البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي

البداية والنهاية - ابن كثير ج 5
البداية والنهاية
ابن كثير ج 5

(5/)


البداية والنهاية

(5/1)


البداية والنهاية للامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي المتوفي سنة 774 ه حققه ودقق اصوله وعلق حواشيه علي شيري الجزء الخامس دار احياء التراث العربي

(5/3)


طبعة جديدة محققة الطبعة الاولى 1408 ه 1988 م

(5/4)


بسم الله الرحمن الرحيم
سنة تسع من الهجرة
ذكر غزوة تبوك (1) في رجب منها قال الله تعالى * (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) * [ التوبة: 28 - 29 ] روي عن ابن
عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك وغيرهم: أنه لما أمر الله تعالى أن يمنع المشركون من قربان المسجد الحرام في الحج وغيره.
قالت قريش: لينقطعن عنا المتاجر والاسواق أيام الحج وليذهبن ما كنا نصيب منها، فعوضهم الله عن ذلك بالامر بقتال أهل الكتاب حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
قلت: فعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتال الروم، لانهم أقرب الناس إليه وأولى الناس بالدعوة إلى الحق لقربهم إلى الاسلام وأهله.
وقد قال الله تعالى * (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم
__________
(1) انظر في غزوة تبوك: تاريخ الطبري (3 / 142 دار القاموس) سيرة ابن هشام (4 / 159) فتح الباري (8 / 90) مغازي الواقدي (3 / 989) عيون الاثر (2 / 275) شرح المواهب اللدنية للزرقاني (3 / 62) السيرة الشامية (5 / 626).
طبقات ابن سعد (2 / 165).
وتبوك: بفتح الفوقية وضم الموحدة، وهي في طرف الشام من جهة القبلة، بينها وبين المدينة اثنتا عشرة مرحلة.
قال السهيلي: سميت الغزوة بعين تبوك.
قال ياقوت: نزلوا على عين فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله ان لا أحد يمس من مائها، فسبق إليها رجلان وهي تبض بشئ من ماء فجعلا يدحلان فيها سهمين ليكثر ماؤها فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وآله: ما زلتما تبوكان منذ اليوم، فسميت بذلك تبوك.
والبوك: ادخال اليد في الشئ وتحريكه.
ومنه باك الحمار الاتان إذا نزا عليها، يبوكها بوكا.
وقال ياقوت: هي موضع بين وادي القرى والشام (معجم البلدان 2 / 14).
(*)

(5/5)


من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين) * [ التوبة: 123 ] فلما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على غزو الروم عام تبوك وكان ذلك في حر شديد وضيق من الحال، جلى للناس أمرها ودعى من حوله من أحياء الاعراب للخروج معه فأوعب معه بشر كثير كما سيأتي قريبا من ثلاثين ألفا وتخلف آخرون فعاتب الله من تخلف منهم لغير عذر من المنافقين والمقصرين، ولامهم ووبخهم وقرعهم أشد التقريع وفضحهم أشد الفضيحة وأنزل فيهم قرآنا يتلى وبين أمرهم في سورة براءة كما قد بينا ذلك مبسوطا في التفسير وأمر المؤمنين بالنفر على كل حال.
فقال تعالى
* (انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون، لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون) * [ التوبة: 41 - 42 ] ثم الآيات بعدها: ثم قال تعالى * (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) * [ التوبة: 122 ] فقيل إن هذه ناسخة لتلك وقيل لا فالله أعلم.
قال ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ما بين ذي الحجة إلى رجب - يعني من سنة تسع - ثم أمر الناس بالتهيؤ لغزو الروم.
فذكر الزهري (1) ويزيد بن رومان، وعبد الله بن أبي بكر، وعاصم بن عمر بن قتادة، وغيرهم من علمائنا كل يحدث عن غزوة تبوك ما بلغه عنها، وبعض القوم يحدث ما لم يحدث بعض: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم، وذلك في زمان عسرة من الناس، وشدة من الحر، وجدب من البلاد، وحين طابت الثمار، فالناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص في (2) الحال من الزمان الذي هم عليه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قل ما يخرج في غزوة إلا كنى عنها، إلا ما كان من غزوة تبوك، فإنه بينها للناس، لبعد الشقة، وشدة الزمان، وكثرة العدو الذي يصمد إليه، ليتأهب الناس لذلك أهبته.
فأمرهم بالجهاد (3) وأخبرهم أنه يريد الروم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو في جهازه ذلك للجد بن قيس أحد بني سلمة " يا جد، هل لك العام في جلاد بني الاصفر ؟ " فقال: يا رسول الله أو تأذن لي ولا تفتني، فو الله لقد عرف قومي أنه ما رجل بأشد عجبا بالنساء مني، وإني اخشى إن رأيت نساء بني الاصفر أن لا أصبر، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال " قد أذنت لك " ففي الجد أنزل الله هذه الآية * (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) * [ التوبة: 49 ].
وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض: لا تنفروا في الحر، زهادة في الجهاد، وشكا في الحق، وإرجافا بالرسول صلى الله عليه وسلم فأنزل الله فيهم * (وقالوا لا تنفروا في
__________
(1) في ابن هشام: وقد ذكر لنا الزهري.
(2) في ابن هشام: على الحال.
(3) في ابن هشام: فأمر الناس بالجهاز.
(*)

(5/6)


الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون، فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون) * [ التوبة: 81 - 82 ].
قال ابن هشام: حدثني الثقة عمن حدثه، عن محمد بن طلحة بن عبد الرحمن، عن إسحاق بن إبراهيم بن عبد الله بن حارثة، عن أبيه عن جده قال: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ناسا من المنافقين يجتمعون في بيت سويلم اليهودي - وكان بيته عند جاسوم - يثبطون الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فبعث إليهم طلحة بن عبيد الله في نفر من أصحابه وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم، ففعل طلحة.
فاقتحم الضحاك بن خليفة من ظهر البيت فانكسرت رجله، واقتحم أصحابه فأفلتوا فقال الضحاك في ذلك: كادت وبيت الله نار محمد * يشيط بها الضحاك وابن أبيرق وظلت وقد طبقت كبس سويلم * أنوء على رجلى كسيرا ومرفق (1) سلام عليكم لا أعود لمثلها * أخاف ومن تشمل به النار يحرق قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جد في سفره وأمر الناس بالجهاز والانكماش (2) وحص أهل الغنى على النفقة والحملان في سبيل الله، فحمل رجال من أهل الغنى واحتسبوا، وأنفق عثمان بن عفان نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها.
قال ابن هشام: فحدثني من أثق به: أن عثمان أنفق في جيش العسرة في غزوة تبوك ألف دينار.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللهم أرض عن عثمان فإني عنه راض " (2).
وقد قال الامام أحمد: حدثنا هارون بن معروف، ثنا ضمرة، ثنا عبد الله بن شوذب، عن عبد الله بن القاسم، عن كثير (4) مولى عبد الرحمن بن سمرة قال جاء: عثمان بن عفاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار في ثوبه حين جهز النبي صلى الله عليه وسلم جيش العسرة قال: فصبها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها بيده ويقول " ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم " ورواه الترمذي عن محمد بن إسماعيل عن الحسن بن واقع، عن ضمرة به.
وقال حسن غريب.
وقاله
عبد الله بن أحمد في مسند أبيه.
حدثني أبو موسى العنزي، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، حدثني سكن بن المغيرة، حدثني الوليد بن أبي هشام، عن فرقد أبي طلحة، عن عبد الرحمن بن خباب السلمي.
قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم فحث على جيش العسرة، فقال عثمان بن عفان علي مائة بعير بأحلاسها وأقتابها، قال ثم نزل مرقاة من المنبر ثم حث فقال عثمان: علي مائة اخرى بأحلاسها وأقتابها قال فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بيده هكذا يحركها، وأخرج عبد الصمد يده كالمتعجب " ما
__________
(1) طبقت: علوت.
الكبس: البيت الصغير من طين.
(2) الانكماش: الاسراع.
في القاموس: كمش وتكمش كانكمش: أعجل وأسرع.
(3) سيرة ابن هشام ج 4 / 161.
(4) من المسند والبيهقي.
وهو كثير بن أبي كثير روى عن مولاه وجماعة وروى عنه قتادة وجماعة وثق وكاشف الذهبي (3 / 6).
وفي الاصل كثة وهو تحريف.
والحديث رواه الترمذي في كتاب المناقب 19 باب مناقب عثمان الحديث (3702) ص (5 / 626).
(*)

(5/7)


على عثمان ما عمل بعد هذا " (1) وهكذا رواه الترمذي عن محمد بن يسار عن أبي داود الطيالسي عن سكن بن المغيرة أبي محمد مولى لآل عثمان به وقال غريب من هذا الوجه.
ورواه البيهقي: من طريق عمرو بن مرزوق عن سكن بن المغيرة (2) به وقال ثلاث مرات وأنه التزم بثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها.
قال عبد الرحمن: فأنا شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر " ما ضر عثمان بعدها - أو قال - بعد اليوم " وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا أبو عوانة، عن حصين بن عبد الرحمن، عن عمرو بن جاوان، عن الاحنف بن قيس قال: سمعت عثمان بن عفاف يقول لسعد بن أبي وقاص وعلي والزبير وطلحة: أنشدكم بالله هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من جهز جيش العسرة غفر الله له " فجهزتهم حتى ما يفقدون خطاما ولا عقالا ؟ قالوا: اللهم نعم ! ورواه النسائي من حديث حصين به (3).
فصل
فيمن تخلف معذورا من البكائين وغيرهم قال الله تعالى * (وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين، رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون، لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون، أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم، وجاء المعذرون من الاعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم، ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم، ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون، إنما السبيل على الذين يستأ ذنونك وهم اغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون) * [ براءة: 86 - 93 ] قد تكلمنا على تفسير هذا كله في التفسير بما فيه كفاية ولله الحمد والمنة، والمقصود ذكر البكائين الذين جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملهم حتى يصحبوه في غزوته هذه، فلم يجدوا عنده من الظهر ما يحملهم عليه فرجعوا وهم يبكون تأسفا
__________
(1) مسند الامام أحمد ج 4 / 75.
والترمذي المصدر السابق ح (3700) ص (5 / 625) وقال: " هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه ولا نعرفه إلا من حديث السكن بن المغيرة، وفي الباب عن عبد الرحمن بن سمرة ".
(2) رواه البيهقي في الدلائل ج 5 / 214 وفيه عن السكن بن أبي كريمة.
(3) رواه البيهقي في الدلائل ج 5 / 215، والنسائي في حديث طويل أخرجه في كتاب الاحباس، باب وقف المساجد (6 / 234).
(*)

(5/8)


