البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
بسم الله
الرحمن الرحيم
كتاب بعث رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
إلى ملوك الآفاق وكتبه إليهم
ذكر الواقدي أن ذلك كان في آخر سنة ست في ذي الحجة بعد عمرة الحديبية،
وذكر البيهقي هذا الفصل في هذا الموضع بعد غزوة مؤتة والله أعلم.
ولا خلاف بينهم أن بدء ذلك كان قبل فتح مكة وبعد الحديبية لقول أبي
سفيان لهرقل حين سأله هل يغدر فقال لا ونحن منه في مدة لا ندري ما هو
صانع فيها.
وفي لفظ البخاري وذلك في المدة التي ماد فيها أبو سفيان رسول الله
__________
(1) في الاصل وبعض نسخ ابن هشام: الضباب، وما أثبتناه من شرح أبي ذر
والسهيلي.
والطباب: جمع طبابة وهي سير بين خرزتين في المزادة فإذا كان غير محكم
وكف منه الماء.
(2) أتمهل، وفي ابن هشام أتململ: أي أنقلب متبرما بمضجعي.
(3) فنق: جمع فنيق، فحل الابل.
(4) وعث الصفوف: اختلاطها والتحامها حتى يصعب الخلاص من بينها.
(5) بجدهم، قال أبو ذر وتروى وبحدهم معناه بشجاعتهم وإقدامهم.
(*)
(4/298)
صلى الله عليه
وسلم.
وقال محمد بن اسحاق: كان ذلك ما بين الحديبية ووفاته عليه السلام.
ونحن نذكر ذلك ها هنا وإن كان قول الواقدي محتملا.
والله أعلم.
وقد روى مسلم عن يوسف بن حماد المعني، عن عبد الا على، عن سعيد ابن أبي
عروبة، عن قتادة عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب
قبل مؤتة إلى كسرى وقيصر وإلى النجاشي وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله
عزوجل وليس بالنجاشي الذي صلى عليه (1) وقال يونس بن بكير عن محمد بن
إسحاق: حدثني الزهري عن عبيدالله بن عبد الله بن عتبة عن عبد الله بن
عباس: حدثني أبو سفيان من فيه إلى في قال:
كنا قوما تجارا وكانت الحرب قد حصرتنا حتى نهكت أموالنا، فلما كانت
الهدنة - هدنة الحديبية - بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم لا
نأمن إن وجدنا أمنا، فخرجت تاجرا إلى الشام مع رهط من قريش فوالله ما
علمت بمكة امرأة ولا رجلا إلا وقد حملني بضاعة، وكان وجه متجرنا من
الشام غزة من أرض فلسطين فخرجنا حتى قدمناها وذلك حين ظهر قيصر صاحب
الروم على من كان في بلاده من الفرس فأخرجهم منها ورد عليه صليبه
الاعظم وقد كان استلبوه إياه، فلما أن بلغه ذلك وقد كان منزله بحمص من
الشام، فخرج منها يمشي متشكرا إلى بيت المقدس ليصلي فيه تبسط له البسط
ويطرح عليها الرياحين، حتى انتهى إلى إيلياء فصلى بها فأصبح ذات غداة
وهو مهموم يقلب طرفه إلى السماء، فقالت له بطارقته: أيها الملك لقد
أصبحت مهموما ؟ فقال أجل، فقالوا وما ذاك ؟ فقال أريت في هذه الليلة أن
ملك الختان ظاهر، فقالوا: والله ما نعلم أمة من الامم تختتن إلا اليهود
وهم تحت يديك وفي سلطانك، فإن كان قد وقع ذلك في نفسك منهم فابعث في
مملكتك كلها فلا يبقى يهودي إلا ضربت عنقه، فتستريح من هذا الهم.
