البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي

فصل الاشعار في الخندق وبني قريظة
قال البخاري: حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا شعبة، حدثنا عدي بن ثابت أنه سمع البراء بن عازب قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان: اهجهم أو هاجهم وجبريل معك.
قال البخاري: وزاد إبراهيم بن طهمان عن الشيباني عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة لحسان بن ثابت: أهج المشركين فإن جبريل معك.
وقد رواه البخاري أيضا
ومسلم والنسائي من طرق عن شعبة بدون الزيادة التي ذكرها البخاري يوم بني قريظة.
قال ابن إسحاق رحمه الله: وقال ضرار بن الخطاب بن مرداس أخو بني محارب بن فهر في يوم الخندق (قلت: وذلك قبل إسلامه): ومشفقة تظن بنا الظنونا * وقد قدنا عرندسة طحونا (3) كأن زهاءها أحد إذا ما * بدت أركانه للناظرينا ترى الابدان فيها مسبغات * على الابطال واليلب الحصينا (2)
__________
(1) ذواري الدمع: تسكبه وغزيرته.
(2) في ابن هشام: والحمد بدل والمجد.
(3) عرندسة: الشديدة القوة.
والعرندس: القوي، يريد الكتيبة.
(4) اليلب: الترس أو الدروع من الجلد (*)

(4/149)


وجردا كالقداح مسومات * نؤم بها الغواة الخاطئينا كأنهم إذا صالوا وصلنا * بباب الخندقين مصافحونا أناس لا نرى فيهم رشيدا * وقد قالوا ألسنا راشدينا فأحجرناهم شهرا كريتا * وكنا فوقهم كالقاهرينا (1) نراوحهم ونغدو كل يوم * عليهم في السلاح مدججينا بأيدينا صوارم مرهفات * نقد بها المفارق والشئونا (2) كأن وميضهن معريات * إذا لاحت بأيدي مصلتينا وميض عقيقة لمعت بليل * ترى فيها العقائق مستبينا فلولا خندق كانوا لديه * لدمرنا عليهم أجمعينا ولكن حال دونهم وكانوا * به من خوفنا متعوذينا فإن نرحل فإنا قد تركنا * لدى أبياتكم سعدا رهينا
إذا جن الظلام سمعت نوحا * على سعد يرجعن الحنينا وسوف نزوركم عما قريب * كما زرناكم متوازرينا بجمع من كنانة غير عزل * كأسد الغاب إذ حمت العرينا قال: فأجابه كعب بن مالك أخو بني سلمة رضي الله عنه فقال: وسائلة تسائل ما لقينا * ولو شهدت رأتنا صابرينا صبرنا لا نرى لله عدلا * على ما نابنا متوكلينا وكان لنا النبي وزير صدق * به نعلو البرية أجمعينا نقاتل معشرا ظلموا وعقوا * وكانوا بالعداوة مرصدينا نعالجهم إذا نهضوا إلينا * بضرب يعجل المتسرعينا ترانا في فضافض سابغات * كغدران الملا متسربلينا (3) وفي ايماننا بيض خفاف * بها نشفي مراح الشاغبينا بباب الخندقين كأن أسدا * شوابكهن يحمين العرينا فوارسنا إذا بكروا وراحوا * على الاعداء شوسا معلمينا (4) لننصر أحمدا والله حتى * نكون عباد صدق مخلصينا
__________
(1) شهرا كريتا: أي شهرا كاملا.
(2) الشؤون: جمع شأن: مجمع العظام في أعلى الرأس.
(3) الفضافض: الدروع المتسعة.
والملا: المتسع من الارض، وقيل الصحراء.
(4) الشوس: جمع أشوس، وهو الذي ينظر بمؤخر عينه كبرا.
والمعلم: (فتح وكسر الللام) الذي يجعل لنفسه علامة في الحرب يعرف بها.
(*)

(4/150)


