البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
خلافة الحسن بن علي رضي الله عنه
قد ذكرنا أن عليا رضي الله عنه لما ضربه ابن ملجم قالوا له: استخلف يا
أمير المؤمنين فقال لا ولكن أدعكم كما ترككم رسول الله صلى الله عليه
وسلم - يعني بغير استخلاف - فإن يرد الله بكم خيرا يجمعكم
(8/15)
على خيركم كما
جمعكم على خيركم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما توفي وصلى
عليه ابنه الحسن - لانه أكبر بنيه رضي الله عنهم - ودفن كما ذكرنا بدار
الامارة على الصحيح من أقوال الناس، فلما فرغ من شأنه كان أول من تقدم
إلى الحسن بن علي رضي الله عنه قيس بن سعد بن عبادة فقال له.
ابسط يدك أبايعك على كتاب الله وسنة نبيه، فسكت الحسن فبايعه ثم بايعه
الناس بعده، وكان
ذلك يوم مات علي، وكان موته يوم ضرب على قول وهو يوم الجمعة السابع عشر
من رمضان سنة أربعين، وقيل إنما مات بعد الطعنة بيومين، وقيل مات في
العشر الاخير من رمضان، ومن يومئذ ولي الحسن بن علي، وكان قيس بن سعد
على إمرة أذربيجان، تحت يده أربعون ألف مقاتل، قد بايعوا عليا على
الموت، فلما مات علي ألح قيس بن سعد على الحسن في النفير لقتال أهل
الشام، فعزل قيسا عن إمرة أذربيجان، وولى عبيد الله بن عباس عليها، ولم
يكن في نية الحسن أن يقاتل أحدا، ولكن غلبوه على رأيه، فاجتمعوا
اجتماعا عظيما لم يسمع بمثله، فأمر الحسن بن علي قيس بن سعد بن عبادة
على المقدمة في اثني عشر ألفا (1) بين يديه، وسار هو بالجيوش في أثره
قاصدا بلاد الشام، ليقاتل معاوية وأهل الشام فلما اجتاز بالمدائن (2)
نزلها وقدم المقدمة بين يديه، فبينما هو في المدائن معسكرا بظاهرها، إذ
صرخ في الناس صارخ: ألا إن قيس بن سعد بن عبادة قد قتل، فثار الناس
فانتهبوا أمتعة بعضهم بعضا حتى انتهبوا سرادق الحسن، حتى نازعوه بساطا
كان جالسا عليه، وطعنه (3) بعضهم حين ركب طعنة أثبتوه وأشوته فكرههم
الحسن كراهية شديدة، وركب فدخل القصر الابيض من المدائن فنزله وهو
جريح، وكان عامله على المدائن سعد (4) بن مسعود الثقفي - أخو أبي عبيد
صاحب يوم الجسر - فلما استقر الجيش بالقصر قال المختار بن أبي عبيد
قبحه الله لعمه سعد (5) بن مسعود: هل لك في الشرف والغنى ؟ قال: ماذا ؟
قال: تأخذ الحسن بن علي فتقيده وتبعثه إلى معاوية، فقال له عمه: قبحكم
الله وقبح ما جئت به، أغدر بابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
ولما رأى الحسن بن علي تفرق جيشه عليه مقتهم وكتب عند ذلك إلى معاوية
بن أبي سفيان - وكان قد ركب في أهل الشام فنزل مسكن - يراوضه على الصلح
بينهما، فبعث إليه معاوية عبد الله بن عامر وعبد الرحمن بن سمرة، فقدما
عليه الكوفة فبذلا له ما
__________
(1) في فتوح ابن الاعثم 4 / 154: في ألف رجل.
(2) المدائن: كانت رأس الجسر صوب فارس والبلاد المتاخمة لها، وهي
بموقعها الجغرافي النقطة الوحيدة التي تحمي الخطوط الثلاث التي تصل كلا
من الكوفة والبصرة وفارس بالاخرى، وتقف بقيمتها العسكرية درءا في وجه
الاحداث التي تنذر بها ظروف الحرب، واتخذها الحسن مقرا لقيادته العليا
ليستقبل عندها نجدات الجيوش
من الاقطار القريبة منه.
(3) في فتوح ابن الاعثم 4 / 155: سنان بن جراح من بني أسد.
وفي الاخبار الطوال ص 217: الجراح بن قبيصة من بني أسد.
(4) كذا بالاصل والطبري 6 / 92 وجمهرة انساب العرب ص 257، وفي الاخبار
الطوال: سعيد.
