البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
ثم دخلت سنة ثنتين وعشرين
وفيها كانت فتوحات كثيرة منها
فتح همدان ثانية ثم الري وما بعدها
ثم أذربيجان
قال الواقدي وأبو معشر: كانت في سنة ثنتين وعشرين.
وقال سيف: كانت في سنة ثماني عشرة بعد فتح همدان والري وجرجان.
وأبو معشر يقول بأن أذربيجان كانت بعد هذه البلدان، ولكن عنده أن
الجميع كان في هذه السنة.
وعند الواقدي: أن فتح همدان والري في سنة ثلاث وعشرين، فهمدان افتتحها
المغيرة (1) بعد مقتل عمر بستة أشهر، قال: ويقال كان فتح الري قبل وفاة
عمر بسنتين، إلا أن الواقدي وأبا معشر متفقان على أن أذربيجان في هذه
السنة، وتبعهما ابن جرير وغيره.
وكان السبب في ذلك أن المسلمين لما فرغوا من نهاوند وما وقع من الحرب
المتقدم،
فتحوا حلوان وهمذان بعد ذلك.
ثم إن أهل همذان نقضوا عهدهم الذي صالحهم عليه القعقاع ابن عمرو، فكتب
عمر إلى نعيم بن مقرن أن يسير إلى همذان، وأن يجعل على مقدمته أخاه
سويد ابن مقرن، وعلى مجنبتيه ربعي بن عامر الطائي، ومهلهل بن زيد
التميمي.
فسار حتى نزل على ثنية العسل، ثم تحدر على همذان (2)، واستولى على
بلادها، وحاصرها فسألوه الصلح فصالحهم ودخلها، فبينما هو فيها ومعه
اثني عشر ألفا من المسلمين إذ تكاتف (3) الروم والديلم وأهل الري وأهل
أذربيجان، واجتمعوا على حرب نعيم بن مقرن في جمع كثير، فعلى الديلم
ملكهم واسمه موتا، وعلى أهل الري أبو الفرخان، وعلى أذربيجان اسفندياذ
أخو رستم، فخرج إليهم بمن معه من المسلمين حتى التقوا بمكان يقال له
واج الروذ، فاقتتلوا قتالا شديدا وكانت وقعة عظيمة تعدل نهاوند ولم تك
دونها، فقتلوا من المشركين جمعا كثيرا، وجما غفيرا لا يحصون كثرة، وقتل
ملك
__________
(1) في رواية فتوح البلدان عن الواقدي 2 / 380 أن المغيرة وجه جرير بن
عبد الله البجلي إلى همذان وافتتحها على مثل صلح نهاوند.
أما ابن الاعثم في فتوحه 2 / 64 فقال ان المسلمين دخلوا همذان بعدما
رحل عنها الاعاجم واحتووا على ما قدروا عليه منها.
(2) في فتوح ابن الاعثم: كان على همذان رجل من عظماء الاعاجم واسمه
كفتار.
(3) في الطبري: تكاتب وفي الكامل: كاتب.
(*)
(7/136)
الديلم موتا
وتمزق شملهم، وانهزموا بأجمعهم، بعد من قتل بالمعركة منهم، فكان نعيم
بن مقرن أول من قاتل الديلم من المسلمين.
وقد كان نعيم كتب إلى عمر يعلمه باجتماعهم فهمه ذلك واغتم له.
فلم يفجأه إلا البريد بالبشارة فحمد الله وأثنى عليه، وأمر بالكتاب
فقرئ على الناس، ففرحوا وحمدوا الله عز وجل.
ثم قدم عليه بالاخماس ثلاثة من الامراء وهم سماك بن خرشة، ويعرف بأبي
دجانة، وسماك بن عبيد، وسماك بن مخرمة.
فلما استسماهم عمر قال: اللهم اسمك بهم الاسلام، وأمد بهم الاسلام، ثم
كتب إلى نعيم بن مقرن بأن يستخلف على همذان ويسير إلى الري فامتثل
نعيم.
