البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
سنة أربع وخمسين
ففيها كان شتى محمد بن مالك بأرض الروم، وغزا الصائفة معن بن يزيد
السلمي، وفيها عزل معاوية سعيد بن العاص عن إمرة المدينة ورد إليها
مروان بن الحكم، وكتب إليه أن يهدم دار سعيد بن العاص، ويصطفي أمواله
التي بأرض الحجاز، فجاء مروان إلى دار سعيد ليهدمها فقال سعيد: ما كنت
لتفعل ذلك، فقال: إن أمير المؤمنين كتب إلي بذلك، ولو كتب إليك في داري
لفعلته.
فقام سعيد فأخرج إليه كتاب معاوية إليه حين ولاه المدينة أن يهدم دار
مروان ويصطفي ماله، وذكر أنه لم يزل بحاجف دونه حتى صرف ذلك عنه، فلما
رأى مروان الكتاب إلى سعيد بذلك، ثناه ذلك عن سعيد، ولم يزل يدافع عنه
حتى تركه معاوية في داره وأقر عليه أمواله.
وفيها عزل معاوية سمرة بن جندب عن البصرة، وكان زياد استخلفه عليها
فأقره معاوية ستة أشهر،
(8/72)
وولى عليها عبد
الله بن عمرو بن غيلان.
وروى ابن جرير وغيره عن سمرة أنه قال لما عزله
معاوية: لعن الله معاوية لو أطعت الله كما أطعت معاوية ما عذبني أبدا.
وهذا لا يصح عنه.
وأقر عبد الله بن خالد بن أسيد على نيابة الكوفة، وكان زياد قد استخلفه
عليها فأبقاه معاوية.
وقدم في هذه السنة عبيد الله بن زياد على معاوية فأكرمه وسأله عن نواب
أبيه على البلاد فأخبره عنهم، ثم ولاه إمرة خراسان وهو ابن خمس وعشرين
سنة، فسار إلى مقاطعته وتجهز من فوره غاديا إليها، فقطع النهر إلى جبال
بخارا، ففتح (1) رامس ونصف بيكند - وهما من معامة بخارا - ولقي الترك
هناك فقاتلهم قتالا شديدا وهزمهم هزيمة فظيعة بحيث إن المسلمين أعجلوا
امرأة الملك أن تلبس خفيها، فلبست واحدة وتركت أخرى، فأخذها المسلمون
فقوموا جواهرها (2) بمائتي ألف درهم، وغنموا مع ذلك غنائم كثيرة، وأقام
عبيد الله بخراسان سنتين.
وفي هذه السنة حج بالناس مروان بن الحكم نائب المدينة.
وكان على الكوفة عبد الله بن خالد بن أسيد، وقيل: بل كان عليها الضحاك
بن قيس، وكان على البصرة عبد الله بن غيلان.
ذكر من توفي فيها من الاعيان أسامة
بن زيد بن حارثة الكلبي أبو محمد المدني مولى رسول الله صلى الله عليه
وسلم وابن مولاه، وحبه وابن حبه، وأمه بركة أم أيمن مولاة رسول الله
صلى الله عليه وسلم وحاضنته، ولاه رسول الله الامرة بعد مقتل أبيه فطعن
بعض الناس في إمرته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن تطعنوا
في إمارته فقد طعنتم في إمرة أبيه من قبله، وايم الله إن كان لخليقا
بالامارة، وإن كان لمن أحب الناس إلي بعده ".
وثبت في صحيح البخاري عنه: " أن رسول الله كان يجلس الحسن على فخذه
ويجلس أسامة على فخذه الاخرى ويقول: اللهم إني أحبهما فأحبهما ".
وفضائله كثيرة.
توفي رسول الله وعمره تسع عشرة سنة، وكان عمر إذا لقيه يقول: السلام
عليك أيها الامير.
وصحح أبو عمر بن عبد البر أنه توفي في هذه السنة، وقال غيره سنة ثمان
أو تسع وخمسين، وقيل توفي بعد مقتل عثمان.
فالله أعلم.
ثوبان بن مجدد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم تقدمت ترجمته في
مواليه ومن كان يخدمه عليه السلام، أصله من العرب
__________
(1) في الطبري 6 / 167: فتح راميثن ونصف بيكند، وفي الكامل 3 / 499 فتح
رامني ونسف وبيكند وهي من بخارى.
قال الاصطخري: ونسف فإنها مدينة ولها قهندز وربض ولها أبواب أربعة وهي
على مدرج بخارى وبلخ.
(معجم البلدان).
(2) في الطبري: فقوم الجورب، وفي الكامل: لبست أحد خفيها وبقي الآخر
فأخذه المسلمون فقوم بمائتي ألف درهم.
(*)
(8/73)
فأصابه سبي
فاشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه، فلزم رسول الله سفرا
وحضرا، فلما مات أقام بالرملة ثم انتقل إلى حمص فابتنى بها دارا ولم
يزل بها حتى مات في هذه السنة على الصحيح، وقيل سنة أربع وأربعين وهو
غلط، ويقال إنه توفي بمصر، والصحيح بحمص.
جبير بن مطعم تقدم أنه توفي سنة خمسين.
الحارث بن ربعي أبو قتادة الانصاري، وقال الواقدي: اسمه النعمان بن
ربعي، وقال غيره: عمرو بن ربعي وهو أبو قتادة الانصاري السلمي المدني
فارس الاسلام، شهد أحدا وما بعدها، وكان له يوم ذي قرد سعي مشكور كما
قدمنا هناك.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير فرساننا اليوم أبو قتادة،
وخير رجالتنا سلمة بن الاكوع ".
وزعم أبو أحمد الحاكم أنه شهد بدرا وليس بمعروف، وقال أبو سعيد الخدري:
أخبرني من هو خير مني أبو قتادة الانصاري أن رسول الله قال لعمار: "
تقتلك الفئة الباغية ".
قال الواقدي وغير واحد: توفي في هذه السنة - يعني سنة أربع وخمسين -
بالمدينة عن سبعين سنة، وزعم الهيثم بن عدي وغيره أنه توفي بالكوفة سنة
ثمان وثلاثين، وصلى عليه علي بن أبي طالب.
وهذا غريب.
حكيم بن حزام ابن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب القرشي
الاسدي أبو خالد المكي، أمه
فاختة بنت زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العزى، وعمته خديجة بن خويلد،
زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأم أولاده سوى إبراهيم.
ولدته أمه في جوف الكعبة قبل الفيل بثلاث عشرة سنة، وذلك أنها دخلت
تزور فضربها الطلق وهي في الكعبة فوضعته على نطع، وكان شديد المحبة
لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما كان بنو هاشم وبنو المطلب في
الشعب لا يبايعوا ولا يناكحوا، كان حكيم يقبل بالعير يقدم من الشام
فيشتريها بكمالها، ثم يذهب بها فيضرب أدبارها حتى يلج الشعب يحمل
الطعام والكسوة تكرمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعمته خديجة بنت
خويلد.
وهو الذي اشترى زيد بن حارثة فابتاعته منه عمته خديجة فوهبته لرسول
الله فأعتقه، وكان اشترى حلة ذي يزن فأهداها لرسول الله صلى الله عليه
وسلم فلبسها، قال: فما رأيت شيئا أحسن منه فيها.
