البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي

مقتل أبي رافع اليهودي
قال ابن إسحاق: ولما انقضى شأن الخندق، وأمر بني قريظة، وكان سلام بن أبي الحقيق وهو أبو رافع - فيمن حزب الاحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الاوس، قبل أحد قد قتلت كعب بن الاشرف، فاستأذن الخزرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل سلام بن أبي الحقيق وهو بخيبر فأذن لهم.
قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن مسلم الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك قال: وكان مما صنع الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أن هذين الحيين من الانصار الاوس والخزرج كانا يتصاولان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تصاول الفحلين لا تصنع الاوس شيئا فيه غناء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقالت الخزرج والله لا يذهبون بهذه فضلا علينا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها، وإذا فعلت الخزرج شيئا قالت الاوس مثل ذلك.
قال: ولما أصابت الاوس كعب بن الاشرف في عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالت الخزرج: والله لا يذهبون بها فضلا علينا أبدا.
قال: فتذكروا من
رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في العداوة كابن الاشرف ؟ فذكروا ابن أبي الحقيق وهو بخيبر، فاستأذنوا الرسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله، فأذن لهم فخرج من الخزرج من بني سلمة خمسة نفر: عبد الله بن عتيك، ومسعود بن سنان، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة الحارث بن ربعي، وخزاعي بن أسود
__________
(1) في الديوان: صبابة وجد ذكرتني أحبة * وقتلى مضوا فيها نفيع ودافع (2) في الديوان: في طاعة بدل: في ملة.
(*)

(4/156)


حليف لهم من أسلم.
فخرجوا وأمر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عتيك ونهاهم أن يقتلوا وليدا أو امرأة، فخرجوا حتى إذا قدموا خيبر أتوا دار ابن أبي الحقيق ليلا، فلم يدعوا بيتا في الدار حتى أغلقوه على أهله.
قال: وكان في علية له إليها عجلة (1) قال: فأسندوا إليها حتى قاموا على بابه، فاستأذنوا فخرجت إليهم امرأته، فقالت: من أنتم ؟ قالوا: أناس من العرب نلتمس الميرة.
قالت: ذاكم صاحبكم فادخلوا عليه.
فلما دخلنا أغلقنا علينا وعليه الحجرة تخوفا أن يكون دونه مجاولة تحول بيننا وبينه.
قال: فصاحت امرأته فنوهت بنا، فابتدرناه وهو على فراشه بأسيافنا، فوالله ما يدلنا عليه في سواد الليل إلا بياضه كأنه قبطية (2) ملقاة.
قال: فلما صاحت بنا امرأته جعل الرجل منا يرفع عليها سيفه، ثم يذكر نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكف يده، ولولا ذلك لفرغنا منها بليل.
قال فلما ضربناه بأسيافنا تحامل عليه عبد الله بن أنيس بسيفه في بطنه حتى أنفذه وهو يقول: قطني قطني أي حسبي حسبي.
قال: وخرجنا وكان عبد الله بن عتيك سئ البصر قال: فوقع من الدرجة فوثئت يده وثئا شديدا وحملناه حتى نأتي به منهرا من عيونهم، فندخل فيه فأوقدوا النيران واشتدوا في كل وجه يطلبونا، حتى إذا يئسوا رجعوا إليه فاكتنفوه وهو يقضي.
قال فقلنا: كيف لنا بأن نعلم بأن عدو الله قد مات ؟ قال: فقال رجل منا: أنا أذهب فانظر لكم.
فانطلق حتى دخل في الناس قال: فوجدتها - يعني امرأته - ورجال يهود حوله وفي يدها المصباح تنظر في وجهه وتحدثهم وتقول: أما والله قد سمعت صوت ابن عتيك، ثم أكذبت نفسي وقلت:
أني ابن عتيك بهذه البلاد.
ثم أقبلت عليه تنظر في وجهه فقالت: فاظ واله يهود، فما سمعت كلمة كانت ألذ على نفسي منها.
قال: ثم جاءنا فأخبرنا، فاحتملنا صاحبنا وقدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه بقتل عدو الله، واختلفنا عنده في قتله كلنا يدعيه.
قال: فقال: هاتوا أسيافكم، فجئنا بها فنظر إليها فقال لسيف عبد الله بن أنيس: هذا قتله أرى، فيه أثر الطعام.
قال ابن إسحاق: فقال حسان بن ثابت في ذلك: لله در عصابة لاقيتهم * يا ابن الحقيق وأنت يا ابن الاشرف يسرون بالبيض الخفاف إليكم * مرحا كأسد في عرين مغرف (3) حتى أتوكم في محل بلادكم * فسقوكم حتفا ببيض ذفف مستبصرين لنصر دين نبيهم * مستصغرين لكل أمر مجحف
__________
(1) عجلة: جدع النخلة ينقر ويجعل كالسلم فيصعد عليه إلى العلالي.
(2) قبطية: ثياب بيض تصنع في مصر.
(3) من ابن هشام، وفي الاصل: فوثبت يده وثبا.
وثئت: أي أصاب عظمها شئ ليس بالكسر، وهو وجع يصيب اللحم دون العظم.
(4) مغرف: ملتف الاغصان.
(*)

(4/157)