وقد قال نعيم في هذه الوقعة:
ولما أتاني أن موتا ورهطه * بني باسل جروا جنود الاعاجم نهضت إليهم
بالجنود مساميا * لامنع منهم ذمتي بالقواصم فجئنا إليهم بالحديد كأننا
* جبال تراءى من فروع القلاسم (1) فلما لقيناهم بها مستفيضة * وقد
جعلوا يسمون فعل المساهم صدمناهم في واج روذ بجمعنا * غداة رميناهم
بإحدى العظائم فما صبروا في حومة الموت ساعة * لحد الرماح والسيوف
الصوارم كأنهم عند انبثاث جموعهم * جدار تشظى لبنه للهادم أصبنا بها
موتا ومن لف جمعه * وفيها نهاب قسمه غير عاتم تبعناهم حتى أووا في
شعابهم * فنقتلهم قتل الكلاب الجواحم (2) كأنهم في واج روذ وجوه * ضئين
أصابتها فروج المخارم (3) فتح الري استخلف نعيم بن مقرن على همذان يزيد
بن قيس الهمداني وسار بالجيوش حتى لحق بالري فلقي هناك جمعا كثيرا من
المشركين (4) فاقتتلوا عند سفح جبل الري فصبروا صبرا عظيما ثم انهزموا
فقتل منهم نعيم بن مقرن مقتلة عظيمة بحيث عدوا بالقصب فيها، وغنموا
منهم غنيمة عظيمة قريبا مما غنم المسلمون من المدائن.
وصالح أبو الفرخان على الري، وكتب له أمانا بذلك، ثم كتب نعيم (5) إلى
عمر بالفتح ثم بالاخماس ولله الحمد والمنة.
__________
(1) القلاسم: اسم موضع.
(2) الجواحم: الكلاب المصابة بداء في عينها أو في رأسها.
(3) ضئين: الغنم.
(4) من أهل نهاوند وطبرستان وقومس وجرجان وعليهم ملك الري سياوخش بن
مهران بن بهرام شوبين، وذكره ابن الاعثم: فرخنداد بن يزدامر الاكبر.
(5) اختلف المؤرخون في فتح الري، قيل إن فتحها كان على يد نعيم بن
مقرن، وقيل على يد قرظة بن كعب وقيل (*)
(7/137)
فتح قومس
ولما ورد البشير بفتح الري وأخماسها كتب عمر إلى نعيم بن مقرن أن يبعث
أخاه سويد بن مقرن إلى قومس.
فسار إليها سويد، فلم يقم له شئ حتى أخذها سلما وعسكر بها وكتب لاهلها
كتاب أمان وصلح (1).
فتح جرجان لما عسكر سويد بقومس بعث
إليه أهل بلدان شتى منها جرجان وطبرستان وغيرها يسألونه الصلح على
الجزية، فصالح الجميع وكتب لاهل كل بلدة كتاب أمان وصلح.
وحكى المدائني أن جرجان فتحت في سنة ثلاثين أيام عثمان.
فالله أعلم.
وهذا فتح أذربيجان لما افتتح نعيم بن مقرن همذان ثم الري، وكان قد بعث
بين يديه بكير بن عبد الله (2) من همذان إلى أذربيجان، وأردفه بسماك بن
خرشة، فلقي أسفندياذ بن الفرخزإذ بكيرا وأصحابه، قبل أن يقدم عليهم
سماك، فاقتتلوا فهزم الله المشركين، وأسر بكير اسفندياذ، فقال له
اسفندياذ: الصلح أحب إليك أم الحرب ؟ فقال: بل الصلح.
قال: فأمسكني عندك.
فأمسكه ثم جعل يفتح بلدا بلدا وعتبة بن فرقد أيضا يفتح معه بلدا بلدا
في مقابلته من الجانب الآخر.
ثم جاء كتاب عمر بأن يتقد بكير إلى الباب وجعل سماك موضعه نائبا لعتبة
بن فرقد، وجمع عمر أذربيجان كلها لعتبة بن فرقد، وسلم إليه بكير
اسفندياذ، وسار كما أمره عمر إلى الباب.
قالوا: وقد كان اعترض بهرام بن فرخزاذ لعتبة بن فرقد فهزمه عتبة وهرب
بهرام، فلما بلغ ذلك اسفندياذ وهو في الاسر عند بكير قال: الآن تم
الصلح وطفئت الحرب.
فصالحه فأجاب إلى ذلك كلهم.
وعادت أذربيجان سلما، وكتب بذلك عتبة وبكير إلى عمر، وبعثوا بالاخماس
إليه، وكتب عتبة حين انتهت إمرة أذربيجان لاهلها كتاب أمان وصلح.
__________
= على يد عروة بن زيد الخيل الطائي.
انظر: الطبري 4 / 253 الكامل 3 / 24 فتوح البلدان 2 / 389 فتوح ابن
الاعثم 2 / 63 تاريخ اليعقوبي 2 / 157.
(1) انظر نص الكتاب في الطبري 4 / 254.
وفي فتوح البلدان 2 / 390 فتحها عروة بن زيد الخيل.
(2) في فتوح البلدان 4 / 400: ان حذيفة بن اليمان غزا أذربيجان ثم
وليها عتبة بن فرقد السلمي.
وقال أبو مخنف.
ان المغيرة بن شعبة غزاها سنة عشرين ففتحها.