ومع هذا ما أسلم إلا يوم الفتح هو وأولاده كلهم، قال البخاري وغيره:
عاش في الجاهلية ستين سنة، وفي الاسلام ستين سنة، وكان من سادات قريش
وكرمائهم وأعلمهم بالنسب، وكان كثير الصدقة والبر والعتاقة، فلما أسلم
سأل عن ذلك رسول الله فقال: " أسلمت على ما أسلمت من خير ".
وقد كان حكيم
(8/74)
شهد مع
المشركين بدرا وتقدم إلى الحوض فكاد حمزة أن يقتله، فما سحب إلا سحبا
بين يديه، فلهذا كان إذا اجتهد في اليمين يقول: لا والذي نجاني يوم
بدر.
ولما ركب رسول الله إلى فتح مكة ومعه الجنود بمر الظهران خرج حكيم وأبو
سفيان يتجسسان الاخبار، فلقيهما العباس، فأخذ أبا سفيان فأجاره وأخذ له
أمانا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسلم أبو سفيان ليلتئذ كرها،
ومن صبيحة ذلك اليوم أسلم حكيم وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
حنينا، وأعطاه مائة من الابل ثم سأله فأعطاه، ثم قال: " يا حكيم إن هذه
المال حلوة خضرة، وإنه من أخذه بسخاوة بورك له فيه، ومن أخذه باسراف
نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع ".
فقال حكيم: والذي بعثك بالحق لا أرزأ بعدك أبدا، فلم يرزأ أحد بعده،
وكان أبو بكر يعرض عليه العطاء فيأبى، وكان عمر يعرض عليه العطاء فيأبى
فيشهد عليه المسلمين، ومع هذا كان من أغنى الناس، مات الزبير يوم مات
ولحكيم عليه مائة ألف، وقد كان بيده حين أسلم الرفادة ودار الندوة
فباعها بعد من معاوية
بمائة ألف، وفي رواية بأربعين ألف دينار، فقال له ابن الزبير: بعت
مكرمة قريش ؟ فقال له حكيم: ابن أخي ذهبت المكارم فلا كرم إلا التقوى،
يا بن أخي إني اشتريتها في الجاهلية بزق خمر، ولاشترين بها دارا في
الجنة، أشهدك أني قد جعلتها في سبيل الله، وهذه الدار كانت لقريش
بمنزلة دار العدل، وكان لا يدخلها أحد إلا وقد صار سنة أربعين سنة، إلا
حكيم بن حزام فإنه دخلها وهو ابن خمس عشرة سنة، ذكره الزبير بن بكار،
وذكر الزبير أن حكيما حج عاما فأهدى مائة بدنة مجللة، وألف شاة، وأوقف
معه بعرفات مائة وصيف في أعناقهم أطوقة الفضة، وقد نقش فيها: هؤلاء
عتقاء الله عن حكيم بن حزام، فأعتقهم وأهدى جميع تلك الانعام رضي الله
عنه.
توفي حكيم في هذه السنة على الصحيح، وقيل غير ذلك وله مائة وعشرون سنة.
حويطب بن عبد العزى العامري صحابي جليل، أسلم عام الفتح، وكان قد عمر
دهرا طويلا، ولهذا جعله عمر في النفر الذين جددوا أنصاب الحرم، وقد شهد
بدرا مع المشركين، ورأى الملائكة يومئذ بين السماء والارض، وشهد
الحديبية وسعى في الصلح، فلما كان عمرة القضاء كان هو وسهيل هما اللذان
امرا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج من مكة، فأمر بلالا أن لا
تغرب الشمس وبمكة أحد من أصحابه، قال: وفي كل هذه المواطن أهم بالاسلام
ويأبى الله إلا ما يريد، فلما كان زمن الفتح خفت خوفا شديدا وهربت
فلحقني أبو ذر - وكان لي خليلا في الجاهلية -.
فقال: يا حويطب مالك ؟ فقلت: خائف، فقال: لا تخف فإنه أبر الناس: وأوصل
الناس، وأنا لك جار فاقدم معي، فرجعت معه فوقف بي على رسول الله وهو
بالبطحاء ومعه أبو بكر وعمر، وقد علمني أبو ذر أن أقول: السلام عليك
أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فلما قلت ذلك قال: " حويطب " ؟ قلت:
نعم ! شهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال: " الحمد لله الذي
هداك " وسر بذلك
(8/75)
واستقرضني مالا
فأقرضته أربعين ألفا، وشهدت معه حنينا والطائف، وأعطاني من غنائم حنين
مائة بعير.
ثم قدم حويطب بعد ذلك المدينة فنزلها وله بها دار، ولما ولى عليها
مروان بن الحكم
جاءه حويطب وحكيم بن حزام، ومخرمة بن نوفل، فسلموا عليه وجعلوا يتحدثون
عنده ثم تفرقوا، ثم اجتمع حويطب بمروان يوما آخر فسأله مروان عن عمره
فأخبره، فقال له: تأخر إسلامك أيها الشيخ حتى سبقك الاحداث.
فقال حويطب: الله المستعان، والله لقد هممت بالاسلام غير مرة كل ذلك
يعوقني أبوك يقول تضع شرفك وتدع دين آبائك لدين محدث ؟ وتصير تابعا ؟
قال: فاسكت مروان وندم على ما كان قال له، ثم قال حويطب: أما كان أخبرك
عثمان ما كان لقي من أبيك حين أسلم ؟ قال: فازداد مروان غما.
وكان حويطب ممن شهد دفن عثمان، واشترى منه معاوية داره بمكة بأربعين
ألف دينار فاستكثرها الناس، فقال: وما هي في رجل له خمسة من العيال ؟
قال الشافعي: كان حويطب جيد الاسلام، وكان أكثر قريش ريعا جاهليا.
وقال الواقدي: عاش حويطب في الجاهلية ستين سنة، وفي الاسلام ستين سنة،
ومات حويطب في هذه السنة بالمدينة وله مائة وعشرون سنة.
وقال غيره: توفي بالشام.
له حديث واحد رواه البخاري ومسلم والنسائي من حديث السائب بن يزيد عنه
عن عبد الله بن السعدي عن عمر في العمالة، وهو من عزيز الحديث لانه
اجتمع فيه أربعة من الصحابة رضي الله عنهم.
معبد (1) بن يربوع بن عنكثة ابن عامر بن مخزوم، أسلم عام الفتح، وشهد
حنينا، وأعطاه رسول الله خمسين من الابل، وكان اسمه صرما، وفي رواية
أصرم، فسماه معبدا، وكان في جملة النفر الذين أمرهم عمر بتجديد أنصاب
الحرم، وقد أصيب بصره بعد ذلك فأتاه عمر يعزيه فيه، رواه البخاري.
قال الواقدي وخليفة وغير واحد: مات في هذه السنة بالمدينة، وقيل بمكة
وهو ابن مائة وعشرين سنة، وقيل أكثر من ذلك.
