البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي

سنة سبع وخمسين
فيها كان مشتى عبد الله بن قيس بأرض الروم، قال الواقدي: وفي شوالها عزل معاوية مروان بن الحكم عن المدينة (1)، وولى عليها الوليد بن عتبة بن أبي سفيان (2)، وهو الذي حج بالناس في هذه السنة، لانه صارت إليه إمرة المدينة، وكان على الكوفة الضحاك بن قيس، وعلى البصرة عبيد الله بن زياد، وعلى خراسان سعيد بن عثمان.
قال ابن الجوزي: وفيها توفي عثمان بن حنيف الانصاري الاوسي، وهو أخو عبادة وسهل ابني حنيف، بعثه عمر لمساحة خراج السواد بالعراق، واستنابه عمر على الكوفة، فلما قدم طلحة والزبير صحبة عائشة وامتنع من تسليم دار الامارة، نتفت لحيته وحواجبه وأشفار عينيه ومثل به، فلما جاء علي وسلمه البلد قال له: يا أمير المؤمنين فارقتك ذا لحية واجتمعت بك أمرد، فتبسم علي رضي الله عنه وقال: لك
أجر ذلك عند الله، وله في المسند والسنن حديث الاعمى الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو له ليرد الله عليه ضوء بصره فرده الله عليه، وله حديث آخر عند النسائي، ولم أر أحدا أرخ وفاته بهذه السنة سوى ابن الجوزي والله أعلم.
سنة ثمان وخمسين
فيها غزا مالك بن عبد الله الخثعمي أرض الروم، قال الواقدي: وفيها قيل شتى يزيد بن
__________
(1) قال المسعودي في مروج الذهب 3 / 35: أن مروان بن الحكم قدم دمشق، لما كتب إليه معاوية وهو عامله على المدينة يأمره بمبايعة يزيد وأخذ البيعة له على من قبله، واعلن معارضته لبيعة يزيد، فجعله معاوية وليا لعهد يزيد ورده إلى المدينة، ثم إنه عزله عنها ولم يف لمروان بما جعل له من ولاية عهد يزيد.
ولم يشر الطبري وابن الاثير وابن الاعثم إلى هذا الموقف.
أما ابن قتيبة قال: أن مروان لما قرأ كتاب معاوية أبى من ذلك، وأبته قريش فكتب لمعاوية أن قومك قد أبوا إجابتك إلى بيعتك ابنك، فر رأيك، فلما بلغ معاوية كتاب مروان عرف أن ذلك من قبله.
فكتب إليه يأمره أن يعتزل عن عمله.
فجاءه مروان مع قومه وأهل بيته...فقال له معاوية: إليك عهد عهده وأنت نظير أمير المؤمنين بعده (الامامة والسياسة) 1 / 176 - 177.
(2) في الامامة والسياسة 1 / 177 سعيد بن العاص.
قال ابن عبد البر في الاستيعاب: أن ذلك كان سنة ثمان واربعين ثم عزله وولاها مروان ثم عزله وولى الوليد بن عتبة.
(*)

(8/88)


