البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
فصل في مدة إقامته عليه السلام بمكة
لا خلاف أنه عليه الصلاة والسلام أقام بقية شهر رمضان يقصر الصلاة
ويفطر، وهذا دليل من قال من العلماء: إن المسافر إذا لم يجمع الاقامة
فله أن يقصر ويفطر إلى ثماني عشر يوما في أحد القولين وفي القول الآخر
كما هو مقرر في موضعه.
قال البخاري: ثنا أبو نعيم، ثنا سفيان ح وحدثنا قبيصة ثنا سفيان، عن
يحيى بن أبي إسحاق عن أنس بن مالك قال: أقمنا مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم عشرا يقصر الصلاة وقد رواه بقية الجماعة من طرق متعددة عن
يحيى بن أبي إسحاق الحضرمي البصري عن أنس به نحوه.
قال البخاري ثنا عبد ان، ثنا عبد الله أنبأ عاصم عن عكرمة عن ابن عباس
قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يوما يصلي ركعتين
(1).
ورواه البخاري أيضا من وجه آخر زاد البخاري: وأبو حصين كلاهما وأبو
داود والترمذي وابن ماجه من حديث عاصم بن سليمان الاحول، عن عكرمة عن
ابن عباس به وفي لفظ لابي داود سبعة عشر يوما (4).
وحدثنا أحمد بن يونس، ثنا أحمد بن شهاب، عن عاصم عن عكرمة عن ابن عباس
__________
(1) في الواقدي: إني وجدت.
وانظر الخبر فيه مطولا ج 2 / 873 - 874.
(2) دلائل النبوة ج 5 / 77 ونقل الصالحي عنه وعن الواقدي وابن سعد وابن
اسحاق في السيرة الشامية (6 / 300).
(3) فتح الباري 8 / 21 حديث رقم 4299 كتاب المغازي - باب فتح مكة.
(4) فتح الباري 8 / 21 وسنن أبي داود 2 / 10 الحديث رقم (1230).
(*)
(4/362)
قال: أقمنا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر تسع عشرة نقصر الصلاة.
قال ابن عباس: فنحن نقصر ما بقينا بين تسع عشرة، فإذا زدنا أتممنا.
وقال أبو داود: ثنا ابراهيم بن موسى، ثنا ابن علية، ثنا علي بن زيد، عن
أبي نضرة، عن عمران بن حصين قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
وشهدت معه الفتح فأقام ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين يقول " يا
أهل البلد صلوا أربعا فإنا [ قوم ] سفر " (1) وهكذا رواه الترمذي من
حديث علي بن زيد بن جدعان وقال هذا حديث حسن.
ثم رواه: من حديث محمد بن إسحاق عن الزهري، عن عبيدالله بن عبد الله عن
ابن عباس قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح حمس عشرة
ليلة يقصر الصلاة ثم قال رواه غير واحد عن ابن إسحاق لم يذكروا ابن
عباس (2).
وقال ابن ادريس عن محمد بن اسحاق عن الزهري ومحمد بن علي بن الحسين
وعاصم بن عمرو بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر (3) وعمرو بن شعيب وغيرهم
قالوا: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة خمس عشرة ليلة.
فصل فيما حكم عليه السلام بمكة من الاحكام
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن مسلم، عن مالك بن شهاب، عن عروة، عن
عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال الليث، حدثني يونس، عن ابن
شهاب أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة قالت: كان عتبة بن أبي وقاص عهد
إلى أخيه سعد أن يقبض ابن وليدة زمعة، وقال عتبة إنه ابني، فلما قدم
رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في الفتح أخذ سعد بن أبي وقاص ابن
وليدة زمعة فأقبل به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل معه عبد
بن زمعة فقال سعد بن أبي وقاص: هذا ابن أخي عهد إلي أنه ابنه، قال عبد
بن زمعة: يا رسول الله هذا أخي هذا ابن زمعة ولد على فراشه، فنظر رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلى ابن وليدة زمعة فإذا هو أشبه الناس بعتبة
بن أبي وقاص، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هو لك هو أخوك يا
عبد بن زمعة من أجل أنه ولد على فراشه " وقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم
" احتجبي منه يا سودة " لما رأى من شبه عتبة بن أبي وقاص.
قال ابن شهاب: قالت عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الولد
للفراش وللعاهر الحجر " قال ابن شهاب: وكان أبو هريرة يصرح بذلك (4).
وقد رواه البخاري أيضا ومسلم وأبو داود والترمذي جميعا عن قتيبة عن
الليث به.