وفي الواقدي ان المغيرة غزاها سنة 22 وافتتحها عنوة.
والواضح أن أهل أذربيجان قد نقضوا أكثر من مرة الصلح فأغزوا مرارا ولعل
هذا هو سبب اللغط في تأكيد من غزاها وافتتحها.
(*)
(7/138)
فتح الباب
(1) قال ابن جرير: وزعم سيف أنه كان في هذه السنة كتب عمر بن الخطاب
كتابا بالامرة على هذه الغزوة لسراقة بن عمرو - الملقب بذي النور -
وجعل على مقدمته عبد الرحمن بن ربيعة، ويقال له - ذو النور أيضا - وجعل
على إحدى المجنبتين حذيفة بن أسيد، وعلى الاخرى بكير بن عبد الله
الليثي - وكان قد تقدمهم إلى الباب - وعلى المقاسم سلمان بن ربيعة.
فساروا كما أمرهم عمر وعلى تعبئته، فلما انتهى مقدم العساكر - وهو عبد
الرحمن بن ربيعة - إلى الملك الذي هناك عند الباب وهو شهربراز ملك
أرمينية وهو من بيت الملك الذي قتل بني إسرائيل وغزا الشام في قديم
الزمان، فكتب شهربراز لعبد الرحمن واستأمنه فأمنه عبد الرحمن بن ربيعة،
فقدم عليه الملك، فأنهى إليه أن صغوه إلى المسلمين، وأنه مناصح
للمسلمين.
فقال له: إن فوقي رجلا فاذهب إليه.
فبعثه إلى سراقة بن عمرو أمير الجيش، فسأل من سراقة الامان، فكتب إلى
عمر فأجاز ما أعطاه من الامان، واستحسنه، فكتب له سراقة كتابا بذلك.
ثم بعث سراقة بكيرا، وحبيب بن مسلمة، وحذيفة بن أسيد، وسلمان بن ربيعة،
إلى أهل تلك الجبال المحيطة بأرمينية جبال اللان (2) وتفليس وموقان،
فافتتح بكير موقان، وكتب لهم كتاب أمان ومات في غضون ذلك أمير المسلمين
هنالك، وهو سراقة بن عمرو، واستخلف بعده عبد الرحمن بن ربيعة، فلما بلغ
عمر ذلك أقره على ذلك وأمره بغزو الترك.
أول غزو الترك
وهو تصديق الحديث المتقدم الثابت في الصحيح عن أبي هريرة وعمرو بن
تغلب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تقوم الساعة حتى
تقاتلوا قوما عراض الوجوه، دلف الانوف، حمر الوجوه، كأن وجوههم المجان
المطرقة (3) " وفي رواية " ينتعلون الشعر ".
لما جاء كتاب عمر إلى عبد الرحمن بن ربيعة يأمره بأن يغزو الترك، سار
حتى قطع الباب قاصدا لما أمره عمر، فقال له شهربراز: أين تريد ؟ قال:
أريد ملك الترك بلنجر، فقال له شهربراز: إنا لنرضى منهم بالموادعة،
ونحن من وراء الباب.
فقال له عبد الرحمن: إن الله بعث إلينا رسولا، ووعدنا على لسانه بالنصر
والظفر، ونحن لا نزال منصورين، فقاتل الترك وسار في
__________
(1) الباب: كذا في الاصل.
وفي فتوح البلدان وابن الاعثم مدينة الباب.
وفي معجم البلدان: باب الابواب ويقال له الباب غير مضاف والباب
الابواب...وأما حديثها أيام الفتوح فإن سليمان بن ربيعة الباهلي غزاها
في أيام عمر بن الخطاب.
(2) كذا في الاصل والطبري والكامل، وفي فتوح البلدان: أران.
(3) أخرجه البخاري في كتاب المناقب - باب علامات النبوة في الاسلام.
(*)
(7/139)
بلاد بلنجر
مائتي فرسخ، وغزا مرات متعددة.
ثم كانت له وقائع هائلة في زمن عثمان كما سنورده في موضعه إن شاء الله
تعالى.
وقال سيف بن عمر عن الغصن بن القاسم عن رجل عن سلمان بن ربيعة.
قال: لما دخل عليهم عبد الرحمن بن ربيعة بلادهم حال الله بين الترك
والخروج عليه، وقالوا: ما اجترأ علينا هذا الرجل إلا ومعهم الملائكة
تمنعهم من الموت.
فتحصنوا منه وهربوا بالغنم والظفر.
ثم إنه غزاهم غزوات في زمن عثمان فظفر بهم، كما كان يظفر بغيرهم.
فلما ولي عثمان على الكوفة بعض من كان ارتد، غزاهم فتذامرت الترك وقال
بعضهم لبعض: إنهم لا يموتون (1)، قال: انظروا وفعلوا فاختفوا لهم في
الغياض.