فإنهم في ذلك من رأيهم يديرونه بينهم إذ أتاهم رسول صاحب بصرى برجل من
العرب قد وقع إليهم، فقال: أيها الملك إن هذا الرجل من العرب من أهل
الشاء والابل يحدثك عن حدث كان ببلاده فاسأله عنه، فلما انتهى إليه قال
لترجمانه: سله ما هذا الخبر الذي كان في بلاده ؟ فسأله فقال: هو رجل من
العرب من قريش خرج يزعم أنه نبي وقد اتبعه أقوام وخالفه آخرون، وقد
كانت بينهم ملاحم في مواطن فخرجت من بلادي وهم على ذلك.
فلما أخبره الخبر قال: جردوه فإذا هو مختتن فقال: هذا والله الذي قد
أريت لا ما تقولون، أعطه ثوبه.
انطلق لشأنك.
ثم إنه دعا صاحب شرطته فقال له: قلب لي الشام ظهرا لبطن حتى تأتي برجل
من قوم هذا أسأله عن شأنه، قال أبو سفيان: فوالله إني وأصحابي لبغزة إذ
هجم علينا فسألنا ممن أنتم ؟ فأخبرناه، فساقنا إليه جميعا فلما انتهينا
إليه قال أبو سفيان: فوالله ما رأيت من رجل قط أزعم أنه كان أدهى من
ذلك الاغلف - يريد هرقل - قال: فلما انتهينا إليه قال: أيكم أمس به
رحما ؟ فقلت أنا، قال ادنوه مني، قال فاجلسني بين يديه ثم أمر أصحابي
فأجلسهم خلفي وقال: إن كذب فردوا عليه، قال أبو سفيان: فلقد عرفت أني
لو
كذبت ما ردوا علي ولكني كنت امرءا سيدا أتكرم وأستحي من الكذب وعرفت أن
أدنى ما يكون في
__________
(1) أخرجه مسلم في 32 كتاب الجهاد 27 باب (الحديث: 75) ص 1397.
(*)
(4/299)
ذلك أن يرووه
عني ثم يتحدثونه عني بمكة فلم أكذبه، فقال: أخبرني عن هذا الرجل الذي
خرج فيكم، فزهدت له شأنه وصغرت له أمره، [ فوالله ما التفت إلى ذلك مني
وقال: أخبرني عما أسألك من امره ] (1) فقلت سلني عما بدا لك ؟ قال كيف
نسبه فيكم ؟ فقلت محضا من أوسطنا نسبا، قال: فأخبرني هل كان من أهل
بيته أحد يقول مثل قوله فهو يتشبه به ؟ فقلت: لا قال: فأخبرني هل [ كان
] (2) له ملك فاسلبتموه إياه فجاء بهذا الحديث لتردوه عليه ؟ فقلت: لا
قال: فأخبرني عن اتباعه من هم ؟ فقلت الاحداث والضعفاء والمساكين فأما
أشرافهم وذووا الانساب (3) منهم فلا، قال: فأخبرني عمن صحبه أيحبه
ويكرمه أم يقليه ويفارقه ؟ قلت: ما صحبه رجل ففارقه، قال: فأخبرني عن
الحرب بينكم وبينه ؟ فقلت: سجال يدال علينا وندال عليه.
قال: فأخبرني هل يغدر فلم أجد شيئا أغره به إلا هي، قلت: لا ونحن منه
في مدة ولا نأمن غدره فيها.
فوالله ما التفت إليها مني قال: فأعاد علي الحديث، قال: زعمت أنه من
أمحضكم نسبا وكذلك يأخذ الله النبي لا يأخذه إلا من أوسط قومه، وسألتك
هل كان من أهل بيته أحد يقول مثل قوله فهو يتشبه به فقلت لا، وسألتك هل
كان له ملك فاسلبتموه إياه فجاء بهذا الحديث لتردوا عليه ملكه فقلت:
لا، وسألتك عن اتباعه فزعمت أنهم الاحداث والمساكين والضعفاء وكذلك
أتباع الانبياء في كل زمان، وسألتك عمن يتبعه أيحبه ويكرمه أم يقليه
ويفارقه فزعمت أنه قل من يصحبه فيفارقه وكذلك حلاوة الايمان لا تدخل
قلبا فتخرج منه، وسألتك كيف الحرب بينكم وبينه فزعمت أنها سجال يدال
عليكم وتداولون عليه وكذلك يكون حرب الانبياء ولهم تكون العاقبة،
وسألتك هل يغدر فزعمت أنه لا يغدر فلئن كنت صدقتني ليغلبن على ما تحت
قدمي هاتين، ولوددت أني عنده فأغسل عن قدميه، ثم قال: الحق بشأنك، قال:
فقمت وأنا أضرب إحدى يدي على الاخرى وأقول: يا عباد الله لقد أمر أمر
ابن أبي كبشة، وأصبح ملوك بني الاصفر
يخافونه في سلطانهم (4).