مرة بن شراحيل الهمذاني يقال له مرة الطيب، ومرة الخير، روى عن أبي بكر
وعمر وعلي وابن مسعود وغيرهم، كان يصلي كل يوم وليلة ألف ركعة، فلما
كبر صلى أربعمائة ركعة، ويقال إنه سجد حتى أكل التراب جبهته، فلما مات
رئي في المنام - وقد صار ذلك المكان نورا - فقيل له: أين منزلك ؟ فقال:
بدار
لا يظعن أهلها ولا يموتون.
النعيمان بن عمرو ابن رفاعة بن الحر، شهد بدرا وما بعدها، ويقال إنه
الذي كان يؤتى به في الشراب، فقال
__________
(1) في الاصابة والاستيعاب 2 / 51: سعيد.
(*)
(8/76)
رجل: لعنه الله
ما أكثر ما يؤتى به ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تلعنه
فإنه يحب الله ورسوله ".
سودة بن زمعة القرشية العامرية أم المؤمنين، تزوجها رسول الله بعد
خديجة، وكانت قبله عند السكران بن عمر وأخي سهيل بن عمرو، فلما كبرت هم
رسول الله بطلاقها، ويقال إنه طلقها، فسألته أن يبقيها في نسائه وتهب
يومها لعائشة، فقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنزل الله: *
(وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا) * الآية [ النساء: 128 ]،
وكانت ذات عبادة وورع وزهادة، قالت عائشة: ما من امرأة أحب إلي أن أكون
في مسلاخها غير أن فيها حدة تسرع منها الفيئة.
ذكر ابن الجوزي وفاتها في هذه السنة، وقال ابن أبي خيثمة: توفيت في آخر
خلافة عمر بن الخطاب.
فالله أعلم.
ثم دخلت سنة خمس وخمسين فيها عزل معاوية
عبد الله بن غيلان عن البصرة وولى عليها عبيد الله بن زياد (1)،
وكان سبب عزل معاوية بن غيلان عن البصرة أنه كان يخطب الناس فحصبه رجل
من بني ضبة فأمر بقطع يده، فجاء قومه إليه فقالوا له: إنه متى بلغ أمير
المؤمنين أنك قطعت يده في هذا الصنع فعل به وبقومه نظير ما فعل بحجر بن
عدي، فاكتب لنا كتابا أنك قطعت يده في شبهة، فكتب لهم فتركوه عندهم
حينا ثم جاؤوا معاوية فقالوا له: إن نائبك قطع يد صاحبنا في شبهة
فأقدنا منه، قال: لا سبيل إلى القود من نوابي ولكن الدية، فأعطاهم
الدية وعزل ابن غيلان، وقال لهم: اختاروا من تريدون، فذكروا رجالا
فقال: لا ! ولكن أولي عليكم ابن أخي عبيد الله بن زياد،
فولاه فاستخلف ابن زياد على خراسان أسلم بن زرعة (2)، فلم يغز ولم يفتح
شيئا، وولى قضاء البصرة لزرارة بن أوفى ثم عزله وولى ابن أذينة، وولى
شرطتها عبد الله بن الحصين.
وحج بالناس في السنة مروان بن الحكم نائب المدينة.
وفيها عزل معاوية عبد الله بن خالد بن أسيد عن الكوفة وولى عليها
الضحاك بن قيس رضي الله عنه.
ذكر من توفي من الاعيان في هذه السنة
أرقم بن أبي الارقم عبد مناف بن أسد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، أسلم
قديما، يقال سابع سبعة، وكانت
__________
(1) قال في فتوح ابن الاعثم 4 / 204: ولى عبد الله بن خالد بن أسيد بن
أبي العاص بن أمية على البصرة وبعده ولى عبيد الله البصرة، وقد تقدم أن
عبد الله بن خالد بن أسيد كان على الكوفة.
(2) في فتوح ابن الاعثم 4 / 205: واستخلف عليها رجلا يقال له خويلد بن
طريف بن قرة الحنفي.
(*)
(8/77)
داره كهفا
للمسلمين يأوي إليها رسول الله ومن أسلم من قريش، وكانت عند الصفا وقد
صارت فيما بعد ذلك للمهدي فوهبها لامرأته الخيزران أم موسى الهادي
وهارون الرشيد، فبنتها وجددتها فعرفت بها، ثم صارت لغيرها (1)، وقد شهد
الارقم بدرا وما بعدها من المشاهد، ومات بالمدينة في هذه السنة، وصلى
عليه سعد بن أبي وقاص أوصى به رضي الله عنهما، وله بضع وثمانون سنة.
سحبان بن زفر بن إياس ابن عبد شمس بن الاجب الباهلي الوائلي، الذي يضرب
بفصاحته المثل، فيقال: أفصح من سحبان وائل، ووائل هو ابن معد بن مالك
بن أعصر بن سعد بن قيس بن غيلان بن مضر بن نزار، وباهلة امرأة مالك بن
أعصر، ينسب إليها ولدها، وهي باهلة بنت صعب بن سعد العشيرة.
قال ابن عساكر: سحبان المعروف بسحبان وائل، بلغني أنه وفد إلى معاوية
فتكلم فقال معاوية: أنت الشيخ ؟ فقال: إي والله وغير ذلك، ولم يزد ابن
عساكر على هذا، وقد نسبه ابن
الجوزي في كتابه المنتظم كما ذكرنا، ثم قال: وكان بليغا يضرب المثل
بفصاحته، دخل يوما على معاوية وعنده خطباء القبائل، فلما رأوه خرجوا
لعلمهم بقصورهم عنه، فقال سحبان: لقد علم الحي اليمانون أنني * إذا قلت
أما بعد أني خطيبها فقال له معاوية: اخطب ! فقال: أنظروا لي عصى تقيم
من أودي، فقالوا: وماذا تصنع بها وأنت بحضرة أمير المؤمنين ؟ فقال: ما
كان يصنع بها موسى وهو يخاطب ربه، فأخذها وتكلم من الظهر إلى أن قاربت
العصر، ما تنحنح ولا سعل ولا توقف ولا ابتدأ في معنى فخرج عنه وقد بقيت
عليه بقية فيه، فقال معاوية: الصلاة ! فقال: الصلاة أمامك، ألسنا في
تحميد وتمجيد وعظة وتنبيه، وتذكير ووعد ووعيد ؟ فقال معاوية: أنت أخطب
العرب، قال: العرب وحدها ؟ بل أخطب الجن والانس.
قال: كذلك أنت.
سعد بن أبي وقاص واسمه مالك بن أهيب (2) بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب،
أبو إسحاق القرشي الزهري، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة
أصحاب الشورى الذي توفي رسول الله وهو عنهم راض، أسلم قديما، قالوا:
وكان يوم أسلم عمره سبع عشرة سنة.
وثبت عنه في الصحيح أنه قال: ما أسلم أحد في اليوم الذي أسلمت فيه،
ولقد مكثت سبعة أيام وإني لثلث الاسلام سابع سبعة، وهو الذي كوف الكوفة
ونفى عنها الاعاجم، وكان مجاب الدعوة، وهاجر وشهد بدرا وما بعدها، وهو
أول من رمى بسهم في سبيل الله، وكان فارسا شجاعا من أمراء رسول الله
صلى الله عليه وسلم،
__________
(1) قال ابن سعد: صارت لجعفر بن موسى ثم سكنها أصحاب الشطوي والعدني ثم
اشترى عامتها أو أكثرها غسان بن عباد من ولد موسى بن جعفر (3 / 244).
