البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي

قصة عمرو بن مرة الجهني قال الطبراني: حدثنا علي بن إبراهيم الخزاعي الاهوازي حدثنا عبد الله بن داود بن دلهاث
__________
(1) كداء: ثنية بأعلى مكة عند المحصب.
[ * ]

(2/389)


ابن اسماعيل بن عبد الله بن شريح بن ياسر بن سويد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أبي عن أبيه دلهاث عن أبيه اسماعيل أن أباه عبد الله حدثه عن أبيه أن أباه ياسر بن سويد حدثه عن عمرو بن مرة الجهني قال: خرجت حاجا في جماعة من قومي في الجاهلية، فرأيت في نومي وأنا بمكة، نورا ساطعا من الكعبة حتى وصل إلى جبل يثرب.
وأشعر جهينة.
فسمعت صوتا بين النور وهو يقول: انقشعت الظلماء، وسطع الضياء، وبعث خاتم الانبياء (1).
ثم أضاء إضاءة أخرى، حتى نظرت إلى قصور الحيرة وأبيض المدائن (2)، وسمعت صوتا من النور وهو يقول: ظهر الاسلام، وكسرت الاصنام، ووصلت الارحام، فانتبهت فزعا فقلت لقومي: والله ليحدثن لهذا الحي من قريش حدث - وأخبرتهم بما رأيت فلما انتهينا إلى بلادنا جاءني [ الخبر أن رجلا ] (3) يقال له أحمد قد بعث فأتيته فأخبرته (4) بما رأيت.
فقال [ لي ]: " يا عمرو بن مرة أنا النبي المرسل إلى
العباد كافة.
أدعوهم إلى الاسلام، وآمرهم بحقن الدماء وصلة الارحام، وعبادة الله ورفض الاصنام، وحج البيت وصيام شهر رمضان من اثني عشر شهرا.
فمن أجاب فله الجنة، ومن عصى فله النار.
فآمن يا عمرو يؤمنك الله من هول جهنم " فقلت أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله آمنت بما جئت من حلال وحرام، وإن رغم ذلك كثيرا من الاقوام، ثم أنشدته أبياتا قلتها حين سمعت به.
وكان لنا صنم.
وكان أبي سادنا له فقمت إليه فكسرته.
ثم لحقت بالنبي صلى الله عليه وسلم وأنا أقول: شهدت بأن الله حق وإنني * لآلهة الاحجار أول تارك وشمرت عن ساق الازار مهاجرا * إليك أجوب القفر بعد الدكادك (5) لاصحب خير الناس نفسا ووالدا * رسول مليك الناس فوق الحبائك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " مرحبا بك يا عمرو بن مرة " فقلت يا رسول الله ابعثني إلى قومي.
لعل الله يمن عليهم بي كما من علي بك، فبعثني إليهم.
وقال: " عليك بالرفق والقول السديد.
ولا
__________
(1) ورد في دلائل النبوة للبيهقي: ومنها حديث عمرو بن مرة الغطفاني فيما رأى من النور الساطع في الكعبة في نومه ثم ما سمع من الصوت: أقبل حق فسطع * ودمر باطل فانقمع (2) أبيض المدائن: قصر كسرى.
(3) في الاصل جاءني رجل ; وهو تصحيف والزيادة من الوفا.
فالسياق ما أورده ابن سعد في الطبقات، يقتضي ذلك.
(4) في طبقات ابن سعد: قال عمرو بن مرة: كان لنا صنم وكنا نعظمه، وكنت سادنه، فلما سمعت بالنبي صلى الله عليه وسلم كسرته وخرجت حتى أقدم المدينة على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت وشهدت شهادة الحق وآمنت بما جاء به من حلال وحرام.
(5) في الطبقات: الوعث بدل القفر.
ج 1 / 333.
[ * ]

(2/390)