على ما فاتهم من الجهاد في سبيل الله والنفقة فيه.
قال ابن إسحاق: وكانوا سبعة نفر من الانصار وغيرهم، فمن بني عمرو بن عوف: سالم بن عمير، وعلبة بن زيد أخو بني حارثة، وأبو ليلى
عبد الرحمن بن كعب أخو بني مازن بن النجار، وعمرو بن الحمام بن الجموح أخو بني سلمة، وعبد الله بن المغفل المزني، وبعض الناس يقولون: بل هو عبد الله بن عمرو المزني، وهرمي بن عبد الله أخو بني واقف، وعرباض بن سارية الفزاري (1).
قال ابن إسحاق: فبلغني أن ابن يامين بن عمير (2) بن كعب النضري لقي أبا ليلى وعبد الله بن مغفل وهما يبكيان، فقال ما يبكيكما ؟ قالا: جئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملنا فلم نجد عنده ما يحملنا عليه، وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه، فأعطاهما ناضجا له فارتحلاه وزودهما شيئا من تمر، فخرجا مع النبي صلى الله عليه وسلم زاد يونس بن بكير عن ابن إسحاق: وأما علبة بن زيد فخرج من الليل فصلى من ليلته ما شاء الله ثم بكى وقال: اللهم إنك أمرت بالجهاد ورغبت فيه ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به، ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها في مال أو جسد أو عرض ثم أصبح مع الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أين المتصدق هذه الليلة " فلم يقم أحد ثم قال " أين المتصدق فليقم " فقام إليه فأخبره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أبشر فو الذي نفسي بيده لقد كتبت في الزكاة المتقبلة " (3).
وقد أورد الحافظ البيهقي ها هنا حديث أبي موسى الاشعري فقال: حدثنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا أحمد بن عبد الحميد المازني (4) حدثنا أبو أسامة، عن بريد، عن أبي بردة، عن أبي موسى قال: أرسلني أصحابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله لهم الحملان، إذ هم معه في جيش العسرة وهي (5) غزوة تبوك، فقلت: يا نبي الله ! إن أصحابي أرسلوني إليك لتحملهم، فقال " والله لا أحملكم على شئ " ووافقته وهو غضبان ولا أشعر، فرجعت حزينا من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن مخافة أن يكون رسول الله قد وجد في نفسه علي فرجعت إلى أصحابي فأخبرتهم بالذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم ألبث إلا سويعة إذ سمعت بلالا ينادي أين عبد الله بن قيس ؟ فأجبته، فقال: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك، فلما أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " خذ هذين القرينين (6) وهذين القرينين وهذين القرينين " لستة أبعرة
__________
(1) في تسمية البكائين خلاف: ففي رواية ابن عقبة ستة نفر، وسارية لم يذكره.
ومن بني سلمة ذكر: عمر بن عثمة.
وذكر الواقدي: عمرو بن عتبة، وذكر من بني زريق: سلمة بن صخر وشكك في ابن المغفل،
وقال: هؤلاء أثبت ما سمعنا.
(انظر الزرقاني - ابن سعد - الواقدي).
(2) في شرح المواهب للزرقاني: لقي يامين بن عمرو.
وفي الواقدي: لقي يامين بن عمير.
(3) الجزء الاول من الحديث في سيرة ابن هشام ج 4 / 163 والقسم الاخير منه - رواية يونس بن بكير - نقلها البيهقي في الدلائل ج 5 / 218.
(4) في دلائل البيهقي: الحارثي.
(5) من دلائل البيهقي، وسقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(6) في نسخ البداية المطبوعة القربتين وهو تحريف.
والقرينان البعيران المشدودان أحدهما إلى الآخر.
(*)

(5/9)


ابتاعهن حينئذ من سعد فقال " انطلق بهن إلى أصحابك فقل: إن الله أو إن رسول الله يحملكم على هؤلاء [ فاركبوهن.
قال أبو موسى: فانطلقت إلى أصحابي ] (1) فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحملكم على هؤلاء، ولكن والله لا أدعكم حتى ينطلق معي بعضكم إلى من سمع مقالة رسول الله حين سألته لكم، ومنعه لي في أول مرة، ثم إعطائه إياي بعد ذلك لا تظنوا أني حدثتكم شيئا لم يقله، فقالوا لي: والله إنك عندنا لمصدق، ولنفعلن ما أحببت، قال: فانطلق أبو موسى بنفر منهم، حتى أتوا الذين سمعوا مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم من منعه إياهم، ثم إعطائه بعد، فحدثوهم بما حدثهم به أبو موسى سواء (2).
وأخرجه البخاري ومسلم جميعا عن أبي كريب عن أبي أسامة وفي رواية لهما عن أبي موسى قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من الاشعريين ليحملنا " فقال والله ما أحملكم وما عندي ما أحملكم عليه " قال ثم جئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بنهب أبل فأمر لنا بست ذودعر الذرى فأخذناها ثم قلنا يعقلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه والله لا يبارك لنا، فرجعنا له فقال " ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم " ثم قال " إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها ".
قال ابن إسحاق: وقد كان نفر من المسلمين أبطأت بهم الغيبة (3) حتى تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير شك ولا ارتياب، منهم كعب بن مالك بن أبي كعب أخو بني سلمة، ومرارة بن
ربيع، أخو بني عمرو بن عوف، وهلال بن أمية أخو بني واقف، وأبو خثيمة أخو بني سالم بن عوف، وكانوا نفر صدق لا يتهمون في إسلامهم.
قلت: أما الثلاثة الاول فستأتي قصتهم مبسوطة قريبا إن شاء الله تعالى وهم الذين أنزل الله فيهم * (وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الارض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه) * وأما أبو خيثمة فإنه عاد وعزم على اللحوق برسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي.
فصل
قال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: ثم استتب برسول الله صلى الله عليه وسلم سفره، وأجمع السير.
فلما خرج يوم الخميس ضرب عسكره على ثنية الوداع ومعه زيادة على ثلاثين ألفا من الناس، وضرب عبد الله بن أبي عدو الله عسكره أسفل منه - وما كان فيما يزعمون بأقل العسكرين - فلما سار رسول
__________
(1) ما بين معكوفين سقط من الاصل، واستدركت من دلائل البيهقي.
(2) الحديث في دلائل النبوة للبيهقي ج 5 / 216 - 217.
وأخرجه البخاري في كتاب المغازي - (78) باب الحديث: 4415 فتح الباري (8 / 90) ومسلم في كتاب الايمان (3) باب الحديث (8).
(3) في ابن هشام: النية.
(*)

(5/10)


الله صلى الله عليه وسلم تخلف عنه عبد الله بن أبي، في طائفة من المنافقين وأهل الريب.
قال ابن هشام: واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة محمد بن مسلمة الانصاري قال: وذكر الدراوردي: أنه استخلف عليها عام تبوك سباع بن عرفطة.
قال ابن إسحاق: وخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب على أهله وأمره بالاقامة فيهم، فأرجف به المنافقون، وقالوا، ما خلفه إلا استثقالا له وتخففا منه.
فلما قالوا ذلك أخذ علي سلاحه ثم خرج حتى لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجرف (1) فأخبره بما قالوا فقال: " كذبوا ولكني خلفتك لما تركت ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، أفلا ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي " فرجع
علي ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفره.
ثم قال ابن إسحاق.
حدثني محمد بن طلحه بن يزيد بن ركانة.
عن ابراهيم بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه سعد: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي هذه المقالة.
وقد روى البخاري ومسلم هذا الحديث: من طريق شعبة عن سعد بن ابراهيم عن ابراهيم بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه به (2).
وقد قال أبو داود الطيالسي في مسنده حدثنا شعبة عن الحكم عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب في غزوة تبوك فقال: يا رسول الله أتخلفني في النساء والصبيان ؟ فقال " أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي ".
وأخرجاه من طرق عن شعبة نحوه، وعلقه البخاري أيضا من طريق أبي داود عن شعبة.
وقال الامام أحمد: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا حاتم بن إسماعيل عن بكير بن مسمار عن عامر بن سعد، عن أبيه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له - وخلفه في بعض مغازيه - فقال علي يا رسول الله تخلفني مع النساء والصبيان ؟ فقال " يا علي أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ألا أنه لا نبي بعدي " ورواه مسلم والترمذي عن قتيبة: زاد مسلم ومحمد بن عباد كلاهما عن حاتم بن إسماعيل به.
وقال الترمذي حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
قال ابن إسحاق: ثم إن أبا خيثمة رجع بعد ما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم أياما إلى أهله في يوم حار، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه، قد رشت كل واحدة منهما عريشها، وبردت فيه ماء، وهيأت له فيه طعاما فلما دخل قام على باب العريش، فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضح والريح والحر وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء في ماله مقيم، ما هذا بالنصف ! والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فهيئا زادا ففعلتا.
ثم قدم ناضحه فارتحله، ثم خرج في طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدركه حين نزل
__________
(1) الجرف: موضع على ثلاثة أميال من المدينة.
(2) أخرجه البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وآله باب مناقب علي بن أبي طالب (5 / 22).
وفي كتاب المغازي باب غزوة تبوك فتح الباري (ج 8 / 91).
ومسلم في كتاب فضائل الصحابة (4) باب الحديث
(30 - 31 - 32).
(*)

(5/11)


تبوك، وكان أدرك أبا خيثمة عمير بن وهب الجمحي في الطريق، يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فترافقا حتى إذا دنوا من تبوك قال أبو خيثمة لعمير بن وهب: إن لي ذنبا فلا عليك أن تخلف عني حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل حتى إذا دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الناس هذا راكب على الطريق مقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كن أبا خيثمة " فقالوا: يا رسول الله هو والله أبو خيثمة.
فلما بلغ أقبل فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له " أولى لك يا أبا خيثمة " ثم أخبر رسول الله الخبر فقال خيرا ودعا له بخير.
وقد ذكر عروة بن الزبير وموسى بن عقبة قصة أبي خيثمة بنحو من سياق محمد بن إسحاق وأبسط وذكر أن خروجه عليه السلام إلى تبوك كان في زمن الخريف.
فالله أعلم.
قال ابن هشام وقال أبو خيثمة واسمه مالك بن قيس في ذلك: لما رأيت الناس في الدين نافقوا * أتيت التي كانت أعف وأكرما وبايعت باليمنى يدي لمحمد * فلم أكتسب إثما لم أغش محرما تركت خضيبا في العريش وصرمة * صفايا كراما بسرها قد تحمما (1) وكنت إذا شك المنافق أسمحت * إلى الدين نفسي شطره حيث يمما قال يونس بن بكير: عن محمد بن إسحاق، عن بريدة (2)، عن سفيان، عن محمد بن كعب القرظي، عن عبد الله بن مسعود قال: لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك جعل لا يزال الرجل يتخلف، فيقولون: يا رسول الله تخلف فلان فيقول " دعوه إن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه " حتى قيل يا رسول الله تخلف أبو ذر وأبطأ به بعيره فقال " دعوه إن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه " فتلوم أبو ذر بعيره فلما أبطأ عليه، أخذ متاعه فجعله على ظهره، ثم خرج يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشيا، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض منازله، ونظر ناظر من المسلمين فقال: يا رسول الله إن هذا الرجل ماش على الطريق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كن أبا ذر " فلما تأمله القوم، قالوا: يا رسول الله هو والله أبو
ذر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يرحم الله أبا ذر يمشي وحده، ويموت وحده ويبعث وحده " قال فضرب [ الدهر من ] (3) ضربه، وسير أبو ذر إلى الربذة فلما حضره الموت أوصى امرأته وغلامه فقال: إذا مت فاغسلاني وكفناني من الليل ثم ضعاني على قارعة الطريق فأول ركب يمرون بكم فقولوا: هذا أبو ذر، فلما مات فعلوا به كذلك فاطلع ركب فما علموا به حتى كادت ركابهم تطأ سريره، فإذا ابن مسعود في رهط من أهل الكوفة فقال: ما هذا ؟ فقيل جنازة أبي ذر، فاستهل ابن مسعود يبكى وقال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم يرحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده، فنزل
__________
(1) الخضيب: المرأة المخضوبة.
والصرمة: هنا جماعة النخل.
الصفايا: كثيرة الثمر.
(2) في رواية البيهقي: بريدة بن سفيان، وفي هامشه: " قال البخاري في التاريخ الكبير: فيه نظر، وضعفه النسائي وأبو داود وأحمد والدار قطني.
(3) بياض بالاصل، والزيادة من رواية البيهقي.
(*)

