البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
فصل في فضل هؤلاء الامراء الثلاثة زيد وجعفر وعبد الله رضي الله عنهم
أما زيد بن حارثة بن شراحيل بن كعب بن عبد العزى بن امرئ القيس بن عامر
بن النعمان بن عامر بن عبدود بن عوف بن كنانة بن بكر بن عوف بن عذرة بن
زيد اللات بن رفيدة
بن نور بن كلب بن وبرة بن ثعلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة
الكلبي القضاعي مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذلك أن أمه (1) ذهبت تزور أهلها فأغارت عليهم خيل (2) فأخذوه فاشتراه
حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد، وقيل اشتراه رسول الله صلى الله
عليه وسلم لها فوهبته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل النبوة
فوجده أبوه فاختار المقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتقه
وتبناه، فكان يقال له زيد بن محمد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يحبه حبا شديدا، وكان أول من أسلم من الموالي، ونزل فيه آيات من القرآن
منها قوله تعالى [ وما جعل أدعياءكم أبناءكم ] [ الاحزاب: 4 ] وقوله
تعالى [ ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله ] [ الاحزاب: 5 ] وقوله تعالى
[ ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ] [ الاحزاب: 40 ] وقوله [ وإذ تقول
للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في
نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها
وطرا زوجناكها ] الآية [ الاحزاب: 37 ].
أجمعوا أن هذه الآيات أنزلت فيه، ومعنى أنعم الله عليه أي بالاسلام،
وأنعمت عليه أي بالعتق، وقد تكلمنا عليها في التفسير.
والمقصود أن الله تعالى لم يسم أحدا من الصحابة في القرآن غيره، وهداه
إلى الاسلام وأعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجه مولاته أم أيمن
(3) واسمها بركة فولدت له أسامة بن زيد، فكان يقال له الحب بن الحب، ثم
زوجه بابنة عمته زينب بنت جحش وآخى بينه وبين عمه حمزة بن عبد المطلب
وقدمه في الامرة على ابن عمه جعفر بن أبي طالب يوم مؤتة كما ذكرناه.
وقد قال الامام أحمد والامام الحافظ أبو بكر بن أبي شيبة - وهذا لفظه -
ثنا محمد بن عبيد عن وائل بن داود سمعت البهي يحدث أن عائشة كانت تقول:
ما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في سرية إلا أمره
عليهم، ولو بقي بعد لاستخلفه.
ورواه النسائي عن أحمد بن سلمان عن محمد بن عبيد الطنافسي به.
وهذا اسناد جيد قوي على شرط الصحيح.
وهو غريب جدا.
والله أعلم.
وقال الامام أحمد: ثنا سليمان، ثنا اسمعيل، أخبرني ابن دينار، عن ابن
عمر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث
__________
(1) اسمها سعدى بنت ثعلبة بن عبد عامر بن أفلت بن سلسلة من بني معن من
طئ.
(2) خيل لبني القين بن جسر، وكان ذلك في الجاهلية.
(3) قال ابن سعد: تزوج زيد أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، فولدت له
زيد ورقية، ثم تزوج درة بنت أبي لهب ثم طلقها وتزوج هند بنت العوام ثم
زوجه النبي صلى الله عليه وسلم أم أيمن (*)
(4/290)
بعثا وأمر
عليهم أسامة بن زيد، فطعن بعض الناس في أمرته، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال " ان تطعنوا في إمرته فقد كنتم تطعنون في إمرة أبيه من
قبل، وأيم الله إن كان لخليقا للامارة وإن كان لمن أحب الناس إلي وأن
هذا لمن أحب الناس إلى بعده " وأخرجاه في الصحيحين عن قتيبة عن اسمعيل
- هو ابن جعفر بن أبي كثير المدني - عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر
فذكره ورواه البخاري من حديث موسى بن عقبة عن سالم عن أبيه.