(2) في ابن سعد 3 / 137: وهيب.
(*)
(8/78)
وكان في أيام
الصديق معظما جليل المقدار، وكذلك في أيام عمر، وقد استنابه على
الكوفة، وهو الذي فتح المدائن، وكانت بين يديه وقعة جلولاء.
وكان سيدا مطاعا، وعزله عن الكوفة عن غير
عجز ولا خيانة، ولكن لمصلحة ظهرت لعمر في ذلك.
وقد ذكره في الستة أصحاب الشورى، ثم ولاه عثمان بعدها ثم عزله عنها.
وقال الحميدي عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال: شهد سعد بن أبي
وقاص وابن عمر دومة الجندل يوم الحكمين (1).
وثبت في صحيح مسلم أنه ابنه عمر جاء إليه وهو معتزل في إبله فقال:
الناس يتنازعون الامارة وأنت هاهنا ؟ فقال: يا بني إني سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله يحب العبد الغني الخفي التقي ".
قال ابن عساكر: ذكر بعض أهل العلم أن ابن أخيه هاشم بن عتبة بن أبي
وقاص جاءه فقال له: يا عم ها هنا مائة ألف سيف يرونك أحق الناس بهذا
الامر، فقال: أريد من مائة ألف سيفا واحدا إذا ضربت به المؤمن لم يصنع
شيئا، وإذا ضربت به الكافر قطع.
وقال عبد الرزاق عن ابن جريج: حدثني زكريا بن عمر وأن سعد بن أبي وقاص
وفد على معاوية فأقام عنده شهر رمضان يقصر الصلاة ويفطر، وقال غيره:
فبايعه وما سأله سعد شيئا إلا أعطاه إياه.
قال أبو يعلى: حدثنا زهير ثنا إسماعيل بن علية، عن إسماعيل بن أبي
خالد، عن قيس بن أبي حازم.
قال: قال سعد: إني لاول رجل رمى بسهم في المشركين، وما جمع رسول الله
أبويه لاحد قبلي، ولقد سمعته يقول: " ارم فداك أبي وأمي ".
وقال أحمد: حدثنا يزيد بن هارون ثنا إسماعيل عن قيس سمعت سعد بن مالك
يقول: والله إني لاول العرب رمى بسهم في سبيل الله، ولقد كنا نغزو مع
رسول الله وما لنا طعام نأكله إلا ورق الحبلة وهذا السمر، حتى أن أحدنا
ليضع كما تضع الشاة ماله خلط، ثم أصبحت بنو أسد تعزرني على الدين، لقد
خبت إذا وضل عملي.
وقد رواه شعبة ووكيع غير واحد عن إسماعيل بن أبي خالد به.
وقال أحمد: حدثنا ابن سعيد عن يحيى بن سعيد الانصاري، عن سعيد بن
المسيب عن سعد.
قال: " جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه يوم أحد ".
ورواه أحمد أيضا عن غندر، عن شعبة، عن يحيى بن سعيد الانصاري.
وقد رواه الليث وغير واحد عن يحيى الانصاري.
ورواه غير واحد عن سعيد بن المسيب عن سعد.
ورواه الناس من حديث عامر بن سعد عن أبيه.
وفي بعض الروايات " فداك أبي وأمي " وفي رواية: " فقال أرم وأنت الغلام
الحزور " قال سعيد: وكان سعد جيد الرمي.
وقال الاعمش عن أبي خالد عن جابر بن
سمرة.
قال: أول الناس رمى بسهم في سبيل الله سعد رضي الله عنه.
وقال أحمد: حدثنا وكيع ثنا سفيان، عن سعد بن إبراهيم، عن عبد الله بن
شداد سمعت عليا يقول: " ما سمعت رسول الله يفدي أحدا بأبويه إلا سعد بن
مالك، وإني سمعته يقول له يوم أحد: ارم سعد فداك أمي وأبي ".
ورواه البخاري عن أبي نعيم عن مسعر عن سعد بن إبراهيم به.
ورواه شعبة عن
__________
(1) تقدم التعليق، انظر اجتماع الحكمين أبي موسى وعمرو بن العاص في
الجزء السابع من هذا الكتاب.
(*)
(8/79)
سعد بن
إبراهيم، ورواه سفيان بن عيينة وغير واحد عن يحيى بن سعيد الانصاري عن
سعيد بن المسيب عن علي بن أبي طالب فذكره.
وقال عبد الرزاق: أنا معمر عن أيوب أنه سمع عائشة بنت سعد تقول: أنا
بنت المهاجر الذي فداه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالابوين.
وقال الواقدي: حدثني عبيدة بن نابل عن عائشة بنت سعد عن أبيها.
قال: " لقد رأيتني أرمي بالسهم يوم أحد فيرده علي رجل أبيض حسن الوجه
لا أعرفه، حتى كان بعد ذلك فظننت أنه ملك ".
وقال أحمد: حدثنا سليمان بن داود الهاشمي، ثنا إبراهيم، عن سعد، عن
أبيه عن سعد بن أبي وقاص.
قال: " لقد رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن يساره يوم
أحد رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه كأشد القتال، ما رأيتهما قبل
ولا بعد ".
ورواه الواقدي: حدثني إسحاق بن أبي عبد الله عن عبد العزيز - جد ابن
أبي عون - عن زياد مولى سعد عن سعد - قال: " رأيت رجلين يوم بدر
يقاتلان عن رسول الله أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره، وإني لاراه
ينظر إلى ذا مرة وإلى ذا مرة مسرورا بما ظفره الله عز وجل ".
وقال سفيان عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود عن أبيه.
قال اشتركت أنا وسعد وعمار يوم بدر فيما أصبنا من الغنيمة، فجاء سعد
بأسيرين ولم أجئ أنا وعمار بشئ.
وقال الاعمش عن إبراهيم بن علقمة عن ابن مسعود.
قال: لقد رأيت سعد بن أبي وقاص يوم بدر يقاتل قتال الفارس للراجل.
وقال مالك، عن يحيى بن سعيد: أنه سمع عبد الله بن عامر يقول قالت عائشة
بات رسول الله أرقا ذات ليلة ثم قال: " ليت رجلا صالحا يحرسني الليلة ؟
قلت: إذ سمعنا صوت السلاح، فقال: من هذا ؟ قال: أنا سعد بن
أبي وقاص، أنا أحرسك يا رسول الله، قالت: فنام رسول الله صلى الله عليه
وسلم حتى سمعت غطيطه ".
أخرجاه من حديث يحيى بن سعيد.
وفي رواية " فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نام " وقال أحمد:
حدثنا قتيبة، ثنا رشدين بن سعد، عن يحيى بن الحجاج بن شداد، عن أبي
صالح عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله قال: " أول من يدخل من
هذا الباب رجل من أهل الجنة، فدخل سعد بن أبي وقاص ".
وقال أبو يعلى: حدثنا محمد بن المثنى، ثنا عبد الله بن قيس الرقاشي
الخراز، بصري: ثنا أيوب عن نافع عن ابن عمر.
قال: كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " يدخل عليكم
من ذا الباب رجل من أهل الجنة، قال فليس منا أحد إلا وهو يتمنى أن يكون
من أهل بيته، فإذا سعد بن أبي وقاص قد طلع ".