هكذا أورد هذه القصة الامام محمد بن إسحاق (1) رحمه الله.
وقد قال الامام أبو عبد الله البخاري: حدثنا إسحاق بن نصر، حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن أبي زائدة عن أبيه، عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم رهطا إلى أبي رافع، فدخل عليه عبد الله بن عتيك بيته ليلا وهو نائم فقتله (2).
قال البخاري: حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا عبيدالله (3) بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي رافع اليهودي رجالا (4) من الانصار وأمر عليهم عبد الله بن عتيك وكان أبو رافع يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعين عليه.
وكان في حصن له بأرض الحجاز، فلما دنوا منه وقد غربت الشمس.
وراح الناس
بسرحهم قال عبد الله [ لاصحابه ]: اجلسوا مكانكم، فإني منطلق متلطف للبواب لعلي أن أدخل، فأقبل حتى دنا من الباب، ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجته وقد دخل الناس فهتف به البواب: يا عبد الله إن كنت تريد أن تدخل فادخل فإني أريد أن أغلق الباب.
فدخلت فكمنت فلما دخل الناس أغلق الباب ثم علق الاغاليق على ود قال: فقمت إلى الاقاليد (5) وأخذتها وفتحت الباب وكان أبو رافع يسمر عنده، وكان في علالي له فلما ذهب عنه أهل سمرة صعدت إليه فجعلت كلما فتحت بابا أغلقت علي من داخل فقلت إن القوم سدروا (6) لي لم يخلصوا ألي حتى أفتله.
فانتهيت إليه فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله، لا أدري أين هو من البيت قلت أبا رافع.
قال من هذا.
فأهويت نحو الصوت، فأضربه بالسيف ضربة وأنا دهش فما أغنيت شيئا، وصاح فخرجت من البيت فأمكث غير بعيد، ثم دخلت إليه فقلت ما هذا الصوت يا أبا رافع فقال: لامك الويل إن رجلا في البيت [ ضربني ] قبل بالسيف.
قال: فأضربه ضربة أثخنته ولم أقتله ثم وضعت صبيب (7) السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره، فعرفت أني قتلته فجعلت أفتح الابواب بابا بابا، حتى انتهيت إلى درجة له، فوضعت رجلي وأنا أرى أني قد انتهيت فوقعت في ليلة مقمرة فانكسرت ساقي فعصبتها بعمامة حتى انطلقت حتى جلست على الباب، فقلت لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته فلما صاح الديك، قام الناعي على السور فقال: أنعى أبا رافع ناصر أهل الحجاز، فانطلقت إلى أصحابي فقلت: النجاء.
فقد قتل الله أبا رافع فانتهيت إلى
__________
(1) سيرة ابن هشام ج 3 / 286.
(2) في 64 كتاب المغازي 16 باب قتل أبي رافع ح 4038.
(3) من البخاري، وفي الاصل: عبد الله وهو تحريف.
(4) قال ابن حجر في فتح الباري: عبد الله بن عتيك، وعبد الله بن عتبة في اناس معهم.
(5) الاقاليد: جمع إقليد وهو المفتاح.
(6) في البخاري: نذروا لي.
(7) صبيب السيف لا معنى لها هنا والصبيب سيلان الدم من الفم.
وفي البخاري ضبة قال ابن حجر: وهو حرف حد
السيف ويجمع على ضبات.
قال أبو ذر صبة بالصاد: طرفه.
(*)

(4/158)


النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته فقال ابسط رجلك فبسطت رجلي فمسحها فكأنما لم اشتكها قط (1).
قال البخاري: حدثنا أحمد بن عثمان بن حكيم الاودي، حدثنا شريح، حدثنا إبراهيم بن يوسف عن أبيه عن أبي إسحاق: سمعت البراء قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي رافع عبد الله بن عتيك وعبد الله بن عتبة في ناس معهم، فانطلقوا حتى دنوا من الحصن فقال لهم عبد الله بن عتيك: امكثوا أنتم حتى أنطلق أنا فانظر قال: فتلطفت حتى أدخل الحصن، ففقدوا حمارا لهم فخرجوا بقيس يطلبونه، قال: فخشيت أن أعرف قال: فغطيت رأسي وجلست كأني أقضي حاجة [ ثم نادى صاحب الباب ] (2) فقال: من أراد أن يدخل فليدخل قبل أن أغلقه.
فدخلت ثم اختبأت في مربط حمار عند باب الحصن فتعشوا عند أبي رافع، وتحدثوا حتى ذهب ساعة من الليل، ثم رجعوا إلى بيوتهم، فلما هدأت الاصوات ولا أسمع حركة خرجت، قال: ورأيت صاحب الباب حيث وضع مفتاح الحصن في كوة فأخذته، ففتحت به باب الحصن.
قال: قلت: إن نذر بي القوم، انطلقت على مهل، ثم عمدت إلى أبو اب بيوتهم، فغلقتها عليهم من ظاهر، ثم صعدت إلى أبي رافع في سلم، فإذا البيت مظلم، قد طفئ سراجه فلم أدر أين الرجل، فقلت: يا أبا رافع قال: من هذا ؟ فعمدت نحو الصوت فأضربه وصاح فلم تغن شيئا.
قال: ثم جئته كأني أغيثه، فقلت: ما لك يا أبا رافع ؟ وغيرت صوتي، قال: لا أعجبك لامك الويل دخل علي رجل فضربني بالسيف، قال: فعمدت إليه أيضا فأضربه أخرى، فلم تغن شيئا فصاح وقام أهله ثم جئت وغيرت صوتي كهيئة المغيث، فإذا هو مستلق على ظهره فأضع السيف في بطنه ثم انكفئ عليه حتى سمعت صوت العظم ثم خرجت دهشا، حتى أتيت السلم أريد أن أنزل فأسقط منه فانخلعت رجلي فعصبتها ثم أتيت أصحابي أحجل، فقلت: انطلقوا فبشروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني لا أبرح حتى أسمع الناعية فلما كان في وجه الصبح صعد الناعية فقال: أنعي أبا رافع قال: فقمت أمشي ما بي قلبة (3) فأدركت أصحابي قبل أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبشرته (4).
تفرد به
البخاري بهذه السياقات من بين أصحاب الكتب الستة ثم قال: قال الزهري: قال أبي بن كعب: فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر فقال أفلحت الوجوه قال أفلح وجهك يا رسول الله قال أفتكتموه قالوا: نعم قال: ناولني السيف فسله فقال أجل هذا طعامه في ذباب السيف (5).
قلت يحتمل أن عبد الله بن عتيك لما سقط من تلك الدرجة انفكت قدمه وانكسرت
__________
(1) البخاري في 64 كتاب المغازي 16 باب ح 4039.
فتح الباري 7 / 274.
(2) ما بين معكوفين في الحديث من البخاري.
(3) قلبة: بفتح القاف واللام: أي علة انقلب بها قال الفراء: أصل القلاب بكسر القاف: داء يصيب البعير فيموت من يومه فقيل لكل من سلم من علة: ما به قلبة: أي ليست به علة تهلكه.
(4) البخاري 64 كتاب المغازي 16 باب ح 4040 (ج 7 / 276).
(5) رواية ابن عقبة ذكرها ابن عبد البر في الدرر (186) باختصار.
والبيهقي في الدلائل 4 / 39.
(*)