قال ابن اسحاق: وحدثني الزهري قال: حدثني أسقف من النصارى قد أدرك ذلك
الزمان قال: قدم دحية بن خليفة على هرقل بكتاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم
الروم، سلام على من أتبع الهدى.
أما بعد فاسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن أبيت فإن إثم الاكاريين
عليك.
قال: فلما انتهى إليه كتابه، وقرأه أخذه فجعله بين فخذه وخاصرته ثم كتب
إلى رجل من أهل رومية كان يقرأ من العبرانية ما يقرأ يخبره عما جاء من
رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب إليه: إنه النبي
__________
(1) ما بين معكوفين سقط من نسخة البداية المطبوعة.
(2) من رواية البيهقي.
(3) في رواية البيهقي عن ابن اسحاق: الاسنان.
(4) الخبر نقله البيهقي في الدلائل ج 4 / 383.
(*)
(4/300)
الذي ينتظر لا
شك فيه فاتبعه، فأمر بعظماء الروم فجمعوا له في دسكرة ملكه ثم أمر بها
فأشرحت (1) عليهم واطلع عليهم من علية له وهو منهم خائف فقال: يا معشر
الروم إنه قد جاءني كتاب أحمد وإنه والله النبي الذي كنا ننتظر ومجمل
ذكره في كتابنا نعرفه بعلاماته وزمانه، فأسلموا واتبعوه تسلم لكم
دنياكم وآخرتكم فنخروا نخرة رجل واحد وابتدروا أبو اب الد سكرة فوجدوها
مغلقة دونهم، فخافهم، وقال: ردوهم علي فردوهم عليه فقال لهم: يا معشر
الروم إني إنما قلت لكم هذه المقالة أختبركم بها لانظر كيف صلابتكم في
دينكم ؟ فلقد رأيت منكم ما سرني فوقعوا له سجدا ثم فتحت لهم أبو اب
الدسكرة فخرجوا (2).
وقد روى البخاري قصة أبي سفيان مع هرقل بزيادات أخر أحببنا أن نوردها
بسندها وحروفها من الصحيح ليعلم ما بين السياقين من التباين وما فيهما
من الفوائد.
قال البخاري قبل الايمان (3) من صحيحه: حدثنا أبو اليمان الحكم بن
نافع، ثنا شعيب (4) عن الزهري: أخبرني عبيدالله بن عبد الله بن عتبة بن
مسعود أن عبد الله بن عباس أخبره أن أبا سفيان أخبره أن هرقل أرسل إليه
في ركب من قريش، وكانوا تجارا بالشام في المدة التي
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش،
فأتوه وهم بايلياء، فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا
بالترجمان فقال: أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ؟ قال
أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسبا، قال: أدنوه مني وقربوا أصحابه
فاجعلوهم عند ظهره.
ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا عن هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه،
[ قال ] فوالله لولا [ الحياء من ] (5) أن يؤثروا عني كذبا لكذبت عنه،
ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم ؟ قلت هو فينا ذو نسب.
قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله ؟ قلت: لا قال: فهل كان من
آبائه من ملك ؟ قلت: لا قال: فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم ؟ قلت: بل
ضعفاؤهم، قال: أيزيدون أم ينقصون ؟ قلت: بل يزيدون، قال: فهل يرتد أحد
منهم سخطه لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ قلت: لا، قال: فهل كنتم تتهمونه
بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قلت: لا: قال: فهل يغدر ؟ قلت: لا ونحن
منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها.