شجرة في البحر، وقيل: بل غزا البحر وبلاد الروم جنادة بن أبي أمية، وقيل: إنما شتى بأرض الروم عمرو بن يزيد الجهني.
قال أبو معشر والواقدي: وحج بالناس فيها الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وفيها ولى معاوية الكوفة لعبد الرحمن بن عبد الله بن عثمان بن ربيعة الثقفي، ابن أم الحكم، وأم الحكم هي أخت معاوية، وعزل عنها الضحاك بن قيس، فولى ابن أم الحكم على شرطته زائدة بن قدامة، وخرجت الخوارج في أيام ابن أم الحكم، وكان رئيسهم في هذه الوقعة حيان بن ضبيان السلمي، فبعث إليهم جيشا فقتلوا الخوارج جميعا، ثم إن ابن أم الحكم أساء السيرة في أهل الكوفة فأخرجوه من بين أظهرهم طريدا، فرجع إلى خاله معاوية فذكر له ذلك،
فقال: لاولينك مصرا هو خير لك، فولاه مصر، فلما سار إليها تلقاه معاوية بن خديج على مرحلتين من مصر، فقال له: ارجع إلى خالك معاوية، فلعمري لا ندعك تدخلها فتسير فيها وفينا سيرتك في إخواننا أهل الكوفة، فرجع ابن أم الحكم إلى معاوية ولحقه معاوية بن خديج وافدا على معاوية، فلما دخل عليه وجده عنده أخته أم الحكم، وهي أم عبد الرحمن الذي طرده أهل الكوفة وأهل مصر، فلما رآه معاوية قال: بخ بخ، هذا معاوية بن خديج، فقالت أم الحكم: لامر حبابه، تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، فقال معاوية بن خديج: على رسلك يا أم الحكم، أما والله لقد تزوجت فما أكرمت، وولدت فما أنجبت، أردت أن يلي ابنك الفاسق علينا فيسير فينا كما سار في إخواننا أهل الكوفة، فما كان الله ليريه ذلك، ولو فعل ذلك لضربناه ضربا يطأطئ منه رأسه، - أو قال لضربنا ما صاصا منه - وإن كره ذلك الجالس - يعني معاوية - فالتفت إليها معاوية فقال: كفى.
قصة غريبة ذكرها ابن الجوزي في كتابه المنتظم بسنده، وهو أن شابا من بني عذرة جرت له قصة مع ابن أم الحكم، وملخصها أن معاوية بينما هو يوما على السماط إذا شاب من بني عذرة قد تمثل بين يديه فأنشده شعرا مضمونه التشوق إلى زوجته سعاد، فاستدناه معاوية واستحكاه عن أمره، فقال: يا أمير المؤمنين إني كنت مزوجا بابنة عم لي، وكان لي إبل وغنم، وأنفقت ذلك عليها، فلما قل ما بيدي رغب عني أبوها وشكاني إلى عاملك بالكوفة، ابن أم الحكم، وبلغه جمالها فحبسني في الحديد وحملني على أن أطلقها، فلما انقضت عدتها أعطاها عاملك عشرة آلاف درهم فزوجه إياها، وقد أتيتك يا أمير المؤمنين وأنت غياث المحزون الملهوف المكروب، وسند المسلوب، فهل من فرج ؟ ثم بكى وأنشأ يقول: في القلب مني نار * والنار فيها شرار والجسم مني نحيل * واللون فيه اصفرار والعين تبكي بشجو * فدمعها مدرار

(8/89)


والحب ذا عبر * فيه الطبيب يحار حملت فيه عظيما * فما عليه اصطبار فليس ليلي بليل * ولا نهاري نهار قال: فرق له معاوية وكتب إلى ابن أم الحكم يؤنبه على ذلك ويعيبه عليه، ويأمره بطلاقها فولا واحدا، فلما جاءه كتاب معاوية تنفس الصعداء وقال: وددت أن أمير المؤمنين خلى بيني وبينها سنة ثم عرضني على السيف، وجعل يؤامر نفسه على طلاقها فلا يقدر على ذلك ولا تجيبه نفسه، وجعل البريد الذي ورد عليه بالكتاب يستحثه، فطلقها وأخرجها عنه وسيرها مع الوفد إلى معاوية، فلما وقفت بين يديه رأى منظرا جميلا، فلما استنطقها فإذا أفصح الناس وأحلاهم كلاما، وأكملهم جمالا ودلالا، فقال لابن عمها: يا أعرابي هل من سلو عنها بأفضل الرغبة ؟ قال: نعم إذا فرقت بين رأسي وجسدي ثم أنشأ يقول: لا تجعلني والامثال تضرب بي * كالمستغيث من الرمضاء بالنار اردد سعاد على حيران مكتئب * يمسي ويصبح في هم وتذكار قد شفه قلق ما مثله قلق * وأسعر القلب منه أي إسعار والله والله لا أنسى محبتها * حتى أغيب في رمسي وأحجاري كيف السلو وقد هام الفؤاد بها * وأصبح القلب عنها غير صبار ؟ فقال معاوية: فإنا نخيرها بيني وبينك وبين ابن أم الحكم فأنشأت تقول: هذا وإن اصبح في إطار * وكان في نقص من اليسار أحب عندي من أبي وجاري * وصاحب الدرهم والدينار أخشى إذا غدرت حر النار قال: فضحك معاوية وأمر له بعشرة آلاف درهم ومركب ووطاء، ولما انقضت عدتها زوجه بها وسلمها إليه.
حذفنا منها أشعارا كثيرة مطولة.
وجرت في هذه السنة فصول طويلة بين عبيد الله بن زياد والخوارج، فقتل منهم خلقا كثيرا وجما غفيرا، وحبس منهم آخرين، وكان صارما كأبيه مقداما في أمرهم والله سبحانه وتعالى أعلم.
ذكر من توفي فيها من الاعيان توفي في هذا العام سعيد بن العاص (1) بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، القرشي
__________
(1) وهو سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص...(*)