وابن ماجه من حديثه وانفرد البخاري بروايته له من حديث مالك عن الزهري.
ثم قال البخاري: ثنا محمد بن مقاتل، أنبأ عبد الله، أنا يونس، عن ابن
شهاب أخبرني عروة بن الزبير أن امرأة سرقت في عهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم في غزوة الفتح ففزع قومها إلى أسامة بن زيد يستشفعونه
__________
(1) سنن أبي داود (ج 2 / 9 - 10) الحديث (1229).
(2) سنن أبي داود ج 2 / 10 (الحديث رقم 1231).
(3) الخبر في دلائل البيهقي ج 5 / 106 وفيه: عاصم بن عمر بن قتادة وعبد
الله بن أبي رهم.
(4) رواه البخاري في كتاب المغازي الحديث (4302) فتح الباري (8 / 24)
وفي بدايته قال: عبد الله بن مسلمة (*)
(4/363)
قال عروة: فلما
كلمه أسامة فيها تلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال " أتكلمني
في حد من حدود الله ؟ " فقال أسامة استغفر لي يا رسول الله، فلما كان
العشي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فأثنى على الله بما هو
أهله ثم قال " أما بعد فإنما هلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم
الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد
بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها " ثم أمر رسول الله صلى
الله عليه وسلم بتلك المرأة فقطعت يدها.
فحسنت توبتها بعد ذلك وتزوجت، قالت عائشة: كانت تأتي بعد ذلك فأرفع
حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).
وقد رواه البخاري في موضع آخر ومسلم من حديث ابن وهب عن يونس عن الزهري
عن عروة عن عائشة به.
وفي صحيح مسلم من حديث سبرة بن معبد الجهني قال: أمرنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم بالمتعة عام الفتح حين دخل مكة ثم لم يخرج حتى نهى
عنها.
وفي رواية فقال " ألا إنها حرام حرام من يومكم هذا إلى يوم القيامة "
وفي رواية في مسند أحمد والسنن أن ذلك كان في حجة الوداع فالله أعلم.
وفي صحيح مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يونس بن محمد، عن عبد الواحد
بن
زياد، عن أبي العميس عن أياس بن سلمة بن الاكوع عن أبيه أنه قال: رخص
لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس في متعة النساء ثلاثا ثم
نهانا عنه.
قال البيهقي: وعام أوطاس هو عام الفتح فهو وحديث سبرة سواء (2).
قلت: من أثبت النهي عنها في غزوة خيبر قال إنها ابيحت مرتين، وحرمت
مرتين، وقد نص على ذلك الشافعي وغيره.
وقد قيل إنها أبيحت وحرمت أكثر من مرتين فالله أعلم.
وقيل إنها إنما حرمت مرة واحدة وهي هذه المرة في غزوة الفتح، وقيل إنها
إنما أبيحت للضرورة فعلى هذا إذا وجدت ضرورة أبيحت وهذا رواية عن
الامام أحمد وقيل بل لم تحرم مطلقا وهي على الاباحة هذا هو المشهور عن
ابن عباس وأصحابه وطائفة من الصحابة وموضع تحرير ذلك في الاحكام.
فصل
قال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق ثنا ابن جريج، أنبأ عبد الله بن
عثمان بن خثيم أن محمد بن الاسود بن خلف أخبره: أن أباه الاسود رأى
رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع الناس يوم الفتح، قال جلس عند قرن
مستقبله (3) فبايع الناس على الاسلام والشهادة قلت وما الشهادة ؟ قال
أخبرني
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب المغازي (53) باب الحديث 4304 فتح الباري 8
/ 24.
وأخرجه في كتاب الانبياء.
(54) باب.
وأخرجه في كتاب الحدود (12) باب.
وأخرجه مسلم في 29 كتاب الحدود (2) باب قطع السارق الشريف وغيره
(الحديث رقم 8).
(2) الحديث في صحيح مسلم في 16 كتاب النكاح (3) باب نكاح المتعة الحديث
(18).
(3) في البيهقي: مسفلة، وفي أسد الغابة مصقلة.
وفي مسند أحمد: مسقلة، وفي تاج العروس: مسفلة: وهي محلة بأسفل مكة.
وقال البيهقي: وقرن مسفلة: الذي إليه بيوت ابن أبي ثمامة، وهو دار ابن
سمرة وما حولها (*)
(4/364)
محمد بن الاسود
بن خلف أنه بايعهم على الايمان بالله وشهادة أن لا إله إلا الله وأن
محمدا عبده ورسوله تفرد به أحمد (1) وعند البيهقي: فجاءه الناس الكبار
والصغار والرجال والنساء فبايعهم على الاسلام والشهادة.