ورواه البزار من حديث عاصم بن عمر عن عبيدالله بن عمر العمري، عن نافع،
عن ابن عمر ثم استغربه من هذا الوجه، وقال الحافظ أبو بكر البزار: ثنا
عمر بن اسمعيل، عن مجالد، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: لما
أصيب زيد بن حارثة وجئ بأسامة بن زيد وأوقف بين يدي رسول الله صلى الله
عليه وسلم فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخر ثم عاد من
الغد فوقف بين يديه فقال " ألاقي منك اليوم ما لقيت منك أمس " وهذا
الحديث فيه غرابة والله أعلم.
وقد تقدم في الصحيحين أنه لما ذكر مصابهم وهو عليه السلام فوق المنبر
جعل يقول " أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب.
ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب، ثم أخذها سيف من سيوف الله ففتح
الله عليه " قال وإن عينيه لتذرفان، وقال وما يسرهم أنهم عندنا.
وفي الحديث الآخر أنه شهد لهم بالشهادة فهم ممن يقطع لهم بالجنة.
وقد قال حسان بن ثابت يرثي زيد بن حارثة وابن رواحة: عين جودي بدمعك
المنزور * واذكري في الرخاء أهل القبور واذكري مؤتة وما كان فيها * يوم
راحوا في وقعة التغوير حين راحوا وغادروا ثم زيدا * نعم مأوى الضريك
والمأسور (1) حب خير الانام طزا جميعا * سيد الناس حبه في الصدور ذاكم
أحمد الذي لا سواه * ذاك حزني له معا وسروري
إن زيدا قد كان منا بأمر * ليس أمر المكذب المغرور ثم جودي للخزرجي
بدمع * سيدا كان ثم غير نزور (3) قد أتانا من قتلهم ما كفانا * فبحزن
نبيت غير سرور وأما جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم فهو ابن عم
رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أكبر من أخيه علي بعشر سنين، وكان
عقيل أسن من جعفر بعشر سنين، وكان طالب أسن من عقيل بعشر سنين، أسلم
جعفر قديما وهاجر إلى الحبشة وكانت له هناك مواقف مشهورة، ومقامات
محمودة، وأجوبة سديدة، وأحوال رشيدة، وقد قدمنا ذلك في هجرة الحبشة
ولله الحمد، وقد قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر فقال
عليه
__________
(1) الضريك: الفقير.
(2) الخزرجي: يقصد عبد الله بن رواحة.
والبيت ليس في الديوان.
(*)
(4/291)
الصلاة والسلام
" ما أدري أنا بأيهما أسر، أبقدوم جعفر أم بفتح خيبر " وقام إليه
واعتنقه وقبل بين عينيه، وقال له يوم خرجوا من عمرة القضية " أشبهت
خلقي وخلقي " فيقال إنه حجل عند ذلك فرحا كما تقدم في موضعه ولله الحمد
والمنة.
ولما بعثه إلى مؤتة جعل في الامرة مصليا - أي نائبا - لزيد بن حارثة،
ولما قتل وجدوا فيه بضعا وتسعين (1) ما بين ضربة بسيف، وطعنة برمح،
ورمية بسهم، وهو في ذلك كله مقبل غير مدبر، وكانت قد طعنت يده اليمنى
ثم اليسرى وهو ممسك للواء فلما فقدهما احتضنه حتى قتل وهو كذلك.
فيقال إن رجلا من الروم ضربه بسيف فقطعه باثنتين رضي الله عن جعفر ولعن
قاتله، وقد أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه شهيد، فهو ممن
يقطع له بالجنة.
وجاء بالاحاديث تسميته بذي الجناحين.
وروى البخاري عن ابن عمر، أنه كان إذا سلم على ابنه عبد الله بن جعفر
يقول: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين، وبعضهم يرويه عن عمر بن الخطاب
نفسه، والصحيح ما في الصحيح عن ابن عمر.
قالوا: لان الله تعالى عوضه عن يديه بجناحين في الجنة وقد تقدم بعض ما
روى في ذلك.
قال
الحافظ أبو عيسى الترمذي: حدثنا علي بن حجر، ثنا عبد الله بن جعفر، عن
العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه
وسلم " رأيت جعفرا يطير في الجنة مع الملائكة " وتقدم في حديث أنه رضي
الله عنه قتل وعمره ثلاث وثلاثين سنة.