تكن فظا.
ولا متكبرا ولا حسودا " فذكر أنه أتى قومه، فدعاهم إلى ما دعاه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا كلهم.
إلا رجلا واحدا منهم (1)، وإنه وفد بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فرحب بهم وحياهم.
وكتب لهم كتابا هذه نسخته: " بسم الله الرحمن الرحيم.
هذا كتاب من الله [ العزيز ] على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، بكتاب صادق، وحق ناطق مع عمرو بن مرة الجهني لجهينة بن زيد: إن لكم بطون الارض وسهولها، وتلاع الاودية وظهورها، تزرعون نباته وتشربون صافيه، على أن تقروا بالخمس، وتصلوا صلاة الخمس وفي التبيعة والصريمة ان اجتمعتا وان تفرقتا شاة شاة، ليس على أهل الميرة صدقة، ليس الوردة اللبقة وشهد على نبينا صلى الله عليه وسلم من حضر من المسلمين بكتاب قيس بن شماس " (2).
وذكر شعرا قاله عمرو بن مرة في ذلك كما هو مبسوط في المسند الكبير وبالله الثقة وعليه التكلان.
وقال الله تعالى: (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا) [ الاحزاب: 7 ] قال كثيرون من السلف: لما أخذ الله ميثاق بني آدم يوم (ألست بربكم ؟) أخذ من النبيين ميثاقا خاصا ; وأكد مع هؤلاء الخمسة أولي
__________
(1) زاد في الطبقات 1 / 334: فدعا عليه عمرو بن مرة، فسقط فوه، فما كان يقدر على الكلام وعمي واحتاج.
(2) نص الكتاب كما ورد في جمع الجوامع للسيوطي وابن عساكر: " بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من الله العزيز على لسان رسوله بحق صادق وكتاب ناطق، مع عمرو بن مرة، لجهينة بن زيد: إن لكم بطون الارض وسهولها وتلاع الاودية وظهورها، على أن ترعوا نباتها وتشربوا ماءها على أن تؤدوا الخمس.
وفي التيعة والصريمة شاتان إذا اجتمعتا ; فإن فرقتا فشاة فشاة، ليس على أهل المثير صدقة، ولا على الواردة لبقة، والله شهيد على ما بيننا ومن حضر من المسلمين كتاب (كذا) قيس بن شماس.
شرحه: يقال لكل غامض بطن، ولكل ظاهر ظهر.
سهولها: سهل الارض ضد الحزن ; فسهل الارض غير الخشن منها القابل للحرث والغرس تلاع الاودية: ما انحدر من الاودية وما اتسع من فوهة الوادي.
التيعة: الاربعون من الغنم الصدقة.
وقيل الاربعون من الغنم من غير أن يخص بصدقة أو غيرها.
الصريمة: تصغير الصرمة، وهي القطيع من الابل قيل من العشرين إلى الثلاثين إلى الاربعين والمراد بها من مائة وإحدى وعشرين إلى المائتين، إذا اجتمعت ففيها شاتان فإن كانت لرجلين وفرق بينهما فعلى كل واحد منهما شاة.
المثيرة: بقر الحرث لانها تثير الارض وذلك ارفاقا بهم ومداراة لهم.
الواردة لبقة: الوارد الذي يتقدم القوم فيسقي لهم.
اللبقة: أي ليس عليهم أن يعطوا لمن يرد مياههم من المسلمين الظروف، يعني لعل المراد أنه لا يجب عليهم قرى عساكر المسلمين واعانتهم حتى لبقة للماء التي لا كلفة في إعطائها.
[ * ]

(2/391)


العزم أصحاب الشرائع الكبار الذين أولهم نوح وآخرهم محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وقد روى الحافظ أبو نعيم في كتاب " دلائل النبوة " من طرق عن الوليد بن مسلم حدثنا الاوزاعي حدثنا يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة: سئل النبي صلى الله عليه وسلم متى وجبت لك النبوة ؟ قال: " بين خلق آدم ونفخ الروح فيه " وهكذا رواه الترمذي من طريق الوليد بن مسلم.
وقال حسن غريب من حديث أبي هريرة، لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وقال أبو نعيم: حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا يعقوب بن إسحاق بن الزبير الحلبي حدثنا أبو جعفر النفيلي حدثنا عمرو بن واقد عن عروة بن رويم عن الصنابحي (1).
قال قال عمر: يا رسول الله، متى جعلت نبيا ؟ قال: " وآدم منجدل في الطين " ثم رواه من حديث نصر بن مزاحم عن قيس بن الربيع عن جابر الجعفي عن الشعبي عن ابن عباس قال: قيل يارسول الله متى كنت نبيا ؟ قال: " وآدم بين الروح والجسد " وفي الحديث الذي أوردناه في قصة آدم حين استخرج الله من صلبه ذريته خص الانبياء بنور بين أعينهم.
والظاهر - والله أعلم - أنه كان على قدر منازلهم
ورتبهم عند الله.
وإذا كان الامر كذلك فنور محمد صلى الله عليه وسلم كان أظهر وأكبر وأعظم منهم كلهم.
وهذا تنويه عظيم وتنبيه ظاهر على شرفه وعلو قدره.
وفي هذا المعنى الحديث الذي قال الامام أحمد.
حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا معاوية بن صالح عن سعيد بن سويد الكلبي عن عبد الاعلى بن هلال السلمي عن العرباض بن سارية.
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني عند (2) الله لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته وسأنبئكم بأول ذلك: دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت.
وكذلك أمهات المؤمنين يرين " ورواه الليث وابن وهب عن عبد الرحمن بن مهدي، وعبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح وزاد " إنه أمه رأت حين وضعته نورا أضاءت منه قصور الشام " وقال الامام أحمد حدثنا عبد الرحمن حدثنا منصور بن سعيد عن بديل عن عبد الله بن شقيق عن ميسرة الفجر قال قلت يارسول الله متى كنت نبيا ؟ قال: " وآدم بين الروح والجسد "، إسناده جيد أيضا وهكذا رواه إبراهيم بن طهمان وحماد بن زيد وخالد الحذاء عن بديل بن ميسرة به.
ورواه أبو نعيم عن محمد بن عمر بن أسلم عن محمد بن بكر بن عمرو الباهلي عن شيبان عن الحسن بن دينار عن عبد الله بن سفيان عن ميسرة الفجر قال: قلت يا رسول الله متى كنت نبيا ؟ قال: " وآدم بين الروح والجسد ".
__________
(1) نسبة إلى صنابح بن زاهر بن عامر بن عوثبان بن زاهر بن يحابر (اللباب).
قال في التقريب: ابن أعسر الاحمسي صحابي سكن الكوفة، ومن قال فيه الصنابحي فقد وهم 1 / 370.
(2) كذا في الاصل.
وفي مسند أحمد ج 4 / 127 عبد الله ; وفي السيوطي فكالاصل عند الله.
أمهات المؤمنين: كذا في الاصل وفي مسند أحمد ودلائل البيهقي: أمهات النبيين.
[ * ]

