البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي

البداية والنهاية - ابن كثير ج 4
البداية والنهاية
ابن كثير ج 4

(4/)


البداية والنهاية للامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي المتوفى سنة 774 ه.
حققه ودقق اصوله وعلق حواشيه علي شيري الجزء الرابع دار إحياء التراث العربي

(4/1)


...

(4/2)


سنة ثلاث من الهجرة في أولها كانت: غزوة نجد ويقال لها غزوة ذي أمر (1): قال ابن إسحاق: فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة السويق أقام بالمدينة بقية ذي الحجة أو قريبا منها ثم غزا نجدا، يريد غطفان وهي غزوة ذي أمر.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة عثمان بن عفان.
قال ابن إسحاق: فأقام بنجد صفرا كله أو قريبا من ذلك ثم رجع ولم يلق كيدا (2).
وقال الواقدي: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جمعا من غطفان من بني ثعلبة بن محارب تجمعوا بذي أمر يريدون حربه، فخرج إليهم من المدينة يوم الخميس لثنتي عشرة خلت من ربيع الاول سنة ثلاث واستعمل على المدينة عثمان بن عفان فغاب أحد عشر يوما (3) وكان معه أربعمائة وخمسون رجلا، وهربت منه الاعراب في رؤوس الجبال حتى بلغ ماء يقال له ذو أمر فعسكر به وأصابهم مطر كثير فابتلت ثياب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل تحت شجرة هناك ونشر ثيابه لتجف وذلك بمرأى من
المشركين، واشتغل المشركون في شؤونهم، فبعث المشركون رجلا شجاعا منهم يقال له غورث بن الحارث أو دعثور بن الحارث فقالوا: قد أمكنك الله من قتل محمد، فذهب ذلك الرجل ومعه سيف صقيل حتى قام على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف مشهورا، فقال: يا محمد من يمنعك مني اليوم ؟ قال: الله.
ودفع جبريل في صدره فوقع السيف من يده، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: من يمنعك مني ؟ قال لا أحد وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والله لا أكثر عليك جمعا أبدا.
فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه فلما رجع إلى أصحابه فقالوا: ويلك، مالك ؟ فقال: نظرت إلى رجل طويل فدفع في صدري فوقعت لظهري فعرفت أنه ملك وشهدت أن محمدا رسول الله والله
__________
(1) ذو أمر: واد بطريق فيد إلى المدينة على نحو ثلاث مراحل من المدينة بقرية النخيل (وفاء الوفاء ج 2 / 249) وتسمى في بعض كتب السير: غزوة غطفان انظر فيها: سيرة ابن هشام 3 / 49 مغازي الواقدي 1 / 195 ابن سعد 2 / 34 تاريخ الطبري 3 / 2 النويري 17 / 77 السيرة الحلبية 2 / 279 عيون الاثر 1 / 362.
(2) سيرة ابن هشام ج 3 / 49.
(3) في الكامل لابن الاثير: اثنتي عشرة ليلة، وكانت الغزوة في المحرم سنة ثلاث.
(*)

(4/3)