وقال ابن جرير: ثم اجتمع الناس بمكة لبيعة رسول الله صلى الله عليه
وسلم على الاسلام
فجلس لهم - فيما بلغني - على الصفا وعمر بن الخطاب أسفل من مجلسه، فأخذ
على الناس السمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا، قال: فلما فرغ من
بيعة الرجال بايع النساء وفيهن هند بنت عتبة متنقبة متنكرة لحدثها، لما
كان من صنيعها بحمزة فهي تخاف أن يأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم
بحدثها ذلك، فلما دنين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبايعهن قال "
بايعنني على أن لا تشركن بالله شيئا " فقالت هند: والله إنك لتأخذ
علينا ما لا تأخذه من الرجال ؟ " ولا تسرقن " فقالت: والله إني كنت
أصبت من مال أبي سفيان الهنة بعد الهنة وما كنت أدري أكان ذلك علينا
حلالا أم لا ؟ فقال أبو سفيان - وكان شاهدا لما تقول - أما ما أصبت
فيما مضى فأنت منه في حل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " وإنك
لهند بنت عتبة ؟ " قالت: نعم فاعف عما سلف عفا الله عنك ثم قال " ولا
يزنين " فقالت: يا رسول الله وهل تزني الحرة ؟ ثم قال " ولا تقتلن
أولادكن " قالت: قد ربيناهم صغارا حتى قتلتهم أنت وأصحابك ببدر كبارا
(2) فضحك عمر بن الخطاب حتى استغرق.
ثم قال " ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن " فقلت: والله
إن إتيان البهتان لقبيح، ولبعض التجاوز أمثل.
ثم قال " ولا يعصينني " فقالت (3): في معروف، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم لعمر " بايعهين واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم "
فبايعهن عمر وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصافح النساء ولا
يمس إلا امرأة أحلها الله له أو ذات محرم منه.
وثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لا والله ما مست
يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط وفي رواية ما كان يبايعهن
إلا كلاما ويقول " إنما قولي لامرأة واحدة كقولي لمائة امرأة " وفي
الصحيحين عن عائشة أن هندا بنت عتبة امرأة أبي سفيان أتت رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني
من النفقة ما يكفيني ويكفي بني فهل علي من حرج إذا أخذت من ماله بغير
علمه ؟ قال خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك.
وروى البيهقي من طريق يحيى بن بكير، عن الليث، عن يونس، عن ابن شهاب،
عن عروة، عن عائشة أن هند بنت عتبة قالت: يا رسول الله ما كان مما على
وجه الارض أخباء أو خباء - الشك من أبي بكر - أحب إلي من أن يذلوا من
أهل أخبائك - أو خبائك - ثم ما أصبح اليوم على ظهر الارض أهل أخباء أو
خباء أحب إلي من أن يعزوا من أهل
أخبائك، أو خبائك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " وأيضا والذي نفس محمد بيده "
قالت: يا رسول
__________
(1) مسند الامام أحمد ج 3 / 415.
ودلائل البيهقي ج 5 / 94.
(2) العبارة في الطبري: قد ربيناهم صغارا وقتلتهم يوم بدر كبارا فأنت
وهم أعلم.
(3) العبارة في الطبري: ولا تعصينني في معروف، قالت: ما جلسنا هذا
المجلس ونحن نريد أن نعصيك في معروف (*)
(4/365)
الله إن أبا
سفيان رجل شحيح (1) فهل علي حرج أن أطعم من الذي له ؟ قال " لا
بالمعروف " (2) ورواه البخاري عن يحيى بن بكير بنحوه وتقدم ما يتعلق
باسلام أبي سفيان وقال أبو داود: ثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا جرير، عن
منصور، عن مجاهد، عن طاوس عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم يوم فتح مكة: " لا هجرة ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم الا
فانفروا " (3) ورواه البخاري عن عثمان بن أبي شيبة، ومسلم عن يحيى بن
يحيى عن جرير.
وقال الامام أحمد: ثنا عفان، ثنا وهب، ثنا ابن طاوس، عن أبيه، عن صفوان
بن أمية: أنه قيل له إنه لا يدخل الجنة إلا من هاجر فقلت له: لا أدخل
منزلي حتى أسأل رسول الله ما سأله فأتيته فذكرت له فقال " لا هجرة بعد
فتح مكة ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا " تفرد به أحمد.