(2/392)


وقال الحافظ أبو نعيم في كتابه دلائل النبوة (1): حدثنا أبو عمرو بن حمدان حدثنا الحسن بن سفيان حدثنا هشام بن عمار حدثنا الوليد بن مسلم عن خليد بن دعلج وسعيد عن قتادة عن الحسن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، في قوله تعالى: (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم) قال: " كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث " ثم رواه من طريق هشام بن عمار عن بقيع عن
سعيد بن نسير عن قتادة عن الحسن عن أبي هريرة مرفوعا مثله.
وقد رواه من طريق سعيد بن أبي عروبة وشيبان عن قتادة قال ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مثله.
وهذا أثبت وأصح والله أعلم.
وهذا إخبار عن التنويه يذكره في الملا الاعلى وأنه معروف بذلك بينهم بأنه خاتم النبيين وآده لم ينفخ فيه الروح، لان علم الله تعالى بذلك سابق قبل خلق السموات والارض لا محالة فلم يبق إلا هذا الذي ذكرناه من الاعلام به في الملا الاعلى والله أعلم.
وقد أورد أبو نعيم من حديث عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة الحديث المتفق عليه " نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، المقضى لهم قبل الخلائق بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم " وزاد أبو نعيم في آخره: فكان صلى الله عليه وسلم آخرهم في البعث وبه ختمت النبوة.
وهو السابق يوم القيامة.
لانه أول مكتوب في النبوة والعهد.
ثم قال: ففي هذا الحديث الفضيلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما أوجب الله له النبوة قبل تمام خلق آدم.
ويحتمل أن يكون هذا الايجاب هو ما أعلم الله ملائكته ما سبق في علمه وقضائه من بعثته له في آخر الزمان وهذا الكلام يوافق ما ذكرناه ولله الحمد.
وروى الحاكم في مستدركه من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم - وفيه كلام - عن أبيه عن جده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد إلا غفرت لي، فقال الله: يا آدم كيف عرفت محمد ولم أخلقه بعد ؟ فقال يا رب لانك لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسي، فرأيت على قوائم العرش مكتوبا لا إله إلا الله محمد رسول الله.
فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك.
فقال الله صدقت يا آدم إنه لاحب الخلق إلي وإذ قد سألتني بحقه فقد غفرت لك ولولا محمد ما خلقتك " قال البيهقي: تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف والله أعلم (2).
وقد قال الله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم
__________
(1) الحديث لم يرد في دلائل النبوة لابي نعيم المطبوع، رواه السيوطي في الخصائص ج 1 / 7 عن أبي نعيم من طرق عن قتادة عن الحسن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(3) أخرجه البيهقي في الدلائل ج 5 / 489.
وعبد الرحمن ضعفه يحيى بن معين، والامام أحمد والنسائي.
وذكره العقيلي في الضعفاء الكبير (2 / 331) الميزان (2 / 564).
[ * ]

(2/393)


رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري ؟ قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) [ آل عمران: 81 - 82 ] قال علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما: ما بعث الله نبيا من الانبياء إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه وهذا تنويه وتنبيه على شرفه وعظمته في سائر الملل وعلى ألسنة الانبياء وإعلام لهم ومنهم برسالته في آخر الزمان.
وإنه أكرم المرسلين وخاتم النبيين.
وقد أوضح أمره وكشف خبره وبين سره، وجلى مجده ومولده وبلده إبراهيم الخليل في قوله عليه السلام حين فرغ من بناء البيت (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم) [ البقرة: 129 ] فكان أول بيان أمره على الجلية والوضوح بين أهل الارض على لسان ابراهيم الخليل أكرم الانبياء على الله بعد محمد صلوات الله عليه وسلامه عليهما وعلى سائر الانبياء.
ولهذا قال الامام أحمد حدثنا أبو النضر حدثنا الفرج - يعني ابن فضالة - حدثنا لقمان بن عامر سمعت أبا أمامة قال قلت يا نبي الله ما كان بدء أمرك ؟ قال: " دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت منه قصور الشام " (1) تفرد به الامام أحمد ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة.
وروى الحافظ أبو بكبر بن أبي عاصم في كتاب المولد من طريق بقية عن صفوان بن عمرو عن حجر بن حجر عن أبي مريق أن إعرابيا قال يارسول الله أي شئ كان أول أمر نبوتك ؟ فقال: " أخذ الله مني الميثاق كما أخذ من النبيين ميثاقهم.
ورأت أم رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامها أنه خرج من بين رجليها سراج أضاءت له قصور الشام ".
وقال الامام محمد بن إسحاق بن يسار: حدثني ثور بن يزيد عن
خالد بن معدان عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا: يارسول الله، أخبرنا عن نفسك.
قال: " دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى.
ورأت أمي حين حبلت كأنه خرج منها نور أضاءت له بصرى من أرض الشام " (2) إسناده جيد أيضا.
وفيه بشارة لاهل محلتنا أرض بصرى وإنها أول بقعة من أرض الشام خلص إليها نور النبوة، ولله الحمد والمنة ولهذا كانت أول مدينة فتحت من أرض الشام وكان فتحها صلحا في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، كما سيأتي بيانه.
وقد قدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين في صحبة عمه أبي طالب وهو ابن اثنتي عشرة سنة وكانت عندها قصة بحيرى الراهب كما بيناه.
والثانية ومعه ميسرة مولى خديجة في تجارة لها.
وبها مبرك الناقة التي يقال لها ناقة
__________
(1) مسند أحمد ج 4 / 127 - 128 و 5 / 262 والحاكم في المستدرك 2 / 600 وقال هذا حديث صحيح الاسناد ; وأقره الذهبي.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8 / 222 و 223 وقال: رواه أحمد والطبراني والبزار وأحد أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح غير سعيد بن سويد، وقد وثقه ابن حبان.
(2) سيرة ابن هشام 1 / 170 ورواه ابن سعد في الطبقات 1 / 102.
وصححه الحاكم في المستدرك 2 / 600 وأقره الذهبي.
[ * ]

(2/394)


رسول الله صلى الله عليه وسلم بركت عليه فأثر ذلك فيها فيما يذكر.
ثم نقل وبنى عليه مسجد مشهور اليوم.
وهي المدينة التي أضاءت أعناق الابل عندها من نور النار التي خرجت من أرض الحجاز سنة أربع وخمسين وستمائة وفق ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: " تخرج نار من أرض الحجاز تضئ لها أعناق الابل ببصرى " وسيأتي الكلام على ذلك في موضعه إن شاء الله، وبه الثقة وعليه التكلان.
وقال الله تعالى: (الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم.
فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) [ الاعراف: 157 ] الآية.
قال الامام أحمد حدثنا إسماعيل عن الجريري، عن أبي صخر العقيلي، حدثني رجل من الاعراب قال: جلبت جلوبة إلى المدينة في
حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما فرغت من بيعي قلت لالقين هذا الرجل فلاسمعن منه.
قال: فتلقاني بين أبي بكر وعمر يمشون، فتبعتهم حتى أتوا على رجل من اليهود ناشر التوراة يقرأها يعزي بها نفسه عن ابن له في الموت كأحسن الفتيان وأجملهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنشدك بالذي أنزل التوراة، هل تجدني في كتابك ذا صفتي ومخرجي ؟ " فقال برأسه هكذا - أي لا - فقال ابنه: إي والذي أنزل التوراة إنا لنجد في كتابنا صفتك ومخرجك وأشهد أن لا إله إلا الله، وإنك رسول الله.
فقال: " أقيموا اليهودي عن أخيكم " ثم ولى كفنه والصلاة عليه.
هذا إسناد جيد وله شواهد في الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه (1).
وقال أبو القاسم البغوي حدثنا عبد الواحد بن غياث - أبو بحر - حدثنا عبد العزيز بن مسلم حدثنا عصام بن كليب عن أبيه عن الصلتان بن عاصم وذكر أن خاله قال: كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ شخص بصره إلى رجل فإذا يهودي عليه قميص وسراويل ونعلان.
قال فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يكلمه وهو يقول: يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتشهد أني رسول الله ؟ " قال لا.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتقرأ التوراة ؟ " قال نعم قال: " أتقرأ الانجيل ؟ " قال نعم.
قال: " والقرآن ؟ " قال لا.
ولو تشاء قرأته.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " فبم تقرأ التوراة والانجيل، أتجدني نبيا ؟ " قال إنا نجد نعتك ومخرجك.
فلما خرجت رجونا أن تكون فينا.
فلما رأيناك عرفناك أنك لست به.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ولم يا يهودي ؟ " قال: إنا نجده مكتوبا، يدخل من أمته الجنة سبعون ألفا بغير حساب، ولا نرى معك إلا نفرا يسيرا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أمتي لاكثر من سبعين ألفا وسبعين ألفا ".
هذا حديث غريب من هذا الوجه، ولم يخرجوه.
وقال محمد بن إسحاق عن سالم مولى عبد الله بن مطيع عن أبي هريرة قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود فقال: " أخرجوا أعلمكم " فقالوا عبد الله بن صوريا، فخلا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فناشده بدينه، وما أنعم الله به عليهم، وأطعمهم من المن
__________
(1) أخرج البيهقي من طريق حماد عن ثابت عن أنس: عن غلام يهودي كان يخدم النبي...دلائل النبوة ج 6 / 272.
وأخرجه أحمد في مسنده ج 5 / 411.
[ * ]