ويعلم أهل مكة حين ساروا * وأحزاب أتوا متحزبينا بأن الله ليس له شريك * وأن الله مولى المؤمنينا
فإما تقتلوا سعدا سفاها * فان الله خير القادرينا سيدخله جناتا طيبات * تكون مقامة للصالحينا كما قد ردكم فلا شريدا * بغيظكم خزايا خائبينا خزايا لم تنالوا ثم خيرا * وكدتم أن تكونوا دامرينا بريح عاصف هبت عليكم * فكنتم تحتها متكمهينا (1) قال ابن إسحاق: وقال عبد الله بن الزبعري السهمي في يوم الخندق (قلت وذلك قبل أن يسلم) حي الديار محا معارف رسمها * طول البلى وتراوح الاحقاب فكأنما كتب اليهود رسومها * ألا الكنيف ومعقد الاطناب (2) قفرا كأنك لم تكن تلهو بها * في نعمة بأوانس أتراب فاترك تذكر ما مضى من عيشة * ومحلة خلق المقام يباب واذكر بلاء معاشر واشكرهم * ساروا بأجمعهم من الانصاب أنصاب مكة عامدين ليثرب * في ذي غياطل جحفل جبجاب (3) يدع الحرون مناهجا معلومة * في كل نشز ظاهر وشعاب فيها الجياد شوازب مجنوبة * قب البطون واحق الاقراب (4) من كل سلهبة وأجرد سلهب * كالسيد بادر غفلة الرقاب جيش عيينة قاصد بلوائه * فيه وصخر قائد الاحزاب قرمان كالبدرين أصبح فيهما * غيث الفقير ومعقل الهراب حتى إذا وردوا المدينة وارتدوا * للموت كل مجرب قضاب شهرا وعشرا قاهرين محمدا * وصحابه في الحرب خير صحاب نادوا برحلتهم صبيحة قلتم * كدنا نكون بها مع الخياب لولا الخنادق غادروا من جمعهم * قتلى لطير سغب وذئاب
قال فأجابه حسان بن ثابت رضي الله عنه فقال: هل رسم دارسة المقام يباب * متكلم لمحاور بجواب
__________
(1) المتكمه: الاعمى الذي لا يبصر.
(2) الكنيف: الحظيرة، الزريبة للابل.
والاطناب: الحبال التي تشد بها الخيام والاخبية.
(3) الغياطل: الجيوش كثيرة الاصوات.
والجبجاب: الكثير.
(4) الشوازب: الضوامر.
المجنونة: المقودة، التي تقاد.
قب: ضامرة.
الاقراب: جمع قرب، وهي الخاصرة.
(*)

(4/151)


قفر عفا رهم السحاب رسومه * وهبوب كل مطلة مرباب (1) ولقد رأيت بها الحلول يزينهم * بيض الوجوه ثواقب الاحساب فدع الديار وذكر كل خريدة * بيضاء آنسة الحديث كعاب واشك الهموم إلى الاله وما ترى * من معشر ظلموا الرسول غضاب ساروا بأجمعهم إليه وألبوا * أهل القرى وبوادي الاعراب جيش عيينة وابن حرب فيهم * متخمطون بحلبة الاحزاب (2) حتى إذا وردوا المدينة وارتجوا * قتل الرسول ومغنم الاسلاب وغدوا علينا قادرين بأيدهم * ردوا بغيظهم على الاعقاب بهبوب معصفة تفرق جمعهم * وجنود ربك سيد الارباب فكفى الاله المؤمنين قتالهم * وأثابهم في الاجر خير ثواب من بعد ما قنطوا ففرق جمعهم * تنزيل نصر مليكنا الوهاب وأقر عين محمد وصحابه * وأذل كل مكذب مرتاب عاتي الفؤاد موقع ذي ريبة * في الكفر ليس بطاهر الاثواب علق الشقاء بقلبه ففؤاده * في الكفر آخر هذه الاحقاب قال وأجابه كعب بن مالك رضي الله عنه أيضا فقال:
أبقى لنا حدث الحروب بقية * من خير نحلة ربنا الوهاب بيضاء مشرفة الذرى ومعاطنا * حم الجذوع غزيرة الاحلاب (3) كاللوب يبذل جمها وحفيلها * للجار وابن العم والمنتاب (4) ونزائعا مثل السراج نمى بها * علف الشعير وجزة المقضاب (5) عرى الشوى منها وأردف نحضها * جرد المتون وسائر الآراب (6) قودا تراح إلى الصباح إذا غدت * فعل الضراء تراح للكلاب (7)
__________
(1) رهم: جمع رهمة.
وهو المطر الضعيف.
مرباب: دائمة.
(2) متخمطون: مختلطون.
ويقال: المتخمط: الشديد الغضب والمتكبر.
قاله أبو ذر في شرح السيرة.
(3) المعاطن: منابت النخل عند الماء، شبهها بمعاطن الابل وهي مباركها عند الماء (الروض 2 / 204).
حم الجذوع: السواد، وصفها بالحمة لانها تضرب إلى السواد من الخضرة والنعمة (السهيلي 2 / 204).
(4) اللوب: جمع لوبة، وهي الحرة: أرض ذات حجارة سوداء.
واللوب أيضا: النحل، ويحتمل تشبيهه بالنحل لكثرتها.
(5) النزائع: الخيل العربية التي حملت من أرضها إلى أرض أخرى.
(6) الشوى: القوائم.
النخص: اللحم.
جرد المتون: ملس الظهور.
والاراب: جمع إربة وهي المفاصل.
(7) القود: الطوال الاعناق.
الكلاب: جمع كالب، الصائد صاحب الكلاب.
(*)