وقال حرملة، عن ابن وهب أخبرني حيوة أخبرني عقيل عن ابن شهاب: حدثني من
لا أتهم عن أنس بن مالك.
قال: بينا نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " يطلع
الآن عليكم رجل من أهل الجنة، فاطلع سعد بن أبي وقاص، حتى إذا كان الغد
قال رسول الله مثل ذلك، قال فاطلع سعد بن أبي وقاص على ترتيبه الاول،
حتى إذا كان الغد قال رسول الله مثل ذلك، قال فطلع على ترتيبه، فلما
قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثار عبد الله بن عمرو بن العاص فقال:
إني غاضبت أبي فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاث ليال، فإن رأيت أن تؤويني
إليك حتى تنحل يميني فعلت، قال أنس: فزعم عبد الله بن
(8/80)
عمرو أنه بات
معه ليلة حتى إذا كان الفجر فلم يقم تلك الليلة شيئا، غير أنه كان إذا
انقلب على فراشه ذكر الله وكبره حتى يقوم مع الفجر، فإذا صلى المكتوبة
أسبغ الوضوء وأتمه ثم يصبح مفطرا، قال عبد الله بن عمرو: فرمقته ثلاث
ليال وأيامهن لا يزيد على ذلك، غير أني لا أسمعه يقول إلا خيرا، فلما
مضت الليالي الثلاث وكدت أحتقر عمله، قلت: إنه لم يكن بيني وبين أبي
غضبت ولا هجر، ولكني سمعت رسول الله قال ذلك ثلاث مرات في ثلاث مجالس:
" يطلع عليكم رجل من أهل الجنة " فاطلعت أنت أولئك المرات الثلاث،
فأردت أن آوي إليك حتى أنظر ما عملك فأقتدي بك لانال ما نلت، فلم أرك
تعمل كثير عمل، ما الذي بلغ بك ما قال
رسول الله ؟ فقال: ما هو إلا الذي رأيت.
قال: فلما رأيت ذلك انصرفت فدعا بي حين وليت، فقال: ما هو إلا ما رأيت
غير أني لا أجد في نفسي سوءا لاحد من المسلمين، ولا أنوي له شرا ولا
أقوله.
قال قلت: هذه التي بلغت بك وهي التي لا أطيق.
وهكذا رواه صالح المزي عن عمرو بن دينار - مولى الزبير - عن سالم عن
أبيه فذكر مثل رواية أنس بن مالك.
وثبت في صحيح مسلم من طريق سفيان الثوري عن المقدام بن شريح، عن أبيه،
عن سعد في قوله تعالى: * (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي
يريدون وجهه) * [ الانعام: 52 ] نزلت في ستة، أنا وابن مسعود منهم وفي
رواية أنزل الله في: * (وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم) * [
العنكبوت: 8 ] وذلك أنه لما أسلم امتنعت أمه من الطعام والشراب أياما،
فقال لها: تعلمين والله لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت
ديني هذا لشئ، إن شئت فكلي وإن شئت فلا تأكلي.
فنزلت هذه الآية.
وأما حديث الشهادة للعشرة بالجنة فثبت في الصحيح عن سعيد بن زيد.
وجاء من حديث سهيل عن أبيه عن أبي هريرة في قصة حراء ذكر سعد بن أبي
وقاص منهم.
وقال هشيم وغير واحد عن مجالد عن الشعبي عن جابر.
قال: كنا مع رسول الله فأقبل سعد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "
هذا خالي فليرني امرؤ خاله ".
رواه الترمذي.
وقال الطبراني: حدثنا الحسين بن إسحاق التستري، ثنا عبد الوهاب بن
الضحاك، ثنا إسماعيل بن عياش، عن صفوان بن عمرو، عن ماعز التميمي عن
جابر.
قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل سعد فقال: " هذا
خالي ".
وثبت في الصحيح من حديث مالك وغيره عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه "
أن رسول الله جاءه يعوده عام حجة الوداع من وجع اشتد به.
فقلت: يا رسول الله إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدق بثلثي مالي
؟ قال: لا ! قلت: فالشطر يا رسول الله ؟ قال: لا ! قلت: فالثلث ؟ قال:
الثلث والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة
يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها،
حتى اللقمة تضعها في فم امرأتك.
قلت: يا رسول الله أخلف بعد أصحابي ؟ فقال إنك لن تخلف فتعمل عملا
تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة، ولعلك أن تخلف حتى ينتفع
بك
أقوام ويضر بك آخرون.
ثم قال: اللهم أمض لاصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم، لكن
(8/81)
البائس سعد بن
خولة يرثي له رسول الله إن مات بمكة ".
ورواه أحمد عن يحيى بن سعيد، عن الجعد بن أوس، عن عائشة بنت سعد عن
أبيها فذكر نحوه، وفيه قال: " فوضع يده على جبهته فمسح وجهه وصدره
وبطنه وقال: اللهم اشف سعدا وأتم له هجرته ".
قال سعد: فما زلت يخيل إلي أني أجد على كبدي حتى الساعة.
وقال ابن وهب: حدثني موسى بن علي بن رباح عن أبيه أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم عاد سعدا فقال: " اللهم أذهب عنه الباس، إله الناس، ملك
الناس، أنت الشافي لا شافي له إلا أنت، بسم الله أرقيك من كل شئ يؤذيك،
من حسد وعين، أللهم أصح قلبه وجسمه، واكشف سقمه وأجب دعوته ".
وقال ابن وهب: أخبرني عمرو بن بكر بن الاشج قال: سألت عامر بن سعد عن
قول رسول الله لسعد: " وعسى أن تبقى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون ".
فقال: أمر سعد على العراق فقتل قوما على الردة فضرهم، واستتاب قوما
كانوا سجعوا سجع مسيلمة الكذاب فتابوا فانتفعوا به.
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو المغيرة ثنا معاذ بن رفاعة حدثني علي بن
زيد، عن القاسم أبي عبد الرحمن عن أبي أمامة.
قال: جلسنا إلى رسول الله فذكرنا ورققنا، فبكى سعد بن أبي قاص فأكثر
البكاء وقال: يا ليتني مت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا
سعد إن كنت للجنة خلقت فما طال عمرك أو حسن من عملك فهو خير لك ".
وقال موسى بن عقبة وغيره: عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عن سعد.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم سدد رميته وأجب دعوته ".
ورواه سيار بن بشير، عن قيس، عن أبي بكر الصديق.
قال: سمع رسول الله يقول لسعد: " اللهم سدد سهمه وأجب دعوته، وحببه إلى
عبادك ".
وروي من حديث ابن عباس، وفي رواية محمد بن عائد الدمشقي عن الهيثم بن
حميد، عن مطعم، عن المقدام وغيره أن سعدا قال: يا رسول الله ادع الله
أن يجيب دعوتي فقال: " إنه لا يستجيب الله دعوة عبد حتى يطيب مطعمه،
فقال: يا رسول الله ادع الله أن يطيب مطعمي فدعا له ".
قالوا: فكان سعيد يتورع من السنبلة
يجدها في زرعه فيردها من حيث أخذت.
