البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
البداية
والنهاية - ابن كثير ج 3
البداية والنهاية
ابن كثير ج 3
(3/)
البداية
والنهاية للامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي المتوفى
سنة 774 ه.
حققه ودقق أصوله وعلق حواشيه علي شيري الجزء الثالث دار إحياء التراث
العربي
(3/3)
الطبعة الاولى
1408 ه.
1988 م
(3/4)
بسم الله
الرحمن الرحيم
باب كيف بدأ الوحي إلى رسول الله صلى الله
عليه وآله، وذكر أول شئ أنزل عليه من القرآن العظيم كان ذلك وله
صلى الله عليه وآله من العمر أربعون سنة.
وحكى ابن جرير (1) عن ابن عباس وسعيد بن المسيب: أنه كان عمره إذ ذاك
ثلاثا وأربعين سنة.
قال البخاري (2): حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن
شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها.
أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وآله من الوحي
الرؤيا الصالحة (3) في النوم، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق
الصبح، ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو
التعبد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم
يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء.
فجاءه الملك
فقال: اقرأ.
فقال: ما أنا بقارئ.
قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني.
فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني
الجهد ثم أرسلني.
فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني
الجهد.
ثم أرسلني فقال: (اقرأ بسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق، اقرأ وربك
الاكرم الذي علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم) [ أول سورة العلق ]
فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وآله يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت
خويلد.
فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع.
فقال لخديجة وأخبرها الخبر - لقد خشيت على نفسي.
فقالت خديجة: كلا والله لا يخزيك الله أبدا.
إنك
__________
(1) تاريخ لطبري ج 2 / 202.
(2) صحيح البخاري - باب كيف كان بدء الوحي - ح 3 صفحة 1 / 3.
(3) من البخاري - وفي الاصول: الصادقة.
(4) يتحنث: قال ابن حجر في فتح الباري: هي بمعنى يتحنف أي يتبع
الحنيفية وهي دين إبراهيم.
(3/5)
لتصل الرحم
وتقري الضيف، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق (1)،
فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم
خديجة.
وكان أمرأ قد تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من
الانجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب.
وكان شيخا كبيرا قد عمي.
فقالت له خديجة: يا ابن عم ! اسمع من ابن أخيك فقال له ورقة: يا ابن
أخي ماذا ترى ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما أري.
فقال له ورقة: هذا الناموس (2) الذي كان ينزل على موسى، يا ليتني فيها
جذعا (3)، ليتني أكون حيا، إذ يخرجك قومك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أو مخرجي هم ؟ " فقال: نعم.
لم يأت رجل (4) بمثل ما جئت به إلا عودي.
وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا.
ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي (5) فترة.
حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا - حزنا غدا منه
مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي
نفسه تبدى له جبريل فقال: يا محمد إنك رسول الله حقا فيسكن
لذلك جأشه، وتقر نفسه.
فيرجع فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا كمثل ذلك.
قال فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال له: مثل ذلك.
هكذا وقع مطولا في باب التعبير من البخاري.
قال ابن شهاب (6): وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله
الانصاري قال - وهو يحدث عن فترة الوحي - فقال في حديثه: " بينا أنا
أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء
جالس على كرسي بين السماء والارض.
فرعبت منه.
فرجعت فقلت: زملوني، زملوني فأنزل الله: (يا أيها المدثر، قم فانذر،
وربك فكبر، وثيابك فطهر، والرجز فاهجر) [ سورة المدثر: 1 ] فحمي الوحي
وتتابع " ثم قال البخاري تابعه عبد الله بن يوسف، وأبو صالح، يعني عن
الليث، وتابعه هلال بن رداد (7) عن الزهري.
وقال يونس ومعمر: بوادره (8).
وهذا الحديث قد رواه الامام البخاري رحمه الله في كتابه في مواضع
__________
(1) نوائب: جمع نائبة وهي الحادثة خيرا أو شرا وإنما قال نوائب الحق
لانها تكون في الحق والباطل.
(2) الناموس: صاحب السر، وهو ما جزم به البخاري في أحاديث الانبياء،
يقال: نمست السر: كتمته، والمراد هنا جبريل عليه السلام - لان الله خصه
بالغيب والوحي.
(3) جذعا: قال ابن حجر في فتح الباري: الجذع: هو الصغير من البهائم:
كأنه تمنى أن يكون عند ظهور الدعاء إلى الاسلام شابا ليكون أمكن لنصره.
(4) من صحيح البخاري، وفي الاصول أحد.
(5) هنا تنتهي رواية الصحيح.
(6) تتمة حديث البخاري المتقدم.
(7) من البخاري، وفي الاصول ونسخ البداية المطبوعة داود وهو تحريف.
وهو هلال بن رداد الطائي، أو الكناني الشامي الكاتب مقبول من السابعة.
(تقريب التهذيب) 2 / 130 / 323.
(8) أي ترجف بوادره بدل رواية يرجف فؤاده.
والبوادر جمع بادرة وهي ما بين العنق والمنكب.
(3/6)
منه، وتكلمنا
عليه مطولا في أول شرح البخاري في كتاب بدء الوحي اسنادا ومتنا ولله
الحمد والمنة.
وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث الليث به، ومن طريق يونس ومعمر عن الزهري
كما علقه البخاري عنهما (1)، وقد رمزنا في الحواشي على زيادات مسلم
ورواياته ولله الحمد وانتهى سياقه إلى قول ورقة: أنصرك نصرا مؤزرا.
فقول أم المؤمنين عائشة.
أول ما بدئ به من الوحي الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل
فلق الصبح، يقوي ما ذكره محمد بن إسحاق بن يسار عن عبيد بن عمر الليثي
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " فجاءني جبريل، وأنا نائم، بنمط (2)
من ديباج فيه كتاب (3).
فقال: اقرأ، فقلت ما اقرأ ؟ فغتني (4)، حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني
" وذكر نحو حديث عائشة سواء، فكان هذا كالتوطئة لما يأتي بعده من
اليقظة، وقد جاء مصرحا بهذا في مغازي موسى بن عقبة عن الزهري أنه رأى
ذلك في المنام ثم جاءه الملك في اليقظة.
وقد قال الحافظ أبو نعيم الاصبهاني: في كتابه دلائل النبوة حدثنا محمد
بن أحمد بن الحسن حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة حدثنا جناب بن
الحارث حدثنا عبد الله بن الاجلح عن إبراهيم عن علقمة بن قيس.
قال: إن أول ما يؤتى به الانبياء في المنام حتى تهدأ قلوبهم، ثم ينزل
الوحي بعد، وهذا من قبل علقمة بن قيس نفسه وهو كلام حسن يؤيده ما قبله
ويؤيده ما بعده.
عمره صلى الله عليه وسلم وقت بعثته وتاريخها قال الامام أحمد: حدثنا
محمد بن أبي عدي، عن داود بن أبي هند، عن عامر الشعبي أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم نزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة، فقرن بنبوته
إسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلمه الكلمة والشئ، ولم ينزل القرآن، فلما
مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل فنزل القرآن على لسانه عشرين سنة عشرا
بمكة وعشرا بالمدينة.
فمات وهو ابن ثلاث وستين سنة.
فهذا إسناد
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب التعبير، وفي التفسير وفي كتاب الايمان عن
عبد الرزاق وأخرجه مسلم في (1) - كتاب الايمان (73) باب بدء الوحي -
والترمذي والنسائي في التفسير والامام أحمد في مسنده 26 - 232، 233
وابن حبان
في صحيحه، كتاب الوحي حديث 34 / 1 / 115.
(2) نمط: وعاء كالسفط.
(3) قال بعض المفسرين: في قوله تعالى: (ذلك الكتاب لا ريب فيه) إنها
إشارة إلى الكتاب الذي جاء به جبريل حين قال له: اقرأ (الروض الانف).
(4) كذا في الاصول والطبري، ومعنى غتني: حبس نفسي.
قال ابن الاثير في النهاية: الغت والغط سواء، كأنه أراد عصرني عصرا
شديدا، حتى وجدت منه المشقة، كما يجد من يغمس في الماء قهرا.
(3/7)
صحيح إلى
الشعبي وهو يقتضي أن اسرافيل قرن معه بعد الاربعين ثلاث سنين ثم جاءه
جبريل (1) وأما الشيخ شهاب الدين أبو شامة فإنه قد قال: وحديث عائشة لا
ينافي هذا فإنه يجوز أن يكون أول أمره الرؤيا.
ثم وكل به إسرافيل في تلك المدة التي كان يخلو فيها بحراء فكان يلقي
إليه الكلمة بسرعة ولا يقيم معه تدريجا له وتمرينا إلى أن جاءه جبريل.
فعلمه بعدما غطه ثلاث مرات، فحكت عائشة ما جرى له مع جبريل ولم تحك ما
جرى له مع إسرافيل اختصارا للحديث، أو لم تكن وقفت على قصة إسرافيل.
وقال الامام أحمد حدثنا يحيى بن هشام عن عكرمة عن ابن عباس أنزل على
النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وأربعين فمكث بمكة عشرا
وبالمدينة عشرا.
ومات وهو ابن ثلاث وستين، وهكذا روى يحيى بن سعيد وسعيد بن المسيب (2)
ثم روى أحمد عن غندر ويزيد بن هارون كلاهما عن هشام عن عكرمة عن ابن
عباس قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن، وهو
ابن أربعين سنة فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة وبالمدينة عشر سنين.
ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة.
وقال الامام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، أنبأنا عمار بن أبي
عمار، عن ابن عباس، قال: أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة خمس عشرة
سنة سبع سنين يرى الضوء ويسمع الصوت وثماني سنين يوحى إليه، وأقام
بالمدينة عشر سنين.
قال أبو شامة: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى عجائب قبل
بعثته فمن ذلك ما في صحيح مسلم عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: " إني لاعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني
لاعرفه الآن " (3) انتهى كلامه.
وإنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الخلاء والانفراد عن قومه،
لما يراهم عليه من الضلال المبين من عبادة الاوثان والسجود للاصنام،
وقويت محبته للخلوة عند مقاربة إيحاء الله إليه صلوات الله
__________
(1) الخبر نقله السيوطي في الخصائص الكبرى 1 / 221 وابن سعد في الطبقات
1 / 191 وقال ابن سعد بعد إيراده الخبر: " فذكرت هذا الحديث لمحمد بن
عمر - الواقدي - فقال: ليس يعرف أهل العلم ببلدتنا أن اسرافيل قرن
بالنبي صلى الله عليه وسلم..لم يقرن به غير جبريل وقد حكى ابن التين
القصة لكن وقع عنده ميكائيل بدل إسرافيل.
(2) قال النووي في شرحه على صحيح مسلم 15 / 99 الصواب أنه صلى الله
عليه وسلم بعث على راس الاربعين سنة هذا هو المشهور الذي أطبق عليه
العلماء.
وقال ابن قيم الجوزية في زاد المعاد.
بعثه الله - تعالى - على رأس أربعين وهي رأس الكمال، قيل ولها تبعث
الرسل 1 / 33.
وقال السهيلي - معلقا - في الروض الانف: إنه الصحيح عند أهل السير،
والعلم بالاثر " 1 / 161.
وقال البلقيني: كان سن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاءه جبريل في
غار حراء أربعين سنة على المشهور.
(3) كتاب الفضائل حديث رقم 2 ص 1782.
وأخرجه الترمذي في المناقب 5 / 593 والدارمي في المقدمة.
=
(3/8)
وسلامه عليه.
وقد ذكر محمد بن إسحاق عن عبد الملك بن عبد الله (1) بن أبي سفيان بن
العلاء بن حارثة (2) - قال: وكان واعية (3) - عن بعض أهل العلم قال:
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلى حراء في كل عام شهرا من
السنة يتنسك فيه.
وكان من نسك قريش في الجاهلية، يطعم من جاءه من المساكين حتى إذا انصرف
من مجاورته [ وقضائه ] (4) لم يدخل بيته حتى يطوف بالكعبة.
وهكذا روى عن وهب بن كيسان أنه سمع عبيد بن عمير يحدث عبد الله بن
الزبير مثل ذلك، وهذا يدل على أن هذا كان من عادة المتعبدين في قريش
أنهم يجاورون في حراء للعبادة ولهذا قال أبو طالب في قصيدته
المشهورة: وثور ومن أرسى ثبيرا مكانه * وراق ليرقى في حراء ونازل هكذا
صوبه على رواية هذا في البيت كما ذكره السهيلي وأبو شامة وشيخنا الحافظ
أبو الحجاج المزي رحمهم الله، وقد تصحف على بعض الرواة فقال فيه: وراق
ليرقى في حر ونازل - وهذا ركيك ومخالف للصواب والله أعلم.
وحراء يقصر ويمد ويصرف ويمنع، وهو جبل بأعلى مكة على ثلاثة أميال منها
عن يسار المار إلى منى، له قلة مشرفة على الكعبة منحنية والغار في تلك
الحنية وما أحسن ما قال رؤبة بن العجاج: فلا ورب الامنات القطن * ورب
ركن من حراء منحني وقوله في الحديث: والتحنث التعبد، تفسير بالمعنى،
وإلا فحقيقة التحنث من حيث البنية (5) فيما قاله السهيلي الدخول في
الحنث ولكن سمعت ألفاظ قليلة في اللغة معناها الخروج من ذلك الشئ كحنث
أي خرج من الحنث وتحوب وتحرج وتأنم وتهجد هو ترك الهجود وهو النوم
للصلاة وتنجس وتقذر أوردها أبو شامة.
وقد سئل ابن الاعرابي عن قوله يتحنث أي يتعبد.
فقال: لا أعرف هذا إنما هو يتحنف من الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام.
قال ابن هشام: والعرب تقول التحنث والتحنف يبدلون الفاء من الثاء، كما
قالوا جدف وجذف كما قال رؤبة [ بن العجاج ]: (هامش 9) = والامام أحمد
في مسنده 5 / 89.
(1) في سيرة ابن هشام: عبيدالله.
(2) في سيرة ابن هشام ودلائل البيهقي: جارية وهو الصواب.
(3) واعية: التاء فيه للمبالغة: أي حافظا.
من قولهم وعى العلم يعيه إذا حفظه.
(4) زيادة من دلائل البيهقي.
وفي ابن هشام: فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره
وانصرف..(5) في الاصول ونسخ البداية المطبوعة: من حنث البنية وهو تحريف
والصواب ما أثبتناه.
(3/9)
* لو كان
أحجاري مع الاحذاف (1) * يريد الاجداث.
قال [ ابن هشام ]: وحدثني أبو عبيدة أن العرب تقول فم في موضع ثم.
قلت: ومن ذلك قول بعض المفسرين وفومها أن المراد ثومها.
وقد اختلف العلماء في تعبده عليه السلام قبل البعثة هل كان على شرع أم
لا ؟ وما ذلك الشرع فقيل شرع نوح وقيل شرع إبراهيم.
وهو الاشبه الاقوى.
وقيل موسى، وقيل عيسى، وقيل كل ما ثبت أنه شرع عنده اتبعه وعمل به،
ولبسط هذه الاقوال ومنا سباتها مواضع أخر في أصول الفقه والله أعلم.
وقوله حتى فجئه الحق وهو بغار حراء أي جاء بغتة على غير موعد كما قال
تعالى: (وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك) [ النمل:
86 ] الآية.
وقد كان نزول صدر هذه السورة الكريمة وهي: (اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق
الانسان من علق اقرأ وربك الاكرم الذي علم بالقلم علم الانسان ما لم
يعلم) (2) وهي أول ما نزل من القرآن كما قررنا ذلك في التفسير وكما
سيأتي أيضا في يوم الاثنين كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي قتادة أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم: سئل عن صوم يوم الاثنين ؟ فقال: " ذاك يوم
ولدت فيه، ويوم أنزل علي فيه " (3) وقال ابن عباس: ولد نبيكم محمد صلى
الله عليه وسلم يوم الاثنين، ونبئ يوم الاثنين (4).
وهكذا قال عبيد بن عمير وأبو جعفر الباقر وغير واحد من العلماء: إنه
عليه الصلاة والسلام أوحى إليه يوم الاثنين، وهذا ما لا خلاف فيه
بينهم.
__________
(1) في سيرة ابن هشام: الاجداف.
وزعم ابن جني أن جدف بالفاء لا يجمع على أجداف (أنظر الروض الآنف).
(2) أول سورة العلق.
قال صاحب الظلال: مطلع هذه السورة هو أول ما نزل من القرآن باتفاق،
والروايات التي تذكر نزول غيرها ابتداء ليست وثيقة.
هذه البداية حادث ضخم بحقيقته وضخم بدلالته.
فدلالته: في أنه تعالى ذو الفضل الواسع بفيض من عطائه
ورحمته بلا سبب ولا علة.
ودلالته أن الله تعالى أكرم الانسان كرامة لا يكاد يتصورها.
وآثاره في حياة البشرية قد بدأت منذ اللحظة الاولى، في تحويل خط
التاريخ، فقد تحددت الجهة التي يتطلع إليها الانسان ويتلقى عنها
تصوراته وقيمه وموازينه.
هذه الحقيقة القرآنية الاولى التي تلقاها قلب رسول الله صلى الله عليه
وسلم في اللحظة الاولى هي التي ظلت تصرف شعوره، ولسانه وعمله بعد ذلك
طوال حياته بوصفها قاعدة الايمان الاولى.
8 / 618 باختصار.
(3) صحيح مسلم في 13 كتاب الصيام (36) باب حديث رقم 197 ومسند أحمد 5 /
297 - 299 السنن الكبرى للبيهقي 4 / 293.
(4) مسند أحمد ج 1 / 277 وهو في مجمع الزوائد 1 / 196 ونسبه لاحمد
والطبراني في الكبير وقال: فيه ابن لهيعة، وهو ضعيف وبقية رجاله ثقات
من أهل الصحيح ".
(3/10)
ثم قيل: كان
ذلك في شهر ربيع الاول، كما تقدم عن ابن عباس وجابر أنه ولد عليه
السلام، وفي الثاني عشر من ربيع الاول يوم الاثنين وفيه بعث وفيه عرج
به إلى السماء، والمشهور أنه بعث عليه الصلاة والسلام في شهر رمضان،
كما نص على ذلك عبيد بن عمير، ومحمد بن إسحاق وغيرهما.
قال ابن إسحاق مستدلا على ذلك بما قال الله تعالى: (شهر رمضان الذي
أنزل فيه القرآن هدى للناس) [ البقرة: 185 ] فقيل في عشره.
وروى الواقدي بسنده عن أبي جعفر الباقر أنه قال: كان ابتداء الوحي إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، لسبع عشرة ليلة خلت من
رمضان وقيل في الرابع والعشرين منه.
قال الامام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا عمران، أبو
العوام، عن قتادة، عن أبي المليح، عن واثلة بن الاسقع أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: " أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزلت
التوارة لست مضين من رمضان، والانجيل لثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان،
وأنزل القرآن لاربع وعشرين خلت من رمضان " (1) وروى ابن مردويه في
تفسيره عن جابر بن عبد الله مرفوعا نحوه، ولهذا ذهب جماعة من الصحابة
والتابعين، إلى أن ليلة القدر ليلة أربع وعشرين.
وأما قول جبريل (اقرأ) فقال: " ما أنا بقارئ " فالصحيح أن قوله " ما
أنا بقارئ " نفي أي لست ممن يحسن القراءة.
وممن رجحه النووي وقبله الشيخ أبو شامة.
ومن قال إنها استفهامية فقوله بعيد لان الباء لا تزاد في الاثبات (2).
