البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
معاوية بن أبي سفيان وملكه
قد تقدم في الحديث أن الخلافة بعده عليه السلام ثلاثون سنة، ثم تكون
ملكا، وقد انقضت الثلاثون بخلافة الحسن بن علي، فأيام معاوية أول
الملك، فهو أول ملوك الاسلام وخيارهم.
قال الطبراني: حدثنا علي بن عبد العزيز، ثنا أحمد بن يونس، ثنا الفضيل
بن
__________
(1) مسكن: بفتح أوله واسكان ثانيه وكسر ثالثه، الموضع الذي التقى
الجمعان به، بينها وبين بغداد عشرة فراسخ كان في أراضيها مواطن معمورة
بالمزارع والسكان وقرى مشهورة كثيرة منها أوانا وعكبرا والعلث، وموقعها
اليوم لا يعدو هذه السهول الواقعة بين قرية سميكة وقرية بلد دون
سامراء.
(2) في الاخبار الطوال ص 220: سفيان بن ليلى، وفي فتوح ابن الاعثم: 4 /
166: سفيان بن الليل البهمي.
(*)
(8/21)
عياض.
عن ليث، عن عبد الرحمن بن سابط، عن أبي ثعلبة الخشني، عن معاذ بن جبل
وأبي عبيدة قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن هذا الامر
بدا رحمة ونبوة، ثم يكون رحمة وخلافة، ثم كائن ملكا عضوضا، ثم كائن
عتوا وجبرية وفسادا في الارض، يستحلون الحرير والفروج والخمور ويرزقون
على ذلك وينصرون حتى يلقوا الله عزوجل " (1) إسناده جيد.
وقد ذكرنا في دلائل النبوة الحديث الوارد من طريق إسماعيل بن إبراهيم
بن مهاجر وفيه ضعف عن عبد الملك بن عمير قال قال معاوية: والله ما
حملني على الخلافة إلا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لي: " يا
معاوية إن ملكت فأحسن ".
رواه البيهقي عن الحاكم عن الاصم عن العباس بن محمد عن محمد بن سابق،
عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن إسماعيل، ثم قال البيهقي: وله شواهد
من وجوه أخر، منها حديث عمرو بن يحيى بن سعيد بن العاص، عن جده سعيد أن
معاوية أخذ الاداوة فتبع رسول الله فنظر إليه فقال له: " يا معاوية إن
وليت أمرا فاتق الله واعدل " قال معاوية: فما زلت أظن أني مبتلى بعمل
لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) ومنها حديث راشد بن سعد عن
معاوية قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنك إن اتبعت عورات
الناس أفسدتهم " (3) قال أبو الدرداء: كلمة سمعها معاوية من رسول الله
صلى الله عليه وسلم فنفعه الله بها.
ثم روى البيهقي من طريق هشيم عن العوام بن حوشب، عن سليمان بن أبي
سليمان، عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "
الخلافة بالمدينة، والملك بالشام " غريب جدا، وروي من طريق أبي إدريس،
عن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بينا أنا نائم
رأيت الكتاب احتمل من تحت رأسي، فظننت أنه مذهوب به، فأتبعته بصري فعمد
به إلى الشام، وإن الايمان حين تقع الفتنة بالشام ".
وقد رواه سعيد بن
عبد العزيز، عن عطية بن قيس، عن يونس بن ميسرة عن عبد الله بن عمرو.
ورواه الوليد بن مسلم عن عفير بن معدان، عن سليمان (4) عن عامر بن أبي
أمامة.
وروى يعقوب بن سفيان، عن نصر بن محمد بن سليمان السلمي الحمصي، عن أبيه
عن عبد الله بن قيس، سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: " رأيت عمودا من نور خرج من تحت رأسي ساطعا حتى استقر
بالشام ".
وقال عبد الرزاق عن معمر عن الزهري، عن عبد الله بن صفوان قال قال رجل
يوم صفين: اللهم العن أهل الشام، فقال له علي: لا تسب أهل الشام فإن
بها الابدال فإن بها الابدال فإن بها الابدال.
وقد روى هذا الحديث من وجه آخر مرفوعا (5).
__________
(1) رواه البيهقي في الدلائل عن أبي داود الطيالسي عن جرير بن حازم عن
ليث.
6 / 340.
(2) أخرجه الامام أحمد في المسند 4 / 101.
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الادب ح 4888 ص 4 / 272.
(4) في الدلائل 6 / 448: سليم بن عامر.