قال: ولم يمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة، قال: فهل
قاتلتمونه ؟ قلت: نعم، قال: فكيف كان قتالكم إياه ؟ قلت الحرب بيننا
وبينه سجال ينال منا وننال منه، قال: ماذا يأمركم ؟ قلت: يقول اعبدوا
الله وحده ولا تشركوا به شيئا واتركوا ما يقول آباؤكم ويأمرنا بالصلاة
والصدق والعفاف والصلة، فقال للترجمان: قل له سألتك عن نسبه
__________
(1) في البيهقي عن الزهري: فأشرجت عليهم: أي أغلقت.
(2) نقل الخبر البيهقي عن ابن اسحاق عن الزهري في الدلائل 4 / 384.
(3) في كتاب بدء الوحي فتح الباري ج 1 / 26.
(4) شعيب: هو شعيب بن أبي حمزة دينار الحمصي وهو من أثبات أصحاب
الزهري.
(5) ما بين معكوفين من البخاري.
(*)
(4/301)
فزعمت أنه فيكم
ذو نسب وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها.
وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول قبله فذكرت أن لا فقلت لو كان أحد
قال هذا القول قبله لقلت رجل يتأسى بقول قيل قبله،
وسألتك هل كان من آبائه [ من ملك ] (1) فذكرت أن لا فلو كان من آبائه
من ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن
يقول ما قال فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس
ويكذب على الله، وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم فذكرت أن
ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل، وسألتك أيزيدون أم ينقصون فذكرت أنهم
يزيدون وكذلك أمر الايمان حتى يتم، وسألتك أيرتد أحد منهم سخطة لدينه
بعد أن يدخل فيه فذكرت أن لا وكذلك الايمان حين تخالط بشاشته القلوب،
وسألتك هل يغدر فذكرت أن لا وكذلك الرسل لا تغدر (2)، وسألتك بما
يأمركم فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وينهاكم عن
عبادة الاوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان كما تقول حقا
فسيملك موضع قدمي هاتين.
وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم فلو أعلم أني أخلص إليه
لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه.
ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به مع دحية إلى
عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل فإذا فيه، بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن
عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى أما بعد،
فإني أدعوك بدعاية الاسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت
فإن عليك إثم الاريسيين (3) (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا
وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا
أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) قال أبو
سفيان: فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب وارتفعت
الاصوات وأخرجنا، فقلت لاصحابي حين خرجنا لقد أمر أمر ابن أبي كبشة (4)
أنه يخافه ملك بني الاصفر، فما زلت
__________
(1) من البخاري.
(2) قال المازني: هذه الاشياء التي سأل عنها هرقل ليست قاطعة على
النبوة إلا أنه يحتمل أنها كانت عنده علامات على هذا النبي بعينه لانه
قال بعد ذلك: قد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظن انه منكم.
وما أورده احتمالا جزم به ابن بطال وهو ظاهر.
(3) الاريسيين: جمع أريسي وهو منسوب إلى أريس بوزن فعيل.
قال ابن سيده: الاريس: الاكار أي الفلاح عند
ثعلب، وعند كراع الاريس: الامير.
قال الجوهري هي لغة شامية وانكر ابن فارس أن تكون عربية.
وقال الخطابي: أراد أن عليك أثم الضعفاء والاتباع إذا لم يسلموا تقليدا
له لان الاصاغر اتباع الاكابر.
(4) ابن أبي كبشة: أراد به النبي صلى الله عليه وسلم.
لان أبا كبشة أحد أجداده وعادة العرب إذا انتقصت نسبت إلى جد غامض قال
أبو الحسن النسابة الجرجاني هو جد وهب جد النبي لامه.
(قال ابن حجر: وهذا فيه نظر لان وهب جد النبي صلى الله عليه وسلم اسم
أمه عاتكة بنت الاوقص بن مرة.
