البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
فصل [ في سرية حمزة بن عبد المطلب ]
(1) قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقامه ذلك
حمزة بن عبد المطلب بن هاشم إلى سيف البحر من ناحية العيص في ثلاثين
راكبا من المهاجرين ليس فيهم من الانصار (2) أحد فلقي أبا جهل بن هشام
بذلك الساحل في ثلاثمائة راكب من أهل مكة فحجز بينهم مجدي بن عمرو
الجهني وكان موادعا للفريقين جميعا، فانصرف بعض القوم عن بعض ولم يكن
بينهم قتال.
قال ابن إسحاق: وبعض الناس يقول كانت راية حمزة أول راية عقدها رسول
الله صلى الله عليه وسلم لاحد من المسلمين، وذلك أن بعثه وبعث عبيدة
كانا معا فشبه ذلك على الناس.
قلت: وقد حكى موسى بن عقبة عن الزهري أن بعث حمزة قبل عبيدة بن الحارث،
ونص على أن بعث حمزة كان قبل غزوة الابواء.
فلما قفل عليه السلام من الابواء بعث عبيدة بن الحارث في ستين من
المهاجرين، وذكر نحو ما تقدم.
وقد تقدم عن الواقدي أنه قال: كانت سرية حمزة في رمضان من السنة
الاولى، وبعدها سرية عبيدة في شوال منها والله أعلم.
وقد أورد ابن إسحاق عن حمزة رضي الله عنه شعرا يدل على أن رايته أول
راية عقدت في الاسلام، لكن قال ابن إسحاق: فان كان حمزة قال ذلك فهو
كما قال، لم يكن يقول إلا حقا، والله أعلم أي ذلك كان.
فأما ما سمعنا من أهل العلم عندنا فعبيدة أول.
والقصيدة هي قوله: ألا يا لقومي للتحلم والجهل * وللنقض من رأي الرجال
وللعقل
وللرا كبينا بالمظالم لم نطأ * لهم حرمات من سوام ولا أهل كأنا بتلناهم
ولا بتل (3) عندنا * لهم غير أمر بالعفاف وبالعدل
__________
(1) زيادة استدر كناها من كتب المغازي لما يقتضيه حسن التبويب.
(2) قال الواقدي: بعثه في ثلاثين راكبا شطرين: خمسة عشر من المهاجرين
وخمسة عشر من الانصار وسمى من المهاجرين تسعة وذكر من الانصار: أبي بن
كعب، وعمارة بن حزم، وعبادة بن الصامت، وعبيد بن أوس، وأوس بن خولي،
وأبو دجانة، والمنذر بن عمرو، ورافع بن مالك، وعبد الله بن عمرو بن
حرام وقطبة بن عامر بن حديدة.
وما ذكره الواقدي بعيد، لان المجمع عليه أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم لم يبعث أحدا من الانصار حتى غزا بهم بدرا، قال الواقدي في آخر
حديثه: وهو المثبت عندنا.
(3) البتل: القطع، وفي ابن هشام: تبلناهم ولا تبل: التبل: العداوة،
وتبلناهم: عاديناهم وتروى: نبلناهم = (*)
(3/300)
وأمر باسلام
فلا يقبلونه * وينزل منهم مثل منزلة الهزل فما برحوا حتى انتدبت لغارة
* لهم حيث حلوا أبتغي راحة الفضل بأمر رسول الله أول خافق * عليه لواء
لم يكن لاح من قبل لواء لديه النصر من ذي كرامة * إله عزيز فعله أفضل
الفعل عشية ساروا حاشدين وكلنا * مراجله من غيظ أصحابه تغلي فلما
تراءينا أناخوا فعقلوا * مطايا وعقلنا مدى غرض النبل وقلنا لهم حبل
الاله نصيرنا * وما لكم إلا الضلالة من حبل فثار أبو جهل هنالك باغيا *
فخاب ورد الله كيد أبي جهل وما نحن إلا في ثلاثين راكبا * وهم مائتمان
بعد واحدة فضل فيال لؤي لا تطيعوا غواتكم * وفيئوا إلى الاسلام والمنهج
السهل فإني أخاف أن يصب عليكم * عذاب فتدعوا بالندامة والثكل
قال فأجابه أبو جهل بن هشام لعنه الله فقال: عجبت لاسباب الحفيظة
والجهل * وللشاغبين بالخلاف وبالبطل وللتاركين ما وجدنا جدودنا * عليه
ذوي الاحساب والسؤدد الجزل ثم ذكر تمامها.
قال ابن هشام وأكثر أهل العلم بالشعر ينكر هاتين القصيدتين لحمزة رضي
الله عنه ولابي جهل لعنه الله.
غزوة بواط (1) من ناحية رضوى قال ابن إسحاق: ثم غزا رسول الله صلى الله
عليه وسلم في شهر ربيع الاول - يعني من السنة الثانية - يريد قريشا.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون.
وقال الواقدي: استخلف عليها سعد بن معاذ.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مائتي راكب، وكان لواؤه مع سعد
بن أبي وقاص وكان مقصده أن يعترض لعير قريش وكان فيه أمية بن خلف ومائة
رجل وألفان وخمسمائة بعير.