(5/12)


فوليه بنفسه حتى أجنه (1).
إسناده حسن ولم يخرجوه قال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، أخبرنا عبد الله بن محمد بن عقيل في قوله [ عز وجل ] * (الذين اتبعوه في ساعة العسرة) * [ التوبة: 117 ] قال: خرجوا في غزوة تبوك، الرجلان والثلاثة على بعير واحد وخرجوا في حر شديد فأصابهم في يوم عطش حتى جعلوا ينحرون إبلهم لينفضوا أكراشها ويشربوا ماءها، فكان ذلك عسرة في الماء وعسرة في النفقة وعسرة في الظهر (2)، قال عبد الله بن وهب: أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد (3) بن أبي هلال، عن عتبة بن أبي عتبة، عن نافع بن جبير، عن عبد الله بن عباس أنه قيل لعمر بن الخطاب حدثنا عن شأن ساعة العسرة فقال عمر: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلا وأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع حتى أن كان أحدنا ليذهب فيلتمس الرحل فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، حتى أن الرجل لينحر بعيره، فيعتصر فرثه فيشربه، ثم يجعل ما بقي على كبده فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله إن الله قد عودك في الدعاء خيرا فادع الله لنا فقال " أو تحب ذلك ؟ " قال: نعم ! قال: فرفع يديه نحو
السماء فلم يرجعهما حتى قالت (4) السماء فأطلت ثم سكبت، فملاوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر (5).
اسناده جيد ولم يخرجوه من هذا الوجه.
وقد ذكر ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة عن رجال من قومه: أن هذه القصة كانت وهم بالحجر، وأنهم قالوا لرجل معهم منافق ويحك هل بعد هذا من شئ ؟ ! فقال سحابة مارة، وذكر أن ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ضلت فذهبوا في طلبها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمارة بن حزم الانصاري - وكان عنده - " إن رجلا قال هذا محمد يخبركم أنه نبي ويخبركم خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته، وإني والله لا أعلم إلا ما علمني الله وقد دلني الله عليها، هي في الوادي قد حبستها شجرة بزمامها " فانطلقوا فجاؤوا بها فرجع عمارة إلى رحله فحدثهم عما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبر الرجل فقال رجل ممن كان في رحل عمارة: إنما قال ذلك زيد بن اللصيت (6) وكان في رحل عمارة قبل أن يأتي فأقبل عمارة على زيد يجأ في عنقه ويقول إن في رحلي لداهية وأنا لا أدري، أخرج عني يا عدو الله فلا تصحبني.
فقال بعض الناس إن زيدا تاب، وقال بعضهم لم يزل متهما بشر حتى هلك.
قال الحافظ البيهقي: وقد روينا من حديث ابن مسعود شبيها بقصة الراحلة ثم روى من
__________
(1) الخبر في سيرة ابن هشام ج 4 / 168 ونقله البيهقي في الدلائل ج 5 / 221 - 222.
(2) الخبر في دلائل البيهقي ج 5 / 227.
(3) في دلائل البيهقي: سعد.
(4) قالت: بمعنى استعدت وتهيأت (القاموس).
(5) رواه البيهقي في الدلائل ج 5 / 231.
والهيثمي في مجمع الزوائد 6 / 194 - 195 وقال: رواه البزار، والطبراني في الاوسط، ورجال البزار ثقات.
(6) قال ابن هشام: يقال لصيب، وفي الاصابة لصيت وقيل لصيب، وفي الطبري: لصيب.
(*)

(5/13)


حديث الاعمش وقد رواه الامام أحمد عن أبي معاوية، عن الاعمش عن أبي صالح، عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد الخدري - شك الاعمش - قا لما كان يوم غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة
فقالوا: يا رسول الله لو أذنت فننحر نواضحنا فأكلنا وادهنا ؟ (1) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " افعلوا " فجاء عمر فقال يا رسول الله إن فعلت قل الظهر، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم وادع الله لهم فيها بالبركة لعل الله أن يجعل فيها البركة، فقال رسول الله " نعم ! " فدعا بنطع فبسطه ثم عاد بفضل أزوادهم، فجعل الرجل يجئ بكف ذرة، ويجئ الآخرة بكف من التمر، ويجئ الآخر بكسرة حتى اجتمع على النطع من ذلك شئ يسير، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة ثم قال لهم " خذوا في أوعيتكم " فأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملؤوها، وأكلوا حتى شبعوا، وفضلت فضله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بها عبد غير شاك فيحجب عن الجنة " ورواه مسلم عن أبي كريب عن أبي معاوية عن الاعمش به.
ورواه الامام أحمد من حديث سهيل عن أبيه عن أبي هريرة به ولم يذكر غزوة تبوك بل قال كان في غزوة غزاها.
مروره صلى الله عليه وسلم في ذهابه إلى تبوك بمساكن ثمود بالحجر قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مر بالحجر، نزلها واستقى الناس من بئرها، فلما راحوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تشربوا من مياهها شيئا ولا تتوضأوا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الابل، ولا تأكلوا منه شيئا " هكذا ذكره ابن إسحاق بغير إسناد.
وقال الامام أحمد: حدثنا يعمر بن بشر، حدثنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا معمر، عن الزهري أخبرني سالم بن عبد الله عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مر بالحجر قال " لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم " وتقنع بردائه وهو على الرجل.
ورواه البخاري من حديث عبد الله بن المبارك، وعبد الرزاق كلاهما عن معمر باسناده نحوه.
وقال مالك: عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لاصحابه " لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم " (3).
ورواه البخاري من حديث مالك، ومن حديث سليمان بن بلال كلاهما عن عبد الله بن دينار.
ورواه مسلم من وجه آخر عن عبد الله بن دينار نحوه.
وقال الامام أحمد:
حدثنا عبد الصمد، حدثنا صخر - هو ابن جويرية - عن نافع عن ابن عمر قال: نزل رسول
__________
(1) وادهنا: أي اتخذنا دهنا من شحومها.
(2) رواه الامام أحمد في مسنده ج 3 / 11، ومسلم في كتاب الايمان - باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا.
الحديث (45).
(3) الخبر في سيرة ابن هشام ج 4 / 165، وأخرجه البخاري في فتح الباري 6 / 530 و 8 / 381 ومسلم في الصحيح 4 / 2285.
ورواه البيهقي من طرق متعددة ج 5 / 233.
(*)

(5/14)


الله صلى الله عليه وسلم بالناس عام تبوك الحجر عند بيوت ثمود فاستقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود، فعجنوا ونصبوا القدور باللحم، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهرقوا القدور وعلفوا العجين الابل ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا [ فقال ] " إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم فلا تدخلوا عليهم " وهذا الحديث اسناده على شرط الصحيحين من هذا الوجه ولم يخرجوه وإنما أخرجه البخاري ومسلم من حديث أنس بن عياض، عن أبي ضمرة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر به.
قال البخاري وتابعه أسامة عن عبيد الله.
ورواه مسلم من حديث شعيب بن إسحاق عن عبيد الله عن نافع به (1).
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبي الزبير عن جابر قال: لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر قال " لا تسألوا الآيات فقد سألها قوم صالح فكانت ترد من هذا الفج وتصدر من هذا الفج فعتوا عن أمر ربهم فعقروها، وكانت تشرب ماءهم يوما ويشربون لبنها يوما فعقروها فأخذتهم صيحة أهمد الله من تحت أديم السماء منهم إلا رجلا واحدا كان في حرم الله " قيل من هو يا رسول الله ؟ قال " هو أبو رغال فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه " إسناده صحيح ولم يخرجوه.
وقال الامام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا المسعودي عن إسماعيل بن واسط، عن محمد بن أبي كبشة الانماري عن أبيه قال: لما كان في غزوة تبوك تسارع الناس إلى أهل الحجر، يدخلون عليهم، فبلغ ذلك رسول
الله صلى الله عليه وسلم فنودي في الناس: الصلاة جامعة قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ممسك بعيره، وهو يقول: " ما تدخلون على قوم غضب الله عليهم " فناداه رجل نعجب منهم ؟ قال " أفلا أنبئكم بأعجب من ذلك ؟ رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم، وما هو كائن بعدكم فاستقيموا وسددوا، فإن الله لا يعبأ بعذابكم شيئا، وسيأتي قوم لا يدفعون عن أنفسهم شيئا " (2) اسناده حسن ولم يخرجوه.
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن العباس بن سهل بن سعد الساعدي - أو عن العباس بن سعد الشك مني - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مر بالحجر ونزلها استقى الناس من بئرها فلما راحوا منها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس " لا تشربوا من مائها شيئا ولا تتوضأوا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الابل، ولا تأكلوا منه شيئا، ولا يخرجن أحد منكم الليلة إلا ومعه صاحب له " ففعل الناس ما أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا رجلين من بني ساعدة، خرج أحدهما لحاجته، وخرج الآخر في طلب بعير له، فأما الذي ذهب لحاجته فإنه خنق على مذهبه، وأما الذي ذهب في طلب بعيره فاحتملته الريح
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الزهد (1) باب الحديث 40، والبخاري في 60 كتاب الانبياء (17) باب قول الله تعالى: وإلى ثمود أخاهم صالحا.
(2) الحديث ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (6 / 194) وقال: " رواه أحمد، وفيه عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي وقد اختلط ".
ورواه البيهقي من طريق أبي النصر هاشم بن القاسم.
(*)

(5/15)


حتى ألقته بحبل طئ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: " ألم أنهكم أن يخرج رجل إلا ومعه صاحب له " ثم دعا للذي أصيب على مذهبه فشفي، وأما الآخر فإنه وصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك وفي رواية زياد عن ابن إسحاق أن طيئا أهدته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رجع إلى المدينة.
قال ابن إسحاق: وقد حدثني عبد الله بن أبي بكر أن العباس بن سهل سمى له الرجلين، لكنه استكتمه إياهما فلم يحدثني بهما (1).
وقد قال الامام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا وهيب بن خالد ثنا عمرو بن يحيى، عن العباس بن سهل بن سعد الساعدي، عن أبي حميد الساعدي قال خرجنا
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك حتى جئنا وادي القرى، فإذا امرأة في حديقة لها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لاصحابه: " أخرصوا " فخرص القوم وخرص رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أوسق، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمرأة: " احصي ما يخرج منها حتى أرجع إليك أن شاء الله " قال: فخرج حتى قدم تبوك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنها ستهب عليكم الليلة ريح شديدة فلا يقومن فيها رجل، فمن كان له بعير فليوثق عقاله " قال أبو حميد: فعقلناها فلما كان من الليل هبت علينا ريح شديدة فقام فيها رجل فألقته في جبل طئ، ثم جاء رسول الله ملك إيلة فأهدى لرسول الله بغلة بيضاء، وكساه رسول الله بردا وكتب له يجيرهم (2) ثم أقبل وأقبلنا معه حتى جئنا وادي القرى قال للمرأة " كم جاءت حديقتك ؟ " قالت عشرة أوسق خرص رسول الله، فقال رسول الله " إني متعجل فمن أحب منكم أن يتعجل فليفعل " قال فخرج رسول الله وخرجنا معه حتى إذا أوفى على المدينة قال: " هذه طابة ".
فلما رأى أحدا قال " هذا أحد (3) يحبنا ونحبه، ألا أخبركم بخير دور الانصار ؟ " قلنا بلى يا رسول الله قال " خير دور الانصار بنو النجار، ثم دار بني عبد الاشهل (4)، ثم دار بني ساعدة، ثم في كل دور الانصار خير " (5).
وأخرجه البخاري ومسلم من غير وجه عن عمرو بن يحيى به نحوه.
وقال الامام مالك رحمه الله عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، أن معاذ بن جبل أخبره: أنهم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك، فكان يجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، قال: فأخر الصلاة يوما ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا، ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعا، ثم قال " إنكم ستأتون غذا إن شاء الله عين تبوك، وإنكم لن تأتونها حتى يضحى ضحى النهار فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي "
__________
(1) الخبر في سيرة ابن هشام ج 4 / 164 - 165.
ونقله البيهقي في الدلائل من طريق أحمد بن عبد الجبار ج 5 / 240.
(2) في الاصل يخبرهم وهو تحريف، وما اثبتناه من ابن هشام.
(3) في رواية البيهقي: هذا أحد، وهو جبل.
(4) زاد البيهقي: ثم دار بني الحارث بن الخزرج.
(5) رواه مسلم في الصحيح، في كتاب الفضائل - (3) باب.
الحديث (11).
والبخاري في الصحيح: في الزكاة (54) باب الحديث (1481) فتح الباري (3 / 343).
(*)