(*)
(8/16)
أراد من
الاموال، فاشترط أن يأخذ من بيت مال الكوفة خمسة آلاف ألف درهم، وأن
يكون خراج دار أبجرد له، وأن لا يسب علي وهو يسمع، فإذا فعل ذلك نزل عن
الامرة لمعاوية، ويحقن الدماء بين المسلمين.
فاصطلحوا على ذلك واجتمعت الكلمة على معاوية على ما سيأتي بيانه
وتفصيله، وقد لام الحسين لاخيه الحسن على هذا الرأي فلم يقبل منه،
والصواب مع الحسن رضي الله عنه كما سنذكر دليله قريبا.
وبعث الحسن بن علي إلى أمير المقدمة قيس بن سعد أن يسمع ويطيع، فأبى
قيس بن سعد من قبول ذلك، وخرج عن طاعتهما جميعا، واعتزل بمن أطاعه ثم
راجع الامر فبايع معاوية بعد قريب كما سنذكره.
ثم المشهور أن مبايعة الحسن لمعاوية كانت في سنة أربعين، ولهذا يقال له
عام الجماعة، لاجتماع الكلمة فيه على معاوية، والمشهور عند ابن جرير
وغيره من علماء السير أن ذلك كان في أوائل سنة إحدى وأربعين كما سنذكره
إن شاء الله، وحج بالناس في هذه السنة - أعني سنة أربعين - المغيرة بن
شعبة، وزعم ابن جرير فيما رواه عن إسماعيل بن راشد أن المغيرة بن شعبة
افتعل كتابا على لسان معاوية ليلي إمرة الحج عامئذ، وبادر إلى ذلك عتبة
بن أبي سفيان، وكان معه كتاب من أخيه بأمرة الحج، فتعجل المغيرة فوقف
بالناس يوم الثامن ليسبق عتبة إلى الامرة.
وهذا الذي نقله ابن جرير لا يقبل، ولا يظن بالمغيرة رضي الله عنه ذلك،
وإنما نبهنا على ذلك ليعلم أنه باطل، فإن الصحابة أجل قدرا من هذا،
ولكن هذه نزعة شيعية.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة بويع لمعاوية بايلياء - يعني لما مات علي
- قام أهل الشام فبايعوا معاوية على إمرة المؤمنين لانه لم يبق له
عندهم منازع، فعند ذلك أقام أهل العراق الحسن بن علي رضي الله عنه
ليمانعوا به أهل الشام فلم يتم لهم ما أرادوه وما حاولوه، وإنما كان
خذلانهم من قبل تدبيرهم وآرائهم المختلفة المخالفة لامرائهم، ولو كانوا
يعلمون لعظموا ما أنعم الله به عليهم من مبايعتهم ابن بنت رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وسيد المسلمين، وأحد علماء الصحابة وحلمائهم وذوي
آرائهم.
والدليل على أنه أحد الخلفاء الراشدين الحديث الذي أوردناه في دلائل
النبوة من طريق سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: " الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا " (1)
وإنما كملت الثلاثون بخلافة الحسن بن علي، فإنه نزل عن الخلافة لمعاوية
في ربيع الاول من سنة إحدى وأربعين، وذلك كمال ثلاثين سنة من موت رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فإنه توفي في ربيع الاول سنة إحدى عشرة من
الهجرة، وهذا من دلائل النبوة صلوات الله وسلامه عليه وسلم تسليما.
وقد مدحه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صنيعه هذا وهو تركه الدنيا
الفانية، ورغبته في الآخرة الباقية، وحقنه دماء هذه الامة، فنزل عن
الخلافة وجعل الملك بيد معاوية حتى تجتمع الكلمة على أمير واحد.
وهذا المدح قد ذكرناه وسنورده في حديث أبي بكرة الثقفي أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم صعد المنبر يوما وجلس الحسن بن علي إلى جانبه، فجعل
ينظر إلى الناس مرة وإليه أخرى ثم قال:
__________
(1) رواه الامام أحمد في مسنده 5 / 220، ومن طريق أبي بكرة رواه أبو
داود في السنة 4 / 211 والترمذي في الفتن 4 / 503 والامام أحمد 4 /
273.
(*)
(8/17)
" أيها الناس
إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " (1)
رواه البخاري.
سنة إحدى وأربعين
قال ابن جرير: فيها سلم الحسن بن علي الامر لمعاوية بن أبي سفيان.
ثم روى عن الزهري أنه قال: لما بايع أهل العراق الحسن بن علي طفق يشترط
عليهم أنهم سامعون مطيعون مسالمون [ من سالمت ] محاربون [ من حاربت ]
فارتاب به أهل العراق وقالوا: ما هذا لكم بصاحب ؟ فما كان عن قريب حتى
طعنوه فأشووه فازداد لهم بغضا وازداد منهم ذعرا (2)، فعند ذلك عرف
تفرقهم واختلافهم عليه وكتب إلى معاوية يسالمه ويراسله في الصلح بينه
وبينه على ما يختاران.