ويؤيد الاول رواية أبي نعيم من حديث المعتمر بن سليمان عن أبيه: فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو خائف يرعد - " ما قرأت كتابا قط
ولا أحسنه وما أكتب وما أقرأ " فأخذه جبريل فغته غتا شديدا.
ثم تركه فقال له: اقرأ.
فقال محمد صلى الله عليه وسلم: " ما أرى شيئا أقرأه، وما أقرأ، وما
أكتب " يروى فغطني كما في الصحيحين وغتني ويروى قد غتني أي خنقني " حتى
بلغ مني الجهد " يروى بضم الجيم وفتحها وبالنصب وبالرفع.
وفعل به ذلك ثلاثا.
قال أبو سليمان الخطابي: وإنما فعل ذلك به ليبلو صبره ويحسن تأديبه
فيرتاض لاحتمال ما كلفه به من أعباء النبوة، ولذلك كان يعتريه مثل حال
المحموم وتأخذه الرحضاء أي البهر والعرق.
وقال غيره: إنما فعل ذلك لامور: منها أن يستيقظ لعظمة ما يلقى إليه بعد
هذا الصنيع المشق على النفوس.
كما قال تعالى: (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) [ سورة المزمل: 5 ] ولهذا
__________
(1) مسند أحمد ج 4 / 107.
(2) قال الطيبي أنه إنما يفيد التقوية والتأكيد، والتقدير لست بقارئ
البتة فإن قيل لم كرر ذلك أجاب أبو شامة بأن يحمل قوله أولا ما أنا
بقارئ على الامتناع وثانيا على الاخبار بالنفي المحض وثالثا على
الاستفهام ويؤيده قول أبي الاسود في مغازيه عن عروة أنه قال: كيف اقرأ
وفي رواية ابن إسحاق ماذا أقرأ وفي دلائل البيهقي: كيف أقرأ.
وكل ذلك يؤيد أنها استفهامية.
وحكى الاخفش جواز دخول الباء بداية - وهو شاذ -.
(3/11)
كان عليه
الصلاة والسلام إذا جاءه الوحي يحمر وجهه ويغط كما يغط البكر من الابل
ويتفصد جبينه عرقا في اليوم الشديد البرد.
وقوله فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خديجة يرجف فؤاده.
وفي رواية: بوادره، جمع بادرة قال أبو عبيدة: وهي لحمة بين المنكب
والعنق.
وقال غيره: هو عروق تضطرب عند الفزع وفي
بعض الروايات ترجف بآدله واحدتها بادلة.
وقيل بادل، وهو ما بين العنق والترقوة وقيل أصل الثدي.
وقيل لحم الثديين وقيل غير ذلك.
فقال: " زملوني زملوني " فلما ذهب عنه الروع قال لخديجة: " مالي ؟ أي
شئ عرض لي ؟ " وأخبرها ما كان من الامر.
ثم قال: " لقد خشيت على نفسي " (1) وذلك لانه شاهد أمرا لم يهده قبل
ذلك، ولا كان في خلده.
ولهذا قالت خديجة: ابشر، كلا والله لا يخزيك الله أبدا.
قيل من الخزي، وقيل من الحزن، وهذا لعلمها بما أجرى الله به جميل
العوائد في خلقه أن من كان متصفا بصفات الخير لا يخزى في الدنيا ولا في
الآخرة ثم ذكرت له من صفاته الجليلة ما كان من سجاياه الحسنة.
فقالت: إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث - وقد كان مشهورا بذلك صلوات الله
وسلامه عليه عند الموافق والمفارق - وتحمل الكل.
أي عن غيرك تعطي صاحب العيلة ما يريحه من ثقل مؤنة عياله - وتكسب
المعدوم أي تسبق إلى فعل الخير فتبادر إلى إعطاء الفقير فتكسب حسنته
قبل غيرك.
ويسمى الفقير معدوما لان حياته ناقصة.
فوجوده وعدمه سواء كما قال بعضهم: ليس من مات فاستراح بميت * إنما
الميت ميت الاحياء وقال أبو الحسن التهامي، فيما نقله عنه القاضي عياض
في شرح مسلم: عد ذا الفقر ميتا وكساه * كفنا باليا ومأواه قبرا وقال
الخطابي: الصواب (وتكسب المعدم) أي تبذل إليه أو يكون تكسب المعدم
بعطيته (2)
__________
(1) قال القاضي عياض: ليس معناه الشك في أن ما أتاه من الله لكنه كأنه
خشي أن لا يقوى على مقاومة هذا الامر.
وقال الحافظ ابن حجر: اختلف العلماء في المراد بالخشية على اثنى عشر
قولا: الجنون - وهو باطل - الهاجس - وهو باطل أيضا.
الموت من شدة الرعب - المرض - دوام المرض - العجز عن حمل أعباء النبوة
- العجز عن النظر إلى الملك من الرعب - عدم الصبر على أذى قومه - أن
يقتلوه - مفارقة الوطن - تكذيبهم إياه - تعييرهم إياه.
قال: وأولى الاقوال وأسلمها من الارتياب الثالث واللذان بعده.
(2) في الاصول: أو يكون تلبس العدم بعطية: وهو تحريف، والصواب ما
أثبتناه من سيرة ابن كثير.
(3/12)
مالا يعيش به
(1).
واختار شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي أن المراد بالمعدوم ههنا المال
المعطى، أي يعطى المال لمن هو عادمه.
ومن قال إن المراد أنك تكسب باتجارك المال المعدوم، أو النفيس القليل
النظير، فقد أبعد النجعة وأغرق في النزع وتكلف ما ليس له به علم، فإن
مثل هذا لا يمدح به غالبا، وقد ضعف هذا القول عياض والنووي وغيرهما
والله أعلم.
وتقري الضيف - أي تكرمه في تقديم قراه، وإحسان مأواه.
وتعين على نوائب الحق ويروى الخير، أي إذا وقعت نائبة لاحد في خير أعنت
فيها، وقمت مع صاحبها حتى يجد سدادا من عيش أو قواما من عيش، وقوله: ثم
أخذته فانطلقت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل.
وكان شيخا كبيرا قد عمي.
وقد قدمنا طرفا من خبره مع ذكر زيد بن عمرو بن نفيل رحمه الله.
وأنه كان ممن تنصر في الجاهلية ففارقهم وارتحل إلى الشام، هو وزيد بن
عمرو وعثمان بن الحويرث، وعبيد الله بن جحش فتنصروا كلهم، لانهم وجدوه
أقرب الاديان إذ ذاك إلى الحق، إلا زيد بن عمرو بن نفيل فإنه رأى فيه
دخلا وتخبيطا وتبديلا وتحريفا وتأويلا.
فأبت فطرته الدخول فيه أيضا، وبشروه الاحبار والرهبان بوجود نبي قد أزف
زمانه واقترب أوانه، فرجع يتطلب ذلك، واستمر على فطرته وتوحيده.
لكن اخترمته المنية قبل البعثة المحمدية (2).
وأدركها ورقة بن نوفل وكان يتوسمها في رسول الله صلى الله عليه وسلم
كما قدمنا بما كانت خديجة تنعته له وتصفه له، وما هو منطو عليه من
الصفات الطاهرة الجميلة وما ظهر عليه من الدلائل والآيات، ولهذا لما
وقع ما وقع أخذت بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءت به إليه فوقفت
به عليه.
وقالت: ابن عم اسمع من ابن أخيك، فلما قص عليه رسول الله صلى الله عليه
وسلم خبر ما رأى قال ورقة: سبوح سبوح (3)، هذا الناموس الذي أنزل على
موسى، ولم يذكر عيسى وإن كان متأخرا بعد موسى، لانه كانت شريعته متممة
ومكملة لشريعة موسى عليهما السلام، ونسخت بعضها على الصحيح من قول
العلماء.
كما قال: (ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم) [ آل عمران: 50 ].
وقول ورقة هذا كما قالت الجن: (يا قومنا إنا
سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق إلى
طريق مستقيم) [ الاحقاف: 30 ].
ثم قال ورقة: يا ليتني فيها جذعا.
أي يا ليتني أكون اليوم شابا متمكنا من الايمان والعلم النافع والعمل
الصالح، يا ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك يعني حتى أخرج معك وأنصرك ؟
فعندها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أو مخرجي هم ؟ " قال
السهيلي وإنما قال ذلك، لان فراق الوطن شديد على النفوس، فقال: نعم !
إنه لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي،
__________
(1) قال التيمي في شرح الكرماني: لم يصب الخطابي إذ حكم على اللفظة
الصحيحة بالخطأ فإن الصواب ما اشتهر بين أصحاب الحديث ورواه الرواة.
1 / 37.
(2) تقدم أن زيد بن عمرو بن نفيل قد عادت عليه لخم فقتلوه وكان ذلك قبل
المبعث.
راجع سيرة ابن هشام 1 / 244 وما بعدها.
(3) في سيرة ابن هشام: قدوس قدوس، أي طاهر طاهر.
(3/13)
وإن يدركني
يومك أنصرك نصرا مؤزرا أي أنصرك نصرا عزيزا أبدا.
وقوله: " ثم لم ينشب ورقة أن توفي " أي توفي بعد هذه القصة بقليل (1)
رحمه الله ورضي عنه، فإن مثل هذا الذي صدر عنه تصديق بما وجد وإيمان
بما حصل من الوحي ونية صالحة للمستقبل.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا حسن، عن ابن لهيعة، حدثني أبو الأسود عن
عروة عن عائشة.
أن خديجة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ورقة بن نوفل فقال: "
قد رأيته فرأيت عليه ثياب بياض فأحسبه لو كان من أهل النار لم يكن عليه
ثياب بياض ".
وهذا إسناد حسن لكن رواه الزهري وهشام عن عروة مرسلا فالله أعلم وروى
الحافظ أبو يعلى عن شريح بن يونس عن إسماعيل عن مجالد عن الشعبي عن
جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ورقة بن نوفل
فقال: " قد رأيته فرأيت عليه ثياب بياض أبصرته في بطنان الجنة وعليه
السندس ".
وسئل عن زيد بن عمرو بن نفيل فقال: " يبعث يوم القيامة أمة وحده ".
وسئل عن أبي طالب فقال: " أخرجته من غمرة من جهنم إلى ضحضاح منها "
وسئل عن خديجة لانها ماتت قبل الفرائض
وأحكام القرآن فقال: " أبصرتها على نهر في الجنة في بيت من قصب لا صخب
فيه ولا نصب " (2) إسناد حسن ولبعضه شواهد في الصحيح والله أعلم.
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا عبيد بن إسماعيل، حدثنا أبو أسامة،
عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة.
قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تسبوا ورقة فإني رأيت له
جنة أو جنتين " (3) وكذا رواه ابن عساكر من حديث أبي سعيد الاشج عن أبي
معاوية عن هشام عن أبيه عن عائشة وهذا إسناد جيد.
وروي مرسلا وهو أشبه.
وروى الحافظان البيهقي وأبو نعيم في كتابيهما دلائل النبوة من حديث
يونس بن بكير عن يونس بن عمرو عن أبيه عن عمرو بن شرحبيل أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال لخديجة: " إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء، وقد
خشيت والله أن يكون لهذا أمر ".
قالت: معاذ الله ما كان ليفعل ذلك بك فوالله إنك لتؤدي الامانة، وتصل
الرحم، وتصدق الحديث.
فلما دخل أبو بكر وليس
__________
(1) قال ابن اسحاق في السيرة عن هشام بن عروة عن أبيه: 1 / 340 أن ورقة
كان يمر ببلال وهو يعذب وهو يقول: أحد أحد..وهذا يقتضي أن ورقة تأخر
إلى زمن الدعوة وإلى أن دخل بعض الناس في الاسلام.
وعلق ابن حجر قال: فإن تمسكنا بالترجيح فما في الصحيح أصح.
(2) روى الاحاديث عن جابر الهيثمي في مجمع الزوائد 9 / 416 وقال: رواه
أبو يعلى وفيه مجالد وهذا مما مدح من حديث مجالد وبقية رجاله رجال
الصحيح.
وأخرج الحاكم جزءا منه وصححه في المستدرك 3 / 439 - 440.
(3) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 9 / 416 وقال: رواه البزار متصلا
ومرسلا.
ورجال المسند والمرسل رجال الصحيح.
وروى عن اسماء بنت أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ورقة
فقال يبعث يوم القيامة أمة وحده.
قال: ورواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.
(3/14)
رسول الله صلى
الله عليه وسلم ثم ذكرت له خديجة [ حديثه له ] فقالت: يا عتيق اذهب مع
محمد إلى ورقة فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده أبو
بكر.
فقال: انطلق بنا إلى ورقة قال: " ومن أخبرك ؟ " قال
خديجة فانطلقا إليه فقصا عليه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء
خلفي: يا محمد يا محمد فانطلق هاربا في الارض ".
فقال له لا تفعل.
إذا أتاك فاثبت، حتى تسمع ما يقول لك ثم ائتني فأخبرني.
فلما خلا ناداه يا محمد قل: (بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب
العالمين) حتى بلغ: " ولا الضالين) قل لا إله إلا الله.
فأتى ورقة فذكر له ذلك، فقال له ورقة: ابشر ثم ابشر.
فأنا أشهد أنك الذي بشر بك ابن مريم، وأنك على مثل ؟ موسى، وأنك نبي
مرسل، وأنك ستؤمر بالجهاد بعد يومك هذا.
ولئن أدركني ذلك لاجاهدن معك.
فلما توفي [ ورقة ].
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد رأيت القس في الجنة عليه ثياب
الحرير، لانه آمن بي وصدقني " يعني ورقة.
هذا لفظ البيهقي (1) وهو مرسل وفيه غرابة وهو كون الفاتحة أول ما نزل
وقد قدمنا من شعره ما يدل على إضماره الايمان وعقده عليه وتأكده عنده،
وذلك حين أخبرته خديجة ما كان من أمره مع غلامها ميسرة وكيف كانت
الغمامة تظلله في هجير القيظ.
فقال ورقة في ذلك أشعارا قدمناها قبل هذا، منها قوله: لججت وكنت في
الذكرى لجوجا * لامر طالما بعث النشيجا (2) ووصف من خديجة بعد وصف *
فقد طال انتظاري يا خديجا ببطن المكتين على رجائي * حديثك أن أرى منه
خروجا بما خبرتنا من قول قس * من الرهبان أكره أن يعوجا بأن محمدا
سيسود قوما * ويخصم من يكون له حجيجا ويظهر في البلاد ضياء نور * يقيم
به البرية أن تعوجا (3) فيلقى من يحاربه خسارا * ويلقى من يسالمه فلوجا
فيا ليتي إذا ما كان ذاكم * شهدت وكنت أولهم ولوجا ولو كان الذي كرهت
قريش * ولو عجت بمكتها عجيجا (4) أرجي بالذي كرهوا جميعا * إلى ذي
العرش إذ سفلوا عروجا فإن يبقوا وأبق تكن أمور * يضج الكافرون لها
ضجيجا (5)
__________
(1) الحديث في دلائل النبوة للبيهقي ج 1 / 158 - 159 وما بين معكوفين
في الحديث من الدلائل.
وعلق البيهقي في آخر الحديث قال: فهذا منقطع، فإن كان محفوظا فيحتمل أن
يكون خبرا عن نزولها - أي سورة الفاتحة - بعدما نزلت عليه، اقرأ باسم
ربك ويا أيها المدثر والله أعلم.
(2) في سيرة ابن هشام: لهم بدل لامر.
(3) في السيرة: إن تموجا بدل أن تعوجا.
(4) في السيرة: ولوجا في الذي كرهت قريش.
(5) في نسخ البداية المطبوعة يكن أمورا وهو تحريف والصواب اثبتناه من
السيرة لابن هشام.
(*)
(3/15)
وقال أيضا في
قصيدته الاخرى: وأخبار صدق خبرت عن محمد * يخبرها عنه إذا غاب ناصح (1)
بأن ابن عبد الله أحمد مرسل * إلى كل من ضمت عليه الاباطح وظني به أن
سوف يبعث صادقا * كما أرسل العبدان هود وصالح وموسى وإبراهيم حتى يرى
له * بهاء ومنشور من الحق واضح (2) ويتبعه حيا لؤي بن غالب * شبابهم
والاشيبون الجحاجح (3) فإن ابق حتى يدرك الناس دهره * فاني به مستبشر
الود فارح وإلا فاني يا خديجة فاعلمي * عن أرضك في الارض العريضة سائح
وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال ورقة: فان بك حقا يا خديجة فاعلمي
* حديثك إيانا فأحمد مرسل وجبريل يأتيه وميكال معهما * من الله وحي
يشرح الصدر منزل يفوز به من فاز فيها بتوبة * ويشقى به العاني الغرير
المضلل (4) فريقان منهم فرقة في جنانه * وأخرى بأحواز الجحيم تعلل (5)
إذا ما دعوا بالويل فيها تتابعت * مقامع في هاماتهم ثم تشعل (6)
فسبحان من يهوي الرياح بأمره * ومن هو في الايام ما شاء يفعل ومن عرشه
فوق السموات كلها * واقضاؤه في خلقه لا تبدل
__________
(1) القصيدة في دلائل النبوة للبيهقي 1 / 127 وذكرها السهيلي في الروض
الانف 1 / 127 وقال إنهما: من رواية يونس عن ابن اسحاق وقبله بيتان:
أتبكر أم أنت العشية رائح * وفي الصدر من اضمارك الحزن فادح لغرقة قوم
لا أحب فراقهم * كأنك عنهم بعد يومين نازح وبعده: بفتاك الذي وجهت يا
خير حرة * بغور وبالنجدين حيث الصحاصح إلى سوق بصرى والركاب التي غدت *
وهن من الاحمال مقص دوالح يخبرنا عن كل حبر بعلمه * وللحق أبواب لهن
مفاتح (2) في الدلائل: من الذكر واضح.
(3) في الدلائل: لؤي جماعة.
(4) في دلائل البيهقي: ويشقى به العاني الغوي المضلل.
(5) في دلائل البيهقي: وأخرى بإخوان الجحيم تغلل وما أثبتناه مناسب
أگثر.
(6) في دلائل البيهقي: في هاماتها بدل هاماتهم.
(*)
(3/16)
وقال ورقة
أيضا: يا للرجال وصرف الدهر والقدر * وما لشئ قضاه الله من غير حتى
خديجة تدعوني لاخبرها * أمرا أراه سيأتي الناس من أخر (1) وخبرتني بأمر
قد سمعت به * فيما مضى من قديم الدهر والعصر بأن أحمد يأتيه فيخبره *
جبريل انك مبعوث إلى البشر فقلت عل الذي ترجين ينجزه * لك الاله فرجي
الخير وانتظري
وأرسليه إلينا كي نسائله * عن أمره ما يرى في النوم والسهر فقال حين
أتانا منطقا عجبا * يقف منه أعالي الجلد والشعر إني رأيت أمين الله
واجهني * في صورة أكملت من أعظم الصور (2) ثم استمر فكاد الخوف يذعرني
* مما يسلم من حولي من الشجر فقلت ظني وما أدري أيصدقني * ان سوف يبعث
يتلو منزل السور وسوف يبليك إن اعلنت دعوتهم * من الجهاد بلا من ولا
كدر هكذا أورد ذلك الحافظ البيهقي من الدلائل وعندي في صحتها عن ورقة
نظر والله أعلم (3).
وقال ابن إسحاق حدثني عبد الملك بن عبيدالله (4) بن أبي سفيان بن
العلاء بن جارية الثقفي - وكان واعية (5) - عن بعض أهل العلم أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم حين أراد الله كرامته وابتدأه بالنبوة، كان
إذا خرج لحاجة أبعد حتى تحسر عنه البيوت (6) ويفضي إلى شعاب مكة وبطون
أوديتها، فلا يمر بحجر ولا شجر إلا قال السلام عليك يا رسول الله (7).