وقد كان كذلك مجاب الدعوة لا يكاد يدعو بدعاء إلا استجيب له، فمن أشهر
ذلك ما روي في الصحيحين من طريق عبد الملك بن عمير، عن جابر بن سلمة:
أن أهل الكوفة شكوا سعدا إلى عمر في كل شئ حتى قالوا: لا يحسن يصلي،
فقال سعد: أما إني لا آلو أن أصلي بهم صلاة رسول الله، أطيل الاوليين
وأحذف الاخرتين، فقال: الظن بك يا أبا إسحاق، وكان قد بعث من يسأل عنه
بمحال الكوفة، فجعلوا لا يسألون أهل مسجد إلا أثنوا خيرا، حتى مروا
بمسجد لبني عبس فقام رجل منهم يقال له أبو سعدة أسامة بن قتادة فقال:
إن سعدا كان لا يسير في السرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في الرعية
القضية، فبلغ سعدا فقال: اللهم إن كان عبدك هذا قام مقام رياء وسمعة
فأطل عمره وأدم فقره، وأعم بصره وعرضه للفتن، قال: فأنا رأيته بعد ذلك
شيخا كبيرا قد سقطت حاجباه على عينيه يقف في الطريق فيغمز الجواري
فيقال له، فيقول: شيخ مفتون أصابته دعوة سعد.
وفي رواية غريبة أنه
(8/82)
أدرك فتنة
المختار بن أبي عبيد فقتل فيها.
وقال الطبراني: ثنا يوسف القاضي ثنا عمرو بن مرزوق ثنا شعبة عن سعد بن
إبراهيم، عن سعيد بن المسيب.
قال: خرجت جارية لسعد يقال لها زبراء، وعليها قميص جديد فكشفتها الريح
فشد عليها عمر بالدرة، وجاء سعد ليمنعه فتناوله عمر بالدرة فذهب سعد
يدعو على عمر، فناوله الدرة وقال: اقتص مني فعفى عن عمر.
وروي أيضا أنه كان بين سعد وابن مسعود كلام فهم سعد أن يدعو عليه فخاف
ابن مسعود وجعل يشتد في الهرب.
وقال سفيان بن عيينة: لما كان يوم القادسية كان سعد على الناس وقد
أصابته جراح فلم يشهد يوم الفتح، فقال رجل من بجيلة: ألم تر أن الله
أظهر دينه * وسعد بباب القادسية معصم فأبنا وقد أيمت نساء كثيرة *
ونسوة سعد ليس فيهن أيم فقال سعد: اللهم اكفنا يده ولسانه.
فجاءه سهم غرب فأصابه فخرس ويبست يداه جميعا.
وقد أسند زياد البكائي وسيف بن عمر عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن
جابر، عن
ابن عمر فذكر مثله، وفيه: ثم خرج سعد فأرى الناس ما به من القروح في
ظهره ليعتذر إليهم.
وقال هشيم عن أبي بلح عن مصعب بن سعد أن رجلا نال من علي فنهاه سعد فلم
ينته، فقال سعد: أدعو عليك، فلما ينته، فدعا الله عليه حتى جاء بعير
ناد فتخبطه.
وجاء من وجه آخر عن عامر بن سعد أن سعدا رأى جماعة عكوفا على رجل فأدخل
رأسه من بين اثنين فإذا هو يسب عليا وطلحة والزبير، فنهاه عن ذلك فلم
ينته، فقال: أدعو عليك، فقال الرجل: تتهددني كأنك نبي ؟ فانصرف سعد
فدخل دار آل فلان فتوضأ وصلى ركعتين ثم رفع يديه فقال: اللهم إن كنت
تعلم أن هذا الرجل قد سب أقواما قد سبق لهم منك سابقة الحسنى، وأنه قد
أسخطك سبه إياهم، فاجعله اليوم آية وعبرة.
قال: فخرجت بختية نادة من دار آل فلان لا يردها شئ حتى دخلت بين أضعاف
الناس، فافترق الناس فأخذته بين قوائمها، فلم يزل تتخبطه حتى مات.
قال: فلقد رأيت الناس يشتدون وراء سعد يقولون: استجاب الله دعاءك يا
أبا إسحاق.
ورواه حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب فذكر نحوه وقال
أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثني الحسن بن داود بن محمد بن المنكدر القرشي
ثنا عبد الرزاق عن أبيه عن مينا مولى عبد الرحمن بن عوف أن امرأة كانت
تطلع على سعد فنهاها فلم تنته، فاطلعت يوما وهو يتوضأ فقال: شاه وجهك،
فعاد وجهها في قفاها.
وقال كثير النوري: عن عبد الله بن بديل قال: دخل سعد على معاوية فقال
له: مالك لم تقاتل معنا ؟ فقال: إني مرت بي ريح مظلمة فقلت: اخ اخ.
فأنخت راحلتي حتى انجلت عني ثم عرفت الطريق فسرت، فقال معاوية: ليس في
كتاب الله: اخ اخ.
ولكن قال الله تعالى: * (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا
بينهما فان بغت إحداهما على الاخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر
الله) * [ الحجرات: 9 ] فوالله ما كنت مع الباغية على العادلة، ولا مع
العادلة على الباغية.
فقال سعد: ما كنت لاقاتل رجلا قال له
(8/83)
رسول الله صلى
الله عليه وسلم: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي
".
فقال معاوية: من سمع هذا معك ؟ فقال: فلان وفلان وأم سلمة.
فقال معاوية: أما إني لو سمعته منه صلى الله عليه وسلم لما
قاتلت عليا.
وفي رواية من وجه آخر أن هذا الكلام كان بينهما وهما بالمدينة في حجة
حجها معاوية، وأنهما قاما إلى أم سلمة فسألاها فحدثتهما بما حدث به
سعد، فقال معاوية: لو سمعت هذا قبل هذا اليوم لكنت خادما لعلي حتى يموت
أو أموت.
وفي إسناد هذا ضعف والله أعلم.
وقد روي عن سعد أنه سمع رجلا يتكلم في علي وفي خالد فقال: إنه لم يبلغ
ما بيننا إلى ديننا.
وقال محمد بن سيرين: طاف سعد على تسع جوار في ليلة فلما انتهى إلى
العاشرة أخذه النوم فاستحيت أن توقظه.
ومن كلامه الحسن أنه قال لابنه مصعب: يا بني إذا طلبت شيئا فاطلبه
بالقناعة، فإنه من لا قناعة له لم يغنه المال.
وقال حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن مصعب بن سعد.
قال: كان رأس أبي في حجري وهو يقضي فبكيت، فقال: ما يبكيك يا بني ؟
والله إن الله لا يعذبني أبدا، وإني من أهل الجنة.
إن الله يدين للمؤمنين بحسناتهم فاعملوا لله، وأما الكفار فيخفف عنهم
بحسناتهم، فإذا نفدت قال: ليطلب كل عامل ثواب عمله ممن عمل له.
وقال الزهري: لما حضرت سعدا الوفاة دعا بخلق جبة فقال: كفنوني في هذه
فإني لقيت فيها المشركين يوم بدر، وإنما خبأتها لهذا اليوم.
