وهو السائب بن عبد الله - أنه حدثه أنه كان فيمن بنى الكعبة في الجاهلية قال: وكان لي حجر - أنا نحته أعبده من دون الله - قال: وكنت أجئ باللبن الخاثر الذي آنفه على نفسي فأصبه عليه فيجئ الكلب فيلحسه ثم يشغر فيبول عليه قال: فبنينا حتى بلغنا موضع الحجر ولا يرى الحجر أحد.
فإذا هو وسط أحجارنا مثل رأس الرجل يكاد يترايا منه وجه الرجل.
فقال بطن من قريش: نحن نضعه وقال آخرون نحن نضعه فقالوا اجعلوا بينكم حكما.
فقالوا أول رجل يطلع من الفج.
فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا أتاكم الامين.
فقالوا له فوضعه في ثوب.
ثم دعا بطونهم فرفعوا نواحيه فوضعه هو صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: وكانت الكعبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثماني عشرة ذراعا وكانت تكسى
القباطي.
ثم كسيت بعد البرور (2).
وأول من كساها الديباج الحجاج بن يوسف (3).
قلت: وقد كانوا أخرجوا منها الحجر - وهو ستة أذرع أو سبعة أذرع من ناحية الشام - قصرت بهم النفقة أي لم يتمكنوا أن يبنوه على قواعد إبراهيم.
وجعلوا للكعبة بابا واحدا من ناحية
__________
(1) أي بزاوية من زواياه فكان عتبة بن ربيعة في ربع عبد مناف، وفي الربع الثاني: أبي زمعة بن الاسود، وفي الثالث العاص بن وائل (في الطبقات: قيس بن عدي)، وفي الرابع أبو حذيفة بن المغيرة.
(2) كذا في الاصل، وفي السيرة والازرقي البرود: وهي ثياب يمنية.
والقباطي: جمع قبطية بالضم وهو ثوب من ثياب مصر رقيق أبيض.
(3) الديباج: معربة وهي القماش المنقوش.
وفيمن كساها الديباج: روى الفاكهي من طريق مسعر عن جسرة: أن خالد بن جعفر بن كلاب أول من كسا الكعبة الديباج في الجاهلية.
وعن الدارقطني في المؤتلف: أن نتيلة بنت حيان والدة العباس بن عبد المطلب كست الكعبة الديباج.
وقال ابن حجر: وحصلنا في أول من كساها الديباج على ستة أقوال: 1 - خالد - 2 - نتيلة - معاوية - يزيد - ابن الزبير - الحجاج.
قال: كسوة خالد ونتيلة لم تشملها كلها.
وأما معاوية فلعله كساها في آخر خلافته فصادف ذلك خلافة ابنه يزيد.
وأما ابن الزبير فلعله كساها بعد تجديد بنائها لكن لم يداوم على كسوتها الديباج.
وأما الحجاج فكساها بأمر عبد الملك واستمر على ذلك، فلعله أول من داوم على كسوتها في كل سنة.
(الروض الانف أخبار مكة).
[ * ]

(2/371)


الشرق.
وجعلوه مرتفعا لئلا يدخل إليها كل أحد فيدخلوا من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا (1) وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: " ألم تري أن قومك قصرت بهم النفقة.
ولولا حدثان قومك بكفر لنقضت الكعبة وجعلت لها بابا شرقيا وبابا غربيا، وأدخلت فيها الحجر " ولهذا لما تمكن ابن الزبير بناها على ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءت في غاية البهاء
والحسن والسناء كاملة على قواعد الخليل.
لها بابان ملتصقان بالارض شرقيا وغربيا.
يدخل الناس من هذا ويخرجون من الآخر.
فلما قتل الحجاج بن الزبير كتب إلى عبد الملك بن مروان - وهو الخليفة يومئذ - فيما صنعه ابن الزبير واعتقدوا أنه فعل ذلك من تلقاء نفسه.
فأمر باعادتها إلى ما كانت عليه فعمدوا إلى الحائط الشامي فحصوه وأخرجوا منه الحجر ورصوا حجارته في أرض الكعبة.
فارتفع باباها وسدوا الغربي واستمر الشرقي على ما كان عليه فلما كان في زمن المهدي - أو ابنه المنصور - استشار مالكا في إعادتها على ما كان صنعه ابن الزبير.
فقال مالك رحمه الله: إني أكره أن يتخذها الملوك ملعبة.
فتركها على ما هي عليه.
فهي إلى الآن كذلك.
وأما المسجد الحرام: فأول من أخر البيوت من حول الكعبة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، اشتراها من أهلها وهدمها فلما كان عثمان اشترى دورا وزادها فيه.
فلما ولى ابن الزبير أحكم بنيانه، وحسن جدرانه وأكثر أبوابه.
ولم يوسعه شيئا آخر.
فلما استبد بالامر عبد الملك بن مروان زاد في ارتفاع جدرانه وأمر بالكعبة فكسيت الديباج.
وكان الذي تولى ذلك بأمره الحجاج بن يوسف.
وقد ذكرنا قصة بناء البيت والاحاديث الواردة في ذلك في تفسير سورة البقرة عند قوله: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل) (2) وذكرنا ذلك مطولا مستقصى فمن شاء كتبه هاهنا ولله الحمد والمنة.
قال ابن إسحاق: فلما فرغوا من البنيان وبنوها على ما أرادوا قال الزبير بن عبد المطلب، فيما كان من أمر الحية التي كانت قريش تهاب بنيان الكعبة لها: عجبت لما تصوبت العقاب * إلى الثعبان وهي لها اضطراب وقد كانت تكون لها كشيش * وأحيانا يكون لها وثاب إذا قمنا إلى التأسيس شدت * تهيبنا البناء وقد نهاب فلما أن خشينا الزجر جاءت * عقاب تتلئب لها انصباب (3) فضمتها إليها ثم خلت * لنا البنيان ليس لها حجاب فقمنا حاشدين إلى بناء * لنا منه القواعد والتراب
__________
(1) زاد في تاريخ مكة: رفعوا بابها حتى لا تدخلها السيول، ولا ترقا إلا بسلم.
(2) سورة البقرة الآية 127.
(3) الزجر: المنع.
ويروى الرجز: العذاب.
[ * ]