قال فيلتفت حوله عن
__________
(1) في البيهقي: حتى خديجة تدعوني لاخبرها * وما لها بخفي الغيب من خبر
جاءت لتسألني عنه لاخبرها * أمرا أراه سيأتي الناس من أخر (2) في
الدلائل: أهيب بدل أعظم.
(3) قال البيهقي في إيراده الابيات: يزعمون أن ورقة قال، وفيه تشكيك
لدى البيهقي في نسبتها لورقة.
(4) في نسخ البداية المطبوعة: عبد الله، وما أثبتنا - صوابا من سيرة
ابن هشام.
(5) في نسخ البداية: داعية، والصواب اثبتناه في ابن هشام.
(6) في نسخة البداية المطبوعة: لحاجة أبعد حتى يحسر الثوب عنه، وهو
تحريف واثبتنا الصواب من سيرة ابن هشام.
(7) قال السهيلي: الاظهر في هذا التسليم أن يكون حقيقة، وأن يكون الله
أنطقه انطاقا كما خلق الحنين في
الجذع..إلى أن قال - ولو قدرت صفة قائمة بنفس الحجر والشجر والصوت
عبارة عنه لم يكن بد من اشتراط الحياة والعلم مع الكلام والله أعلم أي
ذلك كان: أكان كلاما مقرونا بحياة وعلم، فيكون الحجر به مؤمنا، أو =
(*)
(3/17)
يمينه وعن
شماله وخلفه فلا يرى إلا الشجر والحجارة.
فمكث [ رسول الله صلى الله عليه وسلم ] كذلك يرى ويسمع، ما شاء الله أن
يمكث، ثم جاءه جبريل عليه السلام بما جاءه من كرامة الله وهو بحراء في
[ شهر ] رمضان قال ابن إسحاق: وحدثني وهب بن كيسان مولى آل الزبير قال:
سمعت عبد الله بن الزبير وهو يقول لعبيد بن عمير بن قتادة الليثي:
حدثنا يا عبيد، كيف كان بدو ما ابتدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم
من النبوة، حين جاءه جبريل قال: فقال عبيد وأنا حاضر - يحدث عبد الله
بن الزبير ومن عنده من الناس -: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يجاور في حراء في كل سنة شهرا بتحنث قال وكان ذلك مما يحبب به قريش في
الجاهلية.
والتحنث التبرز.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور ذلك الشهر من كل سنة، يطعم من
جاءه من المساكين، فإذا قضى جواره من شهره ذلك، كان أول ما يبدأ به،
إذا انصرف من جواره، الكعبة، قبل أن يدخل بيته، فيطوف بها سبعا أو ما
شاء الله من ذلك، ثم يرجع إلى بيته حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله [
تعالى ] به فيه ما أراد من كرامته، من السنة التي بعثه فيها وذلك الشهر
[ شهر ] رمضان، خرج [ رسول الله صلى الله عليه وسلم ] إلى حراء كما كان
يخرج لجواره ومعه أهله، حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها
برسالته، ورحم العباد به، جاءه جبريل بأمر الله تعالى.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فجاءني [ جبريل ] وأنا نائم بنمط
من ديباج فيه كتاب.
فقال اقرأ ؟ قلت ما أقرأ ؟ قال فغتني حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني
فقال: اقرأ، [ قال ]: قلت ما أقرأ ؟ قال فغتني حتى ظننت أنه الموت، ثم
أرسلني، فقال اقرأ، قلت ما أقرأ ؟ قال فغتني حتى ظننت أنه الموت ثم
أرسلني.
فقال اقرأ قلت: ماذا اقرأ ؟ ما أقول ذلك إلا افتدا منه أن يعود لي بمثل
ما صنع (1) بي فقال: (اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق اقرأ
وربك الاكرم الذي علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم).
قال فقرأتها ثم انتهى وانصرف عني وهببت من نومي فكأنما كتب في قلبي
كتابا (2).
قال فخرجت حتى
إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتا من السماء يقول: يا محمد، أنت رسول
الله وأنا جبريل، قال: فرفعت رأسي إلى السماء أنظر فإذا جبريل في صورة
رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول: يا محمد، أنت رسول الله وأنا جبريل.
فوقفت أنظر إليه فما أتقدم وما أتأخر، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق
السماء، فما أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك، فما زلت واقفا ما
أتقدم أمامي وما أرجع ورائي حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي، فبلغوا [
أعلى ] مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك ثم انصرف عني.
وانصرفت راجعا إلى أهلي حتى أتيت خديجة
__________
= كان صوتا مجردا غير مقترن بحياة، وفي كلا الوجهين هو علم من أعلام
النبوة.
(1) العبارة في الدلائل البيهقي: وما أقرأ وما أقولها إلا تنجيا أن
يعود لي بمثل الذي صنع، وفي نسخ البداية المطبوعة: اقتداء وهو تحريف.
(2) زاد البيهقي: ولم يكن في خلق الله أحد أبغض إلي من شاعر أو مجنون
فكنت لا أطيق أنظر إليهما..راجع دلائل النبوة ج 2 / 147 - 148.
(3/18)
فجلست إلى
فخذها مضيفا (1) إليها، فقالت: يا أبا القاسم أين كنت ؟ فوالله لقد
بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا مكة ورجعوا إلي.
ثم حدثتها بالذي رأيت، فقالت أبشر يا ابن العم وأثبت فوالذي نفس خديجة
بيده إني لارجو أن تكون نبي هذه الامة.
ثم قامت فجمعت عليها ثيابها، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل فأخبرته بما
أخبرها به رسول الله صلى الله عليه وآله فقال ورقة: قدوس قدوس، والذي
نفس ورقة بيده لئن كنت صدقتني يا خديجة لقد جاءه الناموس الاكبر الذي
كان يأتي موسى، وأنه لنبي هذه الامة، وقولي له: فليثبت.
فرجعت خديجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقول ورقة فلما
قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره وانصرف، صنع كما كان يصنع، بدأ
بالكعبة فطاف بها فلقيه ورقة بن نوفل وهو يطوف بالكعبة فقال: يا ابن
أخي أخبرني بما رأيت وسمعت فأخبره، فقال له ورقة: والذي نفسي بيده إنك
لنبي هذه الامة، ولقد جاءك الناموس الاكبر الذي جاء موسى، ولتكذبنه
ولتؤذينه ولتخرجنه ولتقاتلنه، ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لانصرن الله
نصرا
يعلمه.
ثم أدنى رأسه منه فقبل يافوخه ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلى منزله " (2).
وهذا الذي ذكره عبيد بن عمير كما ذكرناه كالتوطئة لما جاء بعده من
اليقظة كما تقدم من قول عائشة رضي الله عنها فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت
مثل فلق الصبح.
ويحتمل أن هذا المنام كان بعد ما رآه في اليقظة صبيحة ليلتئذ ويحتمل
أنه كان بعده بمدة والله أعلم.
وقال موسى بن عقبة: عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، قال: وكان فيما
بلغنا أول ما رأى - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن الله تعالى
أراه رؤيا في المنام، فشق ذلك عليه فذكرها لامرأته خديجة فعصمها الله
عن التكذيب، وشرح صدرها للتصديق، فقالت: أبشر فإن الله لم يصنع بك إلا
خيرا، ثم إنه خرج من عندها ثم رجع إليها فأخبرها أنه رأى بطنه شق ثم
غسل وطهر، ثم أعيد كما كان، قالت: هذا والله خير فابشر، ثم استعلن له
جبريل وهو بأعلى مكة فأجلسه على مجلس كريم معجب كان النبي صلى الله
عليه وسلم يقول أجلسني على بساط كهيئة الدرنوك (3) فيه الياقوت واللؤلؤ
فبشره برسالة الله عزوجل حتى اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
له جبريل اقرأ فقال كيف اقرأ فقال: (اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق
الانسان من علق اقرأ وربك الاكرم الذي علم بالقلم علم الانسان ما لم
يعلم).
قال: ويزعم ناس أن " يا أيها المدثر " أول سورة نزلت عليه والله أعلم.
قال فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالة ربه واتبع ما جاءه به
جبريل من عند الله فلما انصرف منقلبا إلى بيته جعل لا يمر على شجر ولا
حجر إلا سلم عليه فرجع إلى أهله مسرورا موقنا أنه قد رأى أمرا
__________
(1) مضيفا: أي ملتصقا، يقال أضفت إلى الرجل: إذا ملت نحوه ولصقت به.
(2) الخبر بطوله رواه ابن إسحاق في السيرة ج 1 / 250 وما بعدها.
وأخرجه البيهقي في الدلائل ج 2 / 146 وما بعدها.
وابن سعد في الطبقات 1 / 157 والذهبي في تاريخ الاسلام 2 / 71 والترمذي
في المناقب 5 / 593 والدارمي في المقدمة، وأحمد في مسنده 5 / 89.
(3) الدرنوك: ستر له حمل وجمعه درانك (*).
(3/19)
عظيما فلما دخل
على خديجة قال أرأيتك التي (1) كنت حدثتك أني رأيته في المنام فإنه
جبريل استعلن
إلي، أرسله إلي ربي عزوجل وأخبرها بالذي جاءه من الله وما سمع منه،
فقالت: أبشر فوالله لا يفعل الله بك إلا خيرا، وأقبل الذي جاءك من أمر
الله فإنه حق وأبشر فإنك رسول الله حقا.
ثم انطلقت من مكانها فأتت غلاما لعتبة بن ربيعة بن عبد شمس نصرانيا من
أهل نينوى يقال له عداس، فقالت له: يا عداس أذكرك بالله إلا ما أخبرتني
هل عندك علم من جبريل فقال: قدوس قدوس، ما شأن جبريل يذكر بهذه الارض
التي أهلها أهل الاوثان.
فقالت: أخبرني بعلمك فيه.
قال فإنه أمين الله بينه وبين النبيين وهو صاحب موسى وعيسى عليهما
السلام.
فرجعت خديجة من عنده فجاءت ورقة بن نوفل فذكرت له ما كان من أمر النبي
صلى الله عليه وسلم وما ألقاه إليه جبريل.
فقال لها ورقة: يا بنية أخي (2) ما أدري لعل صاحبك النبي الذي ينتظر
أهل الكتاب الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل، وأقسم بالله
لان كان إياه ثم أظهر دعواه وأنا حي لا بلين الله في طاعه رسوله وحسن
مؤازرته للصبر والنصر.
فمات ورقة رحمه الله.
قال الزهري فكانت خديجة أول من آمن بالله وصدق رسوله صلى الله عليه
وسلم.
قال الحافظ البيهقي (3) بعد إيراده ما ذكرناه والذي ذكر فيه من شق
بطنه، يحتمل أن يكون حكاية منه لما صنع به في صباه، يعني شق بطنه عند
حليمة، ويحتمل أن يكون شق مرة أخرى ثم ثالثة حين عرج به إلى السماء
والله أعلم.
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة ورقة بإسناده إلى سليمان بن طرخان
التيمي.
قال: بلغنا أن الله تعالى بعث محمدا رسولا على رأس خمسين سنة من بناء
الكعبة وكان أول شئ اختصه به من النبوة والكرامة رؤيا كان يراها فقص
ذلك على زوجته خديجة بنت خويلد فقالت له: أبشر فوالله لا يفعل الله بك
إلا خيرا فبينما هو ذات يوم في حراء وكان يفر إليه من قومه إذ نزل عليه
جبريل فدنا منه فخافه رسول الله صلى الله عليه وسلم مخافة شديدة فوضع
جبريل يده على صدره ومن خلفه بين كتفيه.
فقال: اللهم احطط وزره، واشرح صدره، وطهر قلبه، يا محمد أبشر ! فإنك
نبي هذه الامة.
اقرأ فقال له نبي الله: وهو خائف يرعد - ما قرأت كتابا قط، ولا أحسنه
وما أكتب وما أقرأ فأخذه جبريل فغته غتا شديدا ثم تركه، ثم قال له اقرأ
فأعاد عليه مثله فأجلسه على بساط كهيئة الدرنوك فرأى فيه من صفائه
وحسنه كهيئة اللؤلؤ والياقوت وقال له: (إقرأ باسم ربك
الذي خلق) الآيات ثم قال له لا تخف يا محمد إنك رسول الله ثم انصرف
وأقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم همه فقال كيف أصنع وكيف أقول
لقومي ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خائف فأتاه
__________
(1) في دلائل البيهقي: الذي، وهو مناسب أكثر.
(2) الثابت أن خديجة ابنة عم ورقة، فهي بنت خويلد بن أسد وورقة بن نوفل
بن أسد.
وما قوله: يا بنية أخي إلا دليلا على مدى احترامها وتقديرها له،
والمكانة التي له في نفسها.
(3) دلائل النبوة ج 2 / 146.
(*)
(3/20)
جبريل من أمامه
وهو في صعرته (1) فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرا عظيما ملا
صدره فقال له جبريل لا تخف يا محمد: جبريل رسول الله جبريل رسول الله
إلى أنبيائه ورسله فأيقن بكرامة الله فإنك رسول الله فرجع رسول الله
صلى الله عليه وسلم لا يمر على شجر ولا حجر إلا هو ساجد يقول السلام
عليك يا رسول الله.
فاطمأنت نفسه وعرف كرامة الله إياه فلما انتهى إلى زوجته خديجة أبصرت
ما بوجهه من تغير لونه فأفزعها ذلك، فقامت إليه فلما دنت منه جعلت تمسح
عن وجهه وتقول لعلك لبعض ما كنت ترى وتسمع قبل اليوم، فقال يا خديجة:
أرأيت الذي كنت أرى في المنام، والصوت الذي كنت أسمع في اليقظة وأهال
منه فإنه جبريل قد استعلن لي وكلمني واقرأني كلاما فزعت منه ثم عاد إلي
فأخبرني أني نبي هذه الامة، فأقبلت راجعا فأقبلت على شجر وحجارة فقلن
السلام عليك يا رسول الله.
فقالت خديجة: أبشر فوالله لقد كنت أعلم أن الله لن يفعل بك إلا خيرا
وأشهد أنك نبي هذه الامة الذي تنتظره اليهود، قد أخبرني به ناصح غلامي
وبحيري الراهب، وأمرني أن أتزوجك منذ أكثر من عشرين سنة.
فلم تزل برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طعم وشرب وضحك ثم خرجت إلى
الراهب وكان قريبا من مكة فلما دنت منه وعرفها.
قال: مالك يا سيدة نساء قريش ؟ فقالت: أقبلت إليك لتخبرني عن جبريل ؟
فقال: سبحان الله ربنا القدوس ما بال جبريل يذكر في هذه البلاد التي
يعبد أهلها الاوثان جبريل أمين الله ورسوله إلى أنبيائه ورسله وهو صاحب
موسى وعيسى، فعرفت كرامة الله لمحمد ثم أتت عبدا لعتبة بن ربيعة يقال
له عداس
فسألته فأخبرها بمثل ما أخبرها به الراهب وأزيد.
قال: جبريل كان مع موسى حين أغرق الله فرعون وقومه، وكان معه حين كلمه
الله على الطور، وهو صاحب عيسى بن مريم الذي أيده الله به.
ثم قامت من عنده فاتت ورقة بن نوفل فسألته عن جبريل فقال لها مثل ذلك
ثم سألها ما الخبر فأحلفته أن يكتم ما تقول له فحلف لها فقالت له إن
ابن عبد الله ذكر لي وهو صادق أحلف بالله ما كذب، ولا كذب أنه نزل عليه
جبريل بحراء، وأنه أخبره أنه نبي هذه الامة، وأقرأه آيات أرسل بها.
قال: فذعر ورقة لذلك وقال لئن كان جبريل قد استقرت قدماه على الارض لقد
نزل على خير أهل الارض، وما نزل إلا على نبي وهو صاحب الانبياء والرسل،
يرسله الله إليهم وقد صدقتك عنه، فارسلي إلي ابن عبد الله أسأله وأسمع
من قوله وأحدثه فإني أخاف أن يكون غير جبريل فإن بعض الشياطين يتشبه به
ليضل به بعض بني آدم ويفسدهم حتى يصير الرجل بعد العقل الرضي مدلها
مجنونا.
فقامت من عنده وهي واثقة بالله أن لا يفعل بصاحبها إلا خيرا فرجعت إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما قال ورقة فأنزل الله تعالى:
(ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون) الآيات.
فقال لها: كلا والله إنه لجبريل فقالت له أحب أن تأتيه فتخبره لعل الله
أن يهديه فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ورقة هذا الذي
جاءك جاءك في نور أو ظلمة ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
صفة جبريل وما رآه من عظمته وما أوحاه إليه.
فقال ورقة:
__________
(1) صعرته: أي عظمته.
(*)
(3/21)
أشهد أن هذا
جبريل وأن هذا كلام الله فقد أمرك بشئ تبلغه قومك وإنه لامر نبوة فإن
أدرك زمانك أتبعك ثم قال أبشر أبن عبد المطلب بما بشرك الله به.
قال: وذاع قول ورقة وتصديقه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فشق ذلك على
الملا من قومه قال وفتر الوحي.
فقالوا: لو كان من عند الله لتتابع ولكن الله قلاه فأنزل الله والضحى
وألم نشرح بكمالهما.
وقال البيهقي حدثنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس، حدثنا أحمد
بن عبد الجبار، حدثنا يونس عن ابن إسحاق [ قال ]: حدثني إسماعيل بن أبي
حكيم مولى آل الزبير أنه حدثه عن
خديجة بنت خويلد أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بينه
(1) مما أكرمه الله به من نبوته: يا ابن عم تستطيع أن تخبرني بصاحبك
هذا الذي يأتيك إذا جاءك.
فقال نعم ! فقالت: إذا جاءك فأخبرني.
فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها إذ جاء جبريل فرآه رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
فقال: يا خديجة ! هذا جبريل فقالت: أتراه الآن ؟ قال: نعم ! قالت:
فاجلس إلى شقي الايمن، فتحول فجلس، فقالت أتراه الآن ؟ قال: نعم ! قالت
فتحول فاجلس في حجري فتحول [ رسول الله صلى الله عليه وسلم ] فجلس في
حجرها فقالت هل تراه الآن ؟ قال: نعم ! فتحسرت رأسها فشالت (2) خمارها
ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في حجرها فقالت هل تراه الآن ؟
قال: لا.
قالت ما هذا بشيطان إن هذا لملك يا ابن عم فاثبت وأبشر، ثم آمنت به
وشهدت أن ما جاء به هو الحق.
قال ابن إسحاق: فحدثت عبد الله بن حسن هذا الحديث، فقال: قد سمعت أمي
فاطمة بنت الحسين تحدث بهذا الحديث عن خديجة إلا أني سمعتها تقول أدخلت
رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها وبين درعها فذهب عندك ذلك جبريل
عليه السلام.
قال البيهقي: وهذا شئ كان من خديجة تصنعه (3) تستثبت به الامر احتياطا
لدينها وتصديقا.
فأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان [ قد ] وثق بما قال له جبريل
وأراه من الآيات التي ذكرناها مرة بعد أخرى، وما كان من تسليم الشجر
والحجر عليه صلى الله عليه وسلم (4) تسليما.
وقد قال مسلم في صحيحه حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن بكير
حدثنا إبراهيم بن طهمان حدثني سماك بن حرب عن جابر بن سمرة رضي الله
عنه.
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إني
__________
(1) في دلائل البيهقي: تثبته.