(5/16)


قال فجئناها وقد سبق مائها رجلان والعين مثل الشراك تبض بشئ من ماء، فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم " هل مسستما من مائها شيئا "، قالا: نعم فسبهما وقال لهما: ما شاء الله أن يقول، ثم غرفوا من العين قليلا قليلا حتى اجتمع في شئ، ثم غسل رسول الله فيه وجهه ويديه، ثم أعاده فيها فجرت العين بماء كثير، فاستقى الناس ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا معاذ يوشك إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد ملئ جنانا " أخرجه مسلم من حديث مالك به (1).
ذكر خطبته صلى الله عليه وسلم إلى تبوك إلى نخلة هناك
روى الامام أحمد: عن أبي النضر هاشم بن القاسم، ويونس بن محمد المؤدب وحجاج بن محمد ثلاثتهم عن الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير عن أبي الخطاب، عن أبي سعيد الخدري أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك خطب الناس وهو مسند ظهره إلى نخلة فقال " ألا أخبركم بخير الناس وشر الناس، إن من خير الناس رجلا عمل في سبيل الله على ظهر فرسه، أو على ظهر بعيره، أو على قدميه حتى يأتيه الموت، وإن من شر الناس رجلا فاجرا جريئا يقرأ كتاب الله لا يرعوي إلى شئ منه " (2) ورواه النسائي عن قتيبة عن الليث به وقال أبو الخطاب لا أعرفه.
وروى البيهقي: من طريق يعقوب بن محمد الزهري، عن عبد العزيز بن عمران، حدثنا مصعب بن عبد الله عن (3) منظور بن جميل بن سنان أخبرني أبي، سمعت عقبة بن عامر الجهني: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فاسترقد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يستيقظ حتى كانت الشمس قيد رمح، قال " ألم أقل لك يا بلال اكلا لنا الفجر " فقال يا رسول الله ذهب بي من النوم مثل الذي ذهب بك، قال: فانتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم من منزله غير بعيد، ثم صلى وسار بقية يومه وليلته فأصبح بتبوك، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال " أيها الناس أما بعد، فإن أصذق الحديث كتاب الله، وأوثق العرى كلمة التقوى، وخير الملل ملة ابراهيم، وخير السنن
سنة محمد، وأشرف الحديث ذكر الله، وأحسن القصص هذا القرآن، وخير الامور عوازمها (4) وشر الامور محدثاتها، وأحسن الهدى هدى الانبياء وأشرف الموت قتل الشهداء، وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى، وخير الاعمال ما نفع، وخير الهدى ما اتبع، وشر العمى عمى القلب، واليد العليا خير من اليد السفلى، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وشر المعذرة حين يحضر الموت، وشر الندامة يوم القيامة، ومن الناس من لا يأتي الجمعة إلا دبرا.
ومن الناس من لا يذكر
__________
(1) رواه مسلم في 43 كتاب فضائل النبي صلى الله عليه وآله، (3) باب الحديث (10).
ورواه البيهقي في الدلائل من طريق يحيى بن بكير.
(2) رواه أحمد في مسنده ج 3 / 37، 41، و 58: وقال هاشم بن القاسم في روايته: لا يدعو إلى شئ.
(3) في دلائل البيهقي: عبد الله بن مصعب بن منظور بن جميل بن سنان.
(4) عوازمها: الفرائض التي عزم الله عليك بفعلها، والمع ؟ نى: الامور ذوات عزمها التي فيها عزم (عن النهاية).
(*)

(5/17)


الله إلا هجرا.
ومن أعظم الخطايا اللسان الكذوب، وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، ورأس الحكمة مخافة الله عزوجل، وخير ما وقر في القلوب اليقين، والارتياب من الكفر، والنياحة من عمل الجاهلية، والغلول من حثاء جهنم [ والسكركي من النار ] (1) والشعر من إبليس، والخمر جماع الاثم، والنساء حبائل الشيطان، والشباب شعبة من الجنون، وشر المكاسب كسب الربا، وشر المآكل أكل مال اليتيم، والسعيد من وعظ بغيره، والشقي من شقي في بطن أمه، وأنما يصير أحدكم إلى موضع أربعة أذرع والامر إلى الآخرة، وملاك العمل خواتمه، وشر الروايا روايا الكذب، وكل ما هو آت قريب، وسباب المؤمن فسوق، وقتال المؤمن كفر، وأكل لحمه من معصية الله، وحرمة ماله كحرمة دمه، ومن يتألى على الله يكذبه، ومن يستغفره يغفر له، ومن يعف يعف الله عنه.
ومن يكظم [ الغيظ ] (2) يأجره الله، ومن يصبر على الرزية يعوضه الله، ومن يبتغي (3) السمعة يسمع الله به، ومن يصبر يضعف الله له، ومن يعص الله يعذبه الله، اللهم اغفر لي ولامتي، اللهم اغفر لي ولامتي، اللهم اغفر لي ولامتي " قالها ثلاثا ثم
قال: " استغفر الله لي ولكم " (4) وهذا حديث غريب وفيه نكارة وفي اسناده ضعف والله أعلم بالصواب.
وقال أبو داود ثنا أحمد بن سعيد الهمداني، وسليمان بن داود.
قالا: أخبرنا ابن وهب، أخبرني معاوية، عن سعيد بن غزوان عن أبيه أنه نزل بتبوك وهو حاج فإذا رجل مقعد، فسألته عن أمره فقال: سأحدثك حديثا فلا تحدث به ما سمعت أني حي، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بتبوك إلى نخلة فقال: هذه قبلتنا ثم صلى إليها، قال: فأقبلت وأنا غلام اسعى حتى مررت بينه وبينها، فقال قطع صلاتنا قطع الله أثره.
قال فما قمت عليها إلى يومي هذا (5) ثم رواه أبو داود: من حديث سعيد بن (6) عبد العزيز التنوخي، عن مولى ليزيد بن نمران، عن يزيد بن نمران.
قال: رأيت بتبوك مقعدا فقال: مررت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا على حمار وهو يصلي فقال: " اللهم اقطع أثره فما مشيت عليها بعد " (7).
وفي رواية " قطع صلاتنا قطع الله أثره ".
الصلاة على معاوية بن أبي معاوية (8) روى البيهقي: من حديث يزيد بن هارون أخبرنا العلاء أبو محمد الثقفي، قال: سمعت
__________
(1) سقطت من الاصل واستدركت من الدلائل.
(2) من دلائل البيهقي.
(3) في الدلائل: يتبع.
(4) الحديث في دلائل النبوة للبيهقي ج 5 / 241 - 242.
(5) سنن أبي داود: كتاب الصلاة باب ما يقطع الصلاة الحديث (707) ص (1 / 188) (6) من أبي داود، وفي الاصل عن عبد العزيز تحريف.
(7) سنن أبي داود كتاب الصلاة الحديث 705 ص (1 / 188) والحديث (706).
(8) هكذا في الاصل ابن أبي معاوية.
وذكره البيهقي معاوية بن معاوية الليثي، وهو معاوية بن معاوية المزني توفي = (*)

(5/18)


أنس بن مالك، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك، فطلعت الشمس بضياء ولها شعاع ونور، لم أرها طلعت فيما مضى، فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " يا جبريل مالي أرى الشمس اليوم
طلعت بيضاء ونور وشعاع لم أرها طلعت فيما مضى " قال: ذلك أن معاوية بن أبي معاوية الليثي مات بالمدينة اليوم، فبعث الله إليه سبعين ألف ملك يصلون عليه قال " ومم ذاك ؟ " قال: بكثرة قراءته * (قل هو الله أحد) * بالليل والنهار، وفي ممشاه وفي قيامه وقعوده، فهل لك يا رسول الله أن أقبض لك الارض فتصلي عليه ؟ قال " نعم ! " قال فصلى عليه ثم رجع.
وهذا الحديث فيه غرابة شديدة ونكارة، والناس يسندون أمرها إلى العلاء بن زيد هذا وقد تكلموا فيه.
ثم قال البيهقي: أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، حدثنا هاشم (1) بن علي أخبرنا عثمان بن الهيثم، حدثنا محبوب بن هلال، عن عطاء بن أبي ميمونة عن أنس قال جاء جبريل فقال: يا محمد مات معاوية بن أبي معاوية المزني، أفتحب أن تصلي عليه ؟ قال " نعم ! " فضرب بجناحه فلم يبق من شجرة ولا أكمة إلا تضعضعت له، قال فصلى وخلفه صفان من الملائكة في كل صف سبعون ألف ملك، قال قلت " يا جبريل بما نال هذه المنزلة من الله ؟ " قال بحبه * (قل هو الله أحد) * يقرأها قائما وقاعدا، وذاهبا وجائيا، وعلى كل حال.
قال عثمان: فسألت أبي أين كان النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال بغزوة تبوك بالشام، ومات معاوية بالمدينة، ورفع له سريره حتى نظر إليه وصلى عليه (2): وهذا أيضا منكر من هذا الوجه.
قدوم رسول قيصر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك قال الامام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا يحيى بن سليم (3)، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن أبي راشد قال لقيت التنوخي رسول الله هرقل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمص وكان جارا لي شيخنا كبيرا قد بلغ العقد (4) أو قرب.
فقلت ألا تخبرني عن رسالة هرقل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل ؟ قال بلى: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك فبعث دحية الكلبي إلى هرقل فلما أن جاءه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا قسيسي الروم وبطارقتها ثم أغلق عليه
__________
= في حياة النبي صلى الله عليه وآله، اختلفوا في اسم أبيه، ذكره ابن عبد البرفي الاستيعاب (3 / 391) على هامش الاصابة، وذكره ابن حجر في الاصابة (3 / 436).
ولعل كنية أبيه: أبو معاوية.
(1) في الدلائل: هشام.
(2) الخبر في دلائل البيهقي ج 5 / 245 - 246 في باب: ما روي في صلاته بتبوك على معاوية بن معاوية الليثي.
وذكره ابن عبد البر في الاستيعاب في ترجمته وقال: أسانيد هذه الاحاديث ليست بالقوية، ولو أنها في الاحكام لم يكن في شئ منها حجة...وفضل قل هو الله أحد لا ينكر.
(3) في المسند: سليمان.
(4) في المسند الفند: والفند في الاصل: الكذب، وأفند تكلم بالفند، ثم قالوا للشيخ إذا هرم: قد أفند لانه يتكلم بالمحرف من الكلام عن سنن الصحة، وأفنده الكبر: إذا أوقعه في الفند.
(عن النهاية).
(*)