قال ابن إسحاق: حتى بلغ بواط من ناحية رضوى، ثم رجع إلى المدينة ولم
يلق كيدا فلبث
__________
= ولا نبل: بالنون، يعني نرميهم بالنبل.
(1) بواط: جبال من جبال جهينة، بقرب ينبع بينها وبين المدينة نحو أربعة
برد، وهي قريب من ذي خشب مما يلي طريق الشام.
قال السهيلي: بواط: جبلان فرغان لاصل واحد، أحدهما جلسى والآخر غورى.
(*)
(3/301)
بها بقية شهر
ربيع الآخر وبعض جمادى [ الاولى ].
غزوة العشيرة (1) قال ابن هشام: واستعمل على المدينة أبا سلمة بن عبد
الاسد.
قال الواقدي: وكان لواؤه مع حمزة بن عبد المطلب.
قال وخرج عليه السلام يتعرض لعيرات قريش ذاهبة إلى الشام.
قال ابن إسحاق: فسلك على نقب بني دينار، ثم على فيفاء الخيار، فنزل تحت
شجرة ببطحاء ابن أزهر يقال لها: ذات الساق فصلى عندها فثم مسجده، فصنع
له عندها طعام فأكل
منه وأكل الناس معه، فرسوم أثافي البرمة معلوم هناك، واستسقى له من ماء
يقال له المشيرب ثم ارتحل فترك الخلائق (2) بيسار وسلك شعبة عبد الله،
ثم صب للشاد (3) حتى هبط ملل (4)، فنزل بمجتمعه ومجتمع الضبوعة ثم سلك
فرش ملل حتى لقي الطريق بصخيرات اليمام،، ثم اعتدل به الطريق حتى نزل
العشيرة من بطن ينبع فأقام بها جمادى الاولى وليال من جمادى الآخرة
ووادع فيها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة ثم رجع إلى المدينة ولم يلق
كيدا.
وقد قال البخاري (5): حدثنا عبد الله [ بن محمد ] ثنا وهب ثنا شعبة عن
أبي إسحاق.
قال: كنت إلى جنب زيد بن أرقم فقيل له كم غزا رسول الله صلى الله عليه
وسلم من غزوة ؟ قال: تسع عشرة.
قلت كم غزوت أنت معه ؟ قال سبع عشرة غزوة، قلت فأيهن كان أول ؟ قال
العشير - أو العسير - فذكرت لقتادة فقال: العشير.
وهذا الحديث ظاهر في أن أول الغزوات العشيرة، ويقال بالسين وبهما مع
حذف التاء، وبهما مع المد اللهم إلا أن يكون المراد غزاة شهدها مع
النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن أرقم العشيرة وحينئذ لا ينفي أن يكون
قبلها غيرها لم يشهدها زيد بن أرقم وبهذا يحصل الجمع بين ما ذكره محمد
بن إسحاق وبين هذا الحديث والله أعلم.
قال محمد بن إسحاق: ويومئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي ما
قال.
فحدثني يزيد بن محمد بن خثيم (6) عن محمد بن كعب القرظي، حدثني أبو
يزيد محمد بن خثيم عن عمار بن ياسر.
قال: كنت أنا وعلي بن أبي طالب رفيقين في غزوة العشيرة من بطن ينبع،
فلما نزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام
__________
(1) العشيرة: من ناحية ينبع بين مكة والمدينة.
(2) الخلائق: البئر التي لا ماء فيها.
وقال السهيلي: بالحاء المهملة: آبار معلومة.
وقال ياقوت: وكان لعبد الله بن أحمد بن جحش أرض يقال لها الخلائق
بنواحي المدينة.
(3) في ابن هشام: لليسار.
(4) في ابن هشام: يليل، وهي قرية قرب وادي الصفراء من أعمال المدينة،
وفيه عين كبيرة تسمى البحيرة.
(5) كتاب المغازي - باب غزوة العشيرة ح 1 ص 5 / 176.
(6) في ابن هشام: ابن خيثم.
في الموضعين.
(*)
(3/302)
بها شهرا فصالح
بها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة فوادعهم، فقال لي علي بن أبي طالب:
هل لك يا أبا اليقظان أن نأتي هؤلاء النفر - من بني مدلج يعملون في عين
لهم - ننظر كيف يعملون ؟ فأتيناهم فنظرنا إليهم ساعة فغشينا النوم
فعمدنا إلى صور من النخل في دقعاء (1) من الارض فنمنا فيه.
فوالله ما أهبنا إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحركنا بقدمه
فجلسنا وقد تتربنا من تلك الدقعاء فيومئذ قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم لعلي: " يا أبا تراب " لما عليه من التراب، فأخبرناه بما كان من
أمرنا فقال: " ألا أخبركم بأشقى الناس رجلين ؟ " قلنا بلى يا رسول الله
فقال: " أحيمر (2) ثمود الذي عقر الناقة والذي يضربك يا علي على هذه -
ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على رأسه - حتى تبل منها هذه -
ووضع يده على لحيته - " وهذا حديث غريب من هذا الوجه له شاهد من وجه
آخر في تسمية علي أبا تراب كما في صحيح البخاري: أن عليا خرج مغاضبا
فاطمة، فجاء المسجد فنام فيه فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها
عنه فقالت خرج مغاضبا فجاء إلى المسجد فأيقظه وجعل يمسح التراب عنه
ويقول: " قم أبا تراب قم أبا تراب " (3).