وكانت وفاة سعد بالعقيق خارج المدينة، فحمل إلى المدينة على أعناق
الرجال فصلى عليه مروان، وصلى بصلاته أمهات المؤمنين الباقيات
الصالحات، ودفن بالبقيع، وكان ذلك في هذه السنة - سنة خمس وخمسين - على
المشهور الذي عليه الاكثرون، وقد جاوز الثمانين على الصحيح.
قال علي بن المديني: وهو آخر العشرة وفاة.
وقال غيره: كان آخر المهاجرين وفاة، رضي الله عنه وعنهم أجمعين.
وقال الهيثم بن عدي: سنة خمسين، وقال أبو معشر وأبو نعيم مغيث بن
المحرر: توفي سعد سنة ثمان وخمسين، زاد مغيث:
وفيها توفي الحسن بن علي وعائشة وأم
سلمة، والصحيح الاول - خمس وخمسين - قالوا وكان قصيرا غليظا شثن الكفين
أفطس أشعر الجسد، يخضب بالسواد، وكان ميراثه مائتي ألف وخمسين ألفا.
فضالة بن عبيد الانصاري الاوسي
أول مشاهده أحد، وشهد بيعة الرضوان، ودخل الشام، وتولى القضاء بدمشق في
أيام معاوية بعد أبي الدرداء.
قال أبو عبيد: مات سنة ثلاث وخمسين.
وقال غيره: سنة سبع وستين، وقال ابن الجوزي في المنتظم: توفي في هذه
السنة والله أعلم.
(8/84)
قثم بن العباس
بن عبد المطلب كان أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، تولى
نيابة المدينة في أيام علي، وشهد فتح سمرقند فاستشهد بها.
كعب بن عمرو أبو اليسر الانصاري السلمي، شهد العقبة وبدرا، وأسر يومئذ
العباس بن عبد المطلب، وشهد ما بعد ذلك من المشاهد كلها مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
قال أبو حاتم وغيره: مات سنة خمس وخمسين، زاد غيره: وهو آخر من مات من
أهل بدر.
ثم دخلت سنة ست وخمسين
وذلك في أيام معاوية، ففيها شتى جنادة بن أبي أمية بأرض الروم، وقيل
عبد الرحمن بن مسعود، ويقال فيها غزا في البحر يزيد بن سمرة (1)، وفي
البر عياض بن الحارث.
وفيها اعتمر معاوية في رجب، وحج بالناس فيها الوليد بن عتبة بن أبي
سفيان، وفيها ولى معاوية سعيد بن عثمان بلاد خراسان (2)، وعزل عنها
عبيد الله بن زياد، فسار سعيد إلى خراسان والتقى مع الترك عند صغد
سمرقند، فقتل منهم خلقا كثيرا، واستشهد معه جماعة منهم فيما قيل قثم بن
العباس بن عبد المطلب.
قال ابن جرير: سأل سعيد بن عثمان بن عفان معاوية أن يوليه خراسان فقال:
إن بها عبيد الله بن زياد، فقال: أما لقد اصطنعك أبي ورقاك حتى بلغت
باصطناعه المدى الذي لا يجارى إليه ولا يسامى، فما شكرت بلاءه ولا
جازيته بآلائه، وقدمت علي هذا - يعني يزيد بن معاوية - وبايعت له،
ووالله لانا خير منه أبا وأما ونفسا.
فقال له معاوية: أما بلاء أبيك عندي فقد يحق علي الجزاء به، وقد كان من
شكري لذلك أني طلبت بدمه حتى تكشفت الامور، ولست
بلائم لنفسي في التشمير، وأما فضل أبيك على أبيه، فأبوك والله خير مني
وأقرب برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما فضل أمك على أمه فما لا
ينكر، فإن امرأة من قريش خير من امرأة من كلب (3)، وأما فضلك عليه
فوالله ما أحب أن الغوطة دحست ليزيد رجالا مثلك (4) - يعني أن الغوطة
لو ملئت رجالا مثل سعيد بن عثمان كان يزيد خيرا وأحب إلي منهم.
فقال له يزيد: يا أمير المؤمنين ابن عمك وأنت
__________
(1) في الطبري 6 / 168 يزيد بن شجرة الرهاوي، وفي الكامل: 3 / 503 يزيد
بن شجرة.
(2) في فتوح ابن الاعثم 4 / 186: ولاه خراسان وكان زياد - لا يزال حيا
- على البصرة والكوفة، وكتب إلى زياد أن يفرض لسعيد فرضا وأن يقويه
بالمال والسلاح وأن لا يجعل له في ذلك علة.
(3) كذا بالاصل والطبري والكامل، وفي فتوح ابن الاعثم 4 / 185: من
اليمن.
(4) في فتوح ابن الاعثم: فوالله يا بن أخ ! ما يسرني أن حبلا مدلى فيما
بيني وبين العراق فنظم لي فيه أمثالك بيزيد.
(*)
(8/85)
أحق من نظر في
أمره، وقد عتب عليك في فأعتبه.
فولاه حرب خراسان، فأتى سمرقند فخرج إليه أهل الصغد من الترك فقاتلهم
وهزمهم وحصرهم في مدينتهم، فصالحوه وأعطوه رهنا خمسين غلاما يكونون في
يده من أبناء عظمائهم، فأقام بالترمذ ولم يف لهم، وجاء بالغلمان الرهن
معه إلى المدينة.
وفيها دعا معاوية الناس إلى البيعة ليزيد ولده أن يكون ولي عهده من
بعده، - وكان قد عزم قبل ذلك على هذا في حياة المغيرة بن شعبة - فروى
ابن جرير: من طريق الشعبي، أن المغيرة كان قد قدم على معاوية وأعفاه من
إمرة الكوفة فأعفاه لكبره وضعفه، وعزم على توليتها سعيد بن العاص، فلما
بلغ ذلك المغيرة كأنه ندم، فجاء إلى يزيد بن معاوية فأشار عليه بأن
يسأل من أبيه أن يكون ولي العهد، فسأل ذلك من أبيه فقال: من أمرك بهذا
؟ قال: المغيرة، فأعجب ذلك معاوية من المغيرة ورده إلى عمل الكوفة،
وأمره أن يسعى في ذلك، فعند ذلك سعى المغيرة في توطيد ذلك، وكتب معاوية
إلى زياد يستشيره في ذلك، فكره زياد ذلك لما يعلم من لعب يزيد وإقباله
على اللعب والصيد، فبعث إليه من يثني رأيه عن ذلك، وهو عبيد بن كعب بن
النميري
- وكان صاحبا أكيدا لزياد - فسار إلى دمشق فاجتمع بيزيد أولا، فكلمه عن
زياد وأشار عليه بأن لا يطلب ذلك، فإن تركه خير له من السعي فيه،
فانزجر يزيد عما يريد من ذلك، واجتمع بأبيه واتفقا على ترك ذلك في هذا
الوقت، فلما مات زياد وكانت هذه السنة، شرع معاوية في نظم ذلك والدعاء
إليه، وعقد البيعة لولده يزيد، وكتب إلى الآفاق بذلك، فبايع له الناس
في سائر الاقاليم، إلا عبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن عمر والحسين
بن علي وعبد الله بن الزبير وابن عباس، فركب معاوية إلى مكة معتمرا،
فلما اجتاز بالمدينة - مرجعه من مكة - استدعى كل واحد من هؤلاء الخمسة
فأوعده وتهدده بانفراده، فكان من أشدهم عليه ردا وأجلدهم في الكلام،
عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وكان ألينهم كلاما عبد الله بن عمر بن
الخطاب، ثم خطب معاوية وهؤلاء حضور تحت منبره، وبايع الناس ليزيد وهم
قعود ولم يوافقوا ولم يظهروا خلافا، لما تهددهم وتوعدهم (1)، فاتسقت
البيعة ليزيد في سائر البلاد، ووفدت الوفود من سائر الاقاليم إلى يزيد،
فكان فيمن قدم الاحنف بن قيس، فأمره معاوية أن يحادث يزيد، فجلسا ثم
خرج الاحنف فقال له معاوية: ماذا رأيت من ابن أخيك ؟ فقال: إنا نخاف
الله إن كذبنا ونخافكم إن صدقنا، وأنت أعلم به في ليله ونهاره، وسره
وعلانيته، ومدخله ومخرجه، وأنت أعلم به بما
__________
(1) قال ابن الاثير في الكامل 3 / 510: إني كنت أخطب فيكم فيقوم إلي
القائم منكم فيكذبني على رؤوس الناس فأحمل ذلك وأصفح، وإني قائم بمقالة
فأقسم بالله لئن رد علي أحدكم كلمة في مقامي هذا لا ترجع إليه كلمة
غيرها حتى يسبقها السيف إلى رأسه فلا يبقين رجل إلا على نفسه.