لا أكثر عليه جمعا، وجعل يدعو قومه إلى الاسلام.
قال: ونزل في ذلك قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم) الآية [ المائدة: 11 ] (1).
قال البيهقي: وسيأتي في غزوة ذات الرقاع قصة تشبه هذه فلعلهما قصتان، قلت: إن كانت هذه محفوظة فهي غيرها قطعا لان ذلك الرجل اسمه غورث بن الحارث أيضا لم يسلم بل استمر على دينه ولم يكن عاهد النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يقاتله.
والله أعلم (2).
غزوة الفرع (3) من بحران
قال ابن إسحاق: فأقام بالمدينة ربيعا الاول كله أو إلا قليلا منه ثم غدا يريد قريشا، قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم.
قال ابن إسحاق: حتى بلغ بحران وهو معدن بالحجاز من ناحية الفرع.
وقال الواقدي: إنما كانت غيبته عليه السلام عن المدينة عشرة أيام.
فالله أعلم.
خبر يهود بني قينقاع في المدينة (4)
وقد زعم الواقدي انها كانت في يوم السبت النصف من شوال سنة ثنتين من الهجرة فالله أعلم وهم المرادون بقوله تعالى (كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم) [ الحشر: 11 ] قال ابن إسحاق: وقد كان فيما بين ذلك من غزو رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بني قينقاع.
قال وكان من حديثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعهم في سوقهم ثم قال: يا معشر يهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة، وأسلموا فإنكم قد عرفتم اني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم.
فقالوا: يا محمد إنك ترى أنا قومك لا يغرنك انك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة أما والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس.
قال ابن إسحاق: فحدثني مولى لزيد بن ثابت عن سعيد بن جبير وعن (5) عكرمة عن ابن عباس قال: ما نزلت هؤلاء الآيات إلا فيهم (قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد * قد كان لكم آية في فئتين التقتا) [ آل عمران: 12 - 13 ] يعني أصحاب بدر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقريش (فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد
__________
(1) الخبر في الواقدي ج 1 / 195 وطبقات ابن سعد بنحوه ج 2 / 34.
(2) دلائل النبوة للبيهقي 3 / 169.
(3) الفرع: قرية من ناحية المدينة، بينها وبين المدينة ثمانية برد.
وبحران: موضع بين الفرع والمدينة.
وانظر في هذه الغزوة سيرة ابن هشام 3 / 50 مغازي الواقدي 1 / 196 ابن سعد 2 / 35 تاريخ الطبري 3 / 2 عيون الاثر 1 / 362 النويري 17 / 79 الكامل في التاريخ 2 / 142.
(4) انظر في غزوة بني قينقاع: سيرة ابن هشام ج 3، وابن سعد ج 2 تاريخ الطبري ج 3 مغازي الواقدي 1 / 176 عيون الاثر 2 / 352 السيرة الشامية ج 4 السيرة الحلبية ج 2.
(5) في ابن هشام: أو عن.
(*)

(4/4)


بنصره من يشاء أن في ذلك لعبرة لاولي الابصار) [ آل عمران: 13 ] قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن بني قينقاع كانوا أول يهود نقضوا العهد وحاربوا فيما بين بدر وأحد.
قال ابن هشام فذكر عبد الله بن جعفر [ بن عبد الرحمن ] بن المسور بن مخرمة عن أبي عون قال: كان أمر بني قينقاع أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها فباعته بسوق بني قينقاع وجلست إلى صائغ هناك منهم فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا بها فصاحت فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهوديا فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود فأغضب المسلمون، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع.
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه، فقام إليه عبد الله بن أبي بن سلول حين أمكنه الله منهم فقال: يا محمد أحسن في موالي وكانوا حلفاء الخزرج قال: فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أحسن في موالي، فأعرض عنه قال: فأدخل يده في جيب درع النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن هشام: وكان يقال لها ذات الفضول.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرسلني، وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا لوجهه ظللا ثم قال ويحك أرسلني قال: لا والله لا أرسك حتى تحسن في موالي: أربعمائة حاسر وثلثمائة دارع قد منعوني من الاحمر والاسود تحصدهم في غداة واحدة اني والله امرؤ أخشى الدوائر.
قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم هم لك.
قال ابن هشام واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في محاصرته إياهم أبا لبابة بشير بن عبد المنذر وكانت محاصرته إياهم خمس عشرة ليلة.
قال ابن إسحاق: وحدثني أبي عن عبادة بن الوليد بن (1) عبادة بن الصامت قال: لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى الله عليه وسلم تشبث بأمرهم عبد الله بن أبي وقام دونهم ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من بني عوف له من حلفهم مثل الذي لهم من عبد الله بن أبي فخلعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم وقال يا رسول الله أتولى الله ورسوله والمؤمنين وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم، قال: وفيه وفي عبد الله بن أبي نزلت الآيات من المائدة (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض) الآيات حتى قوله
(فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة) يعني عبد الله بن أبي إلى قوله (ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) يعني عبادة بن الصامت.
وقد تكلمنا على ذلك في التفسير.
سرية زيد بن حارثة [ إلى ذي القردة ] (2) إلى عير قريش صحبة أبي سفيان أيضا وقيل صحبة صفوان * قال يونس بن (3) بكير عن ابن
__________
(1) من ابن هشام، وفي الاصل عن تحريف.
(2) من كتب المغازي.
(3) من ابن هشام والبيهقي وفي الاصل عن تحريف.
(*)

(4/5)