وقيل هو جد عبد المطلب لامه وفيه نظر لان أم عبد المطلب سلمى بنت عمرو
بن زيد الخزرجي ولم يقل أحد من أهل النسب أن عمرو يكنى بأبي كبشة.
قيل هو أبوه من الرضاعة واسمه = (*)
(4/302)
موقنا أنه
سيظهر حتى أدخل الله علي الاسلام، قال وكان ابن الناطور صاحب إيلياء
وهرقل أسقف على نصارى الشام، يحدث: أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يوما
خبيث النفس، فقال بعض بطارقته قد استنكرنا هيئتك ؟ قال ابن الناطور:
وكان هرقل حزاء ينظر في النجوم، فقال لهم حين سألوه: إني رأيت حين نظرت
في النجوم ملك الختان قد ظهر فمن يختتن من هذه الامم ؟ قالوا ليس يختتن
إلا اليهود ولا يهمنك شأنهم، واكتب إلى مدائن ملكك فليقتلوا من فيهم من
اليهود، فبينما هم على أمرهم أتى هرقل برجل أرسل به ملك غسان فخبرهم عن
خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما استخبره هرقل قال: اذهبوا
فانظروا أمختتن هو أم لا ؟ فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن، وسأله عن
العرب فقال هم يختتنون، فقال هرقل، هذا ملك هذه الامة قد ظهر.
ثم كتب إلى صاحب له برومية - وكان نظيره في العلم - وسار هرقل إلى حمص
فلم يرم بحمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج النبي
صلى الله عليه وسلم وهو نبي، فآذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص
ثم أمر بأبوابها فغلقت.
ثم اطلع فقال: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت لكم
ملككم ؟ فتتابعوا لهذا النبي، فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الابواب
فوجدوها قد غلقت، فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من الايمان قال: ردوهم
علي.
وقال: إني إنما قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم فقد رأيت،
فسجدوا له ورضوا عنه.
فكان ذلك آخر شأن هرقل.
قال البخاري: ورواه صالح بن كيسان ويونس ومعمر عن الزهري.
وقد رواه البخاري
في مواضع كثيرة في صحيحه بألفاظ يطول استقصاؤها.
وأخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجه من طرق عن الزهري.
وقد تكلمنا على هذا الحديث مطولا في أول شرحنا لصحيح البخاري بما فيه
كفاية وذكرنا فيه من الفوائد والنكت المعنوية واللفظية ولله الحمد
والمنة.
وقال ابن لهيعة: عن [ أبي ] (1) الاسود عن عروة قال: خرج أبو سفيان بن
حرب إلى الشام تاجرا في نفر من قريش، وبلغ هرقل شأن رسول الله صلى الله
عليه وسلم فأراد أن يعلم ما يعلم من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأرسل إلى صاحب العرب الذي بالشام في ملكه، يأمره أن يبعث إليه برجال
من العرب يسألهم عنه، فأرسل إليه ثلاثين رجلا منهم أبو سفيان بن حرب،
فدخلوا عليه في كنيسة إيلياء التي في جوفها، فقال هرقل: أرسلت إليكم
لتخبروني عن هذا الذي بمكة ما أمره ؟ قالوا ساحر كذاب وليس بنبي، قال:
فأخبروني من أعلمكم به وأقربكم منه رحما ؟ قالوا: هذا أبو سفيان ابن
عمه وقد قاتله، فلما أخبروه ذلك أمر بهم فأخرجوا عنه ثم أجلس أبا سفيان
فاستخبره، قال أخبرني يا أبا سفيان ؟ فقال هو ساحر كذاب، فقال هرقل:
إني لا أريد شتمه ولكن كيف نسبه فيكم ؟ قال هو والله من
__________
= الحرث بن عبد العزى قاله أبو الفتح الازدي وابن ماكولا.
وكانت له بنت تسمى كبشة يكنى بها وقال ابن قتيبة هو رجل من خزاعة.
خالف قريش في عبادة الاوثان فعبد الشعري فنسبوه إليه، وكذا قال الزبير
وقال: اسمه وجزب عامر بن غالب.