(5/19)


وعليهم الدار فقال: قد نزل هذا الرجل حيث رأيتم ؟ وقد أرسل إلي يدعوني إلى ثلاث خصال، يدعوني أن أتبعه على دينه، أو على أن نعطيه مالنا على أرضنا والارض أرضنا، أو نلقى إليه الحرب.
والله لقد عرفتم فيما تقرأون من الكتب ليأخذن [ ما تحت قدمي ] (1) فهلم فلنتبعه على دينه أو نعطيه مالنا على أرضنا، فنخروا نخرة رجل واحد حتى خرجوا من برانسهم وقالوا: تدعونا إلى أن نذر النصرانية أو نكون عبيدا لاعرابي جاء من الحجاز.
فلما ظن أنهم إن خرجوا من عنده أفسدوا عليه الروم رقأهم (2) ولم يكد وقال: إنما قلت ذلك لاعلم صلابتكم على أمركم ثم دعا رجلا من عرب تجيب كان على نصارى العرب قال: ادع لي رجلا حافظا للحديث، عربي اللسان أبعثه إلى هذا الرجل بجواب كتابه، فجاء بي فدفع إلي هرقل كتابا فقال: اذهب بكتابي إلى هذا الرجل، فما سمعته من حديثه فاحفظ لي منه ثلاث خصال، انظر هل يذكر صحيفته إلي التي كتب بشئ، وانظر إذا قرأ كتابي فهل يذكر الليل، وانظر في ظهره هل به شئ يريبك.
قال فانطلقت بكتابه حتى جئت تبوكا فإذا هو جالس بين ظهراني أصحابه محتبيا على الماء، فقلت أين صاحبكم ؟ قيل ها هو ذا، فأقبلت أمشي حتى جلست بين يديه، فناولته كتابي فوضعه في حجره ثم قال " ممن أنت " فقلت أنا أخو تنوخ قال " هل لك إلى الاسلام الحنيفية ملة أبيكم ابراهيم ؟ " قلت إني رسول قوم وعلى دين قوم لا أرجع عنه حتى أرجع إليهم، فضحك وقال " إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين، يا أخا تنوخ إني كتبت بكتاب إلى
كسرى والله ممزقه وممزق ملكه وكتبت إلى النجاشي بصحيفة فخرقها والله مخرقه ويخرق ملكه، وكتبت إلى صاحبك بصحيفة فأمسكها فلن يزال الناس يجدون منه بأسا ما دام في العيش خير " قلت هذه إحدى الثلاث التي أوصاني بها صاحبي، فأخذت سهما من جعبتي فكتبته في جنب سيفي ثم إنه ناول الصحيفة رجلا عن يساره قلت من صاحب كتابكم الذي يقرأ لكم ؟ قالوا: معاوية فإذا في كتاب صاحبي تدعوني إلى جنة عرضها السموات والارض أعدت للمتقين فأين النار ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سبحان الله أين الليل إذا جاء النهار " قال: فأخذت سهما من جعبتي فكتبته في جلد سيفي، فلما أن فرغ من قراءة كتابي قال " إن لك حقا وإنك لرسول، فلو وجدت عندنا جائزة جوزناك بها، إنا سفر مرملون " قال: فناداه رجل من طائفة الناس قال أنا أجوزه، ففتح رحله فإذا هو يأتي بحلة صفورية فوضعها في حجري، قلت من صاحب الجائزة ؟ قيل لي: عثمان، ثم قال رسول الله " أيكم ينزل هذا الرجل ؟ " فقال فتى من الانصار: أنا، فقام الانصاري وقمت معه حتى إذا خرجت من طائفة المجلس ناداني رسول الله فقال " تعال يا أخا تنوخ " فأقبلت أهوي حتى كنت قائما في مجلسي الذي كنت بين يديه، فحل حبوته عن ظهره وقال " هاهنا امض لما أمرت
__________
(1) من مسند أحمد.
(2) رقأهم: سكنهم، وفي المسند رفأهم: تقرب إليهم.
(*)

(5/20)


به " فجلت في ظهره فإذا أنا بخاتم في موضع غضون الكتف مثل الحمحمة (1) الضخمة.
هذا حديث غريب واسناده لا بأس به تفرد به الامام أحمد (2).
مصالحته (3) عليه السلام ملك أيلة وأهل جرباء وأذرح قبل رجوعه من تبوك قال ابن إسحاق: ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك أتاه يحنة بن رؤبة، صاحب أيلة فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاه الجزية، وأتاه أهل جرباء وأذرح (4) وأعطوه الجزية، كتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا فهو عندهم، وكتب ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة: بسم الله الرحمن الرحيم،
هذه أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله ليحنة بن رؤبة وأهل ايلة سفنهم وسيارتهم في البر والبحر: لهم ذمة الله [ وذمة ] (5) محمد النبي، ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه.
وأنه طيب لمن أخذه من الناس، وأنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه، ولا طريقا يردونه من بر أو بحر.
زاد يونس بن بكير عن ابن إسحاق بعد هذا، وهذا كتاب جهيم بن الصلت وشرحبيل بن حسنة بإذن رسول الله.
قال يونس عن ابن أسحاق.
وكتب لاهل جرباء وأذرح: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي رسول الله لاهل جرباء وأذرح، أنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد، وأن عليهم مائة دينار في كل رجب (6)، ومائة أوقية طيبة، وأن الله عليهم كفيل بالنصح والاحسان إلى المسلمين، ومن لجأ إليهم من المسلمين.
قال: وأعطى النبي صلى الله عليه وسلم أهل أيلة برده مع كتابه أمانا لهم، قال: فاشتراه بعد ذلك أبو العباس عبد الله بن محمد بثلثمائة دينار.
بعثة عليه السلام خالد بن الوليد إلى اكيدر دومة قال ابن أسحاق: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا خالد بن الوليد، فبعثه إلى أكيدر دومة، وهو
__________
(1) في المسند: الحجمة، وفي نسخة العجمة وهي الاكثر مناسبة، والعجمة بالضم والكسر ما تعقد من الرمل أو كثرة الرمل.
ولعل المراد ناتئ قليلا (القاموس المحيط).
(2) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 3 / 341 - 342.
(3) وفي النسخة التيمورية: كتابه صلى الله عليه وآله ليحنة.
(4) أيلة: مدينة بالشام على النصف ما بين مصر ومكة على ساحل البحر.
جرباء: بلدة بالشام تلقاء السراة.
أذرح: مدينة بالشام، قيل هي فلسطين، قال في القاموس: بجنب جربا.
(5) من ابن هشام.
(6) في الواقدي والبيهقي نقلا عن ابن اسحاق: في كل رجب وافية طيبة.
(انظر في كتبه صلى الله عليه وآله سيرة ابن هشام 4 / 169 مغازي الواقدي 3 / 1032 - دلائل البيهقي 5 / 247 - 248).
(*)

(5/21)


أكيدر بن عبد الملك، رجل من بني كنانة (1) كان ملكا عليها وكان نصرانيا، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد " إنك ستجده يصيد البقر " فخرج خالد حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين، وفي ليلة مقمرة صائفة، وهو على سطح له ومعه امرأته (2).
وباتت البقر تحك بقرونها باب القصر، فقالت له امرأته: هل رأيت مثل هذا قط ؟ قال: لا والله، قالت: فمن يترك هذا ؟ قال: لا أحد فنزل فأمر بفرسه، فأسرج له، وركب معه نفر من أهل بيته، فيهم أخ له يقال له حسان، فركب وخرجوا معه بمطاردهم (3).
فلما خرجوا تلقتهم خيل النبي صلى الله عليه وسلم فأخذته وقتلوا أخاه وكان عليه قباء من ديباج مخوص بالذهب، فاستلبه خالد فبعث به (4) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل قدومه عليه، قال: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن أنس بن مالك قال: رأيت قباء أكيدر حين قدم به على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل المسلمون يلمسونه بأيديهم ويتعجبون منه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتعجبون من هذا [ فوالذي نفسي بيده ] (5) لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا ".
قال ابن أسحاق: ثم إن خالد بن الوليد لما قدم بأكيدر على رسول الله صلى الله عليه وسلم حقن له دمه فصالحه على الجزية، ثم خلى سبيله فرجع إلى قريته (6)، فقال رجل من بني طئ يقال له بجير بن بجرة في ذلك: تبارك سائق البقرات إني * رأيت الله يهدي كل هاد فمن يك حائدا عن ذي تبوك * فإنا قد أمرنا بالجهاد وقد حكى البيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهذا الشاعر " لا يفضض الله فاك " فأتت عليه سبعون (7) سنة ما تحرك له فيها ضرس ولا سن.
وقد روى ابن لهيعة عن أبي الاسود، عن عروة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالدا مرجعه من تبوك في أربعمائة وعشرين فارسا إلى أكيدر دومة فذكر نحو ما
__________
(1) في ابن هشام: رجل من كندة، قال الواقدي وهو ابن عبد الملك بن عبد الجن.
(2) اسمها الرباب بنت أنيف بن عامر من كندة (قاله الواقدي).
(3) المطارد: جمع المطرد، وزن منبر، وهو رمح قصير يطرد به، وقيل يطرد به الوحش (اللسان).
(4) بعثه مع عمرو بن أمية الضمري.
(5) من ابن هشام ومغازي الواقدي.
(6) قال الواقدي وابن سعد وكتب رسول الله صلى الله عليه وآله كتابا فيه أمانهم وما صالحهم وختمه يومئذ بظفره ونصفه: " بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد رسول الله لاكيدر حين أجاب إلى الاسلام وخلع الانداد والاصنام، مع خالد بن الوليد سيف الله، في دومة الجندل وأكنافها.
وان لنا الضاحية من الضحل، والبور، والمعامي، وأغفال الارض، والحلقة، والسلاح والحافر والحصن، ولكم الضامنة من النخل، والمعين من المعمور بعد الخمس، لا تعدل سارحتكم ولا تعد فاردتكم، ولا يحظر عليكم النبات، ولا يؤخذ منكم عشر البتات تقيمون الصلاة لوقتها، وتؤتون الزكاة لحقها.
عليكم بذلك العهد والميثاق، ولكم بذلك الصدق والوفاء، شهد الله ومن حضر معه من المسلمين.
".
(7) في دلائل البيهقي ج 5 / 251: تسعون سنة.
(*)

(5/22)