(4/159)


ساقه ووثبت رجله فلما عصبها استكن ما به لما هو فيه من الامر الباهر ولما أراد المشي أعين على ذلك لما هو فيه من الجهاد النافع، ثم لما وصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستقرت نفسه ثاوره الوجع في رجله فلما بسط رجله ومسح رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب ما كان بها من بأس في الماضي ولم يبق بها وجع يتوقع حصوله في المستقبل جمعا بين هذه الرواية والتي تقدمت والله أعلم.
هذا وقد ذكر موسى بن عقبة في مغازيه مثل سياق محمد بن إسحاق وسمى الجماعة الذين ذهبوا إليه كما ذكره ابن إسحاق وإبراهيم وأبو عبيد.
مقتل خالد بن سفيان الهذلي
ذكره الحافظ البيهقي في الدلائل تلو مقتل أبي رافع (1).
قال الامام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن ابن عبد الله بن أنيس عن أبيه قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه قد بلغني أن خالد بن سفيان بن نبيح الهذلي يجمع لي الناس ليغزوني وهو بعرنة (2) فائته فاقتله.
قال: قلت: يا رسول الله انعته لي، حتى أعرفه.
قال: إذا
رأيته وجدت له قشعريرة.
قال: فخرجت متوشحا سيفي، حتى وقعت عليه وهو بعرنة مع ظعن يرتاد لهن منزلا، وحين كان وقت العصر، فلما رأيته وجدت ما وصف لي رسول الله صلى الله عليه وسلم من القشعريرة، فأقبلت نحوه، وخشيت أن يكون بيني وبينه مجاولة تشغلني عن الصلاة، فصليت وأنا أمشي نحوه، اومئ برأسي للركوع والسجود فلما انتهيت إليه قال: من الرجل ؟ قلت: رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل، فجاءك لذلك.
قال: أجل أنا في ذلك قال فمشيت معه شيئا، حتى إذا أمكنني، حملت عليه السيف حتى قتلته، ثم خرجت وتركت ظعائنه مكبات عليه، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآني قال: أفلح الوجه قال: قلت: قتلته يا رسول الله.
قال: صدقت.
قال: ثم قام معي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل في بيته فأعطاني عصا فقال: أمسك هذه عندك يا عبد الله بن أنيس.
قال: فخرجت بها على الناس، فقالوا: ما هذه العصا ؟ قال: قلت: أعطانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرني أن أمسكها.
قالوا: أو لا ترجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتسأله عن ذلك.
قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله لم أعطيتني هذه العصا ؟ قال: آية بيني وبينك يوم القيامة إن أقل الناس المتخصرون (3) يومئذ.
قال فقرنها عبد الله بسيفه فلم تزل معه، حتى إذا مات أمر بها فضمت في كفنه ثم دفنا جميعا (4).
ثم رواه الامام أحمد: عن يحيى بن آدم، عن عبد الله بن ادريس، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير عن بعض
__________
(1) دلائل النبوة ج 4 / 40 باب قتل ابن نبيح الهذلي.
(2) عرنة: موضع بقرب عرفة موقف الحجيج.
معجم ما استعجم 3 / 935.
(3) المتخصرون: المتكئون على المخاصر وهي العصي، واحدتها: مخصرة.
(4) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 3 / 496.
(*)

(4/160)