(2) في البيهقي: فألقت.
(3) في البيهقي: كانت خديجة - رضي الله عنها - تصنعه.
(4) زاد البيهقي: وما كان من إجابة الشجر لدعائه وذلك بعدما كذبه قومه
وشكاهم إلى جبريل عليه السلام فأراد أن يطيب قلبه.
الحديث أخرجه أبو نعيم في الدلائل ص 172 و 174.
والبيهقي في دلائله ج 2 / 151 - 152.
(*)
(3/22)
لاعرف حجرا
بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لاعرفه الآن " (1).
وقال أبو داود الطيالسي حدثنا سليمان بن معاذ عن سماك بن حرب عن جابر
بن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن بمكة لحجرا كان
يسلم علي ليالي بعثت.
إني لاعرفه إذا مررت عليه " (2).
وروى البيهقي من حديث إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير، عن عباد بن
عبد الله، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فخرج في بعض نواحيها
فما استقبله شجر ولا جبل إلا قال: السلام عليك يا رسول الله (3).
وفي رواية لقد رأيتني أدخل معه [ يعني النبي صلى الله عليه وسلم - ]
الوادي فلا يمر بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليكم يا رسول الله.
وأنا أسمعه.
فصل قال البخاري في روايته المتقدمة ثم فتر
الوحي حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزنا غدا
منه مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال فكلما أوفى بذروة جبل لكي
يلقي نفسه تبدى له جبريل فقال: يا محمد، إنك رسول الله حقا فيسكن لذلك
جأشه وتقر نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك فإذا
أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك.
وفي الصحيحين (4) من حديث عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: سمعت أبا
سلمة عبد الرحمن، يحدث عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي قال: فبينما أنا أمشي سمعت صوتا من
السماء، فرفعت بصري قبل السماء فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على
كرسي بين السماء [ والارض ] فجثيت منه فرقا حتى هويت إلى الارض فجئت
أهلي فقلت زملوني زملوني فأنزل الله: (يا أيها المدثر قم فانذر وربك
فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر) [ المدثر: 1 - 5 ] قال ثم حمي الوحي
وتتابع فهذا كان أول ما نزل من القرآن بعد فترة
__________
(1) تقدم تخريجه فليراجع.
(2) رواه الترمذي في المناقب (5 / 593) والدارمي في المقدمة وأحمد في
مسند 5 / 89 وابن سعد في الطبقات 1 / 157، وابن هشام في السيرة 1 / 252
- 253.
(3) دلائل النبوة للبيهقي ج 2 / 153 - 154 وأخرجه الترمذي في 50 كتاب
المناقب حديث 3626 وفيه: " عباد بن أبي يزيد عن علي بن أبي طالب "
وقال: هذا حديث غريب.
(4) البخاري في 65 كتاب التفسير (4) باب فتح الباري 8 / 678 و (5) باب.
ومسلم في 1 كتاب الايمان (73) باب بدء الوحي حديث 253 وحديث 255.
صحيح مسلم 1 / 143.
وأخرجه الترمذي في تفسير سورة المدثر.
وأحمد في مسنده 3 / 325.
- فترة الوحي: يعني احتباسه وعدم تتابعه وتواليه في النزول.
فجثيت، هكذا بالاصول وفي الطبري: فجثثت وفي رواية: فجثثت.
وفي البخاري فرعبت، وفي مسلم فجثثت: أي فزعت وخفت كما في نهاية غريب
الحديث.
(*)
(3/23)
الوحي لا مطلقا
(1)، ذاك قوله: (اقرأ باسم ربك الذي خلق) وقد ثبت عن جابر أن أول ما
نزل (يا أيها المدثر) واللائق حمل كلامه ما أمكن على ما قلناه فإن في
سياق كلامه ما يدل على تقدم مجئ الملك الذي عرفه ثانيا بما عرفه به
أولا إليه.
ثم قوله: يحدث عن فترة الوحي دليل على تقدم الوحي على هذا الايحاء
والله أعلم.
وقد ثبت في الصحيحين من حديث علي بن المبارك وعند مسلم والاوزاعي
كلاهما عن يحيى بن أبي كثير قال سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن أي القرآن
أنزل قبل ؟ فقال: (يا أيها المدثر) فقلت (واقرأ باسم ربك) فقال سألت
جابر بن عبد الله أي القرآن أنزل قبل فقال (يا أيها المدثر) فقلت
(واقرأ باسم ربك) فقال [ أحدثكم ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني جاورت بحراء شهرا فلما قضيت
جواري نزلت فاستبطنت الوادي فنوديت، فنظرت بين يدي وخلفي وعن يميني وعن
شمالي، فلم أر شيئا ثم نظرت إلى السماء فإذا هو على العرش في الهواء
فأخذتني رعدة - أو قال وحشة - فأتيت خديجة فأمرتهم فدثروني فأنزل الله:
(يا أيها المدثر) حتى بلغ (وثيابك فطهر) (2) - وقال في رواية - فإذا
الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والارض فجثيت منه "
وهذا صريح في تقدم إتيانه إليه وإنزاله الوحي من الله عليه كما ذكرناه
والله أعلم.
ومنهم زعم أن أول ما نزل بعد
فترة الوحي سورة: (والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى) إلى
آخرها.
قاله محمد بن إسحاق.
وقال بعض القراء: ولهذا كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أولها
فرحا وهو قول بعيد يرده ما تقدم من رواية صاحبي الصحيح من أن أول
القرآن نزولا بعد فترة الوحي: (يا أيها المدثر قم فأنذر) ولكن نزلت
سورة والضحى بعد فترة أخرى كانت ليالي يسيرة كما ثبت في الصحيحين (3)
وغيرهما من حديث الاسود بن قيس عن جندب بن عبد الله البجلي، قال: اشتكى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلة أو ليلتين أو ثلاثا فقالت
امرأة ما أرى شيطانك إلا تركك فأنزل الله: (والضحى والليل إذا سجى ما
ودعك ربك وما قلى) وبهذا الامر حصل الارسال إلى الناس وبالاول حصلت
النبوة.
وقد قال بعضهم كانت مدة الفترة قريبا من سنتين أو سنتين ونصفا، والظاهر
والله أعلم أنها المدة التي اقترن معه ميكائيل كما قال الشعبي وغيره،
ولا ينفي هذا تقدم إيحاء جبريل إليه أولا: (اقرأ باسم ربك الذي خلق) ثم
اقترن به جبريل بعد نزول: (يا أيها المدثر قم فأنذر
__________
(1) أي أن أول ما نزل مطلقا هو اقرأ.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه 1 كتاب الايمان حديث 257 / 1 / 144.
وفيه: أخذتني رجفة شديدة: قال القاضي: ورواه، السمرقندي وجفة، والمعنى
الاضطراب.
وأخرجه البخاري في 65 كتاب التفسير (74) باب حديث 4922 وأعاده في تفسير
سورة العلق عن سعيد بن مروان في قصة فتور الوحي.
وفي كتاب بدء الخلق.
ورواه الطبري في تاريخه 2 / 20 8 دار القاموس الحديث.
(3) أخرجه البخاري في أبواب التهجد الحديث 1125 فتح الباري 3 / 8 وفي
65 كتاب التفسير الحديث 4950 فتح الباري 8 / 710 وأخرجه مسلم في الصحيح
1 / 143.
(*)
(3/24)
وربك فكبر
وثيابك فطهر والرجز فاهجر) وثم حمي الوحي بعد هذا وتتابع - أي تدارك
شيئا بعد شئ - وقام حينئذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرسالة أتم
القيام وشمر عن ساق العزم ودعا إلى الله القريب والبعيد، والاحرار
والعبيد، فآمن به حينئذ كل لبيب نجيب سعيد، واستمر على مخالفته وعصيانه
كل جبار عنيد، فكان أول من بادر إلى التصديق من الرجال الاحرار أبو بكر
الصديق، ومن
الغلمان علي بن أبي طالب، ومن النساء خديجة بنت خويلد زوجته عليه
السلام، ومن الموالي مولاه زيد بن حارثه الكلبي رضي الله عنهم وأرضاهم
(1).
وتقدم الكلام على إيمان ورقة بن نوفل بما وجد من الوحي ومات في الفترة
رضي الله عنه.
فصل في منع الجان ومردة الشياطين من استراق
السمع حين أنزل القرآن لئلا يختطف أحدهم منه ولو حرفا واحدا
فيلقيه على لسان وليه فيلتبس الامر ويختلط الحق فكان من رحمة الله
وفضله ولطفه بخلقه أن حجبهم عن السماء كما قال الله تعالى إخبارا عنهم
في قوله: (وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا.
وإنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا،
وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الارض أم أراد بهم ربهم رشدا) [ الجن: 8
- 10 ].
وقال تعالى: (وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنهم
عن السمع لمعزولون) [ الشعراء: 210 - 211 ].
قال الحافظ أبو نعيم: حدثنا سليمان بن أحمد - وهو الطبراني - حدثنا عبد
الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم، حدثنا محمد بن يوسف الفريابي، حدثنا
إسرائيل عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
قال: كان الجن يصعدون إلى السماء يستمعون الوحي فإذا حفظوا الكلمة
زادوا فيها تسعا فأما الكلمة فتكون حقا وأما ما زادوا فتكون باطلا،
فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم منعوا مقاعدهم فذكروا ذلك لابليس
ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك فقال لهم إبليس هذا لامر قد حدث في
الارض، فبعث جنوده فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يصلي بين
جبلين فأتوه فأخبروه فقال: هذا الامر الذي قد حدث في
__________
(1) قال الطبري: اختلف السلف فيمن اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم
وآمن به وصدقه.
بعد زوجته خديجة، فقال بعضهم كان أول ذكر آمن برسول الله صلى الله عليه
وسلم علي بن أبي طالب عليه السلام.
2 / 210 ونقل عن الواقدي قال: اجتمع أصحابنا على أن أول أهل القبلة
استجاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة ثم اختلف عندنا في ثلاثة
نفر في أبي بكر وعلي وزيد بن حارثة أيهم أسلم أول.
2 / 215.
وقال ابن إسحاق: أسلم علي وكتم إسلامه ولم يظهره قريبا من شهر
وقال القرظي أول من أظهر الاسلام أبو بكر وكان علي يكتم إسلامه..(أنظر
الطبري 2 / 210 وما بعدها ودلائل سيرة ابن هشام 1 / 262 - البيهقي 2 /
160 وما بعدها).
(*)
(3/25)
الارض (1).
وقال أبو عوانة عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
قال: [ ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن وما رآهم ] (2)
انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد
حيل بين الشياطين، وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين
إلى قومهم، فقالوا ما لكم ؟ قالوا حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت
علينا الشهب، فقالوا: ما ذاك إلا من شئ حدث (3) فاضربوا مشارق الارض
ومغاربها، فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة وهو بنخل عامدين إلى سوق
عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له،
فقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء فرجعوا إلى قومهم فقالوا:
يا قومنا: (إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك
بربنا أحدا) [ الجن: 2 ] فأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم: (قل
أوحى إلي أنه استمع نفر من الجن) [ أول سورة الجن ] الآية.
أخرجاه في الصحيحين (4) وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا محمد بن فضيل،
عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
قال: إنه لم تكن قبيلة من الجن إلا ولهم مقاعد للسمع فإذا نزل الوحي
سمعت الملائكة صوتا كصوت الحديدة ألقيتها على الصفا (5)، قال: فإذا
سمعت الملائكة خروا سجدا فلم يرفعوا رؤسهم حتى ينزل، فإذا نزل قال
بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم ؟ فإن كان مما يكون في السماء قالوا الحق
وهو العلي الكبير، وإن كان مما يكون في الارض من أمر الغيب أو موت أو
شئ مما يكون في الارض تكلموا به فقالوا يكون كذا وكذا فتسمعه الشياطين
فينزلونه على أوليائهم فلما بعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم دحروا
بالنجوم فكان أول من علم بها ثقيف فكان ذو الغنم منهم ينطلق إلى غنمه
فيذبح كل يوم شاة، وذا الابل فينحر كل يوم بعيرا فأسرع الناس في
أموالهم فقال بعضهم لبعض: لا تفعلوا فإن كانت النجوم التي يهتدون بها
وإلا فإنه لامر حدث فنظروا فإذا النجوم التي يهتدى بها كما هي لم يزل
منها شئ فكفوا وصرف الله الجن فسمعوا القرآن فلما حضروه قالوا:
انصتوا وانطلقت الشياطين إلى إبليس فأخبروه.
فقال: هذا حدث حدث في الارض فأتوني من كل أرض بتربة فأتوه بتربة تهامة
(6) فقال ههنا الحدث.
ورواه البيهقي والحاكم من طريق حماد بن (هامش 26) (1) أخرجه أحمد في
مسنده.
(2) من صحيح مسلم.
ولم ترد العبارة في البحاري.
(3) العبارة في دلائل البيهقي: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شئ
حدث.
(4) صحيح البخاري: 65 كتاب التفسير تفسير سورة الجن فتح الباري 8 /
669.
صحيح مسلم في 4 كتاب الصلاة 33 باب ح 149 ص: 1 / 3331.
وأخرجه الترمذي في تفسير سورة الجن وقال: حسن صحيح.
وأخرجه النسائي في سننه في كتاب التفسير.
(5) في البيهقي: صوت كإمرار السلسلة على الصفوان.
(6) في البيهقي: بتربة مكة رواه البيهقي بتغيير في التعابير والالفاظ
في الدلائل ج 2 / 240 - 241.
(*)
(3/26)
سلمة عن عطاء
بن السائب.
وقال الواقدي: حدثني أسامة بن زيد بن أسلم، عن عمر بن عبدان العبسي، عن
كعب قال: لم يرم بنجم منذ رفع عيسى حتى تنبأ رسول الله صلى الله عليه
وسلم فرمى بها فرأت قريش أمرا لم تكن تراه فجعلوا يسيبون أنعامهم
ويعتقون أرقاءهم يظنون أنه الفناء، فبلغ ذلك من فعلهم أهل الطائف ففعلت
ثقيف مثل ذلك فبلغ عبد ياليل بن عمرو ما صنعت ثقيف.
قال: ولم فعلتم ما أرى ؟ قالوا رمى بالنجوم فرأيناها تهافت من السماء
فقال: إن إفادة المال بعد ذهابه شديد فلا تعجلوا وانظروا: فإن تكن
نجوما تعرف فهو عندنا من فناء الناس وإن كانت نجوما لا تعرف فهو لامر
قد حدث فنظروا فإذا هي لا تعرف فأخبروه فقال الامر فيه مهلة بعد هذا
عند ظهور نبي.
فما مكثوا إلا يسيرا حتى قدم عليهم أبو سفيان بن حرب إلى أمواله فجاء
عبد ياليل فذاكره أمر النجوم فقال أبو سفيان: ظهر محمد بن عبد الله
يدعي أنه نبي مرسل، فقال عبد
ياليل فعند ذلك رمى بها.
وقال سعيد بن منصور عن خالد عن (1) حصين عن عامر الشعبي.
قال: كانت النجوم لا يرمى بها حتى بعث [ الله ] (2) رسول الله صلى الله
عليه وسلم [ فرمي بها ] (2) صلى الله عليه وسلم فسيبوا أنعامهم وأعتقوا
رقيقهم.
فقال عبد ياليل: أنظروا فإن كانت النجوم التي تعرف فهي (3) عند فناء
الناس وإن كانت لا تعرف فهو لامر قد حدث فنظروا فإذا هي لا تعرف.
قال: فأمسكوا فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى جاءهم خروج النبي صلى الله عليه
وسلم.
وروى البيهقي والحاكم من طريق العوفي (4) عن ابن عباس قال: لم تكن سماء
الدنيا تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما وسلامه.
فلعل مراد من نفى ذلك أنها لم تكن تحرس حراسة شديدة ويجب حمل ذلك على
هذا لما ثبت في الحديث من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن علي بن
الحسين عن ابن عباس رضي الله عنهما: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم
جالس [ في نفر من أصحابه ] (5) إذ رمى بنجم فاستنار فقال: " ما كنتم
تقولون (6) إذا رمى بهذا ؟ " قال كنا نقول مات عظيم، وولد عظيم فقال: "
لا ولكن ".
فذكر الحديث كما تقدم عند خلق السماء وما فيها من الكواكب في أول بدء
الخلق ولله الحمد (7).
وقد ذكر ابن إسحاق في السيرة قصة رمي النجوم وذكر عن كبير ثقيف أنه قال
لهم في النظر
__________
(1) في نسخ البداية المطبوعة " بن " وهو تحريف وما أثبتناه من دلائل
النبوة للبيهقي حيث نقل الخبر.
(ج 2 / 241).
(2) من دلائل النبوة.
(3) في نسخ البداية المطبوعة: " فهو " وهو تحريف، وأثبتنا ما في
الدلائل.
(4) في دلائل البيهقي 2 / 241: قال أخبرنا محمد بن سعد بن محمد العوفي،
قال حدثني أبي، قال: حدثني عمر الحسين بن الحسن بن عطية قال: حدثني أبي
عن أبيه عطية بن سعد عن ابن عباس.
(5) ما بين معكوفين استدركت من الدلائل.
(6) أي ما كنتم تقولون في الجاهلية ؟ (7) راجع الحديث في سيرة ابن هشام
ج 1 / 220.
وتفسير قوله (لا ولكن).
(*)
(3/27)
في النجوم: إن
كانت أعلام السماء أو غيرها ولكن سماه عمرو بن أمية (1) فالله أعلم.
وقال السدي لم تكن السماء تحرس إلا أن يكون في الارض نبي أو دين لله
ظاهر وكانت الشياطين قبل محمد صلى الله عليه وسلم قد اتخذت المقاعد في
سماء الدنيا يستمعون ما يحدث في السماء من أمر فلما بعث الله محمدا صلى
الله عليه وسلم نبيا رجموا ليلة من الليالي، ففزع لذلك أهل الطائف.
فقالوا: هلك أهل السماء لما رأوا من شدة النار في السماء واختلاف الشهب
فجعلوا يعتقون أرقاءهم، ويسيبون مواشيهم.
فقال لهم عبد ياليل بن عمرو بن عمير: ويحكم يا معشر أهل الطائف أمسكوا
عن أموالكم وانظروا إلى معالم النجوم فإن رأيتموها مستقرة في أمكنتها
فلم يهلك أهل السماء وإنما هو من ابن أبي كبشة، وإن أنتم لم تروها فقد
أهلك أهل السماء فنظروا فرأوها فكفوا عن أموالهم وفزعت الشياطين في تلك
الليلة فأتوا إبليس فقال: ائتوني من كل أرض بقبضة من تراب فأتوه فشم
فقال صاحبكم بمكة فبعث سبعة نفر من جن نصيبين فقدموا مكة فوجدوا رسول
الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الحرام (2) يقرأ القرآن، فدنوا منه
حرصا على القرآن حتى كادت كلا كلهم تصيبه ثم أسلموا فأنزل الله أمرهم
على نبيه صلى الله عليه وسلم.
وقال الواقدي: حدثني محمد بن صالح عن ابن أبي حكيم - يعني إسحاق - عن
عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال: لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم
أصبح كل صنم منكسا فأتت الشياطين فقالوا له ما على الارض من صنم إلا
وقد أصبح منكسا، قال هذا نبي قد بعث فالتمسوه في قرى الارياف فالتمسوه
فقالوا: لم نجده، فقال: أنا صاحبه فخرج يلتمسه فنودي عليك بجنبة الباب
- يعني مكة - فالتمسه بها فوجده بها عند قرن الثعالب فخرج إلى الشياطين
فقال: إني قد وجدته معه جبريل فما عندكم ؟ قالوا: نزين الشهوات في عين
أصحابه ونحبها إليهم قال: فلا آسى إذا.