(1) من البيهقي في روايته عن عروة (*)
(4/303)
بيت قريش، قال:
كيف عقله ورأيه ؟ قال لم يغب (1) له رأي قط.
قال هرقل: هل كان حلافا كذابا مخادعا في أمره ؟ قال: لا والله ما كان
كذلك، قال: لعله يطلب ملكا أو شرفا كان لاحد من أهل بيته قبله ؟ قال
أبو سفيان: لا، ثم قال من يتبعه منكم هل يرجع إليكم منهم أحد ؟ قال:
لا، قال هرقل: هل يغدر إذا عاهد ؟ قال: لا إلا أن يغدر مدته هذه.
فقال هرقل: وما تخاف من مدته هذه ؟ قال إن قومي أمدوا حلفاءهم على
حلفائه وهو بالمدينة، قال هرقل: إن كنتم أنتم بدأتم فأنتم أغدر، فغضب
أبو سفيان وقال لم يغلبنا إلا مرة واحدة وأنا يومئذ غائب وهو يوم
بدر، ثم غزوته مرتين في بيوتهم نبقر البطون ونجذع الآذان والفروج، فقال
هرقل: كذابا تراه أم صادقا ؟ فقال: بل هو كاذب، فقال: إن كان فيكم نبي
فلا تقتلوه فإن أفعل الناس لذلك اليهود، ثم رجع أبو سفيان (2).
ففي هذا السياق غرابة وفيه فوائد ليست عند ابن اسحاق ولا البخاري.
وقد أورد موسى بن عقبة في مغازيه قريبا مما ذكره عروة بن الزبير والله
أعلم.
وقال ابن جرير في تاريخه (3): حدثنا ابن حميد ثنا سلمة ثنا محمد بن
اسحاق عن بعض أهل العلم قال: إن هرقل قال لدحية بن خليفة الكلبي حين
قدم عليه بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله إني لاعلم أن
صاحبك نبي مرسل، وأنه الذي كنا ننتظر ونجده في كتابنا ولكني أخاف الروم
على نفسي، ولولا ذلك لاتبعته، فاذهب إلى صغاطر الاسقف فاذكر له أمر
صاحبكم فهو والله في الروم أعظم مني وأجود قولا عندهم مني، فانظر ماذا
يقول لك ؟ قال فجاء دحية فأخبره بما جاء به من رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلى هرقل وبما يدعو إليه، فقال صغاطر والله صاحبك نبي مرسل نعرفه
بصفته ونجده في كتابنا باسمه، ثم دخل وألقى ثيابا كانت عليه سودا وليس
ثيابا بياضا ثم أخذ عصاه فخرج على الروم في الكنيسة فقال: يا معشر
الروم إنه قد جاءنا كتاب من أحمد يدعونا فيه إلى الله وأني أشهد أن لا
إله إلا الله وأن أحمد عبده ورسوله.
قال فوثبوا إليه وثبة رجل واحد فضربوه حتى قتلوه.
قال: فلما رجع دحية إلى هرقل فأخبره الخبر قال: قد قلت لك إنا نخافهم
على أنفسنا، فصغاطر والله كان أعظم عندهم وأجوز قولا مني.
وقد روى الطبراني من طريق يحيى بن سلمة بن كهيل عن أبيه، عن عبد الله
بن شداد، عن دحية الكلبي قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
قيصر صاحب الروم بكتاب فقلت استأذنوا لرسول رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فأتى قيصر فقيل له إن على الباب رجلا يزعم أنه رسول رسول الله
ففزعوا لذلك وقال: أدخله، فأدخلني عليه وعنده بطارقته فأعطيته الكتاب
فإذا فيه، بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى قيصر صاحب
الروم، فنخر ابن أخ له أحمر أزرق سبط فقال لا تقرأ الكتاب اليوم فإنه
بدأ بنفسه وكتب صاحب الروم ولم يكتب ملك الروم، قال فقرئ الكتاب حتى
فرغ منه ثم أمرهم فخرجوا من عنده ثم بعث إلي
__________
(1) في البيهقي: لم نعب له عقلا قط ولا رأيا قط.