ولد عبد الله بن أنيس - أو قال عن عبد الله بن عبد الله بن أنيس - عن عبد الله بن أنيس فذكر نحوه.
وهكذا رواه أبو داود: عن أبي معمر، عن عبد الوارث عن محمد بن إسحاق: عن محمد بن جعفر، عن عبد الله بن أنيس عن أبيه فذكر نحوه ورواه الحافظ البيهقي من طريق محمد بن
سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبد الله بن عبد الله بن أنيس عن أبيه فذكره.
وقد ذكر قصة عروة بن الزبير وموسى بن عقبة في مغازيهما مرسلة فالله أعلم.
قال ابن هشام وقال عبد الله بن أنيس في قتله خالد بن سفيان: تركت ابن ثور كالحوار وحوله * نوائح تفري كل جيب معدد (1) تناولته والظعن خلفي وخلفه * بأبيض من ماء الحديد المهند عجوم لهام الدارعين كأنه * شهاب غضى من ملهب متوقد أقول له والسيف يعجم رأسه * أنا ابن أنيس فارس غير قعدد (2) انا ابن الذي لم ينزل الدهر قدره * رحيب فناء الدار غير مزند (3) وقلت له: خذها بضربة ماجد * خفيف على دين النبي محمد وكنت إذا هم النبي بكافر * سبقت إليه باللسان وباليد قلت: عبد الله بن أنيس (4) بن حرام: أبو يحيى الجهني صحابي مشهور كبير القدر، كان فيمن شهد العقبة وشهد أحدا والخندق وما بعد ذلك وتأخر موته بالشام إلى سنة ثمانين على المشهور وقيل توفي سنة أربع وخمسين والله أعلم.
وقد فرق علي بن الزبير وخليفة بن خياط بينه وبين عبد الله بن أنيس أبي عيسى الانصاري الذي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعا أحد بأداوة فيها ماء فحل فمها وشرب منها.
كما رواه أبو داود والترمذي من طريق عبد الله العمري عن عيسى بن عبد الله بن أنيس عن أبيه ثم قال الترمذي وليس إسناده يصح وعبد الله العمري ضعيف من قبل حفظه.
قصة عمرو بن العاص مع النجاشي
قال محمد بن إسحاق بعد مقتل أبي رافع: وحدثني يزيد بن أبي حبيب، عن راشد مولى حبيب بن أوس [ أبي ] (5) الثقفي، عن حبيب بن [ أبي ] أوس، حدثني عمرو بن العاص من فيه
__________
(1) في ابن هشام: مقدد، والحوار: ولد الناقة إذا كان صغيرا قبل أن يفصل عن أمه.
(2) القعدد: الجبان اللئيم.
(3) مزند: الضيق.
(4) قال ابن الاثير في أسد الغابة: عبد الله بن أنيس بن أسعد بن حرام بن خبيب بن مالك بن مالك بن غنم.
كان مهاجريا انصاريا عقبيا شهد بدرا وأحدا وما بعدهما.
قيل من جهينة حليف للانصار وقيل هو من الانصار.
مات سنة أربع وسبعين.
قال ابن منده: فرق أبو حاتم بينه وبين ابن أنيس الجهني وأراهما واحدا.
(انظر أسد الغابة 3 / 119.
الاصابة 2 / 278).
(5) من ابن هشام، في الموضعين.
(*)

(4/161)


قال: لما انصرفنا يوم الاحزاب عن الخندق جمعت رجالا من قريش، كانوا يرون رأيي، ويسمعون مني، فقلت لهم: تعلمون والله أني أرى أمر محمد يعلو الامور علوا منكرا، وإني لقد رأيت أمرا فما ترون فيه.
قالوا: وما رأيت قال: رأيت أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي.
فإنا إن نكن تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمد، وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا فلن يأتينا منهم إلا خير.
قالوا: إن هذا الرأي.
قلت: فاجمعوا لنا ما نهدي له، فكان أحب ما يهدي إليه من أرضنا الادم فجمعنا له أدما كثيرا، ثم خرجنا حتى قدمنا عليه.
فوالله إنا لعنده إذ جاءه عمرو بن أمية الضمري، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه إليه في شأن جعفر (1) وأصحابه.
قال: فدخل عليه ثم خرج من عنده.
قال: فقلت لاصحابي: هذا عمرو بن أمية، لو قد دخلت على النجاشي فسألته إياه فأعطانيه، فضربت عنقه، فإذا فعلت رأيت قريش أني قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد.
قال: فدخلت عليه فسجدت له كما كنت أصنع.
فقال: مرحبا بصديقي هل أهديت لي من بلادك شيئا ؟ قال: قلت: نعم أيها الملك قد أهديت لك أدما كثيرا.
قال ثم قربته إليه فأعجبه واشتهاه.
ثم قلت له: أيها الملك إني قد رأيت رجلا خرج من عندك، وهو رسول رجل عدو لنا فأعطنيه لاقتله، فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا.
قال: فغضب ثم مد يده فضرب بها أنفه ضربة ظننت أنه قد كسره، فلو انشقت الارض لدخلت فيها فرقا.
ثم قلت: أيها الملك، والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه.
قال: أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الاكبر
الذي كان يأتي موسى فتقتله ؟ قال: قلت أيها الملك أكذاك هو ؟ قال ويحك يا عمرو، أطعني وأتبعه، فإنه والله لعلى الحق، وليظهرن على من خالفه، كما ظهر موسى بن عمران على فرعون وجنوده، قال: قلت: افتبايعني له على الاسلام ؟ قال: نعم، فبسط يده فبايعته على الاسلام، ثم خرجت على أصحابي وقد حال رأيي عما كان عليه وكتمت أصحابي إسلامي.
ثم خرجت عامدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لاسلم فلقيت خالد بن الوليد، وذلك قبيل الفتح وهو مقبل من مكة فقلت أين أبا سليمان ؟ فقال والله لقد استقام الميسم (2) وان الرجل لنبي، أذهب والله أسلم، فحتى متى ؟ قال: قلت: والله ما جئت إلا لاسلم.
قال: فقدمنا المدينة على النبي صلى الله عليه وسلم فتقدم خالد بن الوليد فأسلم وبايع، ثم دنوت فقلت: يا رسول الله إني أبايعك على أن تغفر لي ما تقدم من ذنبي ولا أذكر ما تأخر.
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمرو بايع فإن الاسلام يجب ما كان قبله وإن الهجرة تجب ما كان قبلها.
قال: فبايعته ثم انصرفت.
قال ابن إسحاق وقد حدثني من لا أتهم:
__________
(1) في الواقدي: بعثه إليه بكتاب إليه يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان.
(2 / 742).
(2) الميسم: المكواة التي تكوى بها الابل وتوسم.
وفي رواية أبي ذر في شرح السيرة، " المنسم " قال: " ومعناه تبين الطريق ووضح " (*)