وقال الواقدي حدثني طلحة بن عمرو عن ابن أبي مليكة عن عبد الله بن عمرو
قال لما كان اليوم الذي تنبأ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم منعت
الشياطين من السماء ورموا بالشهب فجاؤا إلى إبليس فذكروا ذلك له فقال:
أمر قد حدث هذا نبي قد خرج عليكم بالارض المقدسة مخرج بني إسرائيل،
قال: فذهبوا إلى الشام ثم رجعوا إليه فقالوا ليس بها أحد فقال إبليس
أنا صاحبه فخرج في طلبه بمكة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء
منحدرا معه جبريل فرجع إلى أصحابه فقال: قد بعث أحمد ومعه
جبريل فما عندكم ؟ قالوا: الدنيا نحببها إلى الناس قال فذاك إذا.
قال الواقدي: وحدثني طلحة بن عمرو عن عطاء عن ابن عباس.
قال: كانت الشياطين يستمعون الوحي فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم
منعوا فشكوا ذلك إلى إبليس فقال: لقد حدث أمر فرقي فوق أبي قبيس - وهو
أول جبل وضع على وجه الارض - فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي
خلف المقام.
فقال: اذهب فاكسر عنقه.
فجاء يخطر وجبريل عنده، فركضه جبريل ركضة طرحه في كذا وكذا فولى
الشيطان هاربا.
ثم
__________
(1) نقل الخبر ابن سعد في الطبقات 1 / 163 عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة
بن الاخنس، وفيه عمرو بن أمية.
(2) في دلائل البيهقي من رواية عطية بن سعد عن ابن عباس: ببطن نخلة.
والخبر في سبل الهدى والرشاد 2 / 267.
(*)
(3/28)
رواه الواقدي
وأبو أحمد الزبيري كلاهما عن رباح بن أبي معروف، عن قيس بن سعد، عن
مجاهد فذكر مثل هذا وقال فركضه برجله فرماه بعدن.
فصل في كيفية إتيان الوحي إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم قد تقدم كيفية ما جاءه جبريل في أول مرة،
وثاني مرة أيضا وقال مالك عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة رضي الله
عنها.
إن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي ؟ فقال: " أحيانا يأتيني مثل صلصلة
(1) الجرس - وهو أشده علي - - فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحيانا
يتمثل لي الملك رجلا يكلمني فأعي ما يقول ".
قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته صلى الله عليه وسلم ينزل عليه
الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه وأن جبينه ليتفصد عرقا أخرجاه
في الصحيحين من حديث مالك به (2) ؟ ورواه الامام أحمد عن عامر بن صالح
عن هشام بن عروة به نحوه.
وكذا رواه عبدة بن سليمان وأنس بن عياض عن هشام بن عروة، وقد رواه أيوب
السختياني عن هشام عن أبيه عن الحارث بن هشام أنه قال سألت رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقلت كيف يأتيك الوحي ؟ فذكره، ولم يذكر عائشة.
وفي حديث الافك قالت
عائشة: فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خرج أحد من أهل
البيت حتى أنزل عليه.
فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حتى أنه كان يتحدر منه مثل الجمان من
العرق، وهو في يوم شات من ثقل الوحي الذي نزل عليه.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرني يونس بن سليم، قال: أملى
علي يونس بن يزيد، عن ابن شهاب عن عروة عن (3) عبد الرحمن بن عبدالقاري
سمعت عمر بن الخطاب يقول: كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه
وسلم الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل،
__________
(1) في نسخة البداية المطبوعة صلصلة وهو تحريف، وما أثبتنا من صحيح
البخاري.
(2) صحيح البخاري - كتاب بدء الوحي 2 باب حديث 2 فتح الباري 1 / 14.
ومسلم في 43 كتاب الفضائل 23 باب ح 87 ص 1817.
ومالك في الموطأ في 15 كتاب القرآن 4 باب.
- صلصلة الجرس: في الاصل: صوت وقوع الحديد بعضه على بعض.
وقال الخطابي: يريد أنه صوت متدارك يسمعه ولا يتبينه أول ما يسمعه حتى
يفهمه بعد.
وقيل هو صوت حفيف أجنحة الملك.
- فيفصم عني، وعند مسلم: ثم يفصم عني.
قال الخطابي: " قال العلماء: الفصم هو القطع من غير إبانة.
وأما القصم فهو القطع مع الابانة والانفصال.
ومعنى الحديث: ان الملك يفارقة على أن يعود، ولا يفارقه مفارقة قاطع لا
يعود ".
(3) في نسخ البداية المطبوعة: عروة بن عبد الرحمن وهو تحريف، وفي دلائل
البيهقي: عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن.
(*)
(3/29)
وذكر تمام
الحديث (1) في نزول: (قد أفلح المؤمنون) وكذا رواه الترمذي والنسائي من
حديث عبد الرزاق، ثم قال النسائي: منكر لا نعرف أحدا رواه غير يونس بن
سليم، ولا نعرفه (2).
وفي صحيح مسلم وغيره من حديث الحسن عن حطان بن عبد الله الرقاشي عن
عبادة بن الصامت.
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي كربه ذلك
وتربد وجهه - وفي رواية وغمض عينيه - وكنا نعرف ذلك منه (3).
وفي الصحيحين حديث زيد بن ثابت حين نزلت: (لا
يستوى القاعدون من المؤمنين) فلما شكى ابن أم مكتوم ضرارته نزلت: (غير
أولى الضرر) (4).
قال وكانت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي وأنا أكتب فلما
نزل الوحي كادت فخذه ترض فخذي.
وفي صحيح مسلم من حديث همام بن يحيى، عن عطاء، عن يعلى بن أمية.
قال: قال لي عمر: أيسرك أن تنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وهو
يوحى إليه ؟ فرفع طرف الثوب عن وجهه وهو يوحى إليه بالجعرانة، فإذا هو
محمر الوجه.
وهو يغط كما يغط البكر.
وثبت في الصحيحين من حديث عائشة لما نزل الحجاب، وأن سودة خرجت بعد ذلك
إلى المناصع ليلا، فقال عمر: قد عرفناك يا سودة.
فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته وهو جالس يتعشى والعرق
في يده، فأوحى الله إليه والعرق في يده، ثم رفع رأسه فقال: " إنه قد
أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن ".
فدل هذا على أنه لم يكن الوحي يغيب عنه إحساسه بالكلية، بدليل أنه جالس
ولم يسقط العرق أيضا من يده صلوات الله وسلامه دائما عليه.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا عباد بن منصور، حدثنا عكرمة، عن ابن
عباس.
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي تربد لذلك
جسده ووجهه وأمسك عن أصحابه ولم يكلمه أحد منهم.
وفي مسند أحمد وغيره من حديث ابن لهيعة حدثني يزيد بن أبي حبيب عن عمرو
بن الوليد عن عبد الله بن عمرو قلت: يا
__________
(1) تمام الحديث في مسند أحمد ج 1 / 34.
(2) عبارة النسائي: لا أعرفه، والمعنى هنا يقتضي إدخال الترمذي فيه،
والحديث رواه الترمذي في جامعه 4 / 151 - 152 وقال: من سمع عبد الرزاق
قديما فإنهم يذكرون فيه عن يونس بن يزيد وبعضهم لا يذكر فيه عن يزيد بن
يونس ومن ذكر فيه يونس بن يزيد فهو أصح ".
ويونس " الصنعاني " ذكره ابن حبان في الثقات، قال في التهذيب عن
النسائي: ثقة.
وصحح الحديث الحاكم ووافقه الذهبي وهذا دليل على توثيق يونس بن سليم
الذي روى عن يونس بن يزيد.
(3) صحيح مسلم في 43 كتاب الفضائل 23 باب ح 88 ص 4 / 1817، وأعاده مسلم
في 29 كتاب الحدود 3 باب ح 13 ص 3 / 1316.
وأخرجه أحمد في مسنده 5 / 317 - 318 - 331 - 337.
- تريد وجهه: يعني تغير وعلته غبرة وإنما حصل ذلك لعظم موقع الوحي
وشدته.
(4) رواه الهيثمي عن زيد بن أرقم في مجمع الزوائد 7 / 9 وقال رواه
الطبراني ورجاله ثقات.
ورواه أيضا عن ابن عباس وفيه: أنها في قوم كانوا على عهد رسول الله صلى
الله عليه وسلم لا يغزون معه لاسقام وأمراض وأوجاع وآخرون أصحاء..فكان
المرضى في عذر من الاصحاء وقال: رواه الطبراني من طريقين ورجال أحدهما
ثقات.
(3/30)
رسول الله هل
تحس بالوحي ؟ قال: " نعم اسمع صلاصل ثم أثبت عند ذلك، وما من مرة يوحى
إلي إلا ظننت أن نفسي تفيظ منه ".
وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا إبراهيم بن الحجاج، حدثنا عبد الواحد بن
زياد، حدثنا عاصم بن كليب، حدثنا أبي عن خاله العليان بن عاصم.
قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه، وكان إذا أنزل
عليه دام بصره وعيناه مفتوحة، وفرغ سمعه وقلبه، لما يأتيه من الله
عزوجل (1).
وروى أبو نعيم من حديث قتيبة، حدثنا علي بن غراب، عن الاحوص بن حكيم،
عن أبي عوانة، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة.
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي صدع وغلف
رأسه بالحناء.
هذا حديث غريب جدا.
وقال الامام أحمد حدثنا أبو النضر، حدثنا أبو معاوية سنان، عن ليث، عن
شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد.
قالت: إني لآخذة بزمام العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ
نزلت عليه المائدة كلها، وكادت من ثقلها تدق عضد الناقة (2).
وقد رواه أبو نعيم من حديث الثوري عن ليث بن أبي سليم به.
وقال الامام أحمد أيضا: حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثني جبر بن عبد
الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو قال: أنزلت على
رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المائدة وهو راكب على راحلته، فلم
تستطع أن تحمله فنزل عنها (3).
وروى ابن مردويه من حديث صباح بن سهل عن عاصم الاحول: حدثتني أم عمرو
عن عمها أنه كان في مسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت عليه
سورة المائدة، فاندق عنق الراحلة من ثقلها.
وهذا غريب من هذا الوجه.
ثم قد ثبت في الصحيحين نزول سورة الفتح على رسول الله صلى الله عليه
وسلم مرجعه من الحديبية، وهو على راحلته، فكان يكون تارة وتارة بحسب
الحال والله أعلم (4).
وقد ذكرنا أنواع
الوحي إليه صلى الله عليه وسلم في أول شرح البخاري وما ذكره الحليمي
وغيره من الائمة رضي الله عنهم.
فصل قال الله تعالى: " لا تحرك به
لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه، فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن
علينا بيانه) [ القيامة: 16 - 19 ] وقال تعالى: (ولا تعجل بالقرآن من
قبل أن يقضى إليك وحيه، وقل رب زدني علما) [ طه: 114 ] وكان هذا في
الابتداء، كان عليه السلام من شدة حرصه على أخذه من الملك ما يوحى إليه
عن الله عزوجل ليساوقه في التلاوة، فأمره الله
__________
(1) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد 7 / 9 عن الغلبان بن عاصم.
وقال رواه أبو يعلى والبزار بنحوه والطبراني بنحوه، ورجال أبي يعلى
ثقات.
(2) رواه ؟ الهيثمي في مجمع الزوائد 7 / 13 وقال: وفي رواية رواه أحمد
والطبراني وفيه شهر بن حوشب وهو ضعيف وقد ولق.
(3) رواه الهيثمي وقال: رواه أحمد وفيه ابن لهيعة والاكثر على ضعفه وقد
يحسن حديثه، وبقية رجاله ثقات.
(4) أخرج الحديث البخاري في صحيحه في 65 كتاب التفسير، الحديث 4833 فتح
الباري 8 / 582 عن عبد الله بن مسعود.
وأخرجه مسلم عن أنس في 32 كتاب الجهاد والسير 34 باب حديث 97 ص 1413.
(*)
(3/31)
تعالى أن ينصت
لذلك حتى يفرغ من الوحي، وتكفل له أن يجمعه في صدره، وأن ييسر عليه
تلاوته وتبليغه، وأن يبينه له، ويفسره ويوضحه ويوقفه على المراد منه.
ولهذا قال: (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني
علما) وقال: (لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه) أي في صدرك
(وقرآنه) أي وأن تقرأه (فإذا قرأناه) أي تلاه عليك الملك (فاتبع قرآنه)
أي فاستمع له وتدبره (ثم إن علينا بيانه) وهو نظير قوله (وقل رب زدني
علما).
وفي الصحيحين من حديث موسى بن أبي عائشة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، فكان
يحرك شفتيه، فأنزل الله (لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه
وقرآنه) قال: جمعه في صدرك ثم تقرأه: (فإذا قرأناه فاتبع
قرآنه) فاستمع له وأنصت (ثم إن علينا بيانه) قال فكان إذا أتاه جبريل
أطرق، فإذا ذهب قرأه كما وعده الله عزوجل (1).
فصل قال ابن إسحاق: ثم تتابع الوحي
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو [ مؤمن بالله ] مصدق بما جاءه
منه، قد قبله بقبوله وتحمل منه ما حمله - على رضا العباد وسخطهم -
وللنبوة أثقال ومؤنة، لا يحملها ولا يستضلع بها إلا أهل القوة والعزم
من الرسل، بعون الله وتوفيقه لما يلقون من الناس، وما يرد عليهم مما
جاؤا به عن الله عزوجل فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما أمر
الله، على ما يلقى من قومه من الخلاف والاذى.
قال ابن إسحاق: وآمنت خديجة بنت خويلد وصدقت بما جاءه من الله ووازرته
على أمره، وكانت أول من آمن بالله وبرسوله، وصدقت بما جاء منه، فخفف
الله بذلك عن رسوله [ صلى الله عليه وسلم ]، لا يسمع شيئا [ مما ]
يكرهه من رد عليه، وتكذيب له، فيحزنه ذلك، إلا فرج الله عنه بها إذا
رجع إليها، تثبته وتخفف عنه، وتصدقه وتهون عليه أمر الناس، رضي الله
عنها وأرضاها.
قال ابن إسحاق: وحدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن جعفر [ بن
أبي طالب رضي الله عنه ].
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أبشر خديجة ببيت من
قصب، لا صخب فيه ولا نضب ".
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من حديث هشام (2).
قال ابن
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي 1 / 4 وفي كتاب التوحيد 9 / 187
من طريق قتيبة بن سعيد.
وأخرجه مسلم في 4 كتاب الصلاة 32 باب ح 148 ص 1 / 330.
والترمذي مختصرا في كتاب التفسير 5 / 430 وقال حسن صحيح.
والنسائي في الافتتاح 2 / 149.
وابن حبان في صحيحه في (2) كتاب الوحي ح (39).
- (ثم إن علينا بيانه): أي تفسير ما فيه من الحدود والحلال والحرام
قاله قتادة.
كما جاء في تفسير القرطبي 19 / 106.
(2) الخبر في سيرة ابن هشام ج 1 / 257.
وما بين معكوفتين في الخبر زيادة من السيرة.
والحديث هنا مرسل، وقد = (*)
(3/32)
هشام: القصب
هاهنا اللؤلؤ المجوف.
قال ابن إسحاق: وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر جميع ما أنعم
الله به عليه وعلى العباد من النبوة سرا إلى من يطمئن إليه من أهله.
وقال موسى بن عقبة عن الزهري: كانت خديجة أول من آمن بالله وصدق رسوله،
قبل أن تفرض الصلاة.
قلت: يعني الصلوات الخمس ليلة الاسراء.
فأما أصل الصلاة فقد وجب في حياة خديجة رضي الله عنها كما سنبينه.
وقال ابن إسحاق: وكانت خديجة أول من آمن بالله ورسوله، وصدق بما جاء
به.
ثم أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم [ وهو بأعلى مكة ] (1)
حين افترضت عليه الصلاة فهمز له بعقبه في ناحية الوادي، فانفجرت له عين
من ماء زمزم (2)، فتوضأ جبريل ومحمد عليهما السلام، ثم صلى (3) ركعتين
وسجد أربع سجدات، ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم وقد أقر الله عينه،
وطابت نفسه، وجاءه ما يحب من الله، فأخذ يد خديجة حتى أتى بها إلى
العين، فتوضأ كما توضأ جبريل، ثم ركع ركعتين وأربع سجدات، ثم كان هو
وخديجة يصليان سرا (4).
قلت: صلاة جبريل هذه غير الصلاة التي صلاها به عند البيت مرتين، فبين
له أوقات الصلوات الخمس، أولها وآخرها، فإن ذلك كان بعد فرضيها ليلة
الاسراء، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله وبه الثقة، وعليه التكلان.
__________
(1) = أخرجاه عن هشام عن عائشة قالت: ما غرت على امرأة لرسول الله صلى
الله عليه وسلم ما غرت على خديجة مما كنت أسمع من ذكره لها، وما تزوجني
إلا بعد موتها بثلاث سنين، ولقد أمره ربه أن يبشرها ببيت في الجنة من
قصب لا نصب فيه ولا صخب.
أخرجه البخاري في 63 كتاب المناقب 20 باب حديث 3817 وأخرجه مسلم في
فضائل الصحابة حديث 71، 72، 73.
والامام أحمد في مسنده 6 / 58، 202، 279).
(1) ما بين معكوفين سقطت من نسخ البداية المطبوعة ومن دلائل البيهقي
واستدركت من سيرة ابن هشام.
ج 1 / 263 من طريق يونس بن بكير.
(2) في دلائل البيهقي: مزن.
(3) في دلائل البيهقي: صليا.
وسجدا.
(4) الخبر في سيرة ابن هشام بألفاظ وتعابير مختلفة، حافظت على سياق
معنى ما أثبتناه.
وقال السهيلي: هذا الحديث مقطوع في السيرة، ومثله لا يكون أصلا في
الاحكام الشرعية، ولكنه قد روي مسندا إلى زيد بن حارثة يرفعه، غير أن
هذا الحديث المسند يدور على ابن لهيعة، وقد ضعفه ولم يخرجا عنه
(البخاري ومسلم).
وقال السهيلي: " وذكر المزني أن الصلاة قبل الاسراء كانت صلاة قبل غروب
الشمس وصلاة قبل طلوعها ويشهد لهذا القول قوله سبحانه (وسبح بحمد ربك
بالعشي والابكار) وقد قال بهذا طائفة من السلف منهم ابن عباس.
(*)
(3/33)
فصل أول من أسلم من متقدمي الاسلام والصحابة وغيرهم
قال ابن إسحاق: ثم إن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - جاء بعد ذلك
بيوم وهما يصليان.
فقال علي يا محمد ما هذا ؟ قال دين الله الذي اصطفى لنفسه، وبعث به
رسله، فأدعوك إلى الله وحده لا شريك له، وإلى عبادته.
وأن تكفر باللات والعزى.
فقال علي: هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم، فلست بقاض أمرا حتى أحدث به
أبا طالب.
فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفشي عليه سره قبل أن يستعلن
أمره.
فقال له: يا علي إذا لم تسلم فاكتم.
فمكث علي تلك الليلة، ثم إن الله أوقع في قلب علي الاسلام، فأصبح غاديا
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءه فقال ماذا عرضت علي يا محمد
؟ فقال.