وقال البخاري: ثنا محمد بن أبي بكر، ثنا الفضيل بن سليمان، ثنا عاصم،
عن أبي عثمان النهدي، عن مجاشع بن مسعود قال: انطلقت بأبي معبد إلى
النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه على الهجرة فقال " مضت الهجرة لاهلها
أبايعه على الاسلام والجهاد " فلقيت أبا معبد فسألته فقال: صدق مجاشع
(4).
وقال خالد عن أبي عثمان عن مجاشع أنه جاء بأخيه مجالد.
وقال البخاري: ثنا عمرو بن خالد، ثنا زهير، ثنا عاصم، عن أبي عثمان
قال: حدثني مجاشع قال: أتيت رسول الله بأخي بعد يوم الفتح فقلت: يا
رسول الله جئتك بأخي لتبايعه على الهجرة قال " ذهب أهل الهجرة بما فيها
" فقلت على أي شئ تبايعه ؟ قال " أبايعه على الاسلام والايمان والجهاد
" فلقيت أبا معبد بعد وكان أكبرهما سنا فسألته فقال: صدق مجاشع.
وقال البخاري: ثنا محمد بن بشار ثنا غندر ثنا شعبة عن
أبي بشر عن مجاهد قال: قلت لابن عمر: أريد أن أهاجر إلى الشام ؟ فقال:
لا هجرة ولكن انطلق فأعرض نفسك فإن وجدت شيئا وإلا رجعت.
وقال أبو النصر أنا شعبة أنا أبو بشر سمعت مجاهدا قال: قلت لابن عمر
فقال: لا هجرة اليوم - أو بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم - مثله.
حدثنا إسحاق بن يزيد، ثنا يحيى بن حمزة، حدثني أبو عمرو الاوزاعي عن
عبدة بن أبي لبابة عن مجاهد ابن جبير أن عبد الله بن عمر قال: لا هجرة
بعد الفتح.
وقال البخاري: ثنا إسحاق بن يزيد أنا يحيى بن حمزة أنا الاوزاعي عن
عطاء بن أبي رباح قال: زرت عائشة مع عبيد بن عمير فسألها عن الهجرة
فقالت لا هجرة اليوم.
وكان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله عزوجل وإلى رسوله مخافة أن
يفتن عليه، فأما اليوم فقد أظهر الله الاسلام فالمؤمن يعبد ربه حيث
يشاء ولكن جهاد ونية.
__________
(1) في البيهقي: رجل ممسك.
(2) رواه البيهقي في الدلائل ج 5 / 100 وفيه: لا إلا بالمعروف.
ورواه البخاري في 83 كتاب الايمان والنذور (83) باب الحديث (6641).
(3) الحديث أخرجه البخاري في 56 كتاب الجهاد - 194 باب لا هجرة بعد
الفتح.
وأخرجه مسلم في 33 كتاب الامارة (20) باب الحديث (85).
(4) أخرجه البخاري في 64 كتاب المغازي (53) باب.
وأخرجه مسلم في كتاب الامارة حديث 84.
(*)
(4/366)
وهذه الاحاديث
والآثار دالة على أن الهجرة إما الكاملة أو مطلقا قد انقطعت بعد فتح
مكة لان الناس دخلوا في دين الله أفواجا وظهر الاسلام، وثبتت أركانه
ودعائمه فلم تبق هجرة، اللهم إلا أن يعرض حال يقتضي الهجرة بسبب مجاورة
أهل الحرب وعدم القدرة على إظهار الدين عندهم فتجب الهجرة إلى دار
الاسلام، وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء ولكن هذه الهجرة ليست
كالهجرة قبل الفتح، كما أن كلا من الجهاد والانفاق في سبيل الله مشروع
ورغب فيه إلى يوم القيامة وليس كالانفاق ولا الجهاد قبل الفتح فتح مكة.
قال الله تعالى (لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم
درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى) الآية
[ سورة الحديد: 10 ] وقد قال الامام أحمد: ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة،
عن عمرو بن مرة عن أبي البختري الطائي عن (1) أبي سعيد الخدري عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لما نزلت هذه السورة " إذا جاء نصر
الله والفتح " قرأها رسول الله حتى ختمها وقال: " الناس خير وأنا
وأصحابي خير " وقال " لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية " فقال له
مروان كذبت، وعنده: رافع بن خديج وزيد بن ثابت قاعدان معه على السرير،
فقال أبو سعيد: لو شاء هذان لحدثاك ولكن هذا يخاف أن تنزعه عن عرافة
قومه، وهذا يخشى أن تنزعه عن الصدقة، فرفع مروان عليه الدرة ليضربه
فلما رأيا ذلك.