إسحاق: وكانت بعد وقعة بدر بستة أشهر.
قال ابن إسحاق: وكان من حديثها أن قريشا خافوا طريقهم التي كانوا يسلكون إلى الشام حين كان من وقعة بدر ما كان فسلكوا طريق العراق فخرج منهم تجار فيهم أبو سفيان ومعه فضة كثيرة، وهي عظم تجارتهم، واستأجروا رجلا من بكر بن وائل يقال له: فرات بن حيان يعني العجلي حليف بني سهم ليدلهم على تلك الطريق.
قال ابن إسحاق فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة فلقيهم على ماء يقال له القردة (1) فأصاب تلك العير وما فيها وأعجزه الرجال فقدم بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال في ذلك حسان بن ثابت: دعوا فلجات الشام قد حال دونها * جلاد كأفواه المخاض الاوارك (2) بأيدي رجال هاجروا نحو ربهم * وأنصاره حقا وأيدي الملائك إذا سلكت للغور من بطن عالج * فقولا: لها ليس الطريق هنالك قال ابن هشام: وهذه القصيدة في أبيات لحسان، وقد أجابه فيها أبو سفيان بن الحارث.
وقال الواقدي كان خروج زيد بن حارثة في هذه السرية مستهل جمادى الاولى (3) على رأس ثمانية وعشرين شهرا من الهجرة وكان رئيس هذه العير صفوان بن أمية وكان سبب بعثه زيد بن حارثة أن نعيم بن مسعود قدم المدينة ومعه خبر هذه العير وهو على دين قومه واجتمع بكنانة بن أبي الحقيق في
بني النضير ومعهم سليط بن النعمان من أسلم فشربوا وكان ذلك قبل أن تحرم الخمر فتحدث بقضية العير نعيم بن مسعود وخروج صفوان بن أمية فيها وما معه من الاموال فخرج سليط من ساعته فأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث من وقته زيد بن حارثة فلقوهم فأخذوا الاموال وأعجزهم الرجال وإنما أسروا رجلا أو رجلين وقدموا بالعير فخمسها رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ خمسها عشرين ألفا وقسم أربعة أخماسها على السرية وكان فيمن أسر الدليل فرات بن حيان فأسلم رضي الله عنه.
قال ابن جرير: وزعم الواقدي أن في ربيع من هذه السنة تزوج عثمان بن عفان أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدخلت عليه في جمادى الآخرة منها.
مقتل كعب بن الاشرف وكان من بني طئ ثم أحد بني نبهان ولكن أمه من بني النضير.
هكذا ذكره ابن إسحاق قبل جلاء بني النضير وذكره البخاري والبيهقي بعد قصة بني النضير والصحيح ما ذكره ابن إسحاق لما سيأتي: فإن بني النضير إنما كان أمرها بعد وقعة أحد وفي محاصرتهم حرمت الخمر كما سنبينه بطريقه إن شاء الله.
قال البخاري في صحيحه [ باب ] (4) قتل كعب بن الاشرف: حدثنا علي بن
__________
(1) القردة: من أرض نجد بين الربذة والغمرة ناحية ذات عرق.
(2) فلجات: جمع فلجة وهي العين الجارية.
المخاض: الابل الحوامل.
(3) في مغازي الواقدي: جمادى الآخرة، وفي ابن سعد: على رأس سبعة وعشرين شهرا.
(4) من البخاري - 64 كتاب المغازي 15 باب قتل كعب بن الاشرف ح 4037 فتح الباري 7 / 336.
(*)

(4/6)