فرمى رجل منهم رجلا من المسلمين على غرة فقتله وهرب
عنه أصحابه، فخرجوا على المسلمين بعد ذلك حتى عرفوا أن المسلمين
يموتون، فاقتتلوا قتالا شديدا ونادى مناد من الجو صبرا آل عبد الرحمن
وموعدكم الجنة، فقالت عبد الرحمن حتى قتل وانكشف الناس وأخذ الراية
سلمان بن ربيعة فقاتل بها، ونادى المنادي من الجو صبرا آل سلمان ابن
ربيعة.
فقاتل قتالا شديدا ثم تحيز سلمان وأبو هريرة بالمسلمين، وفروا من كثرة
الترك ورميهم الشديد السديد على جيلان فقطعوها إلى جرجان، واجترأت
الترك بعدها، ومع هذا أخذت الترك عبد الرحمن بن ربيعة فدفنوه في
بلادهم، فهم يستسقون بقبره إلى اليوم.
وسيأتي تفصيل ذلك كله.
قصة السد ذكر ابن جرير بسنده أن
شهربراز قال لعبد الرحمن بن ربيعة لما قدم عليه حين وصل إلى الباب
وأراه رجلا فقال شهربراز: أيها الامير إن هذا الرجل كنت بعثته نحو
السد، وزودته مالا جزيلا وكتبت له إلى الملوك الذين يولوني، وبعثت لهم
هدايا، وسألت منهم أن يكتبوا له إلى من يليهم من الملوك حتى ينتهي إلى
سد ذي القرنين، فينظر إليه ويأتينا بخبره.
فسار حتى انتهى إلى الملك الذي السد في أرضه، فبعثه إلى عامله مما يلي
السد، فبعثت معه بازياره ومعه عقابه، فلما انتهوا إلى السد إذا جبلان
بينهما سد مسدود، حتى ارتفع على الجبلين، وإذا دون السد خندق أشد سوادا
من الليل لبعده، فنظر إلى ذلك كله وتفرس فيه، ثم لما هم بالانصراف قال
له البازيار: على رسلك، ثم شرح بضعة لحم معه فألقاها في ذلك الهواء،
وانقض عليها العقاب.
فقال: إن أدركتها قبل أن تقع فلا شئ، وإن لم تدركها حتى تقع فذلك شئ.
قال: فلم تدركها حتى وقعت في أسفله واتبعها العقاب فأخرجها فإذا فيها
ياقوتة وهي هذه.
ثم ناولها الملك شهربراز لعبد الرحمن بن ربيعة، فنظر إليها عبد الرحمن
ثم ردها إليه، فلما ردها إليه فرح وقال: والله لهذه خير
__________
(1) زاد ابن الاعثم في الفتوح: وقد بلغنا انهم نزلوا من السماء فليس
يموتون ولا يعمل فيهم السلاح (*)
(7/140)
من مملكة هذه
المدينة - يعني مدينة باب الابواب التي هو فيها - ووالله لانتم أحب إلي
اليوم من مملكة
آل كسرى، ولو كنت في سلطانهم وبلغهم خبرها لانتزعوها مني.
وأيم الله لا يقوم لكم شئ ما وفيتم ووفى ملككهم الاكبر.
ثم أقبل عبد الرحمن بن ربيعة على الرسول الذي ذهب على السد فقال: ما
حال هذا الردم ؟ - يعني ما صفته - فأشار إلى ثوب في زرقة وحمرة فقال:
مثل هذا.
فقال رجل لعبد الرحمن: صدق والله لقد نفذ ورأى.
فقال: أجل وصف صفة الحديد والصفر.
قال الله تعالى * (آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال
انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا) * [ الكهف: 96 ]
وقد ذكرت صفة السد في التفسير، وفي أوائل هذا الكتاب.
وقد ذكر البخاري في صحيحه تعليقا أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم
رأيت السد.
فقال: " كيف رأيته " ؟ قال: مثل البرد المحبر رأيته.
قالوا: ثم قال عبد الرحمن بن ربيعة لشهربراز: كم كانت هديتك ؟ قال:
قيمة مائة ألف في بلادي وثلاثة آلاف ألف في تلك البلدان.
بقية من خبر السد أورد شيخنا أبو عبد الله الذهبي الحافظ في هذه السنة
ما ذكر صاحب كتاب مسالك الممالك عما أملاه عليه سلام الترجمان، حين
بعثه الواثق بأمر الله بن المعتصم - وكان قد رأى في النوم كأن السد قد
فتح - فأرسل سلاما هذا وكتب له إلى الملوك بالوصاة به، وبعث معه ألفي
بغل تحمل طعاما فساروا بين سامرا إلى إسحق بتفليس، فكتب لهم إلى صاحب
السرير، وكتب لهم صاحب السرير إلى ملك اللان، فكتب لهم إلى قبلان شاه،
فكتب لهم إلى ملك الخزر، فوجه معه خمسة أولاد فساروا ستة وعشرين يوما.