(4/162)


أن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة كان معهما، أسلم حين أسلما، فقال عبد الله بن أبي الزبعري السهمي: أنشد عثمان بن طلحة خلفنا * وملقى نعال القوم عند المقبل (1) وما عقد الآباء من كل حلفة * وما خالد من مثلها بمحلل أمفتاح بيت غير بيتك تبتغي * وما تبتغي من بيت مجد مؤثل فلا تأمنن خالدا بعد هذه * وعثمان جاءا بالدهيم المعضل قلت: كان إسلامهم بعد الحديبية (2)، وذلك أن خالد بن الوليد كان يومئذ في خيل المشركين كما سيأتي بيانه فكان ذكر هذا الفصل في إسلامهم بعد ذلك أنسب.
ولكن ذكرنا ذلك
تبعا للامام محمد بن إسحاق رحمه الله تعالى لان أول ذهاب عمرو بن العاص إلى النجاشي كان بعد وقعة الخندق الظاهر أنه ذهب بقية سنة خمس.
والله أعلم.
فصل في تزويج النبي صلى الله عليه وسلم بام حبيبة ذكر البيهقي بعد وقعة الخندق من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس في قوله تعالى: (عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة) [ الممتحنة: 7 ] قال هو تزويج النبي صلى الله عليه وسلم بأم حبيبة بنت أبي سفيان، فصارت أم المؤمنين وصار معاوية خال المؤمنين (3).
ثم قال البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ [ قال: حدثنا علي بن عيسى، قال ] (4) حدثنا أحمد بن نجدة، حدثنا يحيى بن عبد الحميد، أنبأنا ابن المبارك، عن معمر، عن الزهري عن عروة، عن أم حبيبة (5) انها كانت عند عبيدالله (6) بن جحش وكان رحل إلى النجاشي فمات.
وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج بأم حبيبة وهي بأرض الحبشة وزوجها إياه النجاشي ومهرها أربعة آلاف
__________
(1) قوله خلفنا، وفي نسخة لابن هشام: حلفنا ولعله الصواب.
(2) في رواية الواقدي: كان ذلك قبيل الفتح، وان عمرا وخالدا وعثمان بن طلحة قدموا المدينة لهلال صفر سنة ثمان 2 / 745.
(3) دلائل النبوة ج 3 / 459.
وتفسير القرطبي 18 / 58.
قال البيهقي: ذهب علماؤنا إلى أن هذا حكم لا يتعدى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فهن يصرن أمهات المؤمنين في التحريم، ولا يتعدى هذا التحريم إلى اخوتهن، ولا إلى اخواتهن ولا إلى بناتهن والله أعلم.
(4) سقطت من الاصل واستدركت من دلائل البيهقي.
(5) أم حبيبة: واسمها رملة وقيل: هند، والمشهور رملة وهو الصحيح عند أهل العلم بالنسب والسير، والحديث.
ولدت قبل المبعث بسبعة عشر عاما، تزوجها عبيدالله بن جحش بن رئاب بن يعمر الاسدي، فولدت له حبيبة وبها كنيت.
أسلما، ثم هاجرا إلى الحبشة.
ارتد زوجها عن الاسلام وتنصر وفارقها، وثبتها الله على دينها.
وتوفيت سنة أربع وأربعين.
(6) من ابن سعد والواقدي.
وفي الاصل عبد الله تحريف.
(*)

(4/163)


درهم (1) وبعث بها مع شرحبيل بن حسنة وجهزها من عنده وما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بشئ.
قال وكان مهور أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أربعمائة.
قلت: والصحيح أن مهور أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كانت ثنتي عشرة أوقية ونشأ، والوقية أربعون درهما والنش النصف وذلك يعدل خمسمائة درهم.
ثم روى البيهقي: من طريق ابن لهيعة، عن أبي الاسود، عن عروة أن عبيدالله بن جحش مات بالحبشة نصرانيا فخلف على زوجته أم حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجها منه عثمان بن عفان رضي الله عنه.
قلت أما تنصر عبيدالله بن جحش فقد تقدم بيانه، وذلك على أثر ما هاجر مع المسلمين إلى أرض الحبشة استزله الشيطان، فزين له دين النصارى، فصار إليه حتى مات عليه، لعنة الله، وكان يعير المسلمين فيقول لهم أبصرنا وصأصأتم وقد تقدم شرح ذلك في هجرة الحبشة.
وأما قول عروة: إن عثمان زوجها منه فغريب.
لان عثمان كان قد رجع إلى مكة قبل ذلك ثم هاجر إلى المدينة وصحبته زوجته رقية كما تقدم والله أعلم.
والصحيح ما ذكره يونس، عن محمد بن إسحاق قال: بلغني أن الذي ولى نكاحها ابن عمها خالد بن سعيد بن العاص.
قلت وكان وكيل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبول العقد أصحمة النجاشي ملك الحبشة كما قال يونس عن محمد بن إسحاق حدثني أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي فزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان وساق عنه أربعمائة دينار.
وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الحسن عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن زهير، عن إسماعيل بن عمرو أن أم حبيبة بنت أبي سفيان قالت: ما شعرت وأنا بأرض الحبشة إلا برسول النجاشي، جارية يقال لها أبرهة كانت تقوم على ثيابه ودهنه فاستأذنت علي فأذنت لها فقالت: إن الملك يقول لك: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلي أن أن أزوجكه، فقلت بشرك الله بالخير وقالت: يقول لك الملك وكلي من يزوجك.
قالت: فأرسلت إلى خالد بن سعيد بن العاص فوكلته، وأعطيت أبرهة سوارين من فضة وخذمتين من فضة، كانتا علي وخواتيم من فضة، في كل أصابع رجلي سرورا بما بشرتني به.
فلما أن كان من العشي، أمر النجاشي جعفر بن أبي طالب، ومن كان هناك
من المسلمين أن يحضروا، وخطب النجاشي وقال: الحمد لله الملك القدوس المؤمن العزيز الجبار، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله وأنه الذي بشر به عيسى بن مريم.
أما بعد فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلب أن أزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، فأجبت إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أصدقها أربعمائة دينار، ثم سكب الدنانير بين يدي القوم.
فتكلم خالد بن سعيد فقال: الحمد لله أحمده واستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون.
أما بعد فقد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان.
فبارك الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) في ابن سعد وابن هشام والقرطبي: أربعمائة دينار (*)