(8/90)


الاموي، قتل أبوه يوم بدر كافرا، قتله علي بن أبي طالب، ونشأ سعيد في حجر عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكان عمر سعيد يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع سنين (1)، وكان من سادات المسلمين والاجواد المشهورين، وكان جده سعيد بن العاص - ويكنى بأبي أجنحة - (2) رئيسا في قريش، يقال له ذو التاج، لانه كان إذا اعتم لا يعتم أحد (3) يومئذ إعظاما له، وكان سعيد هذا من عمال عمر على السواد، وجعله عثمان فيمن يكتب المصاحف لفصاحته، وكان أشبه الناس لحية برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان في جملة الاثني عشر رجلا، الذين يستخرجون القرآن ويعلمونه ويكتبونه، منهم أبي بن كعب، وزيد بن ثابت.
واستنابه عثمان على الكوفة بعد عزله الوليد بن عقبة، فافتتح طبرستان وجرجان، ونقض العهد أهل أذربيجان فغزاهم ففتحها، فلما مات عثمان اعتزل الفتنة فلم يشهد الجمل ولا صفين، فلما استقر الامر لمعاوية وفد إليه فعتب عليه فاعتذر إليه فعذره في كلام طويل جدا، وولاه المدينة مرتين، وعزله عنها مرتين بمروان بن الحكم، وكان سعيد هذا لا يسب عليا، ومروان يسبه، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن عمر بن الخطاب، وعثمان، وعائشة، وعنه ابناه عمرو بن سعيد الاشدق وأبو سعيد وسالم بن عبد الله بن عمر، وعروة بن الزبير، وغيرهم، وليس له في المسند ولا في الكتب الستة شئ.
وقد كان حسن السيرة، جيد السريرة، وكان كثيرا ما يجمع أصحابه في كل جمعة فيطعمهم ويكسوهم الحلل، ويرسل إلى بيوتهم بالهدايا والتحف والبر الكثير، وكان يصر الصرر فيضعها بين يدي المصلين من
ذوي الحاجات في المسجد.
قال ابن عساكر: وقد كانت له دار بدمشق تعرف بعده بدار نعيم، وحمام نعيم، بنواحي الديماس، ثم رجع إلى المدينة فأقام بها إلى أن مات، وكان كريما جوادا ممدحا.
ثم أورد شيئا من حديثه من طريق يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو سعيد الجعفي ثنا عبد الله بن الاجلح ثنا هشام بن عروة عن أبيه أن سعيد بن العاص قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " خياركم في الاسلام خياركم في الجاهلية " وفي طريق الزبير بن بكار: حدثني رجل عن عبد العزيز بن أبان حدثني خالد بن سعيد عن أبيه عن ابن عمر قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببرد.
فقالت: إني نذرت أن أعطي هذا الثوب أكرم العرب، فقال: " اعطه هذا الغلام " - يعني سعيد بن العاص - وهو واقف، فلذلك سميت الثياب السعيدية وأنشد الفرزدق قوله فيه: ترى الغر الجحاجح من قريش * إذا ما الخطب (4) في الحدثان عالا
__________
(1) قال ابن عبد البر في الاستيعاب: ولد عام الهجرة وقيل سنة احدى (هامش الاصابة 2 / 9 وأسد الغابة 2 / 310).
(2) في الاصابة: أبي أحيحة (وانظر أسد الغابة 2 / 309).
(3) في أسد الغابة: لا يعتم أحد بلون عمامته...(4) في الاستيعاب: الامر.
(*)

(8/91)