انتهوا إلى أرض سواداء منتنة حتى جعلوا يشمون الخل، فساروا فيها عشرة
أيام، فانتهوا إلى مدائن خراب مدة سبعة وعشرين يوما، وهي التي كانت
يأجوج ومأجوج تطرقها فخربت من ذلك الحين، وإلى الآن، ثم انتهوا إلى حصن
قريب من السد فوجدوا قوما يعرفون بالعربية وبالفارسية ويحفظون القرآن،
ولهم مكاتب ومساجد، فجعلوا يعجبون منهم ويسألونهم من أين أقبلوا،
فذكروا لهم أنهم من جهة أمير المؤمنين الواثق فلم يعرفوه بالكلية.
ثم انتهوا إلى جبل أملس ليس عليه خضرا وإذا السد هناك من لبن حديد مغيب
في نحاس، وهو مرتفع جدا لا يكاد البصر ينتهي إليه، وله شرفات من حديد،
وفي وسطه باب عظيم بمصراعين
مغلقين، عرضهما مائة ذراع، في طول مائة ذراع، في ثخانة خمسة أذرع،
وعليه قفل طوله سبعة أذرع في غلظ باع - وذكر أشياء كثيرة - وعند ذلك
المكان حرس يضربون عند القفل في كل يوم فيسمعون بعد ذلك صوتا عظيما
مزعجا، ويقال: أن وراء هذا الباب حرس وحفظة، وقريب من هذا الباب حصنان
عظيمان بينهما عين ماء عذبة، وفي إحداهما بقايا العمارة من مغارف ولبن
من حديد وغير ذلك، وإذا طول اللبنة ذراع ونصف في مثله، في سمك شبر.
وذكروا أنهم سألوا أهل تلك البلاد هل رأوا أحدا من يأجوج ومأجوج
فأخبروهم أنهم رأوا منهم يوما أشخاصا فوق
(7/141)
الشرفات فهبت
الريح فألقتهم إليهم، فإذا طول الرجل منهم شبر أو نصف شبر.
والله أعلم.
قال الواقدي: وفي هذه السنة غزا معاوية الصائفة، من بلاد الروم، وكان
معه حماد والصحابة فسار وغنم ورجع سالما.
وفيها ولد يزيد بن معاوية، وعبد الملك بن مروان.
وفيها حج بالناس عمر بن الخطاب وكان عماله فيها على البلاد، هم الذين
كانوا في السنة قبلها.
وذكر أن عمر عزل عمارا في هذه السنة عن الكوفة اشتكاه أهلها وقالوا: لا
يحسن السياسة، فعزله وولى أبا موسى الاشعري، فقال أهل الكوفة: لا
نريده، وشكوا من غلامه فقال: دعوني حتى أنظر في أمري، وذهب إلى طائفة
من المسجد ليفكر من يولي.
فنام من الهم فجاءه المغيرة فجعل يحرسه حتى استيقظ فقال له: إن هذا
الامر عظيم يا أمير المؤمنين، الذي بلغ بك هذا.
قال: وكيف وأهل الكوفة مائة ألف لا يرضون عن أمير ولا يرضى عنهم أمير.
ثم جمع الصحابة واستشارهم، هل يولي عليهم قويا مشددا أو ضعيفا مسلما ؟
فقال له المغيرة بن شعبة: يا أمير المؤمنين، إن القوي لك وللمسلمين
وتشديده لنفسه، وأما الضعيف المسلم فضعفه عليك وعلى المسلمين وإسلامه
لنفسه.
فقال عمر للمغيرة - واستحسن ما قال له -: اذهب فقد وليتك الكوفة.
فرده إليها بعد ما كان عزله عنها بسبب ما كان شهد عليه الذين تقدم حدهم
بسبب قذفه، والعلم عند الله عز وجل.
وبعث أبا موسى الاشعري إلى البصرة [ فقيل لعمار: أساءك العزل ؟ فقال:
والله ما سرتني الولاية، ولقد ساءني العزل.
وفي رواية أن الذي سأله عن ذلك عمر رضي الله عنه،
ثم أراد عمر أن يبعث سعد بن أبي وقاص على الكوفة بدل المغيرة فعاجلته
المنية في سنة ثلاث وعشرين على ما سيأتي بيانه، ولهذا أوصى لسعد به.