(2) نقله البيهقي عن عروة في الدلائل ج 4 / 384، ونقل رواية موسى بن
عقبة من طريق ابن أبي أويس.
(*) (3) تاريخ الطبري 3 / 87 - 88.
(*)
(4/304)
فدخلت عليه
فسألني فأخبرته، فبعث إلى الاسقف فدخل عليه - وكان صاحب أمرهم يصدرون
عن رأيه وعن قوله - فلما قرأ الكتاب قال الاسقف: هو والله الذي بشرنا
به موسى وعيسى الذي كنا ننتظر.
قال قيصر فما تأمرني ؟ قال الاسقف أما أنا فإني مصدقه ومتبعه، فقال
قيصر: أعرف أنه كذلك ولكن لا أستطيع أن أفعل إن فعلت ذهب ملكي وقتلني
الروم.
وبه قال محمد بن إسحاق عن خالد بن يسار عن رجل من قدماء أهل الشام قال:
لما أراد هرقل الخروج من أرض الشام إلى القسطنطينية لما بلغه من أمر
النبي صلى الله عليه وسلم جمع الروم فقال: يا معشر الروم إني عارض
عليكم أمورا فانظروا فيما أردت بها ؟ قالوا ما هي ؟ قال تعلمون والله
إن هذا الرجل لنبي مرسل نجده نعرفه بصفته التي وصف لنا فهلم فلنتبعه
فتسلم لنا دنيانا وآخرتنا فقالوا: نحن نكون تحت أيدي العرب ونحن أعظم
الناس ملكا، وأكثره رجالا.
وأقصاه بلدا ؟ ! قال فهلم أعطيه الجزية كل سنة أكسر شوكته وأستريح من
خربه بما أعطيه إياه.
قالوا: نحن نعطي العرب الذل والصغار يخرج يأخذونه منا ونحن أكثر الناس
عددا، وأعظمه ملكا، وأمنعه بلدا، لا والله لا نفعل هذا أبدا، قال فهلم
فلاصالحه على أن أعطيه أرض سورية ويدعني وأرض الشام، قال وكانت أرض
سورية، فلسطين والاردن ودمشق وحمص وما دون الدرب [ من أرض ] (1) سورية،
وما كان وراء الدرب عندهم فهو الشام، فقالوا نحن نعطيه أرض سورية وقد
عرفت أنها سرة (2) الشام لا نفعل هذا أبدا، فلما أبوا عليه، قال: أما
والله لترون (3) أنكم قد ظفرتم إذا امتنعتم منه في مدينتكم.
قال ثم جلس على بغل له فانطلق حتى إذا أشرف على الدرب استقبل أرض الشام
ثم قال: السلام عليك يا أرض سورية تسليم الوداع، ثم ركض حتى دخل
قسطنطينية.
والله أعلم.
إرساله صلى الله عليه وسلم إلى ملك العرب من النصارى بالشام قال ابن
اسحاق: ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب أخا بني أسد
بن خزيمة إلى
المنذر بن الحارث بن أبي شمر الغساني صاحب دمشق (4).
قال الواقدي: وكتب معه، سلام على من اتبع الهدى وآمن به، وأدعوك إلى أن
تؤمن بالله وحده لا شريك له يبقى لك ملكك.
فقدم شجاع بن وهب فقرأه عليه فقال: ومن ينتزع ملكي ؟ إني سأسير إليه.
__________
(1) من الطبري.
3 / 88.
(2) من الطبري 3 / 88 وفي الاصل: أنها أرض سوريا والشام.
(3) من الطبري وفي الاصل: لتودن.
(4) في سيرة ابن هشام: وبعث شجاع بن وهب الاسدي إلى الحارث بن أبي شمر
الغساني، ملك تخوم الشام.
وفي رواية ابن هشام: بعث شجاع بن وهب إلى جبلة بن الايهم الغساني
(السيرة 4 / 254).
(*)
(4/305)
|