(4/164)


ودفع النجاشي الدنانير إلى خالد بن سعيد فقبضها ثم أرادوا أن يقوموا، فقال: اجلسوا فإن من سنة الانبياء إذا تزوجوا أن يؤكل طعام على التزويج.
فدعا بطعام فأكلوا ثم تفرقوا (1).
قلت: فلعل عمرو بن العاص لما رأى عمرو بن أمية خارجا من عند النجاشي بعد الخندق إنما كان في قضية أم حبيبة فالله أعلم.
لكن قال الحافظ البيهقي: ذكر أبو عبد الله بن منده أن تزويجه عليه السلام بأم حبيبة كان في سنة ست وان تزويجه بأم سلمة كان في سنة ست وأربع.
قلت وكذا قال خليفة وأبو عبيد الله معمر بن المثنى وابن البرقي وأن تزويج أم حبيبة كان في سنة ست وقال بعض الناس سنة سبع.
قال البيهقي هو أشبه.
قلت قد تقدم تزويجه عليه السلام بأم سلمة في أواخر سنة أربع وأما أم حبيبة فيحتمل أن يكون قبل ذلك ويحتمل أن يكون بعده وكونه بعد الخندق أشبه لما تقدم من ذكر عمر بن العاص أنه رأى عمرو بن أمية عند النجاشي فهو في قضيتها والله أعلم.
وقد حكى الحافظ ابن الاثير في الغابة: عن قتادة أن أم حبيبة لما هاجرت من الحبشة إلى المدينة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجها.
وحكى عن بعضهم أنه تزوجها بعد إسلام أبيها بعد الفتح واحتج هذا القائل بما رواه مسلم: من طريق عكرمة بن عمار اليماني، عن أبي زميل سماك بن الوليد، عن ابن عباس أن أبا سفيان قال: يا رسول الله ثلاث أعطنيهن.
قال: نعم.
قال: تؤمرني على أن أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين.
قال: نعم.
قال: ومعاوية تجعله كاتبا بين يديك.
قال: نعم.
قال: وعندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها.
الحديث بتمامه.
قال ابن الاثير وهذا الحديث مما أنكر على مسلم، لان أبا سفيان لما جاء يجدد العقد (2) قبل الفتح دخل على ابنته أم حبيبة فثنت عنه فراش النبي صلى الله عليه وسلم فقال والله ما أدري أرغبت بي عنه أو به عني ؟ قالت بل هذا فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت رجل مشرك.
فقال والله لقد أصابك بعدي يا بنية شر وقال ابن حزم هذا الحديث وضعه عكرمة بن عمار وهذا القول منه لا يتابع عليه.
وقال آخرون أراد أن يجدد العقد لما فيه بغير إذنه من الغضاضة عليه.
وقال بعضهم لانه اعتقد انفساخ نكاح ابنته باسلامه.
وهذه كلها ضعيفة والاحسن في هذا أنه أراد أن يزوجه ابنته الاخرى عمرة لما رأى في ذلك من الشرف له واستعان بأختها أم حبيبة كما في الصحيحين وانما وهم الراوي في تسميته أم حبيبة وقد أوردنا لذلك خبرا مفردا.
قال أبو عبيد القاسم بن سلام توفيت أم حبيبة سنة أربع وأربعين وقال أبو بكر بن أبي خيثمة توفيت قبل معاوية لسنة وكانت وفاة معاوية في رجب سنة ستين.
__________
(1) الخبر في دلائل البيهقي ج 3 / 462.
(2) يريد عقد هدنة الحديبية وليس عقد النكاح، والخبر في ابن سعد عن الزهري 8 / 99.
وروى ابن سعد معارضا تزويجها بعد الفتح: لما بلغ أبا سفيان بن حرب نكاح النبي صلى الله عليه وسلم بابنته قال: ذلك الفحل لا يقدع أنفه.
(*)

(4/165)