وقال ابن الاثير في الغابة كان عمره يوم قتل إحدى وأربعين، قال وقيل
غير ذلك.
قلت: وعلى ما قيل إنه كان أسن من علي بعشر سنين يقتضي أن عمره يوم قتل
تسع وثلاثون سنة لان عليا أسلم وهو ابن ثمان سنين على المشهور فأقام
بمكة ثلاث عشرة سنة، وهاجر وعمره إحدى وعشرين سنة، ويوم مؤتة كان في
سنة ثمان من الهجرة والله أعلم.
وقد كان يقال لجعفر بعد قتله الطيار لما ذكرنا، وكان كريما جوادا
ممدحا، وكان لكرمه يقال له أبا المساكين لاحسانه إليهم.
قال الامام أحمد: وحدثنا عفان بن وهيب، ثنا خالد، عن عكرمة، عن أبي
هريرة قال: ما احتذى النعال ولا انتعل، ولا ركب المطايا ولا لبس الثياب
من رجل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من جعفر بن أبي طالب
وهذا إسناد جيد إلى أبي هريرة وكأنه إنما يفضله في الكرم، فأما في
الفضيلة الدينية فمعلوم أن الصديق والفاروق بل وعثمان بن عفان أفضل
منه،
__________
(1) قال في الطبقات: قال الفضل بن دكين: تسعين ضربة بين طعنة برمح
وضربة بسيف.
وقال محمد بن عمر: اثنتين وسبعين ضربة.
وقال نافع عن ابن عمر: بضع وتسعون.
وعن عبد الله بن أبي بكر: أكثر من ستين جرحا وطعنة قد أنفذته.
وعن عمر بن علي: ضربه رجل من الروم فقطعه بنصفين فوقع أحد نصفيه في كرم
فوجد في نصفه ثلاثون أو بضعة وثلاثون جرحا.
(*)
(4/292)
وأما أخوه علي
رضي الله عنهما فالظاهر أنهما متكافئان أو علي أفضل منه، وإنما أراد
أبو هريرة تفضيله في الكرم بدليل ما رواه البخاري: ثنا أحمد بن أبي
بكر، ثنا محمد بن ابراهيم بن دينار، أبو عبد الله الجهني، عن ابن أبي
ذئب، عن سعيد المقبري عن أبي هريرة، أن الناس كانوا
يقولون أكثر أبو هريرة وأني كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم
بشبع بطني خبز لا آكل الخمير ولا ألبس الحرير ولا يخدمني فلان وفلانة،
وكنت ألصق بطني بالحصباء من الجوع، وإن كنت لاستقرئ الرجل الآية هي معي
كي ينقلب بي فيطعمني، وكان خير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب، وكان
ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته حتى إن كان ليخرج إلينا العكة التي
ليس فيها شئ فنشقها فنلعق ما فيها.
تفرد به البخاري وقال حسان بن ثابت يرثي جعفرا: ولقد بكيت وعز مهلك
جعفر * حب النبي على البرية كلها ولقد جزعت وقلت حين نعيت لي * من
للجلاد لدى العقاب وظلها (1) بالبيض حين تسل من أغمادها * ضربا وإنهال
الرماح وعلها بعد ابن فاطمة المبارك جعفر * خير البرية كلها وأجلها (2)
رزءا وأكرمها جميعا محتدا * وأعزها متظلما وأذلها للحق حين ينوب غير
تنحل * كذبا وأنداها يدا وأقلها فحشا وأكثرها إذا ما يجتدى * فضلا
وأنداها يدا وأبلها (3) بالعرف غير محمد لامثله * حي من أحياء البرية
كلها (4) وأما ابن رواحة فهو عبد الله بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس
بن عمرو بن امرئ القيس الاكبر بن مالك بن الاغر بن ثعلبة بن كعب بن
الخزرج بن الحارث بن الخزرج أبو محمد ويقال أبو رواحة، ويقال أبو عمرو
الانصاري الخزرجي وهو خال النعمان بن بشير، أخته عمرة بنت رواحة أسلم
قديما وشهد العقبة وكان أحد النقباء ليلتئذ لبني الحارث بن الخزرج وشهد
بدرا وأحدا والخندق والحديبية وخيبر وكان يبعثه على خرصها كما قدمنا
وشهد عمرة القضاء ودخل يومئذ وهو ممسك بزمام ناقة رسول الله صلى الله
عليه وسلم وقيل بغرزها - يعني الركاب - وهو يقول * خلوا بني الكفار عن
سبيله * الابيات كما تقدم.