عبد الله حدثنا سفيان قال عمرو [ بن دينار ] سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لكعب بن الاشرف فإنه قد آذى الله ورسوله فقام محمد بن مسلمة فقال: يا رسول الله أتحب أن أقتله (1) ؟ قال: نعم.
قال فأذن لي أن أقول شيئا قال: قل.
فأتاه محمد بن مسلمة فقال: إن هذا الرجل قد سألنا صدقة، وإنه قد عنانا واني قد أتيتك استسلفك.
قال: وأيضا والله لتملنه.
قال: إنا قد اتبعناه فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شئ يصير شأنه، وقد أردنا أن تسلفنا
قال: نعم ارهنوني.
قلت أي شئ تريد قال: ارهنوني نساءكم فقالوا كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب قال فارهنوني أبناءكم.
قالوا: كيف نرهنك أبناءنا فيسب أحدهم فيقال رهن بوسق أو وسقين هذا عار علينا ولكن نرهنك اللامة.
قال سفيان يعني السلاح.
فواعده أن يأتيه ليلا فجاءه ليلا ومعه أبو نائلة وهو أخو كعب من الرضاعة فدعاهم إلى الحصن فنزل إليهم فقالت له امرأته: أين تخرج هذه الساعة ؟ وقال غير عمرو قالت أسمع صوتا كأنه يقطر منه الدم.
قال انما هو أخي محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة.
أن الكريم لو دعي إلى طعنة بليل لاجاب قال ويدخل محمد بن مسلمة معه رجلين فقال إذا ما جاء فإني مائل بشعره فأشمه فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فدونكم فاضربوه وقال مرة ثم أشمكم فنزل إليهم متوشحا وهو ينفح منه ريح الطيب فقال: ما رأيت كاليوم ريحا أي أطيب وقال غير عمرو قال عندي أعطر نساء العرب وأجمل العرب قال عمرو فقال أتاذن لي أن أشم رأسك ؟ قال نعم.
فشمه ثم أشم أصحابه ثم قال أتأذن لي ؟ قال نعم.
فلما استمكن منه قال دونكم فقتلوه ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه (2).
وقال محمد بن إسحاق: كان من حديث كعب بن الاشرف وكان رجلا من طئ ثم أحد بني نبهان وأمه من بني النضير أنه لما بلغه الخبر عن مقتل أهل بدر حين قدم زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة قال والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الارض خير من ظهرها.
فلما تيقن عدو الله الخبر، خرج إلى مكة فنزل على المطلب بن أبي وداعة بن ضبيرة السهمي وعنده عاتكة بنت [ أسيد بن ] (3) أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف فأنزلته وأكرمته، وجعل يحرض على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وينشد الاشعار، ويندب من قتل من المشركين يوم بدر فذكر ابن إسحاق قصيدته التي أولها: طحنت رحى بدر لمهلك أهله * ولمثل بدر تستهل وتدمع وذكر جوابها من حسان بن ثابت رضي الله عنه ومن غيره.
ثم عاد إلى المدينة فجعل يشبب
__________
(1) في دلائل البيهقي: يا رسول الله أعجب إليك أن أقتله ؟ (2) أخرجه البخاري في كتاب المغازي، وأخرجه مسلم في 32 كتاب الجهاد 42 باب قتل كعب بن الاشرف ح
119.
وأبو داود في الجهاد باب يؤتى العدو على غرة ح 2768.
(3) من الواقدي والبيهقي.
(*)

(4/7)


بنساء المسلمين (1) ويهجو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وقال موسى بن عقبة: وكان كعب بن الاشرف أحد بني النضير أو فيهم قد آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجاء، وركب إلى قريش فاستغواهم، وقال له أبو سفيان وهو بمكة: أناشدك أديننا أحب إلى الله أم دين محمد وأصحابه، وأينا أهدى في رأيك وأقرب إلى الحق ؟ إنا نطعم الجزور الكوماء ونسقي اللبن على الماء ونطعم ما هبت الشمال.
فقال له كعب بن الاشرف: أنتم أهدى منهم سبيلا.
قال فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا * أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا) [ النساء: 51 - 52 ] وما بعدها (2).
قال موسى ومحمد بن إسحاق: وقدم المدينة يعلن بالعداوة ويحرض الناس على الحرب ولم يخرج من مكة حتى أجمع أمرهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يشبب بأم الفضل بن الحارث وبغيرها من نساء المسلمين.
قال ابن إسحاق: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما حدثني عبد الله بن المغيث بن أبي بردة - من لابن الاشرف ؟ فقال له محمد بن مسلمة أخو بني عبد الاشهل: أنا لك به يا رسول الله أنا أقتله، قال: فافعل إن قدرت على ذلك، قال: فرجع محمد بن مسلمة فمكث ثلاثا لا يأكل ولا يشرب إلا ما يعلق نفسه، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه فقال له: لم تركت الطعام والشراب ؟ فقال يا رسول الله قلت لك قولا لا أدري هل أفي لك به أم لا.
قال: إنما عليك الجهد.
قال: يا رسول الله، إنه لا بد لنا أن نقول، قال: فقولوا ما بدا لكم فأنتم في حل من ذلك.
قال: فاجتمع في قتله محمد بن مسلمة وسلكان بن سلامة بن وقش وهو أبو نائلة أحد بني عبد الاشهل.
وكان أخا كعب بن الاشرف من الرضاعة وعباد بن بشر بن وقش أحد بني عبد الاشهل، والحارث بن أوس بن معاذ أحد بني عبد الاشهل أبو عبس بن جبر أخو بني حارثة، قال فقدموا بين أيديهم إلى عدو الله كعب سلكان بن سلامة أبا نائلة فجاءه فتحدث معه ساعة
فتناشدا شعرا - وكان أبو نائلة يقول الشعر - ثم قال: ويحك يا بن الاشرف إني قد جئتك لحاجة أريد ذكرها لك فاكتم عني، قال أفعل.
قال كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء، عادتنا العرب ورمتنا عن قوس واحدة، وقطعت عنا السبيل حتى ضاع العيال، وجهدت الانفس وأصبحنا قد جهدنا وجهد عيالنا.
فقال كعب: أنا ابن الاشرف أما والله لقد كنت أخبرك يا بن سلامة أن الامر يصير إلى ما أقول، فقال له سلكان: اني قد أردت أن تبيعنا طعاما ونرهنك ونوثق لك وتحسن في ذلك، قال ترهنوني أبناءكم ؟ قال لقد أردت أن تفضحنا، إن معي أصحابا لي على مثل رأيي وقد أردت أن آتيك بهم فتبيعهم وتحسن في ذلك ونرهنك من الحلقة ما فيه وفاء، وأراد
__________
(1) يروى انه شبب بأم الفضل زوج العباس بن عبد المطلب فقال في أبيات منها: أراحل أنت لم ترحل لمنقبة * وتارك أنت أم الفضل بالحرم (2) نقله البيهقي في الدلائل عن إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن عمه موسى ج 3 / 190 - 191، والخبر في الدرر لابن عبد البر (143) وعيون الاثر (1 / 356).
(*)