(2/395)


والسلوى، وظللهم به من الغمام " أتعلمني رسول الله ؟ قال اللهم نعم.
وان القوم ليعرفون ما أعرف، وأن صفتك ونعتك لمبين في التوراة.
ولكنهم حسدوك.
قال: " فما يمنعك أنت ؟ " قال أكره خلاف قومي.
وعسى أن يتبعوك ويسلموا فأسلم (1).
وقال سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة عن ابن عباس أنه كان يقول كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يهود خيبر: " بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله صاحب موسى، وأخيه، والمصدق بما جاء به موسى، ألا إن الله قال لكم يا معشر يهود وأهل التوراة، إنكم تجدن ذلك في كتابكم: إن محمدا: (رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود.
ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الانجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار.
وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما).
وإني أنشدكم بالله وبالذي أنزل عليكم، وأنشدكم بالذي أطعم من كان قبلكم من أسلافكم وأسباطكم المن والسلوى، وأنشدكم بالذي أيبس البحر لآبائكم حتى أنجاكم من فرعون وعمله إلا أخبرتمونا هل تجدون فيما أنزل الله عليكم أن تؤمنوا بمحمد ؟ فإن كنتم لا تجدون ذلك في كتابكم فلا كره عليكم، قد تبين الرشد من الغي.
وأدعوكم إلى الله وإلى نبيه صلى الله عليه وسلم " (2).
وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار في كتاب " المبتدأ " عن سعيد بن بشير عن قتادة عن كعب الاحبار، وروى غيره عن وهب بن منبه أن بختنصر بعد أن خرب بيت المقدس واستذل بني إسرائيل بسبع سنين، رأى في المنام رؤيا عظيمة هالته فجمع الكهنة والحزار، وسألهم عن رؤياه تلك.
فقالوا ليقصها الملك حتى نخبره بتأويلها.
فقال: إني نسيتها، وإن لم تخبروني بها إلى ثلاثة أيام قتلتكم عن آخركم.
فذهبوا خائفين وجلين من وعيده.
فسمع بذلك دانيال عليه السلام وهو في سجنه.
فقال للسجان: اذهب إليه فقل له إن هاهنا رجلا عنده علم رؤياك وتأويلها.
فذهب إليه فأعلمه فطلبه، فلما دخل عليه لم يسجد له.
فقال له ما منعك من السجود لي ؟ فقال: إن الله
آتاني علما وعلمني وأمرني أن لا أسجد لغيره.
فقال له بختنصر إني أحب الذين يوفون لاربابهم بالعهود.
فأخبرني عن رؤياي.
قال له دانيال: رأيت صنما عظيما رجلاه في الارض ورأسه في السماء، أعلاه من ذهب ووسطه من فضة، وأسفله من نحاس، وساقاه من حديد، ورجلاه من
__________
(1) اخرجه البيهقي عن أبي هريرة في حديث طويل، في جزء منه ما أورده ابن إسحاق.
دلائل ج 6 / 269 - 270.
(2) الكتاب مصدره: كنز العمال ج 5 / 385 عن ابن إسحاق، وأبي نعيم عن ابن عباس ; ومجموعة الوثائق السياسية ص 37 عن سيرة ابن هشام طبع أوروبا ص 376 و 377 واعلام السائلين، ونصب الراية للزيلعي رقم 7 عن أبي نعيم.
[ * ]

(2/396)