وكان أحد الامراء الشهداء يوم مؤتة كما تقدم وقد شجع المسلمين للقاء
__________
(1) العقاب: اسم راية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2) فاطمة: هي فاطمة بنت أسد بن هاشم ثم أم جعفر وعلي ابنا أبي طالب.
(3) وعجزه في الديوان: فضلا، وابذلها ندى، وأبلها.
(4) البيت في ديوانه: على خير بعد محمد لا شبهه * بشر يعد من البرية
جلها (*)
(4/293)
الروم حين
اشتوروا في ذلك وشجع نفسه أيضا حتى نزل بعدما قتل صاحباه، وقد شهد له
رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهادة فهو ممن يقطع له بدخول الجنة.
ويروى أنه لما أنشد النبي صلى الله عليه وسلم شعره حين ودعه الذي يقول
فيه: فثبت الله ما آتاك من حسن * تثبيت موسى ونصرا كالذي نصروا قال له
رسول الله صلى الله عليه وسلم " وأنت فثبتك الله " قال هشام بن عروة:
فثبته الله حتى قتل شهيدا ودخل الجنة.
وروى حماد بن زيد، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: أن عبد الله
ابن رواحة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب فسمعه يقول "
اجلسوا " فجلس مكانه خارجا من المسجد حتى فرغ الناس من خطبته، فبلغ ذلك
النبي صلى الله عليه وسلم فقال " زادك الله حرصا على طواعية الله
وطواعية رسوله " وقال البخاري في صحيحه: وقال معاذ: اجلس بنا نؤمن
ساعة.
وقد ورد الحديث المرفوع في ذلك عن عبد الله بن رواحة بنحو ذلك.
فقال الامام أحمد: حدثنا عبد الصمد، عن عمارة، عن زياد النحوي، عن أنس
قال: كان عبد الله بن رواحة إذا لقي الرجل من أصحابه يقول: تعال نؤمن
بربنا ساعة، فقال ذات يوم لرجل فغضب الرجل فجاء فقال: يا رسول الله ألا
ترى ابن رواحة، يرغب عن إيمانك إلى إيمان ساعة ! فقال النبي صلى الله
عليه وسلم " رحم الله ابن رواحة إنه يحب المجالس التي تتباهى بها
الملائكة " وهذا حديث غريب جدا.
وقال البيهقي: ثنا الحاكم ثنا أبو بكر، ثنا محمد بن أيوب، ثنا أحمد بن
يونس ثنا شيخ من أهل المدينة، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار: أن
عبد الله بن رواحة قال لصاحب له: تعال حتى نؤمن ساعة، قال أو لسنا
بمؤمنين ؟ قال بلى ولكنا نذكر الله فنزداد إيمانا.
وقد روى الحافظ أبو القاسم
اللالكائي (1) من حديث أبي اليمان عن صفوان بن سليم عن شريح بن عبيد أن
عبد الله بن رواحة كان يأخذ بيد الرجل من أصحابه فيقول: قم بنا نؤمن
ساعة فنجلس في مجلس ذكر.
وهذا مرسل من هذين الوجهين وقد استقصينا الكلام على ذلك في أول شرح
البخاري ولله الحمد والمنة.