ثم دعا صاحب حرسه بحضرتهم فقال: أقم على رأس كل رجل من هؤلاء رجلين مع
كل واحد سيف، فإن ذهب رجل منهم يرد علي كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه
بسيفيهما.
وقال ابن الاعثم في فتوحه 4 / 247: قال معاوية عزمت أن أتكلم على
المنبر بكلام والمبقي في ذلك الوقت إنما يبقي على نفسه من أهل الشام
وأنتم أعلم وقد أعذر من أنذر.
(*)
(8/86)
أردت، وإنما
علينا أن نسمع ونطيع، وعليك أن تنصح للامة.
وقد كان معاوية لما صالح الحسن عهد للحسن بالامر من بعده، فلما مات
الحسن قوي أمر يزيد عند معاوية، ورأى أنه لذلك
أهلا، وذاك من شدة محبة الوالد لولده، ولما كان يتوسم فيه من النجابة
الدنيوية، وسيما أولاد الملوك ومعرفتهم بالحروب وترتيب الملك والقيام
بأبهته، وكان ظن أن لا يقوم أحد من أبناء الصحابة في هذا المعنى، ولهذا
قال لعبد الله بن عمر فيما خاطبه به: إني خفت أن أذر الرعية من بعدي
كالغنم المطيرة ليس لها راع، فقال له ابن عمر: إذا بايعه الناس كلهم
بايعته ولو كان عبدا مجدع الاطراف.
وقد عاتب معاوية في ولايته يزيد، سعيد بن عثمان بن عفان وطلب منه أن
يوليه مكانه، وقال له سعيد فيما قال: إن أبي لم يزل معتنيا بك حتى بلغت
ذروة المجد والشرف، وقد قدمت ولدك علي وأنا خير منه أبا وأما ونفسا.
فقال له: أما ما ذكرت من إحسان أبيك إلي فإنه أمر لا ينكر، وأما كون
أبيك خير من أبيه فحق وأمك قرشية وأمه كلبية فهي خير منها، وأما كونك
خيرا منه فوالله لو ملئت إلى الغوطة رجالا مثلك لكان يزيد أحب إلي منكم
كلكم.
وروينا عن معاوية أنه قال يوما في خطبته: اللهم إن كنت تعلم أني وليته
لانه فيما أراه أهل لذلك فأتمم له ما وليته، وإن كنت وليته لاني أحبه
فلا تتمم له ما وليته.
وذكر الحافظ ابن عساكر: أن معاوية كان قد سمر ليلة فتكلم أصحابه في
المرأة التي يكون ولدها نجيبا، فذكروا صفة المرأة التي يكون ولدها
نجيبا: فقال معاوية: وددت لو عرفت بامرأة تكون بهذه المئابة ؟ فقال أحد
جلسائه: قد وجدت ذلك يا أمير المؤمنين.
قال: ومن ؟ قال: ابنتي يا أمير المؤمنين.
فتزوجها معاوية فولدت له يزيد بن معاوية فجاء نجيبا ذكيا حاذقا.
ثم خطب امرأة أخرى فحظيت عنده وولدت له غلاما آخر، وهجر أم يزيد فكانت
عنده في جنب داره، فبينما هو في النظارة ومعه امرأته الاخرى، إذ نظر
إلى أم يزيد وهي تسرحه، فقالت امرأته: قبحها الله وقبح ما تسرح.
فقال: ولم ؟ فوالله إن ولدها أنجب من ولدك، وإن أحببت بينت لك ذلك، ثم
استدعى ولدها فقال له: إن أمير المؤمنين قد عن له أن يطلق لك ما تتمناه
عليه فاطلب مني ما شئت.
فقال: أسأل من أمير المؤمنين أن يطلق لي كلابا للصيد وخيلا ورجالا
يكونون معي في الصيد.
فقال: قد أمرنا لك بذلك، ثم استدعى يزيد فقال له كما قال لاخيه، فقال
يزيد: أو يعفيني أمير المؤمنين في هذا الوقت عن هذا ؟ فقال: لابد لك أن
تسأل حاجتك ؟ فقال: أسأل - وأطال الله عمر أمير المؤمنين - أن أكون ولي
عهده من بعده، فإنه بلغني أن عدل يوم في الرعية كعبادة خمسمائة عام.
فقال: قد أجبتك إلى ذلك، ثم قال لامرأته: كيف رأيت ؟ فعلمت وتحققت فضل
يزيد على ولدها.
وقد ذكر ابن الجوزي في هذه السنة وفاة أم حرام بنت ملحان الانصارية
امرأة عبادة بن عبادة بن الصامت، والصحيح الذي لم يذكر العلماء غيره
أنها توفيت سنة سبع وعشرين، في خلافة عثمان، وكانت هي وزوجها مع معاوية
حين دخل قبرص، وقصتها بغلتها فماتت هناك وقبرها بقبرص، والعجب أن ابن
الجوزي أورد في ترجمتها حديثها المخرج في الصحيحين في قيلولة
(8/87)
النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها، ورؤياه في منامه قوما من أمته
يركبون ثبج البحر مثل الملوك على الاسرة غزاة في سبيل الله، وأنها
سألته أن يدعو لها أن تكون منهم فدعا لها، ثم نام فرأى كذلك، فقالت:
ادعو الله أن يجعلني منهم، فقال " لا ! أنت من الاولين " وهم الذين
فتحوا قبرص فكانت معهم، وذلك في سنة سبع وعشرين، ولم تكن من الآخرين
الذين غزوا بلاد الروم سنة إحدى وخمسين مع يزيد بن معاوية ومعهم أبو
أيوب، وقد توفي هناك فقبره قريب من سور قسطنطينية وقد ذكرنا هذا مقرارا
في دلائل النبوة. |