تقدم إلا أنه ذكر أنه ما كره حتى أنزله من الحصن، وذكر أنه قدم مع أكيدر إلى رسول الله ثمانمائة من السبي، وألف بعير، وأربعمائة درع، وأربعمائة رمح، وذكر أنه لما سمع عظيم أيلة يحنة بن رؤبة بقضية أكيدر أقبل قادما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصالحه فاجتمعا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك فالله أعلم (1).
وروى يونس بن بكير عن سعد بن أوس، عن بلال بن يحيى: أن أبا بكر الصديق كان على المهاجرين في غزوة دومة الجندل، وخالد بن الوليد على الاعراب في غزوة دومة الجندل، فالله أعلم (2).
فصل
قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بضع عشرة ليلة لم يجاوزها، ثم انصرف قافلا إلى المدينة، قال: وكان في الطريق ماء يخرج من وشل يروي الراكب والراكبين والثلاثة بواد يقال له وادي المشقق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من سبقنا إلى ذلك الماء فلا يستقين منه شيئا حتى نأتيه " قال: فسبقه إليه نفر من المنافقين فاستقوا ما فيه، فلما أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف عليه فلم ير فيه
شيئا فقال " من سبقنا إلى هذا الماء ؟ " فقيل له يا رسول الله فلان وفلان (3)، فقال أو لم أنههم أن يستقوا منه حتى آتيه، ثم لعنهم ودعا عليهم، ثم نزل فوضع يده تحت الوشل (4)، فجعل يصب في يده ما شاء الله أن يصب، ثم نضحه به ومسحه بيده، ودعا بما شاء الله أن يدعو، فانخرق من الماء - كما يقول من سمعه - ما أن له حسا كحس الصواعق، فشرب الناس واستقوا حاجتهم منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لئن بقيتم أو من بقي منكم ليسمعن بهذا الوادي وهو أخصب ما بين يديه وما خلفه ".
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن ابراهيم بن الحارث التيمي، أن عبد الله بن مسعود كان يحدث قال: قمت من جوف الليل وأنا مع رسول الله في غزوة تبوك، فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر فاتبعتها انظر إليها، قال: فإذا رسول الله وأبو بكر وعمر وإذا عبد الله ذو البجادين قد مات وإذا هم قد حفروا له، ورسول الله في حفرته، وأبو بكر وعمر يدليانه إليه، وإذا هو يقول " أدنيا إلي أخاكما " فدلياه إليه، فلما هيأه لشقه قال " اللهم إني قد أمسيت راضيا عنه فارض عنه " قال يقول ابن مسعود: يا ليتني كنت صاحب الحفرة.
قال ابن هشام: إنما سمي ذو البجادين، لانه كان يريد الاسلام فمنعه قومه وضيقوا عليه حتى خرج من بينهم وليس عليه إلا
__________
(1) نقل الخبر البيهقي في الدلائل مطولا ج 5 / 252.
(2) روى الحديث البيهقي في دلائل النبوة ج 5 / 253.
(3) ذكرهم الواقدي قال: أربعة من المنافقين: معتب بن قشير، والحارث بن يزيد الطائي، ووديعة بن ثابت، وزيد بن اللصيت.
(4) الوشل.
حجر أو جبل يقطر منه الماء قليلا قليلا.
والوشل أيضا: القليل من الماء (شرح أبي ذر).
(*)

(5/23)


بجاد - وهو الكساء الغليظ - فشقه باثنين فائتزر بواحدة وارتدى بالاخرى، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمي ذو البجادين.
قال ابن إسحاق: وذكر ابن شهاب الزهري عن ابن أكيمة الليثي، عن ابن أخي أبي رهم
الغفاري أنه سمع أبا رهم كلثوم بن الحصين - وكان من أصحاب الشجرة - يقول: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك فسرت ذات ليلة معه ونحن بالاخضر والقى الله علي النعاس (1) وطفقت أستيقظ وقد دنت راحلتي من راحلة النبي صلى الله عليه وسلم فيفزعني دنوها منه مخافة أن أصيب رجله في الغرز، فطفقت أحوز راحلتي عنه، حتى غلبتني عيني في بعض الطريق، فزاحمت راحلتي راحلته ورجله في الغرز، فلم أستيقظ إلا بقوله " حس " فقلت: يا رسول الله استغفر لي، قال " سر " فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألني عمن تخلف عنه من بني غفار فأخبره به.
فقال وهو يسألني " ما فعل النفر الحمر الطوال الثطاط (2) الذين لا شعر لهم في وجوههم ؟ " فحدثته بتخلفهم، قال " فما فعل النفر السود الجعاد القصار " قال: قلت: والله ما أعرف هؤلاء منا قال " بلى الذين لهم نعم بشبكة شدخ " (3) فتذكرتهم في بني غفار، فلم أذكرهم حتى ذكرت أنهم رهط من أسلم كانوا حلفاء فينا، فقلت: يا رسول الله أولئك رهط من أسلم حلفاء فينا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما منع أحد أولئك حين تخلف أن يحمل على بعير من إبله امرءا نشيطا في سبيل الله، إن أعز أهلي علي أن يتخلف عني المهاجرون والانصار وغفار وأسلم ".
قال ابن لهيعة عن أبي الاسود عن عروة بن الزبير قال: لما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك إلى المدينة هم جماعة من المنافقين بالفتك به وأن يطرحوه من رأس عقبة في الطريق، فأخبر بخبرهم فأمر الناس بالمسير من الوادي وصعد هو العقبة وسلكها معه أولئك النفر وقد تلثموا، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان أن يمشيا معه، عمار آخذ بزمام الناقة، وحذيفة يسوقها، فبينما هم يسيرون إذ سمعوا بالقوم قد غشوهم، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبصر حذيفة فرجع إليهم ومعه محجن، فاستقبل وجوه رواحلهم بمحجنه، فلما رأوا حذيفة ظنوا أن قد أظهر على ما أضمروه من الامر العظيم فأسرعوا حتى خالطوا الناس، وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهما فأسرعا حتى قطعوا العقبة ووقفوا ينتظرون الناس، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحذيفة " هل عرفت هؤلاء القوم ؟ " قال: ما عرفت إلا رواحلهم في ظلمة الليل حين غشيتهم، ثم قال " علمتما ما كان من شأن هؤلاء الركب ؟ " قالا: لا، فأخبرهما بما كانوا تملاوا عليه وسماهم لهما واستكتمهما
__________
(1) العبارة في ابن هشام: ونحن بالاخضر قريبا من رسول الله صلى الله عليه وآله وألقى علينا النعاس.
(2) الثطاط: جمع ثط، وهو صغير نبات شعر اللحية (قاله السهيلي).
(3) شبكة شدخ: ماء لاسلم من بني غفار.
كما عند ياقوت.
وفي النهاية واللسان: شبكة جرح: موضع بالحجاز في ديار غفار.
(*)

(5/24)


ذلك ؟ فقالا يا رسول الله أفلا تأمر بقتلهم ؟ فقال " أكره أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه " (1) وقد ذكر ابن إسحاق هذه القصة إلا أنه ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أعلم باسمائهم حذيفة بن اليمان وحده وهذا هو الاشبه والله أعلم ويشهد له قول أبي الدرداء لعلقمة صاحب ابن مسعود: أليس فيكم - يعني أهل الكوفة - صاحب السواد والوساد - يعني ابن مسعود - أليس فيكم صاحب السر الذي لا يعلمه غيره - يعني حذيفة - أليس فيكم الذي أجاره الله من الشيطان على لسان محمد - يعني عمارا - وروينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لحذيفة: أقسمت عليك بالله أنا منهم ؟ قال لا ولا أبرئ بعدك أحدا - يعني حتى لا يكون مفشيا سر النبي صلى الله عليه وسلم -.
قلت: وقد كانوا أربعة عشر رجلا، وقيل كانوا اثني عشر رجلا، وذكر ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليهم حذيفة بن اليمان فجمعهم له فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان من أمرهم وبما تمالاوا عليه.
ثم سرد ابن إسحاق أسماءهم قال وفيهم أنزل الله عزوجل: * (وهموا بما لم ينالوا) * [ التوبة: 74 ].
وروى البيهقي من طريق محمد بن مسلمة (2) عن أبي إسحاق، عن الاعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن حذيفة بن اليمان قال: كنت آخذا بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقود به، وعمار يسوق الناقة - أو أنا أسوق وعمار يقود به - حتى إذا كنا بالعقبة إذا باثنى عشر رجلا قد اعترضوه فيها، قال فأنبهت رسول الله صلى الله عليه وسلم فصرخ بهم فولوا مدبرين، فقال لنا رسول الله " هل عرفتم القوم ؟ " قلنا: لا يا رسول الله قد كانوا متلثمين، ولكنا قد عرفنا الركاب، قال
" هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة، وهل تدرون ما أرادوا ؟ " قلنا: لا قال: " أرادوا أن يزحموا رسول الله في العقبة فيلقوه منها " قلنا: يا رسول الله أو لا تبعث إلى عشائرهم حتى يبعث إليك كل قوم برأس صاحبهم ؟ قال " لا، أكره أن يتحدث العرب بينها أن محمدا قاتل لقومه، حتى إذا أظهره الله بهم أقبل عليهم يقتلهم " ثم قال " اللهم ارمهم بالدبيلة " (3) قلنا يا رسول الله وما الدبيلة ؟ قال " هي شهاب من نار تقع على نياط قلب أحدهم فيهلك " (4).
وفي صحيح مسلم: من طريق شعبة، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن قيس بن عبادة.
قال، قلت لعمار أرأيتم صنيعكم هذا فيما كان من أمر علي أرأي رأيتموه أم شئ عهده إليكم رسول الله ؟ فقال: ما عهد
__________
(1) روى الخبر البيهقي في دلائله ج 5 / 256 - 258 مطولا باختلاف بسيط في بعض ألفاظه وتعابيره.
ورواه الامام أحمد في مسنده عن أبي الطفيل، وابن سعد عن جبير بن مطعم والواقدي في مغازيه من طريق صالح بن كيسان.
(2) في الدلائل: سلمة، عن محمد بن إسحاق.
(3) الدبيلة: خراج أو دمل كبير يظهر في الجوف تقتل صاحبها غالبا.
(4) رواه البيهقي في دلائله ج 5 / 260 - 261.
(*)

(5/25)


إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس كافة، ولكن حذيفة أخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " في أصحابي أثنا عشر منافقا منهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط " (1) وفي رواية من وجه آخر عن قتادة " إن في أمتي أثني عشر منافقا لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، ثمانية منهم يكفيكهم الدبيلة، سراج من النار يظهر بين أكتافهم حتى ينجم من صدورهم ".
قال الحافظ البيهقي (2): وروينا عن حذيفة أنهم كانوا أربعة عشر - أو خمسة عشر - وأشهد بالله أن اثني عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد، وعذر ثلاثة أنهم قالوا: ما سمعنا المنادي ولا علمنا بما أراد.
وهذا الحديث قد رواه الامام أحمد في مسنده قال: حدثنا يزيد - هو ابن هارون - أخبرنا الوليد بن عبد الله بن جميع
عن أبي الطفيل.
قال: لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أمر مناديا فنادى إن رسول الله آخذ بالعقبة فلا يأخذها أحد، فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوده حذيفة ويسوقه عمار إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل فغشوا عمارا وهو يسوق برسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل عمار يضرب وجوه الرواحل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحذيفة " قد قد " حتى هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوادي، فلما هبط ورجع عمار قال " يا عمار هل عرفت القوم ؟ " قال قد عرفت عامة الرواحل والقوم متلثمون قال " هل تدري ما أرادوا ؟ " قال الله ورسوله أعلم، قال: " أرادوا أن ينفروا برسول الله فيطرحوه " قال فسار عمار رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: نشدتك بالله كم تعلم كان أصحاب العقبة ؟ قال أربعة عشر رجلا، فقال إن كنت فيهم فقد كانوا خمسة عشر، قال فعذر رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ثلاثة قالوا ما سمعنا منادي رسول الله وما علمنا ما أراد القوم.
فقال عمار: أشهد أن الاثني عشر (3) الباقين حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد.
قصة مسجد الضرار قال الله تعالى * (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذوبون، لا تقم فيه
__________
(1) الحديث رواه مسلم في صحيحه عن أبي بكر بن أبي شيبة في (50) كتاب المنافقين (الحديث: 9) وعن محمد بن بشار.
الحديث (10).
ص (4 / 2143).
(2) دلائل النبوة ج 5 / 262.
وآخره: ولا علمنا بما أراد القوم.
(3) قال الواقدي: ليس فيهم قرشي، وهو المجتمع عليه عندنا.
ونقل البيهقي في الدلائل، عن ابن اسحاق اسماءهم، عبد الله بن سعد بن أبي سرح (قال في زاد المعاد: لم يعرف له إسلام) وأبو حاضر الاعرابي - وعامر - وأبو عامر (الراهب) - والجلاس بن سويد بن الصامت - ومجمع بن جارية - وفليح التيمي - وحصين بن نمير - وطعمة بن أبيرق - وعبد الله بن عيينة - ومرة بن ربيع.
(ج 5 / 258).
(*)