وفي صحيح البخاري عن أبي الدرداء قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم في سفر في حر شديد وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه
وسلم وعبد الله بن رواحة رضي الله عنه، وقد كان من شعراء الصحابة
المشهورين، ومما نقله البخاري من شعره في رسول الله صلى الله عليه
وسلم: وفينا رسول الله نتلوا كتابه * إذا انشق معروف من الفجر ساطع
__________
(1) هو هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري الرازي الحافظ الفقيه، محدث
بغداد، قال الخطيب كان يحفظ ويفهم صنف كتابا في السنة - وكتابا في رجال
الصحيحين، عاجلته المنية، خرج إلى الدينور مات في رمضان سنة 418 ه.
(انظر ترجمته في تذكرة الحفاظ 3 / 1083 - شذرات الذهب 3 / 211) وفي
الاصل اللاكائي، ولم نجده فيما بأيدنا من مراجع واثبتنا ما في تذكرة
الحفاظ، وفي اللباب اللكي نسبة إلى اللك بلدة من نواحي برقة.
(*)
(4/294)
يبيت يجافي
جنبه عن فراشه * إذا استثقلت بالمشركين المضاجع أتى بالهدى بعد العمى
فقلوبنا * به موقنات أن ما قال واقع وقال البخاري: حدثنا عمران بن
ميسرة، ثنا محمد بن فضيل، عن حصين، عن عامر، عن النعمان بن بشير قال:
أغمي على عبد الله بن رواحة فجعلت أخته عمرة تبكي، واجبلاه واكذا وأكذا
تعدد عليه فقال حين أفاق ما قلت شيئا إلا قيل لي أنت كذلك ؟ حدثنا
قتيبة، ثنا خيثمة، عن حصين، عن الشعبي عن النعمان بن بشير قال: أغمي
على عبد الله بن رواحة، بهذا.
فلما مات لم تبك عليه وقد قدمنا ما رثاه به حسان بن ثابت مع غيره.
وقال شر ؟ من المسلمين ممن رجع من مؤتة مع من رجع رضى الله عنهم: كفى
حزنا أني رجعت وجعفر * وزيد وعبد الله في رمس أقبر قضوا نحبهم لما مضوا
لسبيلهم * وخلفت للبلوى مع المتنير ؟
وسيأتي إن شاء الله تعالى بقية ما رثي به هؤلاء الامراء الثلاث من شعر
حسان بن ثابت وكعب بن مالك رضي الله عنهما وأرضاهما.
فصل في من استشهد يوم مؤتة فمن المهاجرين
جعفر بن أبي طالب، ومولاهم زيد بن حارثة الكلبي، ومسعود بن الاسود ابن
حارثة بن نضلة العدوي، ووهب بن سعد بن أبي سرح، فهؤلاء أربعة نفر.
ومن الانصار عبد الله بن رواحة، وعباد بن قيس الخزرجيان، والحارث بن
النعمان بن أساف بن نضلة النجاري، وسراقة بن عمرو بن عطية بن خنساء
المازني، أربعة نفر.
فمجموع من قتل من المسلمين يومئذ هؤلاء الثمانية على ما ذكره بن اسحاق.
لكن قال ابن هشام: وممن استشهد يوم مؤتة فيما ذكره ابن شهاب الزهري:
أبو كليب وجابر ابنا عمرو بن زيد بن عوف بن مبذول المازنيان وهما
شقيقان لاب وأم، وعمرو وعامر ابنا سعد بن الحارث بن عباد بن سعد بن
عامر بن ثعلبة بن مالك بن أفصى فهؤلاء أربعة من الانصار أيضا فالمجموع
على القولين اثنا عشر رجلا وهذا عظيم جدا أن يتقاتل جيشان متعاديان في
الدين أحدهما وهو الفئة التي تقاتل في سبيل الله عدتها ثلاثة آلاف،
وأخرى كافرة وعدتها مائتا ألف مقاتل، من الروم مائة ألف.
ومن نصارى العرب مائة الف، يتبارزون ويتصاولون ثم مع هذا كله لا يقتل
من المسلمين إلا اثنا عشر رجلا وقد قتل من المشركين خلق كثير (1).