وقال
البخاري في كتاب الصلح: حدثنا عبد الله بن محمد ثنا سفيان عن أبي موسى.
قال: سمعت الحسن يقول: " استقبل والله الحسن بن علي معاوية بن أبي
سفيان بكتائب أمثال الجبال فقال عمرو بن العاص: إني لارى كتائب لا تولي
حتى تقتل أقرانها، فقال معاوية - وكان والله خير الرجلين -: إن قتل
هؤلاء هؤلاء، وهؤلاء هؤلاء من لي بأمور الناس ؟ من لي بضعفتهم ؟ من لي
بنسائهم، فبعث إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس - عبد الرحمن بن
سمرة، وعبد الله بن عامر - قال: اذهبا إلى هذا الرجل فأعرضا عليه وقولا
له واطلبا إليه، فأتياه فدخلا عليه فتكلما وقالا له وطلبا إليه، فقال
لهما الحسن بن علي: إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال، وإن هذه
الامة قد عاثت في دمائها، قالا: فإنه يعرض عليك كذا وكذا، ويطلب إليك
ويسالمك.
قال: فمن لي بهذا ؟ قالا: نحن لك به، فما سألهما شيئا إلا قالا: نحن لك
به، فصالحه " (3)،
__________
(1) رواه الامام أحمد في مسنده 5 / 49.
والبخاري في كتاب الصلح.
باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: إن ابني هذا سيد...3 / 244 الطبعة
الاميرية.
وأعاده في علامات النبوة في كتاب المناقب.
ورواه المسعودي في مروج الذهب 2 / 478.
(2) ما بين معكوفتين من الطبري 6 / 93.
وقال غيره ان خطبته كانت بعد وصوله إلى المدائن فتوح ابن الاعثم 4 /
154.
والاخبار الطوال ص 216.
(3) صورة معاهدة الصلح التي وقعها الفريقان.
وقد أخذناها من مصادرها حرفيا: المادة الاولى: تسليم الامر إلى معاوية،
على أن يعمل بكتاب الله وسنة رسوله [ المدائني فيما رواه عنه ابن أبي
الحديد في شرح النهج ج 4 / 8 ] وبسيرة الخلفاء الصالحين [ فتح الباري
فيما رواه ابن عقيل في النصائح الكافية ص 156 ط 1 ].
المادة الثانية: أن يكون الامر للحسن من بعده [ تاريخ الخلفاء للسيوطي
ص 194 والاصابة 2 / 12 و 13 الامامة والسياسة ص 150 دائرة معارف وجدي 3
/ 443 ] وليس لمعاوية أن يعهد به إلى أحد [ المدائني فيما يرويه عنه
ابن أبي الحديد ج 4 / 8 والفصول المهمة لابن الصباغ وغيرهما ].
المادة الثالثة: أن يترك سب أمير المؤمنين والقنوت عليه بالصلاة وأن لا
يذكر عليا إلا بخير [ الاصفهاني مقاتل = (*)
(8/18)
قال الحسن:
ولقد سمعت أبا بكرة يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على
المنبر والحسن بن علي إلى جنبه وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى
ويقول: " إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من
المسلمين ".
قال البخاري: قال لي علي بن المديني: إنما ثبت عندنا سماع الحسن بن أبي
بكرة بهذا الحديث (1).
قلت: وقد روى هذا الحديث البخاري في كتاب الفتن عن علي بن عبد الله -
وهو ابن المديني - وفي فضائل الحسن عن صدقة بن الفضل ثلاثتهم عن سفيان.
ورواه أحمد عن سفيان - وهو ابن عيينة - عن إسرائيل بن موسى البصري به.
ورواه أيضا في دلائل النبوة عن عبد الله بن محمد - وهو ابن أبي شيبة -
ويحيى بن آدم كلاهما عن حسين بن علي الجعفي عن إسرائيل عن الحسن وهو
البصري به.
وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي من حديث حماد بن زيد عن علي بن زيد عن
الحسن البصري به.
ورواه أبو داود أيضا والترمذي من طريق أشعث عن الحسن به.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقد رواه النسائي من طريق عرف الاعرابي وغيره عن الحسن البصري مرسلا.