قياما ينظرون إلى سعيد * كأنهم يرون به هلالا وذكر أن عثمان عزل عن الكوفة المغيرة وولاها سعد بن أبي وقاص، ثم عزله وولاها الوليد بن عتبة، ثم عزله وولى سعيد بن العاص، فأقام بها حينا، ولم تحمد سيرته فيهم ولم يحبوه، ثم ركب مالك بن الحارث - وهو الاشتر النخعي - في جماعة إلى عثمان وسألوه أن يعزل عنهم سعيدا فلم يعزله، وكان عنده بالمدينة فبعثه إليهم، وسبق الاشتر إلى الكوفة فخطب الناس وحثهم على منعه من الدخول إليهم، وركب الاشتر في جيش يمنعوه من الدخول، قيل تلقوه إلى
العذيب، - وقد نزل سعيد بالرعثة - (3) فمنعوه من الدخول إليهم، ولم يزالوا به حتى ردوه إلى عثمان، وولى الاشتر أبا موسى الاشعري على الصلاة والثغر وحذيفة بن اليمان على الفئ، فأجاز ذلك أهل الكوفة وبعثوا إلى عثمان في ذلك فأمضاه وسره ذلك فيما أظهره، ولكن هذا كان أول وهن دخل على عثمان.
وأقام سعيد بن العاص بالمدينة حتى كان زمن حصر عثمان فكان عنده بالدار، ثم لما ركب طلحة والزبير مع عائشة من مكة يريدون قتلة عثمان ركب معهم، ثم انفرد عنهم هو والمغيرة بن شعبة وغيرهما، فأقام بالطائف حتى انقضت تلك الحروب كلها، ثم ولاه معاوية إمرة المدينة سنة تسع وأربعين، وعزل مروان فأقام سبعا ثم رد مروان.
وقال عبد الملك بن عمير عن قبيصة بن جابر قال: بعثني زياد في شغل إلى معاوية، فلما فرغت من أموري قلت: يا أمير المؤمنين لم يكن الامر من بعدك ؟ فسكت ساعة ثم قال.
يكون بين جماعة، إما كريم قريش سعيد بن العاص، وإما فتى قريش، حياء ودهاء وسخاء، عبد الله بن عامر، وإما الحسن بن علي فرجل سيد كريم، وإما القارئ لكتاب الله الفقيه في دين الله، الشديد في حدود الله، مروان بن الحكم، وأما رجل فقيه عبد الله بن عمر، وإما رجل يتردد الشريعة مع دواهي السباع ويروغ روغان الثعلب فعبد الله بن الزبير.
وروينا أنه استسقى يوما في بعض طرق المدينة، فأخرج له رجل من دار ماء فشرب، ثم بعد حين رأى ذلك يعرض داره للبيع فسأل عنه لم يبيع داره ؟ فقالوا: عليه دين أربعة آلاف دينار، فبعث إلى غريمه فقال: هي لك علي، وأرسل إلى صاحب الدار فقال: استمتع بدارك.
وكان رجل من القراء الذين يجالسونه قد افتقر وأصابته فاقة شديدة، فقالت له امرأته: إن أميرنا هذا يوصف بكرم، فلو ذكرت له حالك فلعله يسمح لك بشئ ؟ فقال: ويحك ! لا تحلقي وجهي، فألحت عليه في ذلك، فجاء فجلس إليه، فلما انصرف الناس عنه مكث الرجل جالسا في مكانه، فقال له سعيد: أظن جلوسك لحاجة ؟ فسكت الرجل، فقال سعيد لغلمانه: انصرفوا، ثم قال له سعيد: لم يبق غيرك وغيرك، فسكت، فأطفأ المصباح ثم قال له: رحمك الله لست ترى وجهي فاذكر حاجتك، فقال: أصلح الله الامير أصابتنا فاقة وحاجة فأحببت ذكرها لك فاستحييت، فقال له: إذا أصبحت فالق وكيلي
فلانا، فلما أصبح الرجل لقي الوكيل فقال له الوكيل: إن الامير قد أمر لك بشئ فأت بمن يحمله معك، فقال: ما عندي من يحمله، ثم انصرف الرجل إلى امرأته فلامها وقال: حملتيني على بذل

(8/92)