فخار، فبينا أنت تنظر إليه قد أعجبك حسنه وإحكام صنعته قذفه الله بحجر من السماء.
فوقع على قمة رأسه حتى طحنه واختلط ذهبه وفضته ونحاسه وحديده وفخاره حتى تخيل لك أنه لو اجتمع الانس والجن على أن يميزوا بعضه من بعض لم يقدروا على ذلك.
ونظرت إلى الحجر الذي قذف به يربو ويعظم وينتشر حتى ملا الارض كلها فصرت لا ترى إلا الحجر والسماء.
فقال له بختنصر صدقت هذه الرؤيا التي رأيتها فما تأويلها ؟ فقال دانيال أما الصنم فأمم مختلفة في أول الزمان وفي وسطه وفي آخره ; وأما الحجر الذي قذف به الصنم فدين يقذف الله به هذه الامم في آخر الزمان فيظهره عليها فيبعث الله نبيا أميا من العرب فيدوخ به الامم والاديان كما رأيت الحجر دوخ أصناف الصنم ويظهر على الاديان والامم كما رأيت الحجر ظهر على الارض كلها، فيمحص الله به الحق ويزهق به الباطل ويهدي به أهل الضلالة ويعلم به الامين ويقوى به الضعفة ويعز به الاذلة وينصر به المستضعفين.
وذكر تمام القصة في اطلاق بختنصر بني إسرائيل على يدي دانيال عليه السلام، وذكر الواقدي بأسانيده عن المغيرة بن شعبة في قصة وفوده على المقوقس ملك الاسكندرية وسؤاله له عن صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم قريبا من سؤال هرقل لابي سفيان صخر بن حرب وذكر أنه سأل أساقفة النصارى في الكنائس عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبروه عن ذلك وهي قصة طويلة ذكرها الحافظ أبو نعيم في الدلائل.
وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر
بمدارس (1) اليهود فقال لهم: " يا معشر اليهود اسلموا فوالذي نفسي بيده إنكم لتجدون صفتي في كتبكم " الحديث.
وقال الامام أحمد: حدثنا موسى بن داود حدثنا فليح بن سليمان عن هلال بن علي عن عطاء بن يسار قال لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت أخبرني عن صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة فقال أجل والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن، يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، وحرزا للاميين، أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل لا فظ ولا غليظ ولا صخاب في الاسواق ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر ولن يقبضه الله حتى يقيموا الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله يفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا.
ورواه البخاري عن محمد بن سنان العوفي (2) عن فليح به.
ورواه أيضا عن عبد الله - قيل ابن رجاء، وقيل ابن صالح (3) - عن عبد العزيز بن أبي سلمة عن هلال بن علوية ولفظه قريب من هذا وفيه زيادة.
ورواه ابن جرير من حديث فليح عن هلال عن عطاء وزاد قال عطاء.
فلقيت كعبا فسألته عن
__________
(1) كذا في الاصل، والصواب مدارس وهو عند اليهود البيت الذي يقرأون فيه كتبهم.
(2) كذا في الاصل العوفي ; والصواب العوقي وهو محمد بن سنان الباهلي العوقي أبو بكر البصري ثقة ثبت (تقريب التهذيب 2 / 167).
(3) هكذا ورد في رواية البخاري، وفي رواية أبي ذر وابن السكن " عبد الله بن مسلمة " وتردد أبو مسعود بين أن يكون ابن رجاء أو ابن صالح كاتب الليث.
وقال أبو علي الجياني: عندي أنه ابن صالح.
ورجحه المزي في تحفة الاشراف.
وقال ابن حجر في النكت: حدثنا عبد الله بن مسلمة - يعني القعنبي.
[ * ]

(2/397)


ذلك فما اختلف حرفا، وقال (1) في " البيوع ": وقال سعيد عن هلال عن عطاء عن عبد الله بن سلام.
قال الحافظ أبو بكر البيهقي أخبرناه أبو الحسين بن المفضل (2) القطان حدثنا عبد الله بن جعفر حدثنا يعقوب بن سفيان حدثنا أبو صالح حدثنا الليث حدثني خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال بن أسامة عن عطاء بن يسار عن ابن سلام (3) أنه كان يقول: إنا لنجد صفة
رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للاميين، أنت عبدي ورسولي، سميته المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الاسواق ولا يجزئ السيئة بمثلها ولكن يعفو [ ويغفر ] ويتجاوز ولن يقبضه حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يشهدوا أن لا إله إلا الله يفتح به أعينا عميا وأذانا صما وقلوبا غلفا.
وقال عطاء بن يسار: وأخبرني الليثي (4) أنه سمع كعب الاحبار يقول مثل ما قال ابن سلام.
قلت: وهذا عن عبد الله بن سلام أشبه ولكن الرواية عن عبد الله بن عمرو أكثر، مع أنه كان قد وجد يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب وكان يحدث عنهما كثيرا، وليعلم أن كثيرا من السلف كانوا يطلقون التوراة على كتب أهل الكتاب فهي عندهم أعم من التي أنزلها الله على موسى وقد ثبت شاهد ذلك من الحديث.
وقال يونس عن محمد بن إسحاق حدثني محمد بن ثابت بن شرحبيل عن ابن أبي أوفى عن أم الدرداء قالت قلت لكعب الاحبار كيف تجدون صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة قال نجده محمد رسول الله اسمه المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب (5) في الاسواق وأعطي المفاتيح فيبصر الله به أعينا عورا ويسمع آذانا وقرأ ويقيم به ألسنا معوجة حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله واحد لا شريك له يعين به المظلوم ويمنعه.
وقد روي عن كعب من غير هذا الوجه (6).
وروى البيهقي (7) عن الحاكم عن أبي الوليد الفقيه عن الحسن بن
__________
(1) قال: أي البخاري في كتاب البيوع.
(2) في دلائل البيهقي ج 1 / 376: الفضل.
(3) هو عبد الله بن سلام بن الحارث الامام الحبر المشهود له بالجنة أبو الحارث الاسرائيلي حليف الانصار من خواص أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
حدث عنه الصحابة، وله إسلام قديم بعد أن قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهو من أحبار اليهود.
له ترجمة في طبقات ابن سعد (2 / 352) الاصابة (2 / 320) تهذيب التهذيب (5 / 249) العبر (1 / 51).
(4) هو أبو واقد الليثي من الصحابة، له ترجمة في الاصابة.
(5) رواه البيهقي في الدلائل ج 1 / 376 وابن عساكر في التاريخ 1 / 343 وأسقط البيهقي ابن أبي أوفى.
وفيه: ولا سخاب بدل صخاب.
(6) رواه البيهقي ج 1 / 377 وابن سعد في الطبقات 1 / 360.
[ * ]