قال الواقدي: وفي هذه السنة غزا الاحنف بن قيس بلاد خراسان، وقصد البلد
الذي فيه يزدجرد ملك الفرس.
قال ابن جرير: وزعم سيف أن هذا كان في سنة ثماني عشرة.
قلت: والاول هو المشهور والله أعلم.
قصة يزدجرد بن شهريار بن كسرى لما
استلب سعد من يديه مدينة ملكه، وداره مقره، وإيوان سلطانه، وبساط
مشورته وحواصله، تحول من هناك إلى حلوان، ثم جاء المسلمون ليحاصروا
حلوان فتحول إلى الري، وأخذ المسلمون حلوان ثم أخذت الري، فتحول منها
إلى أصبهان (1)، فأخذت أصبهان، فسار
__________
(1) أصبهان: في التاج (أصص): " أصبهان أصله أصت بهان أي سمنت المليحة،
سميت لحسن هوائها وعذوبة مائها وكثرة فواكهها فخففت.
والصواب أنها أعجمية وقد تكسر همزتها وقد تبدل باؤها فاء فيهما، وأصلها
اسباهان أي الاجناد لانهم كانوا سكانها...الخ ".
(*)
(7/142)
إلى كرمان فقصد
المسلمون كرمان فافتتحوها، فانتقل إلى خراسان فنزلها.
هذا كله والنار التي يعبدها من دون الله يسير بها معه من بلد إلى بلد،
ويبني لها في كل بيت توقد فيهم على عادتهم، وهو يحمل في الليل في مسيره
إلى هذه البلدان على بعير عليه هودج ينام فيه.
فبينما هو ذات ليلة في هودجه وهو نائم فيه، إذ مروا به على مخاضة
فأرادوا أن ينبهوه قبلها لئلا ينزعج إذا استيقظ في المخاضة، فلما
أيقظوه تغضب عليهم شديدا وشتمهم، وقال: حرمتموني أن أعلم مدة بقاء
هؤلاء في هذه البلاد وغيرها، إني رأيت في منامي هذا أني ومحمدا عند
الله، فقال له: ملككم مائة سنة، فقال: زدني.
فقال: عشرا ومائة.
فقال: زدني.
فقال: عشرين ومائة سنة.
فقال: زدني فقال لك، وأنبهتموني، فلو تركتموني لعلمت مدة هذه الامة.
خراسان مع الاحنف بن قيس
وذلك أن الاحنف بن قيس هو الذي أشار على عمر بأن يتوسع المسلمون
بالفتوحات في بلاد العجم، ويضيقوا على كسرى يزدجرد، فإنه هو الذي يستحث
الفرس والجنود على قتال المسلمين.
فأذن عمر بن الخطاب في ذلك عن رأيه، وأمر الاحنف، وأمره بغزو بلاد
خراسان.
فركب الاحنف في جيش كثيف إلى خراسان قاصدا حرب يزدجرد، فدخل خراسان
فافتتح هراة عنوة واستخلف عليها صحار بن فلان العبدي، ثم سار إلى مرو
الشاهجان وفيها يزدجرد، وبعث الاحنف بين يديه مطرف بن عبد الله بن
الشخير إلى نيسابور، والحارث بن حسان إلى سرخس.
ولما اقترب الاحنف من مرو الشاهجان، ترحل منها يزدجرد إلى مرو الروذ
فافتتح الاحنف مرو الشاهجان فنزلها.
وكتب يزدجرد حين نزل مرو الروذ إلى خاقان ملك الترك يستمده، وكتب إلى
ملك الصغد يستمده، وكتب إلى ملك الصين يستعينه.
وقصده الاحنف بن قيس إلى مرو الروذ وقد استخلف على مرو الشاهجان حارثة
بن النعمان، وقد وفدت إلى الاحنف أمداد من أهل الكوفة مع أربعة أمراء
(1)، فلما بلغ مسيره إلى يزدجرد ترحل إلى بلخ، فالتقى معه ببلخ يزدجرد
فهزمه الله عز وجل وهرب هو ومن بقي معه من جيشه فعبر النهر واستوثق ملك
خراسان على يدي الاحنف بن قيس، واستخلف في كل بلدة أميرا، ورجع الاحنف
فنزل مرو الروذ، وكتب إلى عمر بما فتح الله عليه من بلاد خراسان
بكمالها.
فقال عمر: وددت أنه كان بيننا وبين خراسان بحر من نار.
فقال له علي: ولم يا أمير المؤمنين ؟ فقال: إن أهلها سينقضون عهدهم
ثلاث مرات فيجتاحون في الثالثة، فقال: يا أمير المؤمنين لان يكون ذلك
بأهلها، أحب إلي من أن يكون ذلك بالمسلمين وكتب عمر إلى الاحنف ينهاه
عن العبور إلى ما وراء النهر.