(4/8)


سلكان أن لا ينكر السلاح إذا جاؤوا بها.
فقال: إن في الحلقة لوفاء.
قال: فرجع سلكان إلى.
أصحابه فأخبرهم خبره، وأمرهم أن يأخذوا السلاح ثم ينطلقوا فيجتمعوا إليه، فاجتمعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: فحدثني ثور بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس قال: مشى معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد ثم وجههم وقال: " انطلقوا على اسم الله - اللهم أعنهم " ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته وهو في ليلة مقمرة، فانطلقوا حتى انتهوا إلى حصنه، فهتف به أبو نائلة وكان حديث عهد بعرس فوثب في ملحفته، فأخذت امرأته بناحيتها وقالت: أنت امرؤ محارب وأن أصحاب الحرب لا ينزلون في هذه الساعة، قال: إنه أبو نائلة لو وجدني نائما ما أيقظني.
فقالت: والله إني لاعرف في صوته الشر.
قال: يقول لها كعب لو دعي الفتى لطعنة أجاب، فنزل فتحدث معهم ساعة وتحدثوا معه ثم قالوا: هل لك يا بن الاشرف أن تتماشى إلى شعب العجوز فنتحدث به بقية ليلتنا هذه ؟ قال إن شئتم.
فخرجوا فمشوا ساعة.
ثم إن أبا نائلة
شام بده (يده) في فود رأسه ثم شم يده فقال ما رأيت كالليلة طيبا أعطر قط، ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها حتى اطمأن ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها فأخذ بفودي رأسه ثم قال: اضربوا عدوا الله ! فاختلفت عليه أسيافهم فلم تغن شيئا.
قال محمد بن مسلمة: فذكرت مغولا (1) في سيفي فأخذته وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حصن إلا أوقدت عليه نار، قال فوضعته في ثنته ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته فوقع عدو الله وقد أصيب الحارث بن أوس (2) بجرح في رجله أو في رأسه أصابه بعض سيوفنا، قال فخرجنا حتى سلكنا على بني أمية بن زيد ثم على بني قريظة ثم على بعاث حتى أسندنا في حرة العريض وقد أبطأ علينا صاحبنا الحارث بن أوس ونزفه الدم فوقفنا له ساعة ثم أتانا يتبع آثارنا فاحتملناه فجئنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر الليل وهو قائم يصلي فسلمنا عليه فخرج إلينا فأخبرناه بقتل عدو الله وتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم على جرح صاحبنا ورجعنا إلى أهلنا فأصبحنا وقد خافت يهود بوقعتنا بعدو الله فليس بها يهودي إلا وهو خائف على نفسه.
قال ابن جرير: وزعم الواقدي أنهم جاؤوا برأس كعب بن الاشرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: وفي ذلك يقول كعب بن مالك: فغودر منهم كعب صريعا * فذلت بعد مصرعه النضير على الكفين ثم وقد علته * بأيدينا مشهرة ذكور بأمر محمد إذ دس ليلا * إلى كعب أخا كعب يسير فما كره فأنزله بمكر * ومحمود أخو ثقة جسور قال ابن هشام: وهذه الابيات في قصيدة له في يوم بني النضير ستأتي.
قلت: كان قتل
__________
(1) مغولا: حديدة دقيقة لها حد ماض (شرح على المواهب اللدنية 2 / 15).
(2) في رواية موسى بن عقبة: أن الذي أصيب هو عباد بن بشر، وهو أيضا في رواية جابر بن عبد الله (انظر دلائل البيهقي.
ودرر ابن عبد البر).
(*)

