البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي

ذكر أخبار غريبة في ذلك.
قال أبو نعيم في الدلائل: حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا محمد بن زكريا الغلابي (1) حدثنا العلاء بن الفضل بن عبد الملك بن أبي السوية المنقري حدثنا عباد بن كسيب عن أبيه عن أبي
__________
(1) هو ابو بكر محمد بن زكريا بن دينار الغلابي البصري يعرف بزكرويه.
[ * ]

(2/386)


عتوارة الخزاعي عن سعير بن سوادة العامري قال كنت عشيقا لعقيلة من عقائل الحي، أركب لها الصعب والذلول لا أبقى من البلاد مسرحا أرجوا ربحا في متجر إلا أتيته، فانصرفت من الشام بحرث وأناث أريد به كبة (1) الموسم ودهماء العرب، فدخلت مكة بليل مسدف فأقمت حتى تعرى عني قميص الليل فرفعت رأسي فإذا قباب مسامتة شعف الجبال، مضروبة بأنطاع الطائف وإذا جزر تنحر وأخرى تساق، وإذا أكلة وحثثة على الطهاة يقولون: ألا عجلوا ألا عجلوا، وإذا رجل يجهر على نشز من الارض، ينادي يا وفد الله ميلوا إلى الغداء.
وأنيسان على مدرجة يقول: يا وفد الله من طعم فليرح إلى العشاء، فجهرني (2) ما رأيت فأقبلت أريد عميد القوم، فعرف رجل الذي بي، فقال أمامك، وإذا شيخ كأن في خديه الاساريع (3)، وكأن الشعرى توقد من جبينه، قد لاث على رأسه عمامة سوداء قد أبرز من ملائها جمة فينانة كأنها سماسم.
قال في بعض الروايات تحته كرسي سماسم (4) ومن دونها نمرقة بيده قضيب متخصر به حوله شمايخ جلس
نواكس الاذقان ما منهم أحد يفيض بكلمة.
وقد كان نمي إلي خبر من أخبار الشام أن النبي الامي هذا أوان نجومه، فلما رأيته ظننته ذلك.
فقلت السلام عليك يارسول الله.
فقال: مه مه، كلا وكأن قد وليتني إياه فقلت من هذا الشيخ ؟ فقالوا هذا أبو نضلة (5)، هذا هاشم بن عبد مناف، فوليت وأنا أقول هذا والله المجد لا مجد آل جفنة - يعني ملوك عرب الشام من غسان كان يقال لهم آل جفنة -.
وهذه الوظيفة التي حكاها عن هاشم هي الرفادة يعني إطعام الحجيج زمن الموسم.
وقال أبو نعيم: حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر حدثنا محمد بن أحمد بن أبي يحيى حدثنا سعيد بن عثمان حدثنا علي بن قتيبة الخراساني حدثنا خالد بن الياس عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي الجهم عن أبيه عن جده.
قال سمعت أبا طالب يحدث عن عبد المطلب قال.
بينا أنا نائم في الحجر إذ رأيت رؤيا هالتني ففزعت منها فزعا شديدا، فأتيت كاهنة قريش وعلي مطرف خز وجمتي تضرب منكبي فلما نظرت إلي عرفت في وجهي التغيير وأنا يومئذ سيد قومي فقالت: ما بال سيدنا قد أتانا متغير اللون ؟ هل رابه من حدثان الدهر شئ ؟ فقلت لها بلى ! وكان لا يكلمها أحد من الناس حتى يقبل يدها اليمني، ثم يضع يده على أم رأسها ثم يذكر حاجته ولم أفعل لاني [ كنت ]
__________
(1) كبة: الزحام.
(2) جهرني: راعني.
(3) الاساريع: خطوط وطرائق ; وقد تكون: الدود بيض حمر الرؤوس واحدتها أسروع ويسروع (قاموس محيط (سرع).
(4) سماسم: الاولى عيدان السمسم.
والثانية خشب أسود.
(5) نضلة أحد ابناء هاشم.
[ * ]

(2/387)