وقال: احفظ ما بيدك من
__________
(1) وهم: علقمة بن النضر النضري.
وربعي بن عامر التميمي وعبد الله بن أبي عقيل الثقفي وابن أم غزال
الهمذاني (الطبري 4 / 263).
(*)
(7/143)
بلاد خراسان.
ولما وصل رسول يزدجرد إلى اللذين (1) استنجد بهما لم يحتفلا بأمره،
فلما عبر يزدجرد النهر ودخل في بلادهما تعين عليهما إنجاده في شرع
الملوك، فسار معه خاقان الاعظم ملك
الترك، ورجع يزدجرد بجنود عظيمة فيهم ملك التتار خاقان، فوصل إلى بلخ
واسترجعها، وفر عمال الاحنف إليه إلى مرو الروذ، وخرج المشركون من بلخ
حتى نزلوا على الاحنف بمرو الروذ فتبرز الاحنف بمن معه من أهل البصرة
وأهل الكوفة والجميع عشرون ألفا فسمع رجلا يقول لآخر: إن كان الامير ذا
رأي فإنه يقف دون هذا الجبل فيجعله وراء ظهره ويبقى هذا النهر خندقا
حوله فلا يأتيه العدو إلا من جهة واحدة.
فلما أصبح الاحنف أمر المسلمين فوقفوا في ذلك الموقف بعينه، وكان أمارة
النصر والرشد، وجاءت الاتراك والفرس في جمع عظيم هائل مزعج، فقام
الاحنف في الناس خطيبا فقال: إنكم قليل وعدوكم كثير، فلا يهولنكم، *
(كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين) * [
البقرة: 249 ] فكانت الترك يقاتلون بالنهار ولا يدري الاحنف أين يذهبون
في الليل.
فسار ليلة مع طليعة من أصحابه نحو جيش خاقان، فلما كان قريب الصبح خرج
فارس من الترك طليعة وعليه طوق وضرب بطبله فتقدم إليه الاحنف فاختلفا
طعنتين فطعنه الاحنف فقتله وهو يرتجز: إن على كل رئيس حقا * أن يخضب
الصعدة أو يندقا إن لها شيخا بها ملقى * بسيف أبي حفص الذي تبقى قال:
ثم استلب التركي طوقه ووقف موضعه، فخرج آخر عليه طوق ومعه طبل فجعل
يضرب بطبله، فتقدم إليه الاحنف فقتله أيضا واستلبه طوقه ووقف موضعه
فخرج ثالث فقتله وأخذ طوقه ثم أسرع الاحنف الرجوع إلى جيشه ولا يعلم
بذلك أحد من الترك بالكلية.
وكان من عادتهم أنهم لا يخرجون من صبيتهم حتى تخرج ثلاثة من كهولهم بين
أيديهم يضرب الاول بطلبه، ثم الثاني، ثم الثالث، ثم يخرجون بعد الثالث.
فلما خرجت الترك ليلتئذ بعد الثالث، فأتوا على فرسانهم مقتلين، تشاءم
بذلك الملك خاقان وتطير، وقال لعسكره: قد طال مقامنا وقد أصيب هؤلاء
القوم بمكان لم نصب بمثله، ما لنا في قتال هؤلاء القوم من خير،
فانصرفوا بنا.
فرجعوا إلى بلادهم وانتظرهم المسلمون يومهم ذلك ليخرجوا إليهم من شعبهم
فلم يروا أحدا منهم، ثم بلغهم انصرافهم إلى بلادهم راجعين عنهم، وقد
كان يزدجرد - وخاقان في مقابلة الاحنف بن قيس
ومقاتلته - ذهب إلى مرو الشاهجان فحاصرها وحارثة بن النعمان بها
واستخرج منها خزانته التي كانت دفنها بها، ثم رجع وانتظره خاقان ببلخ
حتى رجع إليه.
وقد قال المسلمون للاحنف: ما ترى في اتباعهم ؟ فقال: أقيموا بمكانكم
ودعوهم.
وقد أصاب الاحنف في ذلك، فقد جاء في الحديث " اتركوا الترك ما تركوكم "
وقد * (رد الله الذين كفروا
__________
(1) وهما خاقان ملك الترك، وغوزك ملك الصغد.
(*)
(7/144)
بغيظهم لم
ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا) * [
الاحزاب: 25 ].