(2/398)


سفيان حدثنا عتبة (1) بن مكرم حدثنا أبو قطن عمرو بن الهيثم حدثنا حمزة بن الزيات عن سليمان الاعمش عن علي بن مدرك عن أبي زرعة عن أبي هريرة (وما كنت بجانب الطور إذ نادينا) قال: نودوا: يا أمة محمد استجبت لكم قبل أن تدعوني، وأعطيتكم قبل أن تسألوني.
وذكر وهب بن منبه أن الله تعالى أوحى إلى داود في الزبور يا داود إنه سيأتي من بعدك نبي اسمه أحمد ومحمد صادقا سيدا لا أغضب عليه أبدا، ولا يغضبني أبدا وقد غفرت له قبل أن يعصيني ما تقدم من ذنبه وما تأخر وأمته مرحومة أعطيتهم من النوافل مثل ما أعطيت الانبياء، وفرضت عليهم الفرائض التي افترضت على الانبياء والرسل حتى يأتوني يوم القيامة ونورهم مثل نور الانبياء.
إلى أن قال: يا داود إني فضلت محمدا وأمته على الامم كلها (2).
والعلم بأنه موجود في كتب أهل الكتاب معلوم من الدين ضرورة وقد دل على ذلك آيات كثيرة في الكتاب العزيز تكلمنا عليها في مواضعها ولله الحمد.
فمن ذلك قوله [ تعالى ]: (الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون، وإذا يتلى عليهم فقالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين) (3) وقال تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون ابناءهم وأن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون) (4) وقال تعالى: (إن الذين أتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للاذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا) (5) أي أن كان وعدنا ربنا بوجود محمد وإرساله لكائن لا محالة فسبحان القدير على ما يشاء لا يعجزه شئ.
وقال تعالى إخبارا عن القسيسين والرهبان (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين) (6) وفي قصة النجاشي وسلمان وعبد الله بن سلام وغيرهم كما سيأتي شواهد كثيرة لهذا المعنى ولله الحمد والمنة.
وذكرنا في تضاعيف قصص الانبياء ما تقدم الاشارة إليه من وصفهم لبعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم
ونعته وبلد مولده ودار مهاجره ونعت أمته في قصة موسى وشعيا وأرمياء ودانيال وغيرهم وقد أخبر الله تعالى عن آخر أنبياء بني إسرائيل وخاتمهم عيسى بن مريم أنه قام في بني إسرائيل خطيبا قائلا لهم: (إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه
__________
(7) دلائل النبوة ج 1 / 381، وأخرجه الحاكم في المستدرك (2 / 408) وقال: " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ".
(1) في الدلائل: عقبة بن مكرم الضبي.
(2) أخرجه البيهقي في الدلائل ج 1 / 380 - 381.
(3) سورة القصص الآيتان 52 و 53.
(4) سورة البقرة الآية 146.
(5) سورة الاسراء الايتان 107 و 108.
(6) سورة المائدة الآية 83.
[ * ]

(2/399)