هذا خالد وحده يقول لقد اندقت في يدي يومئذ تسعة أسياف وما صبرت
__________
(1) ذكروات في كتاب: محمد في المدينة: " يمكن أن يكون تضخيم عدد العدو
إلى 100 ألف جزء من الدفاع عن عمل خالد (في رجوعه بالجيش إلى المدينة)
تبقى لدينا المسائل التالية: - حدث لقاء مع قوة للعدو.
قتل زيد = (*)
(4/295)
في يدي إلا
صفحة يمانية.
فماذا ترى قد قتل بهذه الاسياف كلها ؟ دع غيره من الابطال والشجعان من
حملة القرآن، وقد تحكموا في عبدة الصلبان عليهم لعائن الرحمن، في ذلك
الزمان وفي كل أوان.
وهذا مما يدخل في قوله تعالى (وقد كان لكم في فئتين التقتا فئة تقاتل
في سبيل الله وأخرى كافرة ترونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من
يشاء إن في ذلك لعبرة لاولى
الابصار) [ آل عمران: 13 ].
حديث فيه فضيلة عظيمة لامراء هذه السرية وهم زيد بن حارثة، وجعفر بن
أبي طالب، وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم.
قال الامام العالم الحافظ أبو زرعة عبد الله بن عبد الكريم الرازي نضر
الله وجهه في كتابه دلائل النبوة - وهو كتاب جليل - حدثنا صفوان بن
صالح الدمشقي، ثنا الوليد، ثنا ابن جابر.
وحدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي ثنا الوليد وعمرو - يعني ابن عبد
الواحد - قالا: ثنا ابن جابر سمعت سليم بن عامر الخبائري، يقول أخبرني
أبو أمامة الباهلي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " بينا أنا
نائم إذا أتاني رجلان فأخذا بضبعي فأتيا بي جبلا وعرا فقالا: اصعد،
فقلت: لا اطيقه فقالا: إنا سنسهله لك قال فصعدت حتى إذا كنت في سواء
الجبل، إذا أنا بأصوات شديدة فقلت: ما هؤلاء الاصوات ؟ فقالا: عواء أهل
النار ثم انطلقا بي فإذا بقوم معلقين بعراقيبهم مشققة أشداقهم تسيل
أشداقهم دما فقلت ما هؤلاء ؟ فقالا: هؤلاء الذين يفطرون قبل تحلة صومهم
فقال خابت اليهود والنصارى " قال سليم سمعه من رسول الله صلى الله عليه
وسلم أم من رأيه ؟ " ثم انطلقا بي فإذا قوم أشد شئ انتفاخا وأنتن شئ
ريحا كأن ريحهم المراحيض قلت من هؤلاء ؟ قالا هؤلاء قتلى الكفار ثم
انطلقا بي فإذا بقوم أشد انتفاخا وأنتن شئ ريحا كان ريحهم المراحيض قلت
من هؤلاء ؟ قال هؤلاء الزانون والزواني ثم انطلقا بي فإذا بنساء ينهش
ثديهن الحيات فقلت ما بال هؤلاء ؟ قالا: هؤلاء اللاتي يمنعن أولادهن
ألبانهن ثم انطلقا بي فإذا بغلمان يلعبون بين بحرين قلت: من هؤلاء ؟
قالا: هؤلاء ذراري المؤمنين ثم أشرفا بي شرفا فإذا بنفر ثلاثة يشربون
من خمر لهم فقلت من هؤلاء ؟ قالا: هذا جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة
وعبد الله بن رواحة ثم أشرفا بي شرفا آخر فإذا أنا بنفر ثلاثة فقلت: من
هؤلاء ؟ قالا: هذا ابراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام وهم ينتظرونك.
__________
= وجعفر وعبد الله ولم يقتل كثير غيرهم.
عاد الجيش إلى المدينة بقيادة خالد دون أن يتكبد خسائر جسيمة.
أما ما عدا ذلك فمشكوك فيه.
ولم يحدث اللقاء مع مجموع الجيش المعارض.
لان الخسائر قليلة جدا في معركة بين
3000 رجل من رجل و 20000 أو 10000 أو 3000 من جانب آخر فيمكن إذن أن
يكون الاصطدام عبارة عن مناوشة ".