ورجع كسرى خاسرا الصفقة لم يشف له غليل، ولا حصل على خير، ولا انتصر
كما كان في زعمه، بل تخلى عنه من كان يرجو النصر منه، وتنحى عنه وتبرأ
منه أحوج ما كان إليه، وبقي مذبذبا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء * (ومن
يضلل الله فلن تجد له سبيلا) * [ النساء: 88 ] وتحير في أمره ماذا يصنع
؟ وإلى أين يذهب ؟ وقد أشار عليه بعض أولي النهي من قومه حين قال: قد
عزمت أن أذهب إلى بلاد الصين أو أكون مع خاقان في بلاده فقالوا: إنا
نرى أن نصانع (1) هؤلاء القوم فإن لهم ذمة ودينا يرجعون إليه، فنكون في
بعض هذه البلاد وهم مجاورينا، فهم خير لنا من غيرهم.
فأبى عليهم كسرى ذلك.
ثم بعث إلى ملك الصين يستغيث به ويستنجده فجعل ملك الصين يسأل الرسول
عن صفة هؤلاء القوم الذين قد فتحوا البلاد وقهروا رقاب العبا، فجعل
يخبره عن صفتهم، وكيف يركبون الخيل والابل، وماذا يصنعون ؟ وكيف يصلون.
فكتب معه إلى يزدجرد: إنه لم يمنعني أن أبعث إليك بجيش أوله بمرو وآخره
بالصين الجهالة بما يحق علي، ولكن هؤلاء القوم الذين وصف لي رسولك
صفتهم لو يحاولون الجبال لهدوها، ولو جئت لنصرك أزالوني ما داموا على
ما وصف لي رسولك فسالمهم وارض منهم بالمسالمة.
فأقام كسرى وآل كسرى في بعض البلاد مقهورين.
ولم يزل ذلك دأبه حتى قتل بعد سنتين من إمارة عثمان كما سنورده في
موضعه.
ولما بعث الاحنف بكتاب الفتح وما أفاء الله عليهم من أموال الترك ومن
كان معهم، وأنهم قتلوا منهم مع ذلك مقتلة عظيمة، ثم ردهم الله بغيظهم
لم ينالوا خيرا.
فقام عمر على المنبر وقرئ الكتاب بين يديه، ثم قال عمر: إن الله بعث
محمدا بالهدى ووعد على اتباعه من عاجل الثواب وآجله خير الدنيا
والآخرة، فقال: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين
كله ولو كره المشركون فالحمد لله الذي أنجز وعده، ونصر جنده.
ألا وإن الله قد أهلك ملك المجوسية وفرق شملهم، فليسوا يملكون من
بلادهم شبرا يضير بمسلم، ألا وإن الله قد أورثكم أرضهم وديارهم
وأموالهم وأبناءهم لينظر كيف تعملون، فقوموا في أمره على وجل، يوف لكم
بعهده، ويؤتكم وعده، ولا تغيروا يستبدل قوما غيركم، فإني لا أخاف على
هذه الامة أن تؤتى إلا من قبلكم.
وقال شيخنا أبو عبد الله الذهبي الحافظ في تاريخ هذه السنة - أعني سنة
ثنتين وعشرين -: وفيها فتحت أذربيجان على يدي المغيرة بن شعبة.
قاله ابن إسحاق: فيقال، إنه صالحهم على ثمانمائة ألف درهم.
وقال أبو عبيدة: فتحها حبيب بن سلمة الفهري بأهل الشام عنوة، ومعه أهل
الكوفة فيهم حذيفة فافتتحها بعد قتال شديد والله أعلم.
وفيها افتتح حذيفة الدينور عنوة - بعدما كان سعد افتتحها فانتقضوا
عهدهم -.
وفيها افتتح حذيفة ماه سندان عنوة - وكانوا نقضوا أيضا عهد سعد - وكان
مع حذيفة أهل البصرة فلحقهم أهل الكوفة فاختصموا في الغنيمة، فكتب عمر:
إن
__________
(1) في الطبري: نصالح.
(*)
(7/145)
الغنيمة لمن شهد الوقعة.
قال: أبو عبيدة ثم غزا حذيفة همذان فافتتحها عنوة، ولم تكن فتحت قبل
ذلك، وإليها انتهى فتوح حذيفة.
قال: ويقال افتتحها جرير بن عبد الله بأمر المغيرة ويقال: افتتحها
المغيرة سنة أربع وعشرين.
وفيها افتتحت جرجان.
قال خليفة: وفيها افتتح عمرو بن العاص طرابلس المغرب، ويقال في السنة
التي بعدها.
قلت: وفي هذا كله غرابة لنسبته إلى ما سلف والله أعلم.
قال شيخنا: وفيها توفي أبي بن كعب
في قول الواقدي وابن نمير والذهلي والترمذي، وقد تقدم في سنة تسع عشرة.
ومعضد بن يزيد الشيباني استشهد بأذربيجان ولا صحبة له. |