(5/26)


أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين، لا يزال بنينهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم) * [ التوبة: 106 - 110 ] وقد تكلمنا على تفسير ما يتعلق بهذه الآيات الكريمة في كتابنا التفسير بما فيه كفاية ولله الحمد.
وذكر ابن إسحاق كيفية بناء هذا المسجد الظالم أهله وكيفية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بخرابه مرجعه من تبوك قبل دخوله المدينة، ومضمون ذلك أن طائفة من المنافقين بنوا صورة مسجد قريبا من مسجد قباء وأرادوا أن يصلي لهم رسول صلى الله عليه وسلم فيه حتى يروج لهم ما أرادوه من الفساد والكفر والعناد، فعصم الله رسوله صلى الله عليه وسلم من الصلاة فيه وذلك أنه كان على جناح سفر إلى تبوك، فلما رجع منها فنزل بذي أوان - مكان بينه وبين المدينة ساعة - نزل عليه الوحي في شأن هذا المسجد وهو قوله تعالى * (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل) * الآية.
أما قوله ضرارا فلانهم أرادوا مضاهاة مسجد قباء، وكفرا بالله لا للايمان به، وتفريقا للجماعة عن مسجد قباء وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وهو أبو عامر الراهب الفاسق قبحه الله وذلك أنه لما دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الاسلام فأبى عليه، ذهب إلى مكة فاستنفرهم، فجاؤوا عام أحد فكان من أمرهم ما قدمناه، فلما لم ينهض أمره ذهب إلى ملك الروم قيصر ليستنصره على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو عامر على دين هرقل ممن تنصر معهم من العرب وكان يكتب إلى إخوانه الذين نافقوا يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا، فكانت مكاتباته ورسله تفد إليهم كل حين، فبنوا هذا المسجد في الصورة الظاهرة وباطنه دار حرب ومقر لمن يفد من عند أبي عامر الراهب، ومجمع لمن هو على طريقتهم من المنافقين.
ولهذا قال تعالى * (وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل) * ثم قاتل * (وليحلفن) * أي الذين بنوه * (إن أردنا إلا الحسنى) * أي إنما أردنا ببنائه الخير.
قال الله تعالى * (والله يشهد إنهم لكاذبون) * ثم قال الله تعالى إلى رسوله * (لا تقم فيه أبدا) * فنهاه عن القيام فيه لئلا يقرر أمره ثم أمره وحثه على القيام في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم
وهو مسجد قباء لما دل عليه السياق والاحاديث الواردة في الثناء على تطهير أهله مشيرة إليه، وما ثبت في صحيح مسلم من أنه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينافي ما تقدم لانه إذا كان مسجد قباء أسس على التقوى من أول يوم فمسجد الرسول أولى بذلك وأحرى، وأثبت في الفضل منه وأقوى، وقد أشبعنا القول في ذلك في التفسير ولله الحمد.
والمقصود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بذي أوان دعا مالك بن الدخشم ومعن بن عدي - أو أخاه عاصم بن عدي - رضي الله عنهما فأمرهما أن يذهبا إلى هذا المسجد الظالم أهله فيحرقاه بالنار، فذهبا فحرقاه بالنار، وتفرق عنه أهله.
قال ابن إسحاق: وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا وهم، خذام بن خالد - وفي جنب داره

(5/27)


كان بناء هذا المسجد - وثعلبة بن حاطب: ومعتب بن قشير، وأبو حبيبة بن الازعر، وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف، وجارية بن عامر، وابناه مجمع وزيد، ونبتل بن الحارث، ويخرج وهو إلى بني ضبيعة، وبجاد بن عثمان وهو من بني ضبيعة، ووديعة بن ثابت وهو إلى بني أمية [ بن زيد ] (1).
قلت: وفي غزوة تبوك هذه صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف عبد الرحمن بن عوف صلاة الفجر أدرك معه الركعة الثانية منها، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب يتوضأ ومعه المغيرة بن شعبة فابطأ على الناس، فأقيمت الصلاة فتقدم عبد الرحمن بن عوف، فلما سلم الناس أعظموا ما وقع فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم " أحسنتم وأصبتم " وذلك فيما رواه البخاري رحمه الله قائلا حدثنا.
وقال البخاري: حدثنا أحمد بن محمد، حدثنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا حميد الطويل، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع من غزوة تبوك فدنا من المدينة فقال: " إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم " فقالوا يا رسول الله وهم بالمدينة ؟ قال " وهم بالمدينة حبسهم العذر " تفرد به من هذا الوجه (2).
قال البخاري: حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا عمرو بن يحيى، عن العباس بن سهل بن سعد، عن أبي حميد قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من
غزوة تبوك حتى إذا أشرفنا على المدينة قال " هذه طابة، وهذا أحد جبل يحبنا ونحبه " (3) ورواه مسلم من حديث سليمان بن بلال به نحوه.
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا سفيان، عن الزهري، عن السائب بن يزيد قال: أذكر أني خرجت مع الصبيان نتلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثنية الوداع مقدمه من غزوة تبوك (4).
ورواه أبو داود والترمذي من حديث سفيان بن عيينة به، وقال الترمذي حسن صحيح.
وقال البيهقي أخبرنا أبو نصر بن قتادة، أخبرنا أبو عمرو بن مطر، سمعت أبا خليفة يقول: سمعت ابن عائشة يقول: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جعل النساء والصبيان والولائد يقلن: طلع البدر علينا * من ثنيات الوداع
__________
(1) من ابن هشام.
وخبر مسجد الضرار في مغازي الواقدي 3 / 1047 - 1048 وسيرة ابن هشام 4 / 173 - 174.
(2) أخرجه البخاري في كتاب المغازي (81) باب، الحديث (4423) فتح الباري 8 / 126 وأخرجه في كتاب الجهاد (35) باب.
فتح الباري (6 / 46).
وأخرجه أبو داود في الجهاد، والحديث (2508) والامام أحمد في مسنده (3 / 103، 106، 182، 300، 341) وابن ماجه في الجهاد (6) باب، الحديث (2764).
(3) أخرجه البخاري في كتاب المغازي، الحديث (4422) فتح الباري (8 / 125).
(4) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد (196) باب، الحديث (3082) وأبو داود في الجهاد، الحديث (2779).
(*)

(5/28)


وجب الشكر علينا * ما دعا لله داع قال البيهقي: وهذا يذكره علماؤنا عند مقدمه المدينة من مكة لا أنه لما قدم المدينة من ثنيات الوداع عند مقدمه من تبوك والله أعلم.
فذكرناه ها هنا أيضا (1).
قال البخاري رحمه الله حديث كعب بن مالك رضي الله عنه: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب عن
عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب بن مالك - وكان قائد كعب من بنيه حين عمي - قال سمعت كعب بن مالك يحدث حين تخلف عن قصة تبوك قال كعب: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك، غير أني كنت تخلفت في غزوة بدر، ولم يعاتب أحدا تخلف عنها، إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حتى تواثبنا (2) على الاسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها، كان من خبري أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قط حتى جمعتهما في تلك الغزاة، ولم يكن رسول الله يريد غزوة إلا ورى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة غزاها رسول الله في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا وعددا وعدادا كثيرا فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ - يريد الديوان - قال كعب: فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن يستخفي له ما لم ينزل فيه وحي الله، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم [ تلك الغزوة ] (3) حين طابت الثمار والظلال، وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فارجع ولم اقض شيئا، فأقول في نفسي: أنا قادر عليه فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد، فأصبح رسول الله والمسلمون معه ولم اقض من جهازي شيئا فقلت أتجهز بعد يوم أو يومين ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا لاتجهز، فرجعت ولم أقض شيئا، ثم غدوت ثم رجعت ولم أقض شيئا، فلم يزل بي حتى اسرعوا وتفارط الغزو، وهممت أن أرتحل فأدركهم - وليتني فعلت - فلم يقدر لي ذلك، فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه النفاق، أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك " ما فعل كعب ؟ " فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله حبسه برداه ونظره في عطفيه، فقال معاذ بن جبل: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كعب بن مالك: قال: فلما بلغني أنه توجه قافلا حضرني همي
وطفقت أتذكر الكذب وأقول بماذا أخرج غدا من سخطه واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من
__________
(1) دلائل النبوة ج 5 / 266 ونقله الصالحي في السيرة الشامية (5 / 673).
(2) في البخاري: حتى تواثقنا.
(3) من البخاري..(*)

(5/29)


أهلي، فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما زاح عني الباطل وعرفت أني لن أخرج منه أبدا بشئ فيه كذب، فأجمعت صدقه وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادما، فكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاء المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله عز وجل، فجئته فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب، ثم قال " تعال " فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي " ما خلفك ؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك " فقلت بلى إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر - ولقد أعطيت جدلا - ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لارجو فيه عفو الله، لا والله ما كان لي من عذر، ووالله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك " فقمت فثار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلفون، وقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك، فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى هممت أن أراجع فأكذب نفسي، ثم قلت لهم هل لقي هذا معي أحد ؟ قالوا: نعم رجلان، قالا مثل ما قلت وقيل لهما مثل ما قيل لك، فقلت من هما، قالوا مرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا: [ لي ] فيهما أسوة فمضيت حين ذكروهما ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف،
فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الارض فما هي التي اعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الاسواق ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، وأقول في نفسي هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا، ثم أصلي قريبا منه فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إلي وإذا التفت نحوه أعرض عني حتي إذا طال علي ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة - وهو ابن عمي وأحب الناس إلي - فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام فقلت يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله ؟ فسكت فعدت له فنشدته فسكت، فعدت له فنشدته فقال الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار.
قال: وبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط أهل الشام ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدلني على كعب بن مالك ؟ فطفق الناس يشيرون له، حتى إذا جاءني دفع إلي كتابا من ملك غسان (1) [ في سرقة من
__________
(1) هو جبلة بن الايهم حزم بذلك ابن عائذ، وعند الواقدي بالحرث بن أبي شمر.
(*)

(5/30)