(2/372)


غداة يرفع التأسيس منه * وليس على مساوينا ثياب (1) أعز به المليك بني لؤي * فليس لاصله منهم ذهاب وقد حشدت هناك بنو عدي * ومرة قد تقدمها كلاب فبوأنا المليك بذاك عزا * وعند الله يلتمس الثواب وقد قدمنا في فصل ما كان الله يحوط به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقذار الجاهلية، أنه كان هو والعباس عمه ينقلان الحجارة، وأنه عليه الصلاة والسلام لما وضع إزاره تحت الحجارة على كتفه نهى عن خلع إزاره فأعاده إلى سيرته الاولى.
فصل وذكر ابن إسحاق ما كانت قريش ابتدعوه في تسميتهم الحمس، وهو الشدة في الدين والصلابة.
وذلك لانهم عظموا الحرم تعظيما زائدا بحيث التزموا بسببه أن لا يخرجوا منه ليلة عرفة.
وكانوا يقولون نحن أبناء الحرم وقطان بيت الله.
فكانوا لا يقفون بعرفات مع علمهم أنها من مشاعر إبراهيم عليه السلام، حتى لا يخرجوا عن نظام ما كانوا قرروه من البدعة الفاسدة.
وكانوا لا يدخرون من اللبن أقطا ولا سمنا ولا يسلون شحما وهم حرم.
ولا يدخلون بيتا من شعر ولا يستظلون إن استظلوا إلا ببيت من أدم.
وكانوا يمنعون الحجيج والعمار - ما داموا محرمين - أن يأكلوا إلا من طعام قريش، ولا يطوفوا إلا في ثياب قريش، فإن لم يجد أحد منهم ثوب أحد من الحمس وهم قريش وما ولدوا ومن دخل معهم من كنانة وخزاعة طاف عريانا ولو كانت امرأة ولهذا كانت المرأة إذا اتفق طوافها لذلك وضعت يدها على فرجها وتقول: اليوم يبدو بعضه أو كله * وبعد هذا اليوم لا أحله
فإن تكرم أحد ممن يجد ثوب أحمسي فطاف في ثياب نفسه فعليه إذا فرغ من الطواف أن يلقيها فلا ينتفع بها بعد ذلك.
وليس له ولا لغيره أن يمسها.
وكانت العرب تسمي تلك الثياب اللقى (3) قال بعض الشعراء: كفى حزنا كري عليه كأنه * لقى بين أيدي الطائفين حريم
__________
(1) مساوينا والمساوي هنا: السوآت ; وفي سيرة ابن هشام: مسوينا أي مسوي البنيان.
ثياب: إشارة إلى أنهم كانوا ينقلون الحجارة عراة ويرون أن ذلك كان دينا وأنه من باب التشمير والجد في الطاعة.
(2) في سيرة ابن هشام: وما بدا منه فلا أحله.
يقال ان المرأة التي قالت ذلك هي ضباعة بنت عامر بن صعصعة ثم من بني سلمة بن قشير (الروض الانف).
(3) اللقى: الشئ الملقى ويقال المنسى وجمعه: ألقاء.
[ * ]

(2/373)


قال ابن إسحاق: فكانوا كذلك حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن ردا عليهم فيما ابتدعوه فقال [ تعالى ]: (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) أي جمهور العرب من عرفات (واستغفروا الله إن الله غفور رحيم) (1) وقد قدمنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقف بعرفات قبل أن ينزل عليه توفيقا من الله له، وأنزل الله عليه ردا عليهم فيما كانوا حرموا من اللباس والطعام على الناس (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) (2) الآية.
وقال زياد البكائي (3) عن ابن إسحاق: ولا أدري أكان ابتداعهم لذلك قبل الفيل أو بعده (4).