كبير قومي.
فجلست فقلت إني رأيت الليلة وأنا نائم في الحجر كأن شجرة تنبت (1) قد نال رأسها السماء وضربت بأغصانها المشرق والمغرب، وما رأيت نورا أزهر منها أعظم من نور الشمس سبعين
ضعفا.
ورأيت العرب والعجم ساجدين لها وهي تزداد كل ساعة عظما ونورا وارتفاعا ساعة تخفى وساعة تزهر، ورأيت رهطا من قريش قد تعلقوا بأغصانها، ورأيت قوما من قريش يريدون قطعها.
فإذا دنوا منها أخرهم شاب لم أر قط أحسن منه وجها ولا أطيب منه ريحا فيكسر أظهرهم، ويقلع أعينهم.
فرفعت يدي لا تناول منها نصيبا، فمنعني الشاب فقلت لمن النصيب ؟ فقال النصيب لهؤلاء الذين تعلقوا بها وسبقوك إليها.
فانتبهت مذعورا فزعا فرأيت وجه الكاهنة قد تغير، ثم قالت لئن صدقت رؤياك ليخرجن من صلبك رجل يملك المشرق والمغرب ويدين له الناس ثم قال - يعني عبد المطلب - لابي طالب، لعلك تكون هذا المولود قال فكان أبو طالب يحدث بهذا الحديث بعدما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعدما بعث.
ثم قال كانت الشجرة والله أعلم أبا القاسم الامين، فيقال لابي طالب ألا تؤمن ؟ فيقول السبة والعار وقال أبو نعيم: حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا محمد بن زكرياء الغلابي حدثنا العباس بن بكار الضبي حدثنا أبو بكر الذهلي عن عكرمة عن ابن عباس.
قال قال العباس: خرجت في تجارة إلى اليمن في ركب - منهم أبو سفيان بن حرب، فقدمت اليمن فكنت أصنع يوما طعاما وانصرف بأبي سفيان وبالنفر ويصنع أبو سفيان يوما، ويفعل مثل ذلك، فقال لي في يومي الذي كنت أصنع فيه، هل لك يا أبا الفضل أن تنصرف إلى بيتي وترسل إلي غداءك ؟ فقلت نعم.
فانصرفت أنا والنفر إلى بيته وأرسلت إلى الغداء فلما تغدى القوم قاموا واحتبسني فقال هل علمت يا أبا الفضل أن ابن أخيك يزعم أنه رسول الله فقلت أي بني أخي ؟ فقال أبو سفيان إياي تكتم ؟ وأي بني أخيك ينبغي أن يقول هذا إلا رجل واحد ؟ قلت وأيهم على ذلك ؟ قال: هو محمد بن عبد الله، فقلت قد فعل ؟ قال بلى قد فعل.
وأخرج كتابا باسمه من ابنه حنظلة بن أبي سفيان فيه: أخبرك أن محمدا قام بالابطح فقال: " أنا رسول أدعوكم إلى الله عزوجل " فقال العباس قلت: جده يا أبا حنظلة صادق.
فقال مهلا يا أبا الفضل فوالله ما أحب أن يقول مثل هذا، إني لا أخشى أن يكون على ضير من هذا الحديث يا بني عبد المطلب، إنه والله ما برحت قريش تزعم أن لكم هنة وهنة، كل واحدة منهما غاية.
لنشدتك يا أبا الفضل هل سمعت ذلك ؟ قلت نعم قد سمعت.
قال فهذه والله شؤمتكم.
قلت فلعلها يمنتنا، قال فما كان بعد ذلك إلا ليال حتى قدم عبد الله بن حذافة بالخبر وهو مؤمن، ففشا ذلك في مجالس اليمن، وكان أبو سفيان يجلس مجلسا باليمن يتحدث فيه حبر من أحبار اليهود، فقال له اليهودي ما هذا الخبر ؟ بلغني أن فيكم عم هذا الرجل الذي قال ما قال ؟ قال أبو سفيان صدقوا وأنا عمه، فقال اليهودي أخو أبيه ؟ قال نعم ! قال
__________
(1) في الدلائل والخصائص: نبتت.
[ * ]

(2/388)


فحدثني عنه قال لا تسألني ما أحب أن يدعى هذا الامر أبدا، وما أحب أن أعيبه وغيره خير منه، فرأى اليهودي أنه لا يغمس عليه ولا يحب أن يعيبه.
فقال اليهودي ليس به بأس على اليهود، وتوراة موسى.
قال العباس فناداني الحبر، فجئت فخرجت حتى جلست ذلك المجلس من الغد، وفيه أبو سفيان بن حرب والحبر، فقلت للحبر بلغني أنك سألت ابن عمي عن رجل منا زعم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرك أنه عمه، وليس بعمه.
ولكن ابن عمه وأنا عمه وأخو أبيه.
قال أخو أبيه ؟ قلت أخو أبيه، فأقبل على أبي سفيان فقال صدق ؟ قال نعم صدق، فقلت: سلني فإن كذبت فليرد علي، فأقبل علي فقال نشدتك هل كان لابن أخيك صبوة أو سفهة ؟ قلت لا وإله عبد المطلب ولا كذب ولا خان، وإنه كان اسمه عند قريش الامين.
قال فهل كتب بيده ؟ قال العباس فظننت أنه خير له أن يكتب بيده فأردت أن أقولها ثم ذكرت مكان أبي سفيان يكذبني ويرد علي فقلت لا يكتب فوثب الحبر ونزل رداؤه وقال ذبحت يهود، وقتلت يهود.
قال العباس فلما رجعنا إلى منزلنا، قال أبو سفيان يا أبا الفضل إن اليهود تفزع من ابن أخيك، قلت قد رأيت ما رأيت، فهل لك يا أبا سفيان أن تؤمن به، فإن كان حقا كنت قد سبقت وإن كان باطلا فمعك غيرك من أكفائك ؟ قال لا أؤمن به حتى أرى الخيل في كداء (1)، قلت ما تقول ؟ قال كلمة جاءت على فمي إلا أني أعلم أن الله لا يترك خيلا تطلع من كداء.
قال العباس فلما استفتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ونظرنا إلى الخيل وقد طلعت من كداء، قلت يا أبا سفيان تذكر الكلمة ؟ قال: إي والله إني لذاكرها فالحمد لله الذي هداني للاسلام.
وهذا سياق حسن عليه البهاء والنور
وضياء الصدق وان كان في رجاله من هو متكلم فيه والله أعلم.
وقد تقدم ما ذكرناه في قصة أبي سفيان مع أمية بن أبي الصلت، وهو شبيه بهذا الباب وهو من أغرب الاخبار وأحسن السياقات وعليه النور.
وسيأتي أيضا قصة أبي سفيان مع هرقل ملك الروم حين سأله عن صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحواله، واستدلاله بذلك على صدقه ونبوته ورسالته.
وقال له: كنت أعلم أنه خارج، ولكن لم أكن أظن أنه فيكم، ولو أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقيه.
ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه.
ولئن كان ما تقول حقا ليملكن موضع قدمي هاتين.
وكذلك وقع ولله الحمد والمنة.
وقد أكثر الحافظ أبو نعيم من إيراد الآثار والاخبار عن الرهبان والاحبار العرب.
فأكثر وأطنب وأحسن وأطيب رحمه الله ورضي عنه.