له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا
شريك له وتكفر بالات والعزى، وتبرأ من الانداد " ففعل علي وأسلم، ومكث
يأتيه على خوف من أبي طالب وكتم علي إسلامه ولم يظهره، وأسلم ابن حارثة
- يعني زيدا - فمكثا قريبا من شهر يختلف علي إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وكان مما أنعم الله به على علي أنه كان في حجر رسول الله
صلى الله عليه وسلم قبل الاسلام (1).
قال ابن إسحاق: حدثني ابن أبي نجيح عن مجاهد (2).
قال: وكان مما أنعم الله به على علي [ ومما صنع الله له، وأراده به من
الخير ] أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثيرة،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه العباس - وكان من أيسر بني
هاشم - " يا عباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى
من هذه الازمة (3)، فانطلق [ بنا إليه ] حتى نخفف عنه من عياله
"...فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا فضمه إليه، فلم يزل مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله نبيا، فاتبعه علي وآمن به
وصدقه (4).
وقال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق حدثني
__________
(1) نقل الخبر عن ابن اسحاق البيهقي في دلائله 2 / 161 وقال محققه في
هامشه " في سيرة ابن هشام " ولم أجده في ابن هشام بنصه.
(2) وهو مجاهد بن جبر المكي أبو الحجاج المخزومي المقري مولى السائب بن
أبي السائب روى عن علي وسعد بن أبي وقاص والعبادلة الاربعة.
مولده سنة 21 ه ووفاته سنة 104 ه.
وورد في دلائل البيهقي: مجاهد بن مجاهد بن جبر.
وهو خطأ.
وفي الطبري: مجاهد بن جبر أبي الحجاج (تهذيب التهديب - كاشف الذهبي ج
3).
(3) الازمة: الشدة.
هنا سنة القحط.
(4) الخبر في الطبري 2 / 213 دار القاموس - وسيرة ابن هشام 1 / 264.
وما بين معكوفين زيادة استدركت من الطبري وابن هشام.
(*)
(3/34)
يحيى بن أبي
الاشعث الكندي - من أهل الكوفة - حدثني إسماعيل بن أبي إياس (1) بن
عفيف عن أبيه عن جده عفيف - وكان عفيف أخا الاشعث بن قيس لامه - أنه
قال: كنت امرءا تاجرا فقدمت منى أيام الحج، وكان العباس بن عبد المطلب
امرءا تاجرا، فأتيته أبتاع منه وأبيعه، قال فبينا نحن [ عنده ] إذ خرج
رجل من خباء فقام يصلي تجاه الكعبة، ثم خرجت امرأة فقامت [ معه ] تصلي،
وخرج غلام فقام يصلي معه.
فقلت: يا عباس ما هذا الدين ؟ إن هذا الدين ما ندري ما هو فقال: هذا
محمد بن عبد الله يزعم أن الله أرسله [ به ]، وأن كنوز كسرى وقيصر
ستفتح عليه،
وهذه امرأته خديجة بنت خويلد آمنت به، وهذا الغلام ابن عمه علي بن أبي
طالب آمن به.
قال عفيف: فليتني كنت آمنت يومئذ فكنت أكون ثانيا (2).
وتابعه إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق، وقال: في الحديث: إذ خرج رجل من
خباء قريب منه، فنظر إلى السماء فلما رآها قد مالت قام يصلي.
ثم ذكر قيام خديجة وراءه.
وقال ابن جرير حدثني محمد بن عبيد المحاربي حدثنا سعيد بن خثيم عن أسد
بن عبدة البجلي عن يحيى بن عفيف [ عن عفيف ] قال: جئت زمن الجاهلية إلى
مكة، فنزلت على العباس بن عبد المطلب، فلما طلعت الشمس وحلقت في السماء
وأنا أنظر إلى الكعبة، أقبل شاب فرمى ببصره إلى السماء، ثم استقبل
الكعبة فقام مستقبلها فلم يلبث حتى جاء غلام فقام عن يمينه، فلم يلبث
حتى جاءت امرأة فقامت خلفهما، فركع الشاب فركع الغلام والمرأة، فرفع
الشاب فرفع الغلام والمرأة فخر الشاب ساجدا فسجدا معه، فقلت يا عباس
أمر عظيم ! فقال أمر عظيم.
فقال أتدري من هذا ؟ فقلت لا، فقال هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب
ابن أخي، أتدري من الغلام ؟ قلت لا.
قال هذا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أتدري من هذه المرأة التي
خلفهما ؟ قلت لا، قال هذه خديجة بنت خويلد زوجة ابن أخي.
وهذا حدثني أن ربك رب السماء والارض أمره بهذا الذي تراهم عليه، وايم
الله ما أعلم على ظهر الارض كلها أحدا على هذا الدين غير هؤلاء
الثلاثة.
وقال ابن جرير حدثني ابن حميد حدثنا عيسى بن سوادة بن أبي الجعد (3)
حدثنا محمد بن المنكدر وربيعة بن أبي عبد الرحمن وأبو حازم والكلبي.
قالوا: علي أول من أسلم.
قال الكلبي: أسلم وهو ابن تسع سنين.
وحدثنا ابن حميد حدثنا سلمة عن ابن إسحاق.
قال: أول ذكر آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى معه وصدقه علي بن
__________
(1) في الطبري والبيهقي بن إياس.
(2) في الطبري ودلائل البيهقي: ثالثا.
وهو مناسب أكثر، وفي رواية أخرى في الطبري: رابعا.
والخبر نقله الطبري في تاريخه 2 / 212 والبيهقي في دلائلة 2 / 163
وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير عن علي بن المديني، والحاكم في
المستدرك وقال: " هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه " ووافقه الذهبي.
ورواه ابن عبد البر في الاستيعاب.
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد، وأبو يعلى بنحوه، والطبراني
بأسانيده ورجال أحمد
ثقات 9 / 103.
وما بين معكوفتين في الحديث زيادة من الطبري.
(3) في الطبري: بن الجعد، بدل ابن أبي الجعد، وكلاهما صواب كما في
تقريب التهذيب 1 / 339.
(*)
(3/35)
أبي طالب، وهو
ابن عشر سنين وكان في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الاسلام
(1).
قال الواقدي أخبرنا إبراهيم عن نافع عن ابن أبي نجيح عن مجاهد.
قال: أسلم علي وهو ابن عشر سنين قال الواقدي: وأجمع أصحابنا على أن
عليا أسلم بعد ما تنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنة (2).
وقال محمد بن كعب: أول من أسلم من هذه الامة خديجة وأول رجلين أسلما
أبو بكر وعلي، وأسلم علي قبل أبي بكر، وكان علي يكتم إيمانه خوفا من
أبيه، حتى لقيه أبوه قال اسلمت ؟ قال: نعم ! قال وازر ابن عمك وانصره.
قال: وكان أبو بكر الصديق أول من أظهر الاسلام (3).
وروى ابن جرير في تاريخه من حديث شعبة عن أبي بلج عن عمرو بن ميمون عن
ابن عباس.
قال: أول من صلى علي.
وحدثنا عبد الحميد بن يحيى (4) حدثنا شريك عن عبد الله بن محمد بن عقيل
عن جابر.
قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين وصلى علي يوم الثلاثاء
وروى من حديث شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي حمزة - رجل من الانصار - سمعت
زيد بن أرقم يقول: أول من أسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن
أبي طالب قال فذكرته للنخعي فأنكره.
وقال: أبو بكر أول من أسلم.
ثم قال: حدثنا عبيدالله بن موسى حدثنا العلاء بن المنهال بن عمرو عن
عباد بن عبد الله سمعت عليا يقول: أنا عبد الله وأخو رسوله وأنا الصديق
الاكبر، لا يقولها بعدي إلا كاذب مفتر، صليت قبل الناس بسبع سنين وهكذا
رواه ابن ماجه عن محمد بن إسماعيل الرازي عن عبيدالله بن موسى الفهمي -
وهو شيعي من رجال الصحيح - عن العلاء بن صالح الازدي الكوفي - وثقوه،
ولكن قال أبو حاتم: كان من عتق الشيعة - وقال علي بن المديني روى
أحاديث مناكير والمنهال بن عمرو ثقة.
وأما شيخه عباد بن عبد الله - وهو الاسدي الكوفي - فقد قال فيه علي بن
المديني هو ضعيف الحديث، وقال البخاري فيه نظر.
وذكره ابن حبان في الثقات، وهذا الحديث منكر بكل حال، ولا يقوله علي
رضي الله عنه، وكيف يمكن أن يصلي قبل الناس بسبع سنين ؟ هذا لا يتصور
أصلا
والله أعلم.
وقال آخرون: أول من أسلم من هذه الامة أبو بكر الصديق، والجمع بين
الاقوال كلها أن خديجة أول من أسلم من النساء وظاهر السباقات - وقيل
الرجال أيضا - وأول من أسلم من الموالي زيد بن حارثة، وأول من أسلم من
الغلمان علي بن أبي طالب.
فإنه كان صغيرا دون البلوغ على المشهور، وهؤلاء كانوا إذ ذاك أهل
البيت.
وأول من أسلم من الرجال الاحرار أبو بكر الصديق، وإسلامه كان أنفع من
إسلام من تقدم ذكرهم إذ كان صدرا معظما، ورئيسا في قريش
__________
(1) الخبر في الطبري 1 / 213 وسيرة ابن هشام 1 / 262.
(2) الطبري 2 / 214.
(3) نقل الخبر البيهقي في الدلائل 2 / 163.
(4) في الطبري: ابن بحر.
أبو بلج: بفتح أوله وسكون اللام بعدها جيم، الفزاري، الكوفي ثم الواسطي
الكبير اسمه يحيى بن سليم أو ابن أبي سليم أو ابن أبي الاسود، صدوق.
تقريب التهذيب 2 / 401.
(*)
(3/36)
مكرما، وصاحب
مال، وداعية إلى الاسلام.
وكان محببا متألفا (1) يبذل المال في طاعة الله ورسوله كما سيأتي
تفصيله.
قال يونس عن ابن إسحاق ثم إن أبا بكر الصديق لقي رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال: أحق ما تقول قريش يا محمد ؟ من تركك آلهتنا، وتسفيهك
عقولنا، وتكفيرك آبائنا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بلى
إني رسول الله ونبيه، بعثني لابلغ رسالته وأدعوك إلى الله بالحق،
فوالله إنه للحق، أدعوك يا أبا بكر إلى الله وحده لا شريك له، ولا تعبد
غيره، والموالاة على طاعته " وقرأ عليه القرآن، فلم يقر ولم ينكر.
فأسلم وكفر بالاصنام، وخلع الانداد وأقر بحق الاسلام، ورجع أبو بكر وهو
مؤمن مصدق.
قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين
التميمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما دعوت أحدا إلى
الاسلام إلا كانت عنده كبوة وتردد ونظر، إلا أبا بكر ما عكم عنه (2)
حين ذكرته، ولا تردد فيه " (3) عكم - أي تلبث - وهذا الذي ذكره ابن
إسحاق في
قوله فلم يقر ولم ينكر، منكر فإن ابن إسحاق وغيره ذكروا أنه كان صاحب
رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وكان يعلم من صدقه وأمانته
وحسن سجيته وكرم أخلاقه، ما يمنعه من الكذب على الخلق.
فكيف يكذب على الله ؟ ولهذا بمجرد ما ذكر له إن الله أرسله بادر إلى
تصديقه ولم يتلعثم، ولا عكم وقد ذكرنا كيفية إسلامه في كتابنا الذي
أفردناه في سيرته وأوردنا فضائله وشمائله واتبعنا ذلك بسيرة الفاروق
أيضا وأوردنا ما رواه كل منهما عن النبي صلى الله عليه وسلم من
الاحاديث، وما روي عنه من الآثار والاحكام والفتاوى، فبلغ ذلك ثلاث
مجلدات ولله الحمد والمنة.
وقد ثبت في صحيح البخاري عن أبي الدرداء في حديث ما كان بين أبي بكر
وعمر رضي الله عنهما من الخصومة وفيه فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: " إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت، وقال أبو بكر صدق.
وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركوا لي صاحبي " مرتين.
فما أوذي بعدها، وهذا كالنص على أنه أول من أسلم رضي الله عنه وقد روى
الترمذي وابن حبان من حديث شعبة عن سعيد الجريري عن أبي نضرة عن ابي
سعيد.
قال: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: الست أحق الناس بها، ألست أول
من أسلم، ألست صاحب كذا (4) ؟ وروى ابن عساكر من طريق بهلول بن عبيد
حدثنا أبو إسحاق السبيعي عن الحارث سمعت عليا يقول: أول من أسلم من
الرجال أبو بكر الصديق، وأول من صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم من
الرجال علي بن أبي طالب.
وقال شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي حمزة عن زيد بن أرقم قال: أول من صلى
مع النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق.
رواه أحمد والترمذي والنسائي
__________
(1) في ابن هشام: مألفا، والمألف الذي يألفه الانسان.
(2) في دلائل البيهقي: عتم منه.
(3) الخبر في دلائل النبوة للبيهقي 2 / 163 - 164 عن ابن اسحق، ولم أجد
نص الحديث في سيرة ابن هشام، إنما الجزء الاخير منه، قال: وكان رسول
الله يقول فيما بلغني.
(4) في جامع الترمذي 50 كتاب المناقب 16 باب ح 3667.
(*)
(3/37)
من حديث شعبة
وقال الترمذي حسن صحيح وقد تقدم رواية ابن جرير لهذا الحديث من طريق
شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي حمزة عن زيد بن أرقم قال: أول من أسلم علي
بن أبي طالب.
قال عمرو بن مرة فذكرته لابراهيم النخعي فأنكره وقال أول من أسلم أبو
بكر الصديق رضي الله عنه.
وروى الواقدي بأسانيده عن أبي أروى الدوسي وأبي مسلم بن عبد الرحمن في
جماعة من السلف أول من أسلم أبو بكر الصديق.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو بكر الحميدي حدثنا سفيان بن عيينة عن
مالك بن مغول عن رجل قال سئل ابن عباس من أول من آمن ؟ فقال: أبو بكر
الصديق، أما سمعت قول حسان: إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة * فأذكر أخاك
أبا بكر بما فعلا خير البرية أوفاها وأعدلها * بعد النبي وأولاها بما
حملا والتالي الثاني المحمود مشهده * وأول الناس منهم صدق الرسلا عاش
حميدا لامر الله متبعا * بأمر صاحبه الماضي وما انتقلا وقد رواه أبو
بكر بن أبي شيبة حدثنا شيخ لنا عن مجالد عن عامر قال سألت ابن عباس -
أو - سئل ابن عباس - أي الناس أول إسلاما ؟ قال: أما سمعت قول حسان بن
ثابت فذكره وهكذا رواه الهيثم بن عدي عن مجالد عن عامر الشعبي سألت ابن
عباس فذكره (1).
وقال أبو القاسم البغوي حدثني سريج بن يونس حدثنا يوسف بن الماجشون قال
أدركت مشيختنا منهم محمد بن المنكدر، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وصالح
بن كيسان، وعثمان بن محمد، لا يشكون أن أول القوم إسلاما أبو بكر
الصديق رضي الله عنه.
قلت: وهكذا قال إبراهيم النخعي ومحمد بن كعب ومحمد بن سيرين وسعد بن
إبراهيم وهو المشهور عن جمهور أهل السنة.
وروى ابن عساكر عن سعد بن أبي وقاص ومحمد بن الحنفية أنهما قالا: لم
يكن أولهم إسلاما، ولكن كان أفضلهم إسلاما.
قال سعد: وقد آمن قبله خمسة.
وثبت في صحيح البخاري من حديث همام بن الحارث عن عمار بن ياسر.
قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه إلا خمسة أعبد،
وامرأتان، وأبو بكر (2).
وروى الامام أحمد وابن ماجه من حديث عاصم بن أبي النجود عن زر عن ابن
مسعود (3) قال: أول من أظهر الاسلام سبعة
__________
(1) نقل الخبر الطبري في تاريخه 2 / 214، وذكر الابيات ما عدا البيت
الرابع ورواه الهيثمي في زوائده 9 / 43 وقال: رواه الطبراني وفيه
الهيثم بن عدي وهو متروك (2) رواه البخاري في كتاب المناقب باب في فضل
أبي بكر، وفي باب إسلام أبي بكر.
ورواه البيهقي في الدلائل من طريقين عن عمار 2 / 167.
(3) الحديث أخرجه ابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك من وجه فيه
زيادة وبنفس الاسناد 3 / 384 وقال: صحيح الاسناد، ولم يخرجاه.
ووافقه الذهبي.
وأخرجه ابن ماجه في المقدمة (11) باب في فضائل أصحاب (*)
(3/38)
رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد.
فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه، وأما أبو بكر منعه
الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدرع الحديد وصهروهم
في الشمس فما منهم من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا، إلا بلالا
فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه، فأخذوه فأعطوه الولدان
فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول أحد أحد.
وهكذا رواه الثوري عن منصور عن مجاهد مرسلا.
فأما ما رواه ابن جرير قائلا: أخبرنا ابن حميد حدثنا كنانة بن حبلة (1)
عن إبراهيم بن طهمان عن حجاج عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن محمد بن
سعد بن أبي وقاص.
قال: قلت لابي: أكان أبو بكر أولكم إسلاما قال: لا ! ولقد أسلم قبله
أكثر من خمسين ولكن كان أفضلنا إسلاما.
فإنه حديث منكر إسنادا ومتنا.
قال ابن جرير وقال آخرون: كان أول من أسلم زيد بن حارثة، ثم روى من
طريق الواقدي عن ابن أبي ذئب، سألت الزهري من أول من أسلم من النساء ؟
قال خديجة، قلت فمن الرجال ؟ قال زيد بن حارثة.
وكذا قال عروة وسليمان بن يسار وغير واحد أول من أسلم من الرجال زيد بن
حارثة.
وقد أجاب أبو حنيفة رضي الله عنه بالجمع بين هذه الاقوال بأن أول من
أسلم من الرجال الاحرار أبو بكر، ومن النساء خديجة، ومن الموالي زيد بن
حارثة، ومن الغلمان علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.
قال محمد بن إسحاق: فلما أسلم أبو بكر وأظهر إسلامه دعا إلى الله
عزوجل، وكان أبو
بكر رجلا مألفا لقومه محببا (2) سهلا، وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم
قريش بما كان فيها من خير وشر.
وكان رجلا تاجرا ذا خلق ومعروف، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير
واحد من الامر، لعلمه وتجارته وحسن مجالسته.
فجعل يدعو إلى الاسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه فأسلم
على يديه - فيما بلغني - الزبير بن العوام، وعثمان بن عفان، وطلحة بن
عبيدالله، وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم،
فانطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعهم أبو بكر.
فعرض عليهم الاسلام وقرأ عليهم القرآن وأنبأهم بحق الاسلام فآمنوا (3)،
وكان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا [ الناس ] (4) في الاسلام صدقوا
رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا بما جاء من عند الله.
وقال محمد بن عمر الواقدي حدثني الضحاك بن عثمان، عن مخرمة بن سليمان
الوالبي، عن إبراهيم بن محمد بن أبي طلحة (5)، قال: قال طلحة بن
__________
= رسول الله صلى الله عليه وسلم ح 150.
وأحمد في مسنده 1 / 440.
وذكره الهيثمي في زوائده وقال: " إسناده ثقات ".
(1) في الطبري: ابن جبلة.
والخبر في تاريخه 2 / 215.
(2) من سيرة ابن هشام والطبري، وفي نسخ البداية المطبوعة والاصول:
محبا.
(3) العبارة في الطبري وسيرة ابن هشام: فجاء بهم إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم حين استجابوا له فأسلموا وصلوا.