(4/152)


وتحوط سائمة الديار وتارة * تردي العدى وتئوب بالاسلاب حوش الوحوش مطارة عند الوغى * عبس اللقاء مبينة الانجاب (1) علفت على دعة فصارت بدنا * دخس البضيع خفيفة الاقصاب يغدون بالزغف المضاعف شكة * وبمترصات في الثقاف صياب (2) وصوارم نزع الصياقل علبها * وبكل أروع ماجد الانساب يصل اليمين بمارن متقارب * وكلت وقيعته إلى خباب (3)
وأغر أزرق في القناة كأنه * في طخية الظلماء ضوء شهاب وكتيبة ينفى القران قتيرها * وترد حد قواحز النشاب (4) جأوى ململمة كأن رماحها * في كل مجمعة صريمة غاب (5) تأوي إلى ظل اللواء كأنه * في صعدة الخطي فئ عقاب أعيت أبا كرب وأعيت تبعا * وأبت بسالتها على الاعراب ومواعظ من ربنا نهدى بها * بلسان أزهر طيب الاثواب عرضت علينا قاشتهينا ذكرها * من بعد ما عرضت على الاحزاب خكما يراها المجرمون بزعمهم * حرجا ويفهمها ذوو الالباب جاءت سخينة كي تغالب ربها * فليغلبن مغالب الغلاب (7) قال ابن هشام: حدثني من أثق به، حدثني عبد الملك بن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له لما سمع منه هذا البيت: لقد شكرك الله يا كعب على قولك هذا.
قلت ومراده بسخينة قريش وإنما كانت العرب تسميهم بذلك لكثرة أكلهم الطعام السخن الذي لا يتهيأ لغيرهم غالبا من أهل البوادي (8) فالله أعلم.
قال ابن إسحاق وقال كعب بن مالك أيضا: من سره ضرب يمعمع بعضه * بعضا كمعمعة الاباء المحرق (9)
__________
(1) حوش: الوحشية.
مطارة: مستخفة.
(2) دخس: كثيرة اللحم.
(3) المترصات: الشديدات.
الزغف: الدروع اللينة الواسعة.
(4) وقيعته: صنعه وصقله.
خباب: اسم قين.
(5) القتير: مسامير حلق الدرع.
قواحز: النبال التي تصيب الافخاذ، وفي ابن هشام: قواحذ.
(6) جأوى يخالط سوادها حمرة.
والصريمة: اللهب المتوقد، وفي ابن هشام: الضريمة.
(7) سخينة: لقب قريش في الجاهلية.
(8) قال السهيلي: كان العرب إذا أسنتوا أكلوا العلهز، وهو الوبر والدم، وتأكل قريش الخزيرة، فنفست عليهم ذلك.
فلقبوهم سخينة.
(9) الاباء: من ابن هشام، وفي الاصل الاناء.
والاباء القصب واحدته: إباءة.
(*)

(4/153)


فيأت مأسدة تس سيوفها * بين المذاد وبين جذع الخندق (1) دربوا بضرب المعلمين وأسلموا * مهجات أنفسهم لرب المشرق في عصبة نصر الاله نبيه * بهم وكان بعبده ذا مرفق في كل سابغة تخط فضولها * كالنهي هبت ريحه المترقرق (2) بيضاء محكمة كأن قتيرها * حدق الجنادب ذا سك (نسك) موثق جدلاء يحفزها نجاد مهند * صافي الحديدة صارم ذي رونق (3) تلكم مع التقوى تكون لباسنا * يوم الهياج وكل ساعة مصدق نصل السيوف إذا قصرن بخطونا * قدما ونلحقها إذا لم تلحق.
فترق الجماجم ضاحيا هاماتها * بله الاكف كأنها لم تخلق (4) نلقى العدو بفخمة ملمومة * تنفي الجموع كقصد رأس المشرق (5) ونعد للاعداء كل مقلص * ورد ومحجول القوائم أبلق تردى بفرسان كأن كماتهم * عند الهياج أسود طل ملثق (6) صدق يعاطون الكماة حتوفهم * تحت العماية بالوشيح المزهق أمر الاله بربطها لعدوه * في الحرب إن الله خير موفق لتكون غيظا للعدو وحيطا * للدار إن دلفت خيول النزق ويعيننا الله العزيز بقوة * منه وصدق الصبر ساعة نلتقي ونطيع أمر نبينا ونجيبه * وإذا دعا لكريهة لم نسبق ومتى ينادى للشدائد نأتها * ومتى نرى الحومات فيها نعنق
من يتبع قول النبي فإنه * فينا مطاع الامر حق مصدق فبذاك ينصرنا ويظهر عزنا * ويصيبنا من نيل ذاك بمرفق إن الذين يكذبون محمدا * كفروا وضلوا عن سبيل المتقي قال ابن إسحاق: وقال كعب بن مالك أيضا: لقد علم الاحزاب حين تألبوا * علينا وراموا ديننا ما نوادع
__________
(1) المذاد: موضع بالمدينة حيث حفر الخندق.
(2) النهي: الغدير.
(3) جدلاء: الدرع المحكمة النسج.
نجاد: حمائل السيف.
(4) بله: اسم فعل بمعنى اترك ودع (5) المشرق: جبل بين الصريف والعصيم من أرض ضبة (معجم البلدان).
(6) ملثق: ما يكون عن الطل من زلق وطين.
والاسد أجوع ما تكون وأجرأ في ذلك الحين.
(*)