أحمد) (1).
وفي الانجيل البشارة بالفار قليط والمراد محمد صلى الله عليه وسلم.
وروى البيهقي عن الحاكم عن الاصم (2) عن أحمد بن عبد الجبار عن يونس بن بكير عن يونس بن عمرو عن العيزار بن حرب (3) عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مكتوب في الانجيل لا فظ ولا غليظ ولا صخاب في الاسواق ولا يجزي بالسيئة مثلها بل يعفو ويصفخ " وقال يعقوب بن سفيان حدثنا فيض البجلي حدثنا سلام بن مسكين عن مقاتل بن حيان قال: أوحى الله عزوجل إلى عيسى بن مريم جد في أمري واسمع واطع يابن الطاهرة البكر البتول - أنا خلقتك من غير فحل فجعلتك آية للعالمين فإياي فاعبد [ وعلي فتوكل ] فبين لاهل سوران بالسريانية، وبلغ من بين يديك: إني أنا الحق القائم (4) الذي لا أزول صدقوا بالنبي الامي العربي صاحب الجمل والمدرعة والعمامة - وهي التاج - والنعلين والهراوة - وهي القضيب - الجعد الرأس الصلت (5) الجبين المقرون الحاجبين الانجل العينين الاهدب الاشفار الادعج العينين الاقنى الانف الواضح الخدين الكث اللحية عرقه
في وجهه كاللؤلؤ ريح المسك ينضح منه كأن عنقه ابريق فضة وكأن الذهب يجري في تراقيه له شعرات من لبته إلى سرته تجري كالقضيب ليس في بطنه شعر غيره (6) شثن (7) الكف والقدم إذا جاء مع الناس غمرهم وإذا مشى كأنما ينقلع (8) من الصخر ويتحدر من صبب ذو النسل القليل - وكأنه أراد الذكور من صلبه - هكذا رواه البيهقي في دلائل النبوة من طريق يعقوب بن سفيان.
وروى البيهقي عن عثمان (9) بن الحكم بن رافع بن سنان حدثني بعض عمومتي وآبائي أنهم كانت عندهم ورقة يتوار ثونها في الجاهلية حتى جاء الله بالاسلام وبقيت عندهم فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ذكر وهاله وأتوه بها مكتوب فيها: بسم الله وقوله الحق وقول الظالمين في تباب.
هذا الذكر لامة تأتي في آخر الزمان ليبلون (10) أطرافهم ويوترون على أوساطهم ويخوضون البحور إلى أعدائهم فيهم صلاة لو كانت في قوم نوح ما أهلكوا بالطوفان، وفي عاد ما أهلكوا بالريح، وفي ثمود ما
__________
(1) سورة الصف الآية 6.
(2) دلائل النبوة ج 1 / 377: أبو العباس محمد بن يعقوب.
(3) في الدلائل: ابن حريث.
(4) في الدلائل: الله الحي القيوم.
(5) الصلت الجبين: الواضح، وفي رواية آخرى: أسيل الجبين والمفروق الحاجبين بدل المقرون.
(6) العبارة في الدلائل: ليس على صدره ولا على بطنه شعر غيره.
(7) ششن: الغليظ الاصابع من الكفين والقدمين.
(8) ينقلع: المشي بقوة.
وينحدر من صبب: الصبب: الحدور، وتقول انحدرتا في صبوب وصبب.
(9) في الدلائل ج 1 / 382 عن عمرو بن الحكم..عم عبد الحميد بن جعفر.
قال فيه أبو حاتم: حديث مرسل وهو منكر (علل الحديث 2 / 401).
(10) روى الخبر ابن الجوزي في الوفا عن عمر بن حفص: وفيه: يغسلون أطرافهم ويأتزرون على أوساطهم.
وفي الدلائل: يسبلون أطرافهم ويأتزرون على أوساطهم...[ * ]

(2/400)


أهلكوا بالصيحة: بسم الله وقوله الحق وقول الظالمين في تباب.
ثم ذكر قصة أخرى.
قال فعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قرأت عليه فيها.
وذكرنا عند قوله تعالى في سورة الاعراف: (الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل) قصة هشام بن العاص الاموي حين بعثه الصديق في سرية إلى هرقل يدعوه إلى الله عز وجل.
فذكر أنه أخرج لهم صور الانبياء في رقعة من آدم إلى محمد صلوات الله عليه وسلامه عليهم أجمعين على النعت والشكل الذي كانوا عليه.
ثم ذكر أنه لما أخرج صورة رسول الله صلى الله عليه وسلم قام قائما إكراما له.
ثم جلس وجعل ينظر إليها ويتأملها.
قال فقلنا له من أين لك هذه الصورة ؟ فقال: إن آدم سأل ربه أن يريه جميع الانبياء من ذلك (1)، فأنزل عليه صورهم، فكان في خزانة ادم عليه السلام عند مغرب الشمس فاستخرجها ذو القرنين، فدفعها إلى دانيال.
ثم قال: أما والله إن نفسي قد طابت بالخروج من ملكي وأني كنت عبدا لاشركم ملكة حتى أموت (2).
ثم أجازتا فأحسن جائزتنا وسرحنا.
فلما أتينا أبا بكر الصديق فحدثناه بما رأينا وما أجازنا وما قال لنا، قال فبكى وقال: مسكين لو أراد الله به خيرا لفعل، ثم قال أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم واليهود يجدون نعت محمد عندهم.
رواه الحاكم بطوله فليكتب هاهنا من التفسير.
ورواه البيهقي في دلائل النبوة (3).
وقال الاموي: حدثنا عبد الله بن زياد عن ابن اسحاق.
قال وحدثني يعقوب بن عبد الله بن جعفر بن عمرو بن أمية عن أبيه عن جده عمرو بن أمية قال: قدمت برقيق من عند النجاشي أعطانيهم فقالوا لي يا عمرو لو رأينا رسول الله لعرفناه من غير أن تخبرنا، فمر أبو بكر فقلت أهو هذا ؟ قالوا لا، فمر عمر فقلت أهو هذا ؟ قالوا لا فدخلنا الدار فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادوني يا عمرو هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظرت فإذا هو هو من غير أن يخبرهم به أحد، عرفوه بما كانوا يجدونه مكتوبا عندهم.
وقد تقدم إنذار سبأ لقومه وبشارته لهم بوجود رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعر أسلفناه في ترجمته فأغنى عن إعادته، وتقدم قول الحبرين من اليهود لتبع اليماني حين حاصر أهل المدينة إنها مهاجر نبي يكون في آخر الزمان فرجع عنها ونظم شعرا يتضمن السلام على النبي صلى الله عليه وسلم.