(4) سقطت من الاصل والطبري، واستدركت من سيرة ابن هشام.
(5) في دلائل البيهقي وابن سعد: ابن طلحة.
(*)
(3/39)
عبيدالله: حضرت
سوق بصرى فإذا راهب في صومعته يقول: سلوا أهل [ هذا ] الموسم أفيهم رجل
من أهل الحرم ؟ قال طلحة: قلت: نعم أنا، فقال هل ظهر أحمد بعد ؟ قلت
ومن أحمد ؟ قال ابن عبد الله بن عبد المطلب هذا شهره الذي يخرج فيه،
وهو آخر الانبياء مخرجه من الحرم، ومهاجره إلى نخل وحرة وسباخ، فإياك
أن تسبق إليه.
قال طلحة: فوقع في قلبي ما قال، فخرجت سريعا حتى قدمت مكة فقلت هل كان
من حديث (1) ؟ قالوا: نعم محمد بن عبد الله الامين قد تنبأ، وقد اتبعه
أبو بكر بن أبي قحافة.
قال فخرجت حتى قدمت على أبي بكر،
فقلت اتبعت هذا الرجل ؟ قال نعم فانطلق إليه فادخل عليه فاتبعه فإنه
يدعو إلى الحق، فأخبره طلحة بما قال الراهب.
فخرج أبو بكر بطلحة فدخل به على رسول صلى الله عليه وسلم فأسلم طلحة،
وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال الراهب فسر [ رسول الله
صلى الله عليه وسلم ] بذلك.
فلما أسلم أبو بكر وطلحة أخذهما نوفل بن خويلد بن العدوية - وكان يدعى
أسد قريش - فشدهما في حبل واحد ولم يمنعهما بنو تيم فلذلك سمي أبو بكر
وطلحة القرينين.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم اكفنا شر ابن العدوية " رواه
البيهقي (2) وقال الحافظ أبو الحسن خيثمة بن سليمان الاطرابلسي حدثنا
عبيدالله بن محمد بن عبد العزيز العمري قاضي المصيصة حدثنا أبو بكر عبد
الله بن عبيد الله بن إسحاق بن محمد بن عمران بن موسى بن طلحة بن
عبيدالله حدثني أبي عبيد الله حدثني عبد الله [ بن محمد ] بن عمران بن
ابراهيم بن محمد بن طلحة قال حدثني أبي محمد بن عمران عن القاسم بن
محمد بن أبي بكر عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرج أبو بكر يريد رسول
الله صلى الله عليه وسلم وكان له صديقا في الجاهلية، فلقيه فقال يا أبا
القاسم فقدت من مجالس قومك واتهموك بالعيب لآبائها وأمهاتها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني رسول الله ادعوك إلى الله "
فلما فرغ كلامه أسلم أبو بكر فانطلق عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم
وما بين الاخشبين أحد أكثر سرورا منه بإسلام أبي بكر، ومضى أبو بكر
فراح لعثمان بن عفان وطلحة بن عبيدالله والزبير بن العوام وسعد بن أبي
وقاص فأسلموا، ثم جاء الغد بعثمان بن مظعون وأبي عبيدة بن الجراح وعبد
الرحمن بن عوف وأبي سلمة بن عبد الاسد والارقم بن أبي الارقم فأسلموا
رضي الله عنهم.
قال عبد الله بن محمد فحدثني أبي، محمد بن عمران، عن القاسم بن محمد عن
عائشة، قالت: لما اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا ثمانية
وثلاثين رجلا ألح أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور
فقال: " يا أبا بكر إنا قليل " فلم يزل أبو بكر يلح حتى ظهر رسول الله
صلى الله عليه وسلم وتفرق المسلمون في نواحي المسجد كل رجل في عشيرته،
وقام أبو بكر في الناس خطيبا ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فكان
أول خطيب دعا إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم وثار المشركون
على أبي بكر وعلى المسلمين، فضربوا في نواحي المسجد ضربا شديدا ووطئ
أبو بكر وضرب ضربا شديدا ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة فجعل يضربه
بنعلين مخصوفتين ويحرفهما
__________
(1) في البيهقي وابن سعد: حدت.
وهو مناسب أكثر.
(2) الخبر في ابن سعد ج 3 / 215 - 216 ودلائل البيهقي ج 2 / 166 - 167.
(*)
(3/40)
لوجهه، ونزا
على بطن أبي بكر حتى ما يعرف وجهه من أنفه وجاء بنو تيم يتعادون فأجلت
المشركين عن أبي بكر وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله
ولا يشكون في موته، ثم رجعت بنو تيم فدخلوا المسجد وقالوا والله لئن
مات أبو بكر لنقتلن عتبة بن ربيعة، فرجعوا إلى أبي بكر فجعل أبو قحافة
وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجاب.
فتكلم آخر النهار فقال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فمسوا
منه بألسنتهم وعذلوه، ثم قاموا وقالوا لامه أم الخير (1) أنظري أن
تطعميه شيئا أو تسقيه إياه فلما خلت به ألحت عليه وجعل يقول: ما فعل
رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت والله مالي علم بصاحبك.
فقال إذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه، فخرجت حتى جاءت أم
جميل فقالت إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله ؟ فقالت ما أعرف أبا
بكر ولا محمد بن عبد الله وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك قالت
نعم.
فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعا دنفا (2)، فدنت أم جميل وأعلنت
بالصياح وقالت والله إن قوما نالوا هذا منك لاهل فسق وكفر، وإني لارجو
أن ينتقم الله لك منهم.
قال فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت هذه أمك تسمع، قال
فلا شئ عليك منها، قالت سالم صالح.
قال أين هو ؟ قالت في دار ابن الارقم، قال فإن لله على أن لا أذوق
طعاما ولا أشرب شرابا أو آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فامهلتا حتى إذا هدأت الرجل وسكن الناس، خرجتا به يتكئ عليهما حتى
أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فأكب عليه رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقبله وأكب عليه المسلمون، ورق له رسول الله صلى
الله عليه وسلم رقة شديدة.
فقال أبو بكر بأبي وأمي يا رسول الله ليس بي بأس إلا ما نال الفاسق من
وجهي، وهذه أمي برة بولدها، وأنت مبارك فادعها إلى الله وادع الله لها
عسى الله أن يستنقذها بك من النار.
قال فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاها إلى الله فأسلمت،
وأقاموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدار شهرا وهم تسعة
وثلاثون رجلا (3)، وقد كان حمزة بن عبد المطلب أسلم يوم ضرب أبو بكر
(4)، ودعا رسول صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب - أو لابي جهل بن
هشام - فأصبح عمر وكانت الدعوة يوم الاربعاء فأسلم عمر يوم الخميس (5)،
فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) أم الخير: أم أبي بكر، واسمها سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد
بن تيم بن مرة.
(2) رواه ابن عساكر في تهذيبه عن عائشة.
وروى ابن هشام في السيرة عن عبد الله بن عمرو بن العاص يذكر الاذى الذي
لحق النبي صلى الله عليه وسلم من قومه إلى أن قال: وحدثني بعض إلى أم
كلثوم بنت أبي بكر أنها قالت: لقد رجع أبو بكر يومئذ وقد صدعوا فرق
رأسه مما حبذوه بلحيته، وكان رجلا كثير الشعر.
1 / 310.
(3) ذكر أسماءهم ابن إسحاق في السيرة 1 / 269 - 280 وكانوا 54 ما بين
ذكر وأنثى.
(4) قال ابن سعد في الطبقات: نال أبو جهل وعدي بن الحمراء وابن الاصداء
من النبي صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك حمزة، فدخل المسجد فضرب رأس أبي
جهل بالقوس وأسلم حمزة فعز به رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون
وذلك بعد دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم دار أرقم في السنة السادسة
من النبوة.
(5) في طبقات ابن سعد: كانت الدعوة ليلة الاثنين، فجاء عمر من الغد
بكرة فأسلم في دار الارقم.
3 / 242 وعن سعيد بن المسيب قال: أسلم عمر بعد أربعين رجلا وعشر نسوة.
وقال ابن إسحاق: والمسلمون يومئذ بضع وأربعون رجلا وإحدى عشرة امرأة.
(*)
(3/41)
وأهل البيت
تكبيرة سمعت بأعلا مكة، وخرج أبو الأرقم - وهو أعمى كافر - وهو يقول:
اللهم اغفر لبني عبيد الارقم فإنه كفر، فقام عمر فقال يا رسول الله على
ما نخفي ديننا ونحن على الحق ويظهر دينهم وهم على الباطل ؟ قال: " يا
عمر إنا قليل قد رأيت ما لقينا " فقال عمر: فوالذي بعثك بالحق لا يبقى
مجلس جلست فيه بالكفر إلا أظهرت فيه الايمان، ثم خرج فطاف بالبيت، ثم
مر بقريش وهي تنتظره، فقال أبو جهل بن هشام: يزعم فلان أنك صبوت ؟ فقال
عمر: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله.
فوثب المشركون إليه، ووثب على عتبة فبرك عليه وجعل يضربه، وأدخل إصبعه
في عينيه، فجعل عتبة يصيح فتنحى الناس فقام عمر، فجعل لا يدنو منه أحد
إلا أخذ بشريف ممن دنا منه، حتى أعجز الناس.
واتبع المجالس التي كان يجالس فيها فيظهر الايمان، ثم انصرف إلى النبي
صلى الله عليه وسلم وهو ظاهر عليهم.
قال ما
عليك بأبي وأمي والله ما بقي مجلس كنت أجلس فيه بالكفر إلا أظهرت فيه
الايمان غير هائب ولا خائف، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج
عمر أمامه وحمزة بن عبد المطلب حتى طاف بالبيت وصلى الظهر مؤمنا، ثم
انصرف إلى دار الارقم ومعه عمر، ثم انصرف عمر وحده، ثم انصرف النبي صلى
الله عليه وسلم.
والصحيح أن عمر إنما أسلم بعد خروج المهاجرين إلى أرض الحبشة وذلك في
السنة السادسة من البعثة كما سيأتي في موضعه إن شاء الله.
وقد استقصينا كيفية إسلام أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في كتاب سيرتهما
على انفرادها، وبسطنا القول هنالك ولله الحمد.
وثبت في صحيح مسلم من حديث أبي أمامة عن عمرو بن عبسة السلمي (1) رضي
الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول ما بعث وهو
بمكة، وهو حينئذ مستخف، فقلت ما أنت ؟ قال أنا نبي، فقلت وما النبي ؟
قال رسول الله، قلت الله أرسلك ؟ قال: نعم قلت بما أرسلك ؟ قال بأن
تعبد الله وحده لا شريك له وتكسر الاصنام، وتوصل الارحام.
قال: قلت: نعم ما أرسلك به، فمن تبعك على هذا ؟ قال حر وعبد يعني أبا
بكر وبلالا - قال: فكان عمرو يقول: لقد رأيتني وأنا ربع الاسلام.
قال فأسلمت، قلت: فأتبعك يا رسول الله ؟، قال لا ولكن إلحق بقومك، فإذا
أخبرت أني قد خرجت فاتبعني " (2)، ويقال إن معنى قوله عليه السلام حر
وعبد اسم جنس وتفسير ذلك بأبي بكر وبلال فقط فيه نظر، فإنه قد كان
جماعة قد أسلموا قبل عمرو بن عبسة وقد كان زيد بن حارثة أسلم قبل بلال
أيضا فلعله أخبر أنه ربع الاسلام بحسب علمه فإن المؤمنين كانوا إذا ذاك
يستسرون بإسلامهم لا يطلع على أمرهم كثير أحد من قراباتهم دع الاجانب
دع أهل البادية من الاعراب والله أعلم.
وفي صحيح البخاري من طريق أبي أسامة عن هاشم بن هاشم (هامش 42) (1)
عمرو بن عبسة بن خالد بن حذيفة الامام الامير أبو نجيح السلمي البجلي،
أحد السابقين كان يقال هو ربع الاسلام وكان من امراء الجيش يوم اليرموك
ترجمته في الاصابة، طبقات ابن سعد 4 / 214 تهذيب التهذيب 8 / 69.
(2) أخرجه مسلم في 6 كتاب صلاة المسافرين وقصرها (52) باب.
ح 294 ص 569.
(*)
(3/42)
عن سعيد بن
المسيب قال سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: ما أسلم أحد في اليوم الذي
أسلمت فيه، ولقد مكثت سبعة أيام وإني لثلث الاسلام " (1).
أما قوله ما أسلم أحد في اليوم الذي أسلمت فيه فسهل، ويروي إلا في
اليوم الذي أسلمت فيه وهو مشكل، إذ يقتضي أنه لم يسبقه أحد بالاسلام.
وقد علم أن الصديق وعليا وخديجة وزيد بن حارثة أسلموا قبله، كما قد حكى
الاجماع على تقدم إسلام هؤلاء غير واحد، منهم ابن الاثير.
ونص أبو حنيفة رضي الله عنه على أن كلا من هؤلاء أسلم قبل أبناء جنسه
والله أعلم.
وأما قوله ولقد مكثت سبعة أيام وإني لثلث الاسلام فمشكل وما أدري على
ماذا يوضع عليه إلا أن يكون أخبر بحسب ما علمه والله أعلم (2).
وقال أبو داود الطيالسي حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن عبد الله
- وهو ابن مسعود - قال: كنت غلاما يافعا أرعى غنما لعقبة بن أبي معيط
بمكة.
فأتى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وقد فرا من المشركين -
فقال - أو فقالا - عندك يا غلام لبن تسقينا ؟ قلت إني مؤتمن، ولست
بساقيكما فقال هل عندك من جذعة لم ينز عليها الفحل بعد ؟ قلت نعم !
فأتيتهما بها فأعتقلها أبو بكر، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم
الضرع ودعا فحفل الضرع، وأتاه أبو بكر بصخرة متقعرة، فحلب فيها ثم شرب
هو وأبو بكر ثم سقياني، ثم قال للضرع أقلص فقلص، فلما كان بعد أتيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت علمني من هذا القول (3) الطيب -
يعني القرآن - فقال: " إنك غلام معلم " فأخذت من فيه سبعين سورة ما
ينازعني فيها أحد.
وهكذا رواه الامام أحمد عن عفان عن حماد بن سلمة به.
ورواه الحسن بن عرفة عن أبي بكر بن عياش عن عاصم بن أبي النجودبه (4).
وقال
__________
(1) أخرجه البخاري في 62 كتاب فضائل الصحابة (15) باب فتح الباري 7 /
73.
(2) قال الصالحي في السيرة الشامية 2 / 411: قال الحافظ: قال ذلك سعد
بحسب إطلاعه والسبب فيه أنه من كان أسلم في ابتداء الامر كان يخفي
اسلامه ولعله أراد بالاثنين الآخرين خديجة وأبا بكر أو النبي صلى الله
عليه وسلم وأبا بكر وقد كانت خديجة أسلمت قطعا فلعله خص الرجال.
ويحتمل قول سعد على الاحرار البالغين ليخرج الاعبد المذكورون (في حديث
عمار) وعلي رضي الله عنه أو لم يكن اطلع على أولئك.
ويدل على هذا الاخير أنه وقع عند الاسماعيلي من رواية يحيى بن سعيد
الاموي عن هاشم بلفظ: ما أسلم أحد قبلي.
وهذا مقتضى رواية الاصيلي وهي مشكلة لانه قد أسلم قبله جماعة لكن يحتمل
ذلك على مقتضى ما كان اتصل بعلمه حينئذ.
وفي المعرفة لابن منده: ما أسلم أحد في اليوم الذي اسلمت فيه، وهذا لا
إشكال فيه إذ لا مانع أن يشاركه أحد في الاسلام يوم أسلم.
ورواه الخطيب مثل رواية ابن منده فأثبت فيه (إلا) كبقية الروايات فتعين
الحمل على ما قلته.
راجع فتح الباري ج 7 / 67 - 68 دار إحياء التراث العربي بيروت.
(3) في دلائل البيهقي: المقول.
(4) نقل الخبر من طريقيه البيهقي في دلائل النبوة ج 2 / 171 - 172
وأحمد في مسنده ج 1 / 379 والفسوي في المعرفة والتاريخ ج 2 / 537.
(*)
(3/43)
البيهقي أخبرنا
أبو عبد الله الحافظ حدثنا أبو عبد الله بن بطة الاصبهاني، حدثنا الحسن
بن الجهم [ قال ]: حدثنا الحسين بن الفرج [ قال ] حدثنا محمد بن عمر [
قال ] حدثني جعفر بن محمد بن خالد بن الزبير عن أبيه - أو عن محمد بن
عبد الله بن عمرو بن عثمان -.
قال: كان إسلام خالد بن سعيد بن العاص قديما وكان أول إخوته أسلم.
وكان بدء إسلامه أنه رأى في المنام أنه وقف به على شفير النار، فذكر من
سعتها ما الله أعلم به.
ويرى في النوم كأن آت (1) أتاه يدفعه فيها ويرى رسول الله صلى الله
عليه وسلم آخذا بحقويه لا يقع، ففزع من نومه، فقال أحلف بالله إن هذه
لرؤيا حق، فلقي أبا بكر بن أبي قحافة فذكر ذلك له، فقال [ أبو بكر ]
أريد بك خيرا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه فإنك ستتبعه
وتدخل معه في الاسلام، والاسلام يحجزك أن تدخل فيها وأبوك واقع فيها.
فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بأجياد، فقال يا رسول الله يا
محمد إلى ما تدعو ؟ قال: " أدعوك إلى الله وحده لا شريك له وأن محمدا
عبده ورسوله، وتخلع ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع، ولا يضر، ولا
يبصر، ولا ينفع، ولا يدري من عبده ممن لا يعبده ".
قال خالد: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله.
فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامه، وتغيب خالد وعلم
أبوه بإسلامه، فأرسل في طلبه فأتى به.
فأنبه وضربه بمقرعة في يده حتى كسرها على رأسه.
وقال: والله لامنعنك القوت: فقال خالد: إن منعتني فإن الله يرزقني ما
أعيش به، وانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يكرمه ويكون
معه (2).
إسلام حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم قال يونس بن
بكير عن محمد بن إسحاق حدثني رجل (3) ممن أسلم - وكان واعية - أن أبا
جهل اعترض (4) رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصفا فآذاه وشتمه
ونال منه ما يكره من العيب لدينه [ والتضعيف لامره ]، فذكر ذلك لحمزة
بن عبد المطلب، فأقبل نحوه حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها
ضربة شجه منها شجة منكرة، وقامت رجال من قريش من بني مخزوم إلى حمزة
لينصروا أبا جهل منه، وقالوا ما نراك يا حمزة إلا قد صبوت ؟ قال حمزة
ومن يمنعني وقد استبان لي منه ما أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأن الذي يقول حق، فوالله لا أنزع فامنعوني إن كنتم صادقين.
فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة فإني والله لقد سببت ابن أخيه سبا قبيحا،
فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز
وامتنع فكفوا عما كانوا يتناولون منه.
وقال حمزة في ذلك شعرا (5).
__________
(1) في الدلائل: أباه.
(2) الخبر في دلائل النبوة ج 2 / 172 و 173 وما بين معكوفين من
الدلائل.
(3) من سيرة ابن هشام ودلائل البيهقي، وفي نسخ البداية المطبوعة: ممن
وهو تحريف.
(4) في سيرة ابن هشام: مر برسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي البيهقي
فكالاصل.
(5) لم يذكره ابن هشام ولا ابن سعد، وذكر السهيلي في الروض الآنف قطعة
له منها: (*)
(3/44)
قال ابن إسحاق:
ثم رجع حمزة إلى بيته فأتاه الشيطان فقال: أنت سيد قريش اتبعت هذا
الصابئ وتركت دين آبائك، للموت خير لك مما صنعت.