(4/154)


أضاميم من قيس بن غيلان أصفقت * وخندق لم يدروا بما هو واقع (1) يذودوننا عن ديننا ونذودهم * عن الكفر والرحمن راد وسامع إذا غايظونا في مقام أعاننا * على غيظهم نصر من الله واسع وذلك حفظ الله فينا وفضله * علينا ومن لم يحفظ الله ضائع هدانا لدين الحق واختاره لنا * ولله فوق الصانعين صانع (2) قال ابن هشام: وهذه الابيات في قصيدة له - يعني طويلة - قال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت في مقتل بني قريظة: لقد لقيت قريظة ما ساءها * وما وجدت لذل من نصير أصابهم بلاء كان فيه * سوى ما قد أصاب بني النضير غداة أتاهم يهوى إليهم * رسول الله كالقمر المنير
له خيل مجنبة تغادى * بفرسان عليها كالصقور (3) تركناهم وما ظفروا بشئ * دماؤهم عليها كالعبير فهم صرعي تحوم الطير فيهم * كذاك يدان ذو العند الفجور فأنذر مثلها نصحا قريشا * من الرحمن إن قبلت نذيري قال: وقال حسان بن ثابت أيضا في بني قريظة: تعاقد معشر نصروا قريشا * وليس لهم ببلدتهم نصير هم أوتوا الكتاب فضيعوه * وهم غمي من التوراة بور كفرتم بالقرأن وقد أتيتم * بتصديق الذي قال النذير فهان على سراة بني لؤي * حريق بالبويرة مستطير (4) فأجابه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب فقال: ادام الله ذلك من صنيع * وحرق في طوائفها السعير ستعلم أينا منها بنزه * وتعلم أي أرضينا تضير فلو كان النخيل بها ركابا * لقالوا لا مقام لكم فسيروا قلت: وهذا ما قاله أبو سفيان بن الحارث قبل أن يسلم، وقد تقدم في صحيح البخاري بعض هذه الابيات.
وذكر ابن إسحاق جواب حسان في ذلك لجبل بن جوال الثعلبي تركناه قصدا.
__________
(1) أضاميم: واحدتها أضمامة وهو كل شئ مجتمع.
وتروى أصاميم بالصاد: الخالصون في أنسابهم.
(2) في ابن هشام: صنائع.
(3) خيل مجنبة: هي التي تقاد ولا تركب.
(4) سراة القوم: إشرافهم، والبويرة: موضع بني قريظة.
(*)

(4/155)


قال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت أيضا يبكي سعدا وجماعة ممن استشهد يوم بني
قريظة: ألا يا لقومي هل لما حم دافع * وهل ما مضى من صالح العيش راجع تذكرت عصرا قد مضى فتهافتت * بنات الحشا وانهل مني المدامع صبابة وجد ذكرتني إخوة * وقتلى مضى فيها طفيل ورافع (1) وسعد فأضحوا في الجنان وأوحشت * منازلهم فالارض منهم بلاقع وفوا يوم بدر للرسول وفوقهم * ظلال المنايا والسيوف اللوامع دعا فأجابوه بحق وكلهم * مطيع له في كل أمر وسامع فما نكلوا حتى توالوا جماعة * ولا يقطع الآجال إلا المصارع لانهم يرجون منه شفاعة * إذا لم يكن إلا النبيون شافع فذلك يا خير العباد بلاؤنا * إجابتنا لله والموت ناقع لنا القدم الاولى إليك وخلفنا * لاولنا في ملة الله تابع (2) ونعلم أن الملك لله وحده * وأن قضاء الله لابد واقع