وقال أحمد: حدثنا عبد الرزاق أنا معمر أخبرني من سمع الحسن يحدث عن أبي
بكرة قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدثنا يوما والحسن بن علي
في حجره فيقبل على أصحابه فيحدثهم ثم يقبل عل الحسن فيقبله ثم قال: "
إن ابني هذا سيد إن يعش يصلح بين طائفتين من المسلمين " قال الحافظ ابن
عساكر: كذا رواه معمر ولم يسم الذي حدثه به عن الحسن، وقد رواه جماعة
عن الحسن منهم أبو موسى إسرائيل، ويونس بن عبيد، ومنصور بن زاذان، وعلي
بن زيد، وهشام بن حسان، وأشعث بن سوار، والمبارك بن فضالة، وعمرو بن
عبيد القدري.
ثم شرع ابن عساكر في تطريق هذه الروايات كلها فأفاد وأجاد قلت: والظاهر
أن معمرا رواه عن عمرو بن عبيد فلم يفصح باسمه.
وقد رواه محمد بن إسحاق بن يسار عنه وسماه، ورواه أحمد بن هاشم عن
مبارك بن فضالة عن الحسن بن أبي بكرة فذكر الحديث قال الحسن: فوالله
والله بعد أن يولى لم يهراق في خلافته ملء محجمة بدم، قال شيخنا أبو
الحجاج المزي في أطرافه: وقد رواه بعضهم عن الحسن عن أم سلمة.
وقد روي هذا الحديث من طريق
__________
= الطالبيين ص 26 شرح النهج ص 4 / 15 وقال آخرون أنه أجابه على أن لا
يشتم عليا وهو يسمع، وقال ابن الاثير: ثم لم يف به أيضا ].
المادة الرابعة: يسلم ما في بيت مال الكوفة خمسة آلاف ألف للحسن، وله
خراج دار ابجرد [ الطبري 6 / 92 الامامة والسياسة ص 200 وفي الاخبار
الطوال ص 218: أن يحمل لاخيه الحسين في كل عام ألفي ألف، ويفضل بني
هاشم في العطاء والصلات على بني عبد شمس ].
المادة الخامسة: أن لا يأخذ أحدا من أهل العراق بإجنة، وأن يؤمن الاسود
والاحمر ويحتمل ما يكون من هفواتهم [ الدينوري في الاخبار الطوال ص 218
] وعلى أن الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله في شامهم وعراقهم وتهامهم
وحجازهم [ فتوح ابن الاعثم 4 / 160 ].
(1) انظر حاشية 1 ص 18.
(*)
(8/19)
جابر بن عبد
الله الانصاري رضي الله عنه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
للحسن: " إن ابني هذا سيد يصلح الله به بين فئتين من المسلمين ".
وكذا رواه عبد الرحمن بن معمر عن الاعمش به.
وقال أبو يعلى: ثنا أبو بكر ثنا زيد بن الحباب، ثنا محمد بن صالح
التمار المدني، ثنا محمد بن مسلم بن أبي مريم، عن سعيد بن أبي سعيد
المدني قال: كنا مع أبي هريرة إذ جاء الحسن بن علي قد سلم علينا قال:
فتبعه [ فلحقه ] وقال: وعليك السلام يا سيدي، وقال سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: " إنه سيد " وقال أبو الحسن علي بن المديني: كان
تسليم الحسن الامر لمعاوية في الخامس من ربيع الاول سنة إحدى وأربعين،
وقال غيره: في ربيع الآخر.
ويقال في غرة جمادى الاولى فالله أعلم.
قال: وحينئذ دخل معاوية إلى الكوفة فخطب الناس بها بعد البيعة.
وذكر ابن جرير أن عمرو بن العاص أشار على معاوية أن يأمر الحسن بن علي
أن يخطب الناس ويعلمهم بنزوله عن الامر لمعاوية، فأمر معاوية الحسن
فقام في الناس خطيبا فقال في خطبته بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة
على رسوله صلى الله عليه وسلم: أما بعد أيها الناس ! فإن الله هداكم
بأولنا وحقن دماءكم بآخرنا، وإن لهذا الامر مدة، والدنيا دول، وإن الله
تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: * (وإن أدرى لعله فتنة لكم ومتاع
إلى حين) * (1)، فلما قالها غضب معاوية وأمره بالجلوس، وعتب على عمرو
بن العاص في إشارته بذلك، ولم يزل في نفسه لذلك والله أعلم.