قالا: صدق.
تفرد به أحمد.
وقال البخاري: ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأن
بعضهم وجد في نفسه فقال لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله ؟ فقال عمر:
إنه ممن قد علمتم، فدعاهم ذات يوم فأدخله معهم فما رأيت أنه أدخلني
فيهم يومئذ إلا ليريهم، فقال ما تقولون في قول الله عزوجل (إذا جاء نصر
الله والفتح) فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح
علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئا، فقال لي: أكذاك تقول يا بن عباس ؟
فقلت لا، فقال ما تقول ؟ فقلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم
أعلمه له قال (إذا جاء نصر الله والفتح) فذلك علامة أجلك (فسبح بحمد
ربك واستغفره إنه كان توابا) قال عمر بن الخطاب: لا أعلم منها إلا ما
يقول (2).
تفرد به البخاري وهكذا روي من غير وجه عن ابن عباس أنه فسر ذلك بنعي
رسول الله صلى الله عليه وسلم في أجله.
وبه قال مجاهد وأبو العالية والضحاك وغير واحد كما قال ابن عباس وعمر
بن الخطاب رضي الله عنهما.
فأما الحديث الذي قال الامام أحمد: ثنا محمد بن فضيل، ثنا عطاء، عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما: نزلت (إذا جاء نصر الله والفتح) قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " نعيت إلي نفسي " بأنه مقبوض في تلك
السنة.
تفرد به الامام أحمد
__________
(1) هكذا سياق الحديث في نسخة دار الكتب والتيمورية، أقول: أبو البختري
لم يسمع من أبي سعيد والحديث نقله البيهقي بهذا الاسناد في الدلائل ج 5
/ 109.
(2) أخرجه البخاري في كتاب التفسير (4) باب الحديث 4970 فتح الباري (8
/ 734).
(*)
(4/367)
وفي إسناده عطاء بن أبي مسلم الخراساني وفيه ضعف تكلم فيه غير واحد من
الائمة وفي لفظه نكارة شديدة وهو قوله بأنه مقوبض في تلك السنة، وهذا
باطل فإن الفتح كان في سنة ثمان في رمضان منها كما تقدم بيانه وهذا ما
لا خلاف فيه.
وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ربيع الاول من سنة إحدى عشرة
بلا خلاف أيضا، وهكذا الحديث الذي رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني
رحمه الله: ثنا ابراهيم بن أحمد بن عمر الوكيعي، ثنا أبي، ثنا جعفر بن
عون، عن أبي العميس، عن أبي بكر بن أبي الجهم، عن عبيدالله بن عبد الله
بن عتبة عن ابن عباس قال: آخر سورة نزلت من القرآن جميعا إذا جاء نصر
الله والفتح.
فيه نكارة أيضا وفي إسناده نظر أيضا.
ويحتمل أن يكون أنها آخر سورة نزلت جميعها كما قال والله أعلم.
وقد تكلمنا على تفسير هذه السورة الكريمة بما فيه كفاية ولله الحمد
والمنة.
وقال البخاري: ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي
قلابة، عن عمرو بن سلمة - قال لي أبو قلابة: ألا تلقاه فنسأله فلقيته
فسألته - قال كنا بماء ممر الناس، وكان يمر بنا الركبان فنسألهم ما
للناس ما للناس ؟ ما هذا الرجل ؟ فيقولون يزعم أن الله أرسله وأوحى
إليه كذا.
فكنت أحفظ ذاك الكلام فكأنما يغرى في صدري، وكانت العرب تلوم باسلامهم
الفتح فيقولون أتركوه وقومه فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق، فلما كانت
وقعة أهل الفتح بادر كل قوم باسلامهم، وبدر أبي قومي باسلامهم، فلما
قدم قال: جئتكم والله من عند النبي حقا.
قال صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة
فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآنا فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآنا مني
لما كنت أتلقى من الركبان، فقدموني بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع
سنين، وكانت علي بردة إذا سجدت تقلصت عني، فقالت امرأة من الحي: ألا
تغطون عنا است قارئكم ؟ فاشتروا فقطعوا لي قميصا فما فرحت بشئ فرحي
بذلك القميص.
تفرد به البخاري دون مسلم. |