(5) انظر دلائل البيهقي - باب ما جاء في إخباره بملك معاوية بن أبي
سفيان ج 6 / 446 - 447 قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: في مسند أحمد
جملة من الاحاديث الضعيفة مما يسوغ نقلها ولا يجب الاحتجاج بها وقد
شغلت (*)
(8/22)
فضل معاوية بن
أبي سفيان رضي الله عنه هو معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن
عبد شمس بن عبد مناف بن قصي أبو عبد الرحمن القرشي الاموي، خال
المؤمنين، وكاتب وحي رب العالمين، أسلم هو وأبوه وأمه هند بنت عتبة بن
ربيعة بن عبد شمس يوم الفتح.
وقد روي عن معاوية أنه قال: أسلمت يوم عمرة القضاء ولكني كتمت إسلامي
من أبي إلى يوم الفتح، وقد كان أبوه من سادات قريش في الجاهلية، وآلت
إليه رياسة قريش بعد يوم بدر، فكان هو أمير الحروب من ذلك الجانب، وكان
رئيسا مطاعا ذا مال جزيل، ولما أسلم قال: يا رسول الله مرني حتى أقاتل
الكفار كما كنت أقاتل المسلمين.
قال: " نعم، قال ومعاوية تجعله كاتبا بين يديك، قال: نعم " ثم سأل أن
يزوج
رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنته، وهي عزة بنت أبي سفيان واستعان
على ذلك بأختها أم حبيبة، فلم يقع ذلك، وبين رسول الله صلى الله عليه
وسلم أن ذلك لا يحل له.
وقد تكلمنا على هذا الحديث في غير موضع، وأفردنا له مصنفا على حدة ولله
الحمد والمنة.
والمقصود أن معاوية كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع
غيره من كتاب الوحي رضي الله عنهم.
ولما فتحت الشام ولاه عمر نيابة دمشق بعد أخيه يزيد بن أبي سفيان،
وأقره على ذلك عثمان بن عفان وزاده بلادا أخرى، وهو الذي بنى القبة
الخضراء بدمشق وسكنها أربعين سنة، قاله الحافظ ابن عساكر.
ولما ولي علي بن أبي طالب الخلافة أشار عليه كثير من أمرائه ممن باشر
قتل عثمان أن يعزل معاوية عن الشام ويولي عليها سهل بن حنيف فعزله فلم
ينتظم عزله والتف عليه جماعة من أهل الشام ومانع عليا عنها وقد قال: لا
أبايعه حتى يسلمني قتلة عثمان فإنه قتل مظلوما، وقد قال الله تعالى: *
(ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) * [ الاسراء: 33 ].
وروى الطبراني عن ابن عباس أنه قال: ما زلت موقنا أن معاوية يلي الملك
من هذه الآية.
أوردنا سنده ومتنه عند تفسير هذه الآية.
فلما امتنع معاوية من البيعة لعلي حتى يسلمه القتلة، كان من صفين ما
قدمنا ذكره، ثم آل الامر إلى التحكيم، فكان من أمر عمرو بن العاص وأبي
موسى ما أسلفناه من قوة جانب أهل الشام في الصعدة الظاهرة، واستفحل أمر
معاوية، ولم يزل أمر علي في اختلاف مع أصحابه حتى قتله ابن ملجم كما
تقدم، فعند ذلك بايع أهل العراق الحسن بن علي، وبايع أهل الشام لمعاوية
بن أبي سفيان.
ثم ركب الحسن في جنود العراق عن غير إرادة منه، وركب معاوية في أهل
الشام.
فلما تواجه الجيشان وتقابل الفريقان سعى الناس بينهما في الصلح فانتهى
الحال إلى أن خلع الحسن نفسه من الخلافة وسلم الملك إلى معاوية بن أبي
سفيان، وكان ذلك في ربيع الاول من هذه السنة - أعني سنة إحدى وأربعين -
ودخل معاوية إلى الكوفة فخطب الناس بها خطبة بليغة بعد ما بايعه الناس
- واستوثقت
__________
= مسألة الابدال كثيرا من العلماء وللتوسع انظر المقاصد الحسنة
للسخاوي.
والحاوي للفتاوى للسيوطي، واللالئ المصنوعة.
(*)
(8/23)
له الممالك
شرقا وغربا، وبعدا وقربا، وسمي هذا العام عام الجامعة لاجتماع الكلمة
فيه على أمير واحد بعد الفرقة، فولى معاوية قضاء الشام لفضالة بن عبيد
(1)، ثم بعده لابي إدريس الخولاني.