غزوة بدر - الاولى (4) قال ابن إسحاق: ثم لم يقم رسول الله صلى الله
عليه وسلم بالمدينة حين رجع من العشيرة إلا ليال قلائل لا تبلغ العشرة،
حتى أغار كرز بن جابر الفهري على سرح المدينة، فخرج رسول الله صلى الله
عليه وسلم في طلبه حتى بلغ واديا يقال له سفوان من ناحية بدر، وهي غزوة
بدر الاولى، وفاته كرز فلم يدركه.
وقال الواقدي: وكان لؤلؤه مع علي بن أبي طالب.
قال ابن هشام والواقدي: وكان قد استخلف على المدينة زيد بن حارثة.
قال ابن إسحاق: فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام جمادى ورجبا
وشعبان وقد كان بعث بين يدي ذلك سعدا في ثمانية رهط من المهاجرين، فخرج
حتى بلغ الخرار من أرض الحجاز.
قال ابن هشام: ذكر بعض أهل العلم أن بعث سعد هذا كان بعد حمزة ثم رجع
ولم يلق كيدا.
هكذا ذكره (1) دقعاء: التراب اللين.
(2) أحيمر ثمود: هو الذي عقر ناقة صالح واسمه قدار بن سالف وقد تقدم.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه: في كتاب الصلاة باب نوم الرجال في المسجد
عن سهل بن سعد.
وأخرجه أيضا في كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم باب مناقب
علي - عن سهل بن سعد.
وأخرجه في كتاب الادب باب التكني بأبي تراب.
(4) قال الواقدي: غزوة بدر الاولى وقعت قبل غزوة العشيرة، وكانت في
ربيع الاول على رأس ثلاثة عشر شهرا، وأما غزوة العشيرة فكانت في جمادى
الآخرة على رأس ستة عشر شهرا.
(أنظر مغازي الواقدي 1 / 12 - ابن سعد 2 / 9 - الطبري 2 / 291).
(*)
(3/303)
ابن إسحاق مختصرا وقد تقدم ذكر الواقدي لهذه البعوث الثلاثة، أعني بعث
حمزة في رمضان، وبعث عبيدة في شوال، وبعث سعد في ذي القعدة كلها في
السنة الاولى.
وقد قال الامام أحمد: حدثني عبد المتعال بن عبد الوهاب، حدثني يحيى بن
سعيد.
وقال عبد الله بن الامام أحمد: وحدثني سعيد بن يحيى بن سعيد الاموي
حدثنا أبي، ثنا المجالد، عن زياد بن علاقة عن سعد بن أبي وقاص.
قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جاءته جهينة فقالوا
إنك قد نزلت بين أظهرنا فأوثق حتى نأتيك وقومنا، فأوثق لهم فأسلموا قال
فبعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجب ولا نكون مائة وأمرنا أن
نغير على حي من بني كنانة إلى جنب جهينة فأغرنا عليهم وكانوا كثيرا
فلجأنا إلى جهينة فمنعونا وقالوا لم تقاتلون في الشهر الحرام ؟ فقال
بعضنا لبعض ما ترون ؟ فقال بعضنا نأتي نبي الله فنخبره، وقال قوم لا بل
نقيم ههنا، وقلت أنا في أناس معي لا بل نأتي عير قريش فنقتطعها.
وكان الفئ إذ ذاك من أخذ شيئا فهو له، فانطلقنا إلى العير وانطلق
أصحابنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه الخبر فقام غضبان محمر
الوجه.
فقال: " أذهبتم من عندي جميعا ورجعتم متفرقين إنما أهلك من كان قبلكم
الفرقة، لابعثن عليكم رجلا ليس بخيركم أصبركم على الجوع والعطش " فبعث
علينا عبد الله بن جحش الاسدي فكان أول أمير في الاسلام.
وقد رواه البيهقي في الدلائل من حديث يحيى بن أبي زائدة عن مجالد به
نحوه وزاد بعد قولهم
لاصحابه: لم تقاتلون في الشهر الحرام فقالوا نقاتل في الشهر الحرام من
أخرجنا من البلد الحرام ثم رواه من حديث أبي أسامة عن مجالد عن زياد بن
علاقة عن قطبة بن مالك عن سعد بن أبي وقاص فذكر نحوه.
فأدخل بين سعد وزياد قطبة بن مالك وهذا أنسب والله أعلم (1).
وهذا الحديث يقتضي أن أول السرايا عبد الله بن جحش الاسدي وهو خلاف ما
ذكره ابن إسحاق أن أول الرايات عقدت لعبيدة بن الحارث بن المطلب،
وللواقدي حديث زعم أن أول الرايات عقدت لحمزة بن عبد المطلب والله
أعلم. |