تزويجه بزينب بنت جحش ابن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة الاسدية أم المؤمنين، وهي بنت أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت قبله عند مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه.
قال قتادة والواقدي وبعض أهل المدينة تزوجها عليه السلام سنة خمس، زاد بعضهم في ذي القعدة.
قال الحافظ البيهقي تزوجها بعد بني قريظة وقال خليفة بن خياط وأبو عبيدة معمر بن المثنى وابن مندة تزوجها سنة ثلاث والاول أشهر وهو الذي سلكه ابن جرير وغير
واحد من أهل التاريخ وقد ذكره غير واحد من المفسرين والفقهاء وأهل التاريخ في سبب تزويجه إياها عليه السلام حديثا ذكره أحمد بن حنبل في مسنده تركنا إيراده قصدا لئلا يضعه من لا يفهم على غير موضعه.
وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز: (وإذا تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في زواج أدعيائهم إذا قضوا منها وطرا وكان أمر الله مفعولا) [ الاحزاب: 37 ].
(ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا) [ الاحزاب: 38 ].
وقد تكلمنا على ذلك في التفسير بما فيه كفاية، فالمراد بالذي أنعم الله عليه هاهنا زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنعم الله عليه بالاسلام وأنعم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعتق وزوجه بابنة عمه زينب بنت جحش.
قال مقاتل بن حبان: وكان صداقه لها عشرة دنانير، وستين درهما وخمارا وملحفة ودرعا وخمسين مدا وعشرة أمداد من تمر، فمكثت عنده قريبا من سنة أو فوقها، ثم وقع بينهما فجاء زوجها يشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان صلى الله عليه وسلم يقول له: اتق الله وأمسك عليك زوجك.
قال الله (وتخفي نفسك ما الله مبديه) قال علي بن الحسين زيد العابدين والسدي: كان [ رسول ] الله قد علم أنها ستكون من أزواجه، فهو الذي كان في نفسه عليه السلام.
وقد تكلم كثير من السلف هاهنا بآثار غريبة وبعضها فيه نظر تركناها.
قال الله تعالى (فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها)، ذلك أن زيدا طلقها فلما انقضت عدتها بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبها إلى نفسها ثم تزوجها وكان الذي زوجها منه رب العالمين تبارك وتعالى كما ثبت في صحيح البخاري: عن أنس بن مالك أن زينب بنت جحش كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فتقول: زوجكن أهليكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات (1).
وفي رواية من طريق عيسى بن طهمان عن أنس قال: كانت زينب تفخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: أنكحني الله من السماء.
وفيها أنزلت آية الحجاب (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين
__________
(1) أخرجه البخاري عن أحمد (ابن سيار المروزي) عن محمد بن أبي بكر في كتاب التوحيد باب وكان عرشه على الماء
فتح الباري 13 / 402.
(*)

(4/166)


إناه) (1) الآية.
وروى البيهقي من حديث حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس قال: جاء زيد يشكو زينب فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اتق الله وأمسك عليك زوجك، قال أنس: فلو كان رسول الله كاتما شيئا لكتم هذه، فكانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: زوجكن أهليكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات (2) ثم قال: رواه البخاري عن أحمد عن محمد بن أبي بكر المقدمي عن حماد بن زيد، ثم روى البيهقي: من طريق عفان عن حماد بن زيد عن ثابت عن أنس قال: جاء زيد يشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك أهلك فنزلت (وتخفي في نفسك ما الله مبديه) ثم قال [ أخرجه ] البخاري: عن محمد بن عبد الرحيم عن يعلى بن منصور عن محمد مختصرا.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن مغيرة عن الشعبي قال: كانت زينب تقول للنبي صلى الله عليه وسلم إني لادل عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدل بهن: إن جدي وجدك واحد تعنى عبد المطلب فإنه أبو أبي النبي صلى الله عليه وسلم وأبو أمها أميمة بنت عبد المطلب، وإني أنكحنيك الله عزوجل من السماء وإن السفير جبريل عليه السلام.
وقال الامام أحمد: حدثنا هاشم - يعني ابن القاسم - حدثنا النضر، حدثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت عن أنس قال: لما انقضت عدة زينب قال النبي صلى الله عليه وسلم لزيد اذهب فاذكرها علي فانطلق حتى أتاها وهي تخمر عجينها قال: فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر (3) فوليتها ظهري ونكصت على عقبي.
وقلت يا زينب أبشري أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكرك قالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى اؤامر ربي عزوجل، ثم قامت إلى مسجدها، ونزل القرآن وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن قال أنس: ولقد رأيتنا حين دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعمنا عليها الخبز واللحم، فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبعته فجعل يتبع حجر نسائه يسلم عليهن ويقلن: يا رسول الله كيف وجدت أهلك ؟ فما أدري أنا أخبرته والقوم قد خرجوا أو أخبر.
قال فانطلق
حتى دخل البيت فذهبت أدخل معه فألقى الستر بيني وبينه ونزل الحجاب ووعظ القوم بما وعظوا به (لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم) الآية، وكذا رواه مسلم والنسائي من طريق سليمان بن المغيرة.
نزول الحجاب صبيحة عرس زينب فناسب نزول الحجاب في هذا العرس صيانة لها، ولاخواتها من أمهات المؤمنين، وذلك
__________
(1) سورة الاحزاب الآية 53.
أخرجه البخاري في كتاب التوحيد فتح الباري 13 / 403.
عن خلاد بن يحيى عن عيسى.
(2) دلائل النبوة ج 3 / 465.
(3) العبارة في ابن سعد عن أنس: حين عرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها.
(*)

(4/167)