حرير ] (1) فإذا فيه، أما بعد، فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدر هوان، ولا مضيعة، فالحق بنا نواسيك.
فقلت لما قرأتها: وهذا أيضا من البلاء فتيممت بها التنور فسجرته بها فأقمنا على ذلك حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال: رسول الله يأمرك أن تعتزل امرأتك (2)، فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل ؟ قال: لا بل اعتزلها ولا تقربها، وأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك، فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الامر.
قال كعب: فجاءت امرأة هلال بن أمية إلى رسول الله فقالت يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه، قال " لا ولكن لا يقربك " قالت إنه والله ما به حركة إلى شئ، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا، فقال لي بعض أهلي: لو أستأذنت رسول الله في امرأتك كما استأذن
هلال بن أمية أن تخدمه، فقلت: والله لا أستأذن فيها رسول الله، وما يدريني ما يقول رسول الله إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب، قال: فلبثت بعد ذلك عشر ليال حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله عن كلامنا، فلما صليت الفجر صبح خمسين ليلة، وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله عزوجل قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الارض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع [ يقول ] بأعلى صوته: يا كعب أبشر، فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء فرج وآذن رسول الله [ للناس ] بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب قبل صاحبي مبشرون، وركض رجل إلي فرسا، وسعى ساع من أسلم فأوفى على الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوته إياهما ببشراه والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين (3) فلبستهما وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة، يقولون: ليهنك توبة الله عليك.
قال كعب: حتى دخلت المسجد فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس، فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره، ولا أنساها لطلحة، قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبرق وجهه من السرور " أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك " قال قلت: أمن عندك يا رسول الله أم عند الله ؟ قال " لا بل من عند الله " وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه، فلما جلست بين يديه.
قلت يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله، قال رسول الله " امسك عليك بعض مالك فهو خير لك " قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر، وقلت يا رسول الله إن الله إنما نجاني
__________
(1) زيادة من الواقدي، ومن رواية ابن مردويه.
(2) وهي عميرة بنت جبير بن صخر بن أمية الانصارية وهي أم أولاده الثلاثة: عبد الله وعبيد ومعبد.
(3) في الواقدي: استعارهما من أبي قتادة.
(*)

(5/31)


بالصدق، وإن من توبتي ألا اتحدث إلا صدقا ما بقيت، فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله أحسن مما أبلاني، ما شهدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذبا، واني لارجو أن يحفظني الله فيما بقيت، وأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم * (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والانصار) * إلى قوله * (وكونوا مع الصادقين) * [ التوبة: 117 - 119 ] فوالله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني للاسلام أعظم في نفسي من صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا فإن الله تعالى قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لاحد، قال الله تعالى * (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم) * إلى قوله * (فان الله لا يرضى عن القوم الفاسقين) * [ التوبة: 95 - 96 ] قال كعب: وكنا تخلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله حين حلفوا له فبايعهم (1) واستغفر لهم وأرجأ رسول الله أمرنا حتى قضى الله فيه فبذلك قال الله تعالى * (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) * ليس الذي ذكر الله مما خلفنا من الغزو وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منهم (2)، وهذا رواه مسلم من طريق الزهري بنحوه.
وهكذا رواه محمد بن اسحاق عن الزهري مثل سياق البخاري، وقد سقناه في التفسير من مسند الامام أحمد وفيه زيادات يسيرة ولله الحمد والمنة.
ذكر أقوام تخلفوا من العصاة غير هؤلاء قال علي بن طلحة (3) الوالبي، عن ابن عباس في قوله تعالى * (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله هو التواب الرحيم) * [ التوبة: 102 ] قال: كانوا عشرة رهط تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فلما حضروا رجوعه أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد، فلما مر بهم رسول الله قال " من هؤلاء ؟ " قالوا أبا لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك حتى تطلقهم وتعذرهم قال " وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله عز وجل هو الذي يطلقهم، رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين " فلما أن بلغهم ذلك قالوا: ونحن لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله هو الذي يطلقنا.
فانزل الله عز وجل
__________
(1) وفي ابن هشام والواقدي فعذرهم.
(2) أخرجه البخاري في كتاب المغازي (79) باب.
الحديث (4418) فتح الباري (8 / 113) وأخرجه في الوصايا وفي الجهاد، وفي صفة النبي صلى الله عليه وآله وفي فود الانصار.
وفي الاستئذان، وفي المغازي، وفي التفسير.
وأخرجه مسلم في كتاب التوبة، (9) باب، الحديث (53) ص (4 / 2120 - 2128).
ورواه الواقدي في المغازي (3 / 1049 - 1056) وابن هشام في السيرة (ج 4 / 175 - 181).
- وما بين معكوفين في الحديث زيادة استدركت من صحيح البخاري.
(3) في دلائل البيهقي: ابن أبي طلحة.
(*)

(5/32)


* (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) * الآية.
و * (عسى) * من الله واجب.
فلما أنزلت أرسل إليهم رسول الله فأطلقهم وعذرهم، فجاؤوا بأموالهم وقالوا: يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا واستغفر لنا، فقال " ما أمرت أن آخذ أموالكم " فأنزل الله * (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم ونزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم وان الله سميع عليم) * [ التوبة: 103 ] إلى قوله * (وآخرون مرجون لامر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم) * وهم الذين لم يربطوا أنفسهم بالسواري فارجئوا حتى نزل قوله تعالى * (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والانصار الذين خلفوا) * [ التوبة: 117 ] إلى آخرها.
وكذا رواه عطية بن سعيد العوفي عن ابن عباس بنحوه (1).
وقد ذكر سعيد بن المسيب، ومجاهد، ومحمد بن إسحاق قصة أبي لبابة وما كان من أمره يوم بني قريظة وربط نفسه حتى تيب عليه، ثم إنه تخلف عن غزوة تبوك فربط نفسه أيضا حتى تاب الله عليه، وأراد أن ينخلع من ماله كله صدقة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " يكفيك من ذلك الثلث " قال مجاهد وابن اسحاق: وفيه نزل * (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) * الآية: قال سعيد بن المسيب: ثم لم ير منه بعد ذلك في الاسلام إلا خيرا رضي الله عنه وأرضاه.
قلت: ولعل هؤلاء الثلاثة لم يذكروا معه بقية أصحابه واقتصروا على أنه كان كالزعيم لهم
كما دل عليه سياق ابن عباس والله أعلم.
وروى الحافظ البيهقي: من طريق أبي أحمد الزبيري، عن سفيان الثوري، عن سليمة بن كهيل، عن عياض بن عياض، عن أبيه عن ابن مسعود قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " إن منكم منافقين فمن سميت فليقل قم يا فلان، قم يا فلان، قم يا فلان " حتى عد ستة وثلاثين، ثم قال " إن فيكم - أو أن منكم - منافقين فسلوا الله العافية " قال: فمر عمر برجل متقنع وقد كان بينه وبينه معرفة فقال: ما شأنك ؟ فأخبره بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعدا لك سائر اليوم (2).
قلت: كان المتخلفون عن غزوة تبوك أربعة اقسام، مأمورون مأجورون كعلي بن أبي طالب ومحمد بن مسلمة، وابن أم مكتوم، ومعذورون وهم الضعفاء والمرضى، والمقلون وهم البكاؤون، وعصاة مذنبون وهم الثلاثة، أبو لبابة وأصحابه المذكورون، وآخرون ملومون مذمومون وهم المنافقون.
ما كان من الحوادث بعد منصرفه من تبوك قال الحافظ البيهقي: حدثنا أبو عبد الله الحافظ، إملاء، أخبرنا أبو العباس محمد بن
__________
(1) نقل الخبر البيهقي في الدلائل ج 5 / 271 - 272.
(2) رواه البيهقي في الدلائل ج 5 / 283 - 284.
(*)

(5/33)


يعقوب، حدثنا أبو البحتري عبد الله بن شاكر (1)، حدثنا زكريا بن يحيى، حدثنا عم أبي زخر بن حصن، عن جده حميد بن منهب (2) قال: سمعت جدي خريم بن أوس بن حارثة بن لام يقول: هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفه من تبوك، فسمعت العباس بن عبد المطلب يقول: يا رسول الله إني أريد أن أمتدحك ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قل لا يفضض الله فاك " فقال: من قبلها طبت في الضلال وف * - ي مستودع حيث يخصف الورق ثم هبطت البلاد لابشر * أنت ولا نطفة (3) ولا علق بل نطفة تركب السفين وقد * ألجم نسرا وأهله الغرق
تنقل من صالب إلى رحم * إذا مضى عالم بدا طبق حتى احتوى بينك المهيمن من * خندق علياء تحتها النطق وأنت لما ولدت أشرقت الار * ض فضاءت بنورك الافق فنحن في ذلك الضياء وفي الن * - نور وسبل الرشاد يخترق (4) ورواه البيهقي من طريق أخرى عن أبي السكن، زكريا بن يحيى الطائي وهو في جزء له مروي عنه.
قال البيهقي وزاد: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هذه الحيرة البيضاء رفعت لي، وهذه الشيماء بنت نفيلة (5) الازدية على بغلة شهباء معتجرة بخمار أسود " فقلت: يا رسول الله إن نحن دخلنا الحيرة فوجدتها كما تصف فهي لي ؟ قال " هي لك " قال: ثم كانت الردة فما ارتد أحد من طئ، وكنا نقاتل من يلينا من العرب على الاسلام فكنا نقاتل قيسا وفيها عيينة بن حصن، وكنا نقاتل بني أسد وفيهم طلحة بن خويلد، وكان خالد بن الوليد يمدحنا، وكان فيما قال فينا: جزى الله عنا طيئا في ديارها * بمعترك الابطال خير جزاء هموا أهل رايات السماحة والندى * إذا ما الصبا ألوت بكل خباء هموا ضربوا قيسا على الدين بعدما * أجابوا منادي ظلماء ؟ وعماء قال: ثم سار خالد إلى مسيلمة الكذاب فسرنا معه فلما فرغنا من مسيلمة أقبلنا إلى ناحية البصرة فلقينا هرمز بكاظمة في جيش هو أكبر من جمعنا، ولم يكن أحد (6) من العجم أعدى للعرب
__________
(1) في الدلائل: عبد الله بن محمد بن شاكر.
(2) الدلائل: ابن منيب.
(3) في الدلائل: ولا مضغة.
(4) البيت في الدلائل: فنحن من ذلك النور في الضياء * وسبل الرشاد نخترق روى الخبر والابيات البيهقي في دلائل النبوة ج 5 / 268، ورواه الطبراني، والزرقاني في شرح المواهب (3 / 84).
(5) من الدلائل، وفي الاصل بقيلة.
(6) في الدلائل: ولم يكن أحد من الناس.
(*)

(5/34)


والاسلام من هرمز، فخرج إليه خالد ودعاه إلى البراز فبرز له فقتله خالد وكتب يخبره إلى الصديق فنفله سلبه فبلغت قلنسوة هرمز مائة ألف درهم، وكانت الفرس إذا شرف فيها الرجل جعلت قلنسوته بمائة ألف درهم، قال: ثم قفلنا على طريق الطف إلى الحيرة فأول من تلقانا حين دخلناها الشيماء بنت نفيلة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة شهباء معتجرة بخمار أسود، فتعلقت بها وقلت هذه وهبها لي رسول الله، فدعاني خالد عليها بالبينة فأتيته بها، وكانت البينة محمد بن مسلمة ومحمد بن بشير الانصاري فسلمها إلي، فنزل إلي أخوها عبد المسيح يريد الصلح فقال بعنيها، فقلت لا أنقصها والله عن عشرة مائة درهم، فأعطاني ألف درهم وسلمتها إليه، فقيل لو قلت مائة ألف لدفعها اليك، فقلت: ما كنت أحسب أن عددا أكثر من عشر مائة (1).