فأما الحديث الذي قال أبو عيسى الترمذي في جامعه: حدثنا محمد بن غيلان،
ثنا أبو داود الطيالسي ثنا القاسم بن الفضل الحداني، عن يوسف بن سعد
قال: قام رجل إلى الحسن بن علي بعد ما بايع معاوية فقال: سودت وجوه
المؤمنين - أو يا مسود وجوه المؤمنين - فقال: لا تؤنبني رحمك الله، فإن
النبي صلى الله عليه وسلم رأي بني أمية على منبره فساءه ذلك فنزلت: *
(إنا أعطيناك الكوثر) * [ الكوثر: 1 ] يا محمد - يعني نهرا في الجنة -
ونزلت: * (إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة
القدر خير من ألف شهر) * [ القدر: 1 - 3 ] يملكها بعدك بنو أمية يا
محمد، قال الفضل (2): فعددنا فإذا هي ألف شهر لا تزيد يوما ولا تنقص
(3).
ثم قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث القاسم بن الفضل
وهو ثقة وثقه يحيى القطان وابن مهدي، قال: وشيخه يوسف بن سعد، ويقال
يوسف بن ماذن - رجل مجهول - قال: ولا يعرف هذا الحديث على هذا اللفظ
إلا من هذا الوجه، فإنه حديث غريب بل منكر جدا، وقد تكلمنا عليه في
كتاب التفسير بما فيه كفاية وبينا
__________
(1) سورة الانبياء الآية 111 وفي فتوح ابن الاعثم 4 / 163 باختلاف
يسير.
وانظر الخطبة في الطبري 6 / 93 الكامل 3 / 407 الامامة والسياسة ص 163.
(2) في الترمذي: قال القاسم.
(3) أخرجه الترمذي في التفسير - 86 باب ح 3350 ص 5 / 444 وروى جزءا منه
ابن الاثير في الكامل: 3 / 407.
قال الالوسي في تفسير روح المعاني 9 / 422: وقد سمعت ما يدل على أن
الالف إشارة إلى ملك بني أمية وكان على ما قال القاسم بن الفضل ألف شهر
لا يزيد يوم ولا ينقص يوم.
(*)
(8/20)
وجه نكارته، وناقشنا القاسم بن الفضل فيما ذكره، فمن أراد ذلك فليراجع
التفسير والله أعلم.
وقال الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي: ثنا إبراهيم بن مخلد بن جعفر،
ثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم الحكمي، ثنا عباس بن محمد، ثنا أسود بن
عامر، ثنا زهير بن معاوية، ثنا أبو روق
الهمداني، ثنا أبو العريف قال: كنا في مقدمة الحسن بن علي اثنا عشر
ألفا بمسكن (1)، مستميتين من الجد على قتال أهل الشام، وعلينا أبو
الغمر طه فلما جاءنا بصلح الحسن بن علي كأنما كسرت ظهورنا من الغيظ،
فلما قدم الحسن بن علي الكوفة قال له رجل منا يقال له أبو عامر سعيد بن
النتل (2): السلام عليك يا مذل المؤمنين فقال: لا تقل هذا يا عامر !
لست بمذل المؤمنين ولكني كرهت أن أقتلهم على الملك.
ولما تسلم معاوية البلاد ودخل الكوفة وخطب بها واجتمعت عليه الكلمة في
سائر الاقاليم والآفاق، ورجع إليه قيس بن سعد أحد دهاة العرب - وقد كان
عزم على الشقاق - وحصل على بيعة معاوية عامئذ الاجماع والاتفاق، ترحل
الحسن بن علي ومعه أخوه الحسين وبقية إخوتهم وابن عمهم عبد الله بن
جعفر من أرض العراق إلى أرض المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة
والسلام، وجعل كلما مر بحي من شيعتهم يبكتونه على ما صنع من نزوله عن
الامر لمعاوية، وهو في ذلك هو البار الراشد الممدوح، وليس يجد في صدره
حرجا ولا تلوما ولا ندما، بل هو راض بذلك مستبشر به، وإن كان قد ساء
هذا خلقا من ذويه وأهله وشيعتهم، ولا سيما بعد ذلك بمدد وهلم جرا إلى
يومنا هذا.
والحق في ذلك اتباع السنة ومدحه فيما حقن به دماء الامة، كما مدحه على
ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم في الحديث الصحيح ولله
الحمد والمنة.
وسيأتي فضائل الحسن عند ذكر وفاته رضي الله عنه وأرضاه، وجعل جنات
الفردوس متقلبه ومثواه، وقد فعل.
وقال محمد بن سعد: أنا أبو نعيم ثنا شريك عن عاصم عن أبي رزين.
قال: خطبنا الحسن بن علي يوم جمعة فقرأ سورة إبراهيم على المنبر حتى
ختمها.
وروى ابن عساكر عن الحسن أنه كان يقرأ كل ليلة سورة الكهف في لوح مكتوب
يدور معه حيث دار من بيوت أزواجه قبل أن ينام وهو في الفراش رضي الله
عنه. |