وفق الرأي العمري.
قال البخاري: حدثنا محمد بن عبد الله الرقاش، حدثنا معتمر بن سليمان، سمعت أبي حدثنا أبو مجلز، عن أنس بن مالك قال: لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا وجلسوا يتحدثون فإذا هو يتهيأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام، فلما قام، قام من قام وقعد ثلاثة نفر وجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا فانطلقوا، فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا، فجاء حتى دخل فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه فأنزل الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي) الآية، وقد رواه البخاري في مواضع اخر ومسلم والنسائي من طرق عن معتمر.
ثم رواه البخاري منفردا به من حديث أيوب عن أبي قلابة عن أنس نحوه.
وقال البخاري: حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا عبد العزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك قال: بني على النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش بخبز ولحم فأرسلت على الطعام داعيا فيجئ قوم فيأكلون ويخرجون ثم يجئ قوم فيأكلون ويخرجون فدعوت حتى ما أجد أحدا أدعوه، فقلت: يا نبي الله ما أجد أحدا أدعوه.
قال: ارفعوا طعامكم، وبقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق إلى حجرة عائشة
فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته، قالت: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته كيف وجدت أهلك بارك الله لك ؟ فتقرى حجر نسائه كلهن ويقول لهن كما يقول لعائشة ويقلن له كما قالت عائشة، ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا رهط ثلاثة في البيت يتحدثون وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء، فخرج منطلقا نحو حجرة عائشة فما أدري أخبرته أم أخبر أن القوم خرجوا فخرج حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب وأخرى خارجه أرخى الستر بيني وبينه وأنزلت آية الحجاب، تفرد به البخاري من هذا الوجه.
ثم رواه منفردا به أيضا: عن إسحاق هو ابن نصر، عن عبد الله بن بكير السهمي، عن حميد بن أنس بنحو ذلك، وقال " رجلان " بدل ثلاثة فالله أعلم.
قال البخاري: وقال إبراهيم بن طهمان، عن الجعد أبي عثمان، عن أنس فذكر نحوه.
وقد قال ابن أبي حاتم، حدثنا أبي، حدثنا أبو المظفر، حدثنا جعفر بن سليمان، عن الجعد أبي عثمان اليشكري، عن أنس بن مالك قال: أعرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض نسائه، فصنعت أم سليم حيسا ثم حطته في ثور فقالت: اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره إن هذا منا له قليل قال أنس والناس يومئذ في جهد فجئت به فقلت يا رسول بعثت بهذا أم سليم إليك وهي تقرئك السلام وتقول: إن هذا منا له قليل فنظر إليه ثم قال ضعه في ناحية البيت، ثم قال: اذهب فادع لي فلانا وفلانا فسمى رجالا كثيرا قال: ومن لقيت من المسلمين فدعوت من قال لي ومن لقيت من المسلمين، فجئت والبيت والصفة والحجرة ملاء من الناس.
فقلت يا أبا عثمان كم كانوا قال كانوا زهاء ثلثمائة.
قال أنس: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم جئ فجئت به إليه فوضع يده عليه ودعا وقال ما شاء الله ثم قال ليتحلق عشرة عشرة ويسموا وليأكل كل انسان مما يليه فجعلوا يسمون ويأكلون حتى أكلوا كلهم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارفعه قال: فجئت فأخذت الثور فنظرت فيه فلا أدري

(4/168)


أهو حين وضعته أكثر أم حين رفعته ؟ قال: وتخلف رجال يتحدثون في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم التي دخل بها معهم مولية وجهها إلى الحائط فأطالوا الحديث، فشقوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أشد الناس حياء ولو علموا كان ذلك عليهم عزيزا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم
فسلم على حجره وعلى نسائه، فلما رأوه قد جاء ظنوا انهم قد ثقلوا عليه ابتدروا الباب، فخرجوا وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أرخى الستر ودخل البيت وأنا في الحجرة فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته يسيرا وأنزل الله القرآن فخرج وهو يقرأ هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين اناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث أن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعد أبدا ان ذلكم كان عند الله عظيما.
ان تبدوا شيئا أو تخفوه فان الله كان بكل شئ عليما) [ الاحزاب: 53 - 54 ] قال أنس: فقرأهن علي قبل الناس، وأنا أحدث الناس بهن عهدا.
وقد رواه مسلم والترمذي والنسائي جميعا عن قتيبة، عن جعفر بن سليمان، عن الجعد أبي عثمان به.
وقال الترمذي حسن صحيح.
ورواه مسلم أيضا عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق، عن معمر عن الجعد أبي عثمان به.
وقد روى هذا الحديث البخاري والترمذي والنسائي من طرق: عن أبي بشر الاحمسي الكوفي عن أنس بنحوه.
ورواه ابن أبي حاتم، من حديث أبي نضرة العبدي، عن أنس بنحوه ولم يخرجوه.
ورواه ابن جرير من حديث عمرو بن سعيد، ومن حديث الزهري عن أنس نحو ذلك.
قلت: كانت زينب بنت جحش رضي الله عنها من المهاجرات الاول وكانت كثيرة الخير والصدقة وكان اسمها أولا بره فسماها النبي صلى الله عليه وسلم زينب وكانت تكنى بأم الحكم.
قالت عائشة رضي الله عنها: ما رأيت امرأة قط خيرا في الدين من زينب وأتقى لله وأصدق حديثا وأوصل للرحم وأعظم أمانة وصدقة.
وثبت في الصحيحين كما سيأتي في حديث الافك عن عائشة انها قالت: وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عني زينب بنت جحش وهي التي كانت تساميني من نساء النبي صلى الله عليه وسلم فعصمها الله بالورع، فقالت: يا رسول الله احمي سمعي وبصري، ما علمت إلا خيرا.
وقال مسلم بن الحجاج في صحيحه: حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا الفضل بن موسى الشيباني، حدثنا طلحة بن يحيى عن عائشة أم المؤمنين قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرعكن لحوقا بي أطولكن يدا
قال: فكنا نتطاول أينا أطول يدا، فكانت زينب أطولنا يدا لانها كانت تعمل بيدها وتتصدق.
انفرد به مسلم.
قال الواقدي وغيره من أهل السير والمغازي والتواريخ توفيت سنة عشرين من الهجرة وصلى عليها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ودفنت بالبقيع، وهي أول امرأة صنع لها النعش.
(*)

(4/169)