(وات ص 81).
(*)
(4/296)
ما قيل من الاشعار في غزوة مؤتة
قال ابن أسحاق: وكان مما بكي به أصحاب مؤتة قول حسان: تأوبني ليل بيثرب
أعسر * وهم إذا ما نوم الناس مسهر لذكرى حبيب هيجت لي عبرة * سفوحا
وأسباب البكاء التذكر بلى إن فقدان (1) الحبيب بلية * وكم من كريم
يبتلى ثم يصبر رأيت خيار المسلمين تواردوا * شعوبا وخلفا بعدهم يتأخر
(2) فلا يبعدن الله قتلى تتابعوا (3) * بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفر
وزيد وعبد الله حين تتابعوا * جميعا وأسباب المنية تخطر غداة مضوا
بالمؤمنين يقودهم * إلى الموت ميمون النقيبة أزهر أغر كضوء البدر من آل
هاشم * أبي إذا سيم الظلامة مجسر فطاعن حتى مال غير مؤسد * بمعترك فيه
القنا متكسر (4) فصار مع المستشهدين ثوابه * جنان وملتف الحدائق أخضر
وكنا نرى في جعفر من محمد * وفاء وأمرا حازما حين يأمر وما زال في
الاسلام من آل هاشم * دعائم عز لا يزلن ومفخر هموا جبل الاسلام والناس
حولهم * رضام إلى طود يروق ويبهر (5) بهاليل منهم جعفر وابن أمه * علي
ومنهم أحمد المتخير وحمزة والعباس منهم ومنهموا * عقيل وماء العود من
حيث يعصر بهم تفرج اللاواء في كل مأزق * عماس إذا ما ضاق بالناس مصدر
(6) هم أولياء الله أنزل حكمه * عليهم، وفيهم ذا الكتاب المطهر
وقال كعب بن مالك رضي الله عنه:
__________
(1) في الديوان: بلاء وفقدان.
(2) رواية العجز في الديوان: شعوب وقد خلفت فيمن يؤخر.
قال أبو ذر: شعوب بضم الشين: جمع شعب وهي القبيلة.
وشعوب بالفتح: اسم للمنية.
(3) في الاصل تبايعوا، وهي كذلك في البيت التالي، وما اثبتناه من ابن
هشام.
(4) في الديوان: فيه القنا يتكسر.
(5) الرضام: جمع رضم وهي حجارة يتراكم بعضها فوق بعض، ويبهر، في ابن
هشام: ويقهر.
(6) اللاواء: الشدة.
العماس: المظلم.
(*)
(4/297)
نام العيون ودمع عينك يهمل * سحاكما وكف الطباب المخضل (1) في ليلة
وردت علي همومها * طورا أخن وتارة أتمهل (2) واعتادني حزن فبت كأنني *
ببنات نعش والسماك موكل وكأنما بين الجوانح والحشا * مما تأوبني شهاب
مدخل وجدا على النفر الذين تتابعوا * يوما بمؤتة أسندوا لم ينقلوا صلى
الاله عليهم من فتية * وسقى عظامهم الغمام المسبل صبروا بمؤتة للاله
نفوسهم * حذر الردى ومخافة أن ينكلوا فمضوا أمام المسلمين كأنهم * فنق
عليهن الحديد المرفل (3) إذ يهتدون بجعفر ولوائه * حيث التقى وعث
الصفوف مجدل (4) فتغير القمر المنير لفقده * والشمس قد كسفت وكادت تأفل
قرم علا بنيانه من هاشم * فرعا أشم وسؤددا ما ينقل قوم بهم عصم الاله
عباده * وعليهم نزل الكتاب المنزل فضلوا المعاشر عزة وتكرما * وتغمدت
أحلامهم من يجهل
لا يطلقون إلى السفاه حباهموا * وترى خطيبهم بحق يفصل بيض الوجوه ترى
بطون أكفهم * تندى إذا اعتذر الزمان الممحل ويهديهم رضي الاله لخلقه *
وبجدهم (5) نصر النبي المرسل |