وكان على شرطته قيس بن حمزة، وكان كاتبه وصاحب أمره سرحون بن منصور
الرومي، ويقال إنه أول من اتخذ الحرس وأول من حزم الكتب وختمها، وكان
أول الاحداث في دولته رضي الله عنه.
خروج طائفة من الخوارج عليه وكان سبب ذلك أن معاوية لما دخل الكوفة
وخرج الحسن وأهله منها قاصدين إلى الحجاز، قالت فرقة من الخوارج - نحو
من خمسمائة -: جاء مالا يشك فيه فسيروا إلى معاوية فجاهدوه، فساروا حتى
قربوا من الكوفة وعليهم فروة بن نوفل، فبعث إليهم معاوية خيلا من أهل
الشام فطردوا الشاميين، فقال معاوية: لا أمان لكم عندي حتى تكفوا
بوائقكم، فخرجوا إلى الخوارج فقالت لهم الخوارج: ويلكم ما تبغون ؟ أليس
معاوية عدوكم وعدونا ؟ فدعونا حتى نقاتله فإن أصبناه كنا قد كفيناكموه،
وإن أصبنا كنتم قد كفيتمونا.
فقالوا: لا والله حتى نقاتلكم، فقالت الخوارج: يرحم الله إخواننا من
أهل النهروان كانوا أعلم بكم يا أهل الكوفة، فاقتتلوا فهزمهم أهل
الكوفة وطردوهم، ثم إن معاوية أراد أن يستخلف على الكوفة عبد الله بن
عمرو بن العاص فقال له المغيرة بن شعبة: توليه الكوفة وأباه مصر وتبقى
أنت بين لحيي (2) الاسد ؟ فثناه عن ذلك وولى عليها المغيرة بن شعبة،
فاجتمع عمرو بن العاص بمعاوية فقال: اتجعل المغيرة على الخراج ؟ هلا
وليت الخراج رجلا آخر ؟ فعزله عن الخراج وولاه على الصلاة، فقال
المغيرة لعمرو في ذلك، فقال له: ألست المشير على أمير المؤمنين في عبد
الله بن عمرو ؟ قال: بلى ! قال: فهذه بتلك.
وفي هذه السنة وثب حمران بن أبان على البصرة فأخذها وتغلب عليها، فبعث
معاوية جيشا ليقتلوه ومن معه (3)، فجاء أبو بكرة الثقفي إلى معاوية
فسأله في الصفح والعفو، فعفى عنهم وأطلقهم وولى على البصرة بسر بن أبي
أرطاة، فتسلط على أولاد رياد يريد قتلهم، وذلك أن معاوية كتب إلى أبيهم
ليحضر إليه فلبث، فكتب إليه بسر: لئن لم تسرع إلى أمير المؤمنين وإلا
قتلت بنيك (4)،
فبعث أبو بكرة إلى معاوية في ذلك.
وقد قال معاوية لابي بكرة: هل من عهد تعهده إلينا ؟ قال:
__________
(1) قال في الاستيعاب 3 / 197 هامش الاصابة: ولاه على قضاء دمشق يوم
خروجه إلى صفين.
(2) كذا بالاصل والطبري، وفي الكامل 3 / 412: نابي الاسد.
(3) في الطبري 6 / 96 والكامل 3 / 414: بعث بسر بن أبي أرطأة، وفي فتوح
ابن الاعثم 4 / 168: عمرو بن أبي أرطأة.
(4) وقد أخذ بسر الاكابر منهم: عبد الرحمن وعبيد الله وعباد.
وقال في مروج الذهب 3 / 7: أخذ ولديه عبيد الله وسالما.
(*)
(8/24)
نعم ! أعهد
إليك يا أمير المؤمنين أن تنظر لنفسك ورعيتك وتعمل صالحا فإنك قد تقلدت
عظيما، خلافة الله في خلقه، فاتق الله فإن لك غاية لا تعدوها، ومن
ورائك طالب حثيث وأوشك أن يبلغ المدى فيلحق الطالب، فتصير إلى من يسألك
عما كنت فيه، وهو أعلم به منك، وإنما هي محاسبة وتوقيف، فلا تؤثرن على
رضا الله شيئا.