(4/9)


كعب بن الاشرف على يدي الاوس بعد وقعة بدر، ثم إن الخزرج قتلوا أبا رافع بن أبي الحقيق بعد
وقعة أحد كما سيأتي بيانه إن شاء الله وبه الثقة.
وقد أورد ابن إسحاق شعر حسان بن ثابت: لله در عصابة لاقيتهم * يا بن الحقيق وأنت يا ابن الاشرف يسرون بالبيض الخفاف إليكم * مرحا كأسد في عرين مغرف حتى أتوكم في محل بلادكم * فسقوكم حتفا ببيض ذفف (1) مستبصرين لنصر دين نبيهم * مستصغرين لكل أمر مجحف قال محمد بن إسحاق: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه " فوثب عند ذلك محيصة بن مسعود الاوسي على ابن سنينة - رجل من تجار يهود كان يلابسهم ويبايعهم - فقتله، وكان أخوه حويصة بن مسعود أسن منه ولم يسلم بعد، فلما قتله جعل حويصة يضربه ويقول: أي عدو الله أقتلته ؟ أما والله لرب شحم في بطنك من ماله.
قال محيصة: فقلت والله لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لضربت عنقك، قال فوالله إن كان لاول إسلام حويصة وقال والله لو أمرك محمد بقتلي لتقتلني ؟ قال: نعم، والله لو أمرني بضرب عنقك لضربتها.
قال: فوالله إن دينا بلغ بك هذا لعجب، فأسلم حويصة.
قال ابن إسحاق: حدثني بهذا الحديث مولى لبني حارثة عن ابنة محيصة عن أبيها.
وقال في ذلك محيصة: يلوم ابن أم لو أمرت بقتله * لطبقت ذفراه بأبيض قارب (2) حسام كلون الملح أخلص صقله * متى ما أصوبه فليس بكاذب وما سرني أني قتلتك طائعا * وأن لنا ما بين بصرى ومأرب وحكى ابن هشام عن أبي عبيدة عن أبي عمرو المدني: أن هذه القصة كانت بعد مقتل بني قريظة فإن المقتول كان كعب بن يهوذا فلما قتله محيصة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بني قريظة قال له أخوه حويصة ما قال فرد عليه محيصة بما نقدم فأسلم حويصة يومئذ.
فالله أعلم.
تنبيه: ذكر البيهقي والبخاري قبله خبر بني النضير قبل وقعة أحد والصواب إيرادها بعد ذلك كما ذكر ذلك محمد بن إسحاق وغيره من أئمة المغازي، وبرهانه أن الخمر حرمت ليالي حصار بني النضير وثبت في الصحيح أنه اصطبح الخمر جماعة ممن قتل يوم أحد شهيدا فدل على أن الخمر
كانت إذ ذاك حلالا وإنما حرمت بعد ذلك فتبين ما قلناه من أن قصة بني النضير بعد وقعة أحد.
والله أعلم.
تنبيه آخر: خبر يهود بني قينقاع بعد وقعة بدر كما تقدم وكذلك قتل كعب بن الاشرف
__________
(1) ذفف: أي سريعة القتل.
(2) في ابن هشام: ابن أمي بدلا من ابن أم.
وفيه أبيض قاضب بدلا من قارب، وقاضب: قاطع.
(*)

(4/10)


اليهودي على يدي الاوس وخبر بني النضير بعد وقعة أحد كما سيأتي وكذلك مقتل أبي رافع اليهودي تاجر أهل الحجاز على يدي الخزرج وخبر يهود بني قريظة بعد يوم الاحزاب وقصة الخندق كما سيأتي.