فأقبل حمزة على نفسه وقال: ما صنعت اللهم إن كان رشدا فاجعل تصديقه في
قلبي، وإلا فاجعل لي مما وقعت فيه مخرجا فبات بليلة لم يبت بمثلها من
وسوسة الشيطان، حتى أصبح فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: يا ابن أخي إني قد
وقعت في أمر ولا أعرف المخرج منه، وأقامة مثلي على ما لا أدري ما هو
أرشد أم هو غي شديد ؟ فحدثني حديثا فقد اشتهيت يا ابن أخي أن تحدثني،
فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره ووعظه، وخوفه وبشره، فألقى
الله في قلبه الايمان بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: أشهد أنك الصادق شهادة الصدق، فأظهر يا ابن أخي دينك فوالله ما
أحب أن لي ما أظلته السماء، وأني على ديني الاول.
فكان حمزة ممن أعز الله به الدين.
وهكذا رواه البيهقي عن الحاكم عن الاصم عن أحمد بن عبد الجبار عن يونس
بن بكير به (1).
ذكر إسلام أبي ذر رضي الله عنه
قال الحافظ البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ [ قال ]: حدثنا أبو
عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ، [ قال ]: حدثنا الحسين بن محمد بن زياد
[ قال ]: حدثنا عبد الله بن الرومي، حدثنا النضر بن محمد حدثنا عكرمة
بن عمار عن أبي زميل سماك بن الوليد، عن مالك (2) بن مرثد عن أبيه عن
أبي ذر.
قال: كنت ربع الاسلام، أسلم قبلي ثلاثة نفر وأنا الرابع، أتيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقلت: السلام عليك يا رسول الله أشهد أن لا
إله إلا الله وأن محمدا رسول الله (3)، فرأيت الاستبشار في وجه الله
صلى الله عليه وسلم.
هذا سياق مختصر (4).
وقال البخاري
__________
= حمدت الله حين هدى فؤادي * إلى الاسلام والدين الحنيف لدين جاء من رب
عزيز * خبير بالعباد بهم لطيف إذا تليت رسائله علينا * تحدر دمع ذي
اللب الحصيف رسائل جاء أحمد من هداها * بآيات مبينة الحروف وأحمد مصطفى
فينا مطاع * فلا تغسوه بالقول الضعيف فلا والله نسلمه لقوم * ولما نقض
فيهم بالسيوف (1) قصة اسلام حمزة في سيرة ابن هشام 1 / 311 - 312 ببعض
تغيير، ودلائل البيهقي ج 2 / 213 وطبقات ابن سعد ج 3 / 9.
(2) في دلائل البيهقي: ملك، وهو تحريف والصواب ما أثبتناه، وهو مالك بن
مرثد ذكره العجلي في الثقات.
(كاشف الذهبي 3 / 102).
(3) في دلائل البيهقي: عبده ورسوله، بدلا من رسول الله.
(4) الخبر في دلائل النبوة للبيهقي 2 / 212.
وما بين معكوفين من الدلائل.
وأخرجه الحاكم في المستدرك: 3 / 341 والهيثمي في مجمع الزوائد 9 / 327.
(*)
(3/45)
إسلام أبي ذر:
حدثنا عمرو بن عباس حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن المثنى عن أبي حمزة عن
ابن عباس.
قال لما بلغ أبا ذر مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لاخيه: اركب
إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر
من السماء.
فاسمع من قوله ثم ائتني فانطلق الآخر حتى قدمه وسمع من كلامه، ثم رجع
إلى أبي ذر فقال له: رأيته يأمر بمكارم الاخلاق وكلاما ما هو بالشعر.
فقال ما شفيتني مما أردت.
فتزود وحمل شنة فيها ماء حتى قدم مكة فأتى المسجد فالتمس رسول الله صلى
الله عليه وسلم ولا يعرفه وكره أن يسأل عنه حتى أدركه بعض الليل اضطجع
فرآه علي فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه ولم يسأل واحد منهما صاحبه عن
شئ حتى أصبح، ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد وظل ذلك اليوم ولا يراه
النبي صلى الله عليه وسلم حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه فمر به علي فقال
أما آن للرجل يعلم منزله فأقامه فذهب به معه لا يسأل واحد منهما صاحبه
عن شئ حتى إذا كان يوم الثالث فعاد على مثل ذلك فأقام معه فقال ألا
تحدثني بالذي أقدمك ؟ قال إن أعطيتني عهدا وميثاقا لترشدني فعلت.
ففعل فأخبره.
قال فإنه حق وانه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أصبحت فاتبعني
فإني إن رأيت شيئا أخاف عليك قمت كأني أريق الماء، وإن مضيت فاتبعني
حتى تدخل مدخلي، ففعل فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي صلى الله عليه
وسلم ودخل معه، فسمع من قوله وأسلم مكانه.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك
أمري " فقال والذي بعثك بالحق لاصرخن بها بين ظهرانيهم فخرج حتى أتى
المسجد فنادى بأعلا صوته أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله،
ثم قام فضربوه حتى أضجعوه، فأتى العباس فأكب عليه فقال ويلكم ألستم
تعلمون أنه من غفار، وأن طريق تجارتكم إلى الشام.
فأنقذه منهم.
ثم عاد من الغد بمثلها فضربوه وثاروا
إليه فأكب العباس عليه هذا لفظ البخاري.
وقد جاء إسلامه مبسوطا في صحيح مسلم وغيره فقال الامام أحمد حدثنا يزيد
بن هارون، حدثنا سليمان بن المغيرة، حدثنا حميد بن هلال، عن عبد الله
بن الصامت [ قال ]: قال أبو ذر: خرجنا من قومنا غفار - وكان يحلون
الشهر الحرام - أنا وأخي أنيس وأمنا فانطلقنا حتى نزلنا على خال لنا ذي
مال وذي هيئة، فأكرمنا خالنا وأحسن إلينا، فحسدنا قومه فقالوا له: إنك
إذا خرجت عن أهلك خلفك إليهم أنيس.
فجاء خالنا فنثى ما قيل له (1) فقلت له: أما ما مضى من معروفك فقد
كدرته، ولا جماع لنا فيما بعد.
قال: فقربنا صرمتنا (2) فاحتملنا عليها وتغطى خالنا بثوبه وجعل يبكي،
قال: فانطلقنا حتى نزلنا حضرة مكة، قال: فنافر أنيس من صرمتنا وعن
مثلها (3)، فاتيا الكاهن فخير أنيسا.
فأتانا بصرمتنا
__________
(1) في دلائل البيهقي: فنثا علينا ما قيل له: معناه - كما في النهاية -
أظهره إلينا وحدثنا به.
(2) الصرمة هي القطعة من الابل وتطلق أيضا على القطعة من الغنم.
(3) نافر: من المنافرة وهي المفاخرة والمحاكمة، فيفخر كل واحد من
الرجلين على الآخر ثم يتحاكما إلى رجل ليحكم أيهما خير وأعز نفرا - وفي
الشعر - أيهما أشعر.
هنا تراهن هو وآخر أيهما أفضل، وكان الرهن صرمة ذا وصرمة ذاك فالافضل
أخذ الصرمتين.
وكان الحكم: (*)
(3/46)
ومثلها [ معها،
قال ]: وقد صليت يابن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم
بثلاث سنين، قال: قلت: لمن ؟ قال لله، قلت: فأين توجه ؟ قال حيث وجهني
الله.
قال وأصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل الفيت كأني خفاء (1) حتى
تعلوني الشمس قال فقال أنيس: إن لي حاجة بمكة فألقني حتى آتيك قال
فانطلق فراث (2) علي، ثم أتاني فقلت ما حبسك ؟ قال: لقيت رجلا يزعم أن
الله أرسله على دينك، قال فقلت ما يقول الناس له ؟ قال يقولون (3) إنه
شاعر وساحر، وكان أنيس شاعرا.
قال فقال لقد سمعت الكهان فما يقول بقولهم، وقد وضعت قوله على إقراء
الشعر فوالله ما يلتئم لسان أحد أنه شعر، ووالله إنه لصادق وإنهم
لكاذبون.
قال: فقلت له هل أنت كافي حتى انطلق ؟ قال نعم ! وكن من أهل مكة على
حذر فانهم قد شنعوا له وتجهموا له.
قال فانطلقت حتى
قدمت مكة فتضعفت (4) رجلا منهم فقلت أين هذا الرجل الذي يدعونه الصابئ
؟ قال: فأشار إلى [ الصابئ ] (5) فمال أهل الوادي علي بكل مدرة وعظم
حتى خررت مغشيا علي، ثم ارتفعت حين ارتفعت كأني نصب أحمر، فأتيت زمزم
فشربت من مائها، وغسلت عني الدم، ودخلت بين الكعبة وأستارها، فلبثت به
يابن أخي ثلاثين من يوم وليلة، مالي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى
تكسرت عكن بطني (6) وما وجدت على كبدي سخفة (7) جوع قال فبينا أهل مكة
في ليلة قمراء أضحيان وضرب الله على أشحمة (8) أهل مكة فما يطوف بالبيت
غير امرأتين، فأتتا علي وهما يدعوان إساف ونائلة.
فقلت: انكحوا أحدهما الآخر فما ثناهما ذلك، فقلت وهن مثل الخشبة (9)
غير أني لم أركن (10).
قال: فانطلقتا يولولان ويقولان لو كان ههنا أحد من أنفارنا، قال:
فاستقبلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وهما هابطان من
الجبل فقال مالكما ؟ فقالتا الصابئ بين الكعبة وأستارها قالا: ما قال
لكما ؟ قالتا: قال لنا كلمة تملا الفم، قال وجاء رسول الله صلى الله
عليه وسلم هو وصاحبه حتى استلم الحجر وطاف بالبيت، ثم صلى.
قال فأتيته فكنت أول من حياه بتحية أهل الاسلام.
فقال: " عليك السلام ورحمة الله من أنت ؟ " قال قلت من غفار، قال:
فأهوى بيده
__________
= كاهنا فحكم لانيس بأنه الافضل - وهو معنى قوله - فخير أنيسا، أي جعله
الخيار والافضل.
(1) الخفاء هو الكساء وجمع أخفية ككساء وأكسية، وفي رواية المقرئ في
البيهقي: يعني الثوب.
(2) راث: أي أبطأ علي.
(3) في نسخة البداية المطبوعة: يقولوا وهو تحريف.
(4) أي نظرت إلى أضعفهم فسألته.
(5) من دلائل البيهقي، والمعنى هنا: أي انظروا وخذوا هذا الصابئ.
(6) عكن: جمع عكنة، وهو الطي في البطن من السمن، والمعنى: انثنت وانطوت
طاقات لحم بطنه.
(7) سخفة: بفتح السين وضمها.
وهي رقة الجوع وضعفه وهزاله.
(8) في الدلائل: أصمخة وهي هنا الآذان، أي ناموا.
(9) المراد هنا سب وإهانة اساف ونائلة، الصنمان، وإغاظة الكفار.
(10) في مسلم: لا أكني.
(*)
(3/47)
فوضعها على
جبهته، قال: فقلت في نفسي كره أن أنتميت إلى غفار، قال: فاردت أن آخذ
بيده فقذفني صاحبه وكان أعلم به مني، قال متى كنت ههنا ؟ قال: قلت كنت
ههنا منذ ثلاثين من بين ليلة ويوم.
قال: فمن كان يطعمك ؟ قلت: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى
تكسرت عكن بطني، وما وجدت على كبدي سخفة جوع.
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنها مباركة، إنها طعام طعم "
قال: فقال أبو بكر: ائذن لي يا رسول الله في طعامه الليلة، قال: ففعل
قال فانطلق النبي صلى الله عليه وسلم وانطلقت معهما حتى فتح أبو بكر
بابا، فجعل يقبض لنا من زبيب.
الطائف، قال فكان ذلك أول طعام أكلته بها.
فلبثت ما لبثت (1)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني قد وجهت
إلي أرض ذات نخل ولا أحسبها إلا يثرب، فهل أنت مبلغ عني قومك ؟ لعل
الله ينفعهم بك ويأجرك فيهم ؟ ".
قال فانطلقت حتى أتيت أخي أنيسا، قال فقال لي ما صنعت ؟ قال قلت صنعت
أني أسلمت وصدقت، قال فما بي رغبة عن دينك.
فاني قد أسلمت وصدقت، ثم أتينا أمنا فقالت ما بي رغبة عن دينكما.
فإني قد أسلمت وصدقت، فتحملنا حتى أتينا قومنا غفار، قال فأسلم بعضهم
قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان يؤمهم خفاف بن
إيما بن رخصة الغفاري (2) وكان سيدهم يومئذ.
وقال: بقيتهم إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلمنا، قال فقدم
رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم بقيتهم قال: وجاءت أسلم فقالوا يا
رسول الله إخواننا نسلم على الذي أسلموا عليه، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: " غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله ".
ورواه مسلم عن هدية (3) بن خالد عن سليمان بن المغيرة به نحوه.
وقد روى قصة إسلامه على وجه آخر وفيه زيادات غريبة فالله أعلم.
وتقدم ذكر إسلام سلمان الفارسي في كتاب البشارات بمبعثه عليه الصلاة
والسلام.
ذكر إسلام ضماد روى مسلم والبيهقي
من حديث داود بن أبي هند، عن عمرو بن سعيد، عن سعيد بن
جبير، عن ابن عباس.
قال: قدم ضماد مكة وهو رجل من أزدشنوءة، وكان يرقي من هذه الرياح (4)،
فسمع سفهاء من سفه مكة (5) يقولون: إن محمدا مجنون.
فقال: أين هذا الرجل
__________
(1) العبارة في البيهقي ومسلم: فغيرت ما غبرت ثم أتيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم.
(2) في مسلم: وكان يؤمهم: إيماء بن رحضة الغفاري، وفي البيهقي فكالاصل:
خفاف.
(3) في مسلم: هداب بن خالد الازدي.
والحديث أخرجه في 44 كتاب الفضائل (28) ح 132 ص 1919 - 1920 والامام
أحمد في مسنده ج 5 / 174.
(4) في مسلم: الريح، والمراد بها: الجنون، ومس الجن.
(5) في البيهقي: سفهاء من سفهاء الناس يقولون: (*)
(3/48)
لعل الله أن
يشفيه على يدي ؟ [ قال ]: فلقيت محمدا، فقلت: إني أرقي من هذه الرياح،
وأن الله يشفى على يدي من شاء فهلم (1).
فقال محمد: " إن الحمد لله نحمده وتستعينه، من يهده الله فلا مضل له
ومن يضلل فلا هادي له، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ثلاث
مرات ".
فقال والله لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة.
وقول الشعراء فما سمعت مثل هؤلاء الكلمات فهلم يدك أبايعك على الاسلام.
فبايعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له وعلى قومك ؟ فقال: وعلى
قومي فبعث النبي صلى الله عليه وسلم جيشا فمروا بقوم ضماد.
فقال صاحب الجيش للسرية هل أصبتم من هؤلاء القوم شيئا ؟ فقال رجل منهم
أصبت منهم مطهرة.
فقال ردها عليهم فانهم قوم ضماد.
وفي رواية فقال له ضماد: أعد علي كلماتك هؤلاء فلقد بلغن قاموس (2)
البحر (3).
وقد ذكر أبو نعيم في دلائل النبوة إسلام من أسلم من الاعيان فصلا
طويلا، واستقصى ذلك استقصاء حسنا رحمه الله وأثابه.
وقد سرد ابن إسحاق أسماء من أسلم قديما من الصحابة رضي الله عنهم.
قال: ثم أسلم أبو عبيدة [ بن الجراح ]، وأبو سلمة [ عبد الله بن عبد
الاسد ]، والارقم بن أبي الارقم، وعثمان بن مظعون، وعبيدة بن الحارث،
وسعيد بن زيد، وامرأته فاطمة بنت الخطاب، وأسماء بنت أبي بكر، وعائشة
بنت أبي بكر - وهي صغيرة - وقدامة بن
مظعون، وعبد الله بن مظعون، وخباب بن الارت، وعمير بن أبي وقاص، وعبد
الله بن مسعود، ومسعود بن القارى، وسليط بن عمرو، وعياش بن أبي ربيعة
(4)، وامرأته أسماء بنت سلمة (5) بن مخرمة التيمي، وخنيس بن حذاقة،
وعامر بن ربيعة، وعبد الله بن جحش، وأبو أحمد بن جحش، وجعفر بن أبي
طالب، وامرأته أسماء بنت عميس، وحاطب بن الحارث، وامرأته فكيهة ابنة
يسار (6)، [ وحطاب بن الحارث وامرأته فكيهة بنت يسار ] (7) ومعمر بن
الحارث بن معمر الجمحي، والسائب بن عثمان بن مظعون، والمطلب بن أزهر بن
عبد مناف (8).
وامرأته رملة بنت أبي عوف بن صبيرة بن سعيد بن سهم (9)، والنحام واسمه
__________
(1) في مسلم: فهل لك، أي فهل لك رغبة.
(2) في البيهقي ناعوس: أي وسطه ولجته وقعره الاقصى.
(3) الخبر في دلائل البيهقي ج 2 / 224 ومسلم في صحيحه: في 7 كتاب
الجمعة 13 باب ح 46.
(4) في نسخة من سيرة ابن هشام زاد: وأخوه حاطب بن عمرو.
(5) في ابن هشام والبيهقي: سلامة بن مخرمة التميمية.
(6) في السيرة لابن هشام فاطمة بنت المجلل، وفي البيهقي: أسماء.
(7) ما بين معقوفتين في النص، سقطت من الاصول واستدركت من السيرة
والدلائل.
(8) في السيرة والدلائل: بن عبد عوف.
(9) بن سعيد بن سعد بن سهم: وسعيد بن سعد هذا هو ابن سعد أخو سعيد، وهو
جد المطلب بن أبي وداعة.
قاله السهيلي.
(*)
(3/49)
نعيم بن عبد الله بن أسيد، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، وخالد بن
سعيد، وأمينة ابنة خلف بن سعد (1) بن عامر بن بياضة بن (2) خزاعة،
وحاطب بن عمرو بن عبد شمس، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وواقد بن عبد
الله [ بن عبد مناف ] بن عرين بن ثعلبة التميمي حليف بني عدي، وخالد بن
البكير، وعامر بن البكير، وعاقل بن البكير، وإياس بن البكير بن عبد
ياليل بن ناشب بن غيرة من بني (3) سعد بن ليث، وكان اسم عاقل غافلا
فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عاقلا، وهما حلفاء بني عدي بن كعب،
وعمار بن ياسر، وصهيب بن سنان.
ثم دخل الناس [ في الاسلام ] أرسالا من الرجال والنساء حتى فشا أمر
الاسلام بمكة وتحدث به.
قال ابن إسحاق: ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بعد ثلاث سنين من
البعثة بأن يصدع (4) بما أمر، وأن يصبر على أذى المشركين.
قال وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلوا ذهبوا في الشعاب
واستخفوا بصلاتهم من قومهم.
فبينا سعد بن أبي وقاص في نفر يصلون بشعاب مكة إذ ظهر عليهم بعض
المشركين فناكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم، فضرب سعد رجلا
من المشركين بلحي (5) جمل فشجه، فكان أول دم أهريق في الاسلام.
وروى الاموي في مغازيه من طريق الوقاصي عن الزهري عن عامر بن سعد عن
أبيه.
فذكر القصة بطولها وفيه أن المشجوج هو عبد الله بن خطل لعنه الله. |