ثم ولى معاوية في آخر هذه السنة البصرة لعبد الله بن عامر، وذلك أن
معاوية أراد أن يوليها لعتبة بن أبي سفيان فقال له ابن عامر: إن لي بها
أموالا وودائع، وإن لم تولينها هلكت، فولاه إياها وأجابه إلى سؤاله في
ذلك.
قال أبو معشر: وحج بالناس في هذه السنة عتبة بن أبي سفيان، وقال
الواقدي: إنما حج بهم عنبسة بن أبي سفيان فالله أعلم.
من أعيان من توفي هذا العام رفاعة بن رافع بن مالك بن العجلان شهد
العقبة وبدرا وما بعد ذلك.
ركانة بن عبد العزيز ابن هشام بن عبد المطلب القرشي، وهو الذي صارعه
النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه، وكان هذا من أشد الرجال، وكان غلب
رسول الله صلى الله عليه وسلم له من المعجزات كما قدمنا في دلائل
النبوة، أسلم عام الفتح، وقيل قبل ذلك بمكة فالله أعلم.
صفوان بن أمية ابن خلف بن وهب بن حذافة بن (1) وهب القرشي، أحد الرؤساء
تقدم أنه هرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، ثم جاء فأسلم
وحسن إسلامه، وكان الذي استأمن له عمير بن وهب الجمحي.
وكان صاحبه وصديقه في الجاهلية كما تقدم، وقدم به في وقت صلاة العصر
فاستأمن له فأمنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أشهر، واستعار
منه أدرعا وسلاحا ومالا.
وحضر صفوان حنينا مشركا، ثم أسلم ودخل الايمان قلبه، فكان من سادات
المسلمين كما كان من سادات الجاهلية.
قال الواقدي: ثم لم يزل مقيما بمكة حتى توفي بها في أول خلافة معاوية
(2).
عثمان بن طلحة ابن أبي طلحة بن عبد العزى بن عبد الدار العبدري الحجبي،
أسلم هو وخالد بن الوليد
__________
(1) في الاصابة 2 / 187: ابن جمح أبو وهب جمحي.
وكذلك في الاستيعاب 2 / 183 هامش الاصابة.
(2) في الاستيعاب: مات سنة اثنتين وأربعين وهو ما قاله ابن الاثير في
الكامل، 3 / 424، وقال في الاصابة: مات بمكة في آخر خلافة عثمان.
(*)
(8/25)
وعمرو بن العاص في أول سنة ثمان قبل الفتح.
وقد روى الواقدي حديثا طويلا عنه في صفة إسلامه، وهو الذي أخذ منه رسول
الله مفتاح الكعبة عام الفتح ثم رده إليه وهو يتلو قوله تعالى: * (إن
الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها) * [ النساء: 58 ] وقال له: "
خذها يا عثمان خالدة تالدة لا ينتزعها منكم إلا ظالم ".
وكان علي قد طلبها فمنعه من ذلك.
قال الواقدي: نزل المدينة حياة رسول الله، فلما مات نزل بمكة فلم يزل
بها حتى مات في أول خلافة معاوية.
عمرو بن الاسود السكوني كان من العباد الزهاد، وكانت له حلة بمائتي
درهم يلبسها إذا قام إلى صلاة الليل، وكان إذا خرج إلى المسجد وضع
يمينه على شماله مخافة الخيلاء، روى عن معاذ، وعبادة بن الصامت،
والعرباض بن سارية وغيرهم، وقال أحمد في الزهد: ثنا أبو اليمان ثنا ابن
بكر عن حكيم بن
عمير، وضمرة بن حبيب: قالا: قال عمر بن الخطاب: من سره أن ينظر إلى هدى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فلينظر إلى هدى عمرو بن الاسود.
عاتكة بنت زيد ابن عمرو بن نفيل بن عبد العزى، وهي أخت سعيد بن زيد أحد
العشرة، أسلمت وهاجرت وكانت من حسان النساء وعبادهن، تزوجها عبيد الله
بن أبي بكر فتتيم بها، فلما قتل في غزوة الطائف آلت أن لا تزوج بعده،
فبعث إليها عمر بن الخطاب - وهو ابن عمها - فتزوجها، فلما قتل عنها خلف
بعده عليها الزبير بن العوام، فقتل بوادي السباع، فبعث إليها علي بن
أبي طالب يخطبها فقالت: إني أخشى عليك أن تقتل، فأبت أن تتزوجه ولو
تزوجته لقتل عنها أيضا، فإنها لم تزل حتى ماتت في أول خلافة معاوية في
هذه السنة رحمها الله. |