وجهي للامير، فقد أمر لي بشئ يحتاج إلى من يحمله، وما أراه أمر لي إلا بدقيق أو طعام، ولو كان مالا لما احتاج إلى من يحمله، ولاعطانيه.
فقالت المرأة: فمهما أعطاك فإنه يقوتنا فخذه، فرجع الرجل إلى الوكيل فقال له الوكيل: إني أخبرت الامير أنه ليس لك أحد يحمله، وقد أرسل بهؤلاء الثلاثة السودان يحملونه معك، فذهب الرجل، فلما وصل إلى منزله إذا على رأس كل واحد منهم عشرة آلاف دراهم، فقال للغلمان: ضعوا ما معكم وانصرفوا، فقالوا: إن الامير قد أطلقنا لك، فإنه ما بعث مع خادم هدية إلى أحد إلا كان الخادم الذي يحملها من جملتها، قال: فحسن حال ذلك الرجل.
وذكر ابن عساكر: أن زياد بن أبي سفيان بعث إلى سعيد بن العاص هدايا وأموالا وكتابا ذكر فيه أنه يخطب إليه ابنته أم عثمان من آمنة بنت جرير بن عبد الله البجلي، فلما وصلت الهدايا والاموال والكتاب قرأه، ثم فرق الهدايا في جلسائه، ثم كتب إليه كتابا لطيفا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم ! قال الله تعالى: * (كلا إن الانسان ليطغى أن رآه استغنى) * [ العلق: 6 ] والسلام.
وروينا أن سعيدا خطب أم كلثوم بنت علي من فاطمة، التي كانت تحت عمر بن الخطاب، فأجابت إلى ذلك وشاورت أخويها فكرها ذلك، وفي رواية إنما كره ذلك الحسين وأجاب الحسن، فهيأت دارها ونصبت سريرا وتواعدوا للكتاب، وأمرت ابنها زيد بن عمر أن يزوجها منه، فبعث إليها بمائة ألف، وفي رواية بمائتي ألف مهرا، واجتمع عنده أصحابه ليذهبوا معه، فقال: إني أكره أن أخرج أمي فاطمة، فترك التزويج وأطلق جميع ذلك المال لها.
وقال ابن معين وعبد الاعلى بن حماد: سأل أعرابي سعيد بن العاص فأمر له بخمسمائة، فقال الخادم: خمسمائة درهم أو دينار ؟ فقال: إنما أمرتك بخمسمائة درهم، وإذ قد جاش في نفسك أنها دنانير فادفع إليه خمسمائة دينار، فلما قبضها الاعرابي جلس يبكي، فقال له: مالك ؟ ألم تقبض نوالك ؟ قال: بلى والله ! ولكن أبكي على الارض كيف تأكل مثلك.
وقال عبد الحميد بن جعفر: جاء رجل في
حمالة أربع ديات سأل فيها أهل المدينة، فقيل: له عليك بالحسن بن علي، أو عبد الله بن جعفر، أو سعيد بن العاص، أو عبد الله بن عباس، فانطلق إلى المسجد فإذا سعيد داخل إليه، فقال: من هذا ؟ قيل: سعيد بن العاص، فقصده فذكر له ما أقدمه، فتركه حتى انصرف من المسجد إلى المنزل فقال للاعرابي: إئت بمن يحمل معك ؟ فقال: رحمك الله ! إنما سألتك مالا لا تمرا، فقال: أعرف، إئت بمن يحمل معك ؟ فأعطاه أربعين ألفا فأخذها الاعرابي وانصرف ولم يسأل غيره.
وقال سعيد بن العاص لابنه: يا بني أجر لله المعروف إذا لم يكن ابتداء من غير مسألة، فأما إذا أتاك الرجل تكاد ترى دمه في وجهه، أو جاءك مخاطرا لا يدري أتعطيه أم تمنعه، فوالله لو خرجت له من جميع مالك ما كافأته.
وقال سعيد: لجليسي على ثلاث، إذا دنا رحبت به، وإذ جلس أوسعت له، وإذا حدث أقبلت عليه.
وقال أيضا: يا بني لا تمازح الشريف فيحقد عليك ولا الدنئ فتهون عليه، وفي رواية فيجترئ عليك.
وخطب يوما فقال: من رزقه الله رزقا حسنا فليكن أسعد الناس به، إنما يتركه لاحد رجلين، إما مصلح فيسعد بما جمعت له وتخيب أنت،

(8/93)


والمصلح لا يقل عليه شئ، وإما مفسد فلا يبقى له شئ.
فقال أبو معاوية: جمع أبو عثمان طرف الكلام.
وروى الاصمعي عن حكيم بن قيس.
قال سعيد بن العاص: موطنان لا أستحيي من رفقي فيهما والتأني عندهما، مخاطبتي جاهلا أو سفيها، وعند مسألتي حاجة لنفسي.
ودخلت عليه امرأة من العابدات وهو أمير الكوفة فأكرمها وأحسن إليها، فقالت: لا جعل الله لك إلى لئيم حاجة، ولا زالت المنة لك في أعناق الكرام، وإذا أزال عن كريم نعمة جعلك سببا لردها عليه.
وقد كان له عشرة من الولد ذكورا وإناثا، وكانت إحدى زوجاته أم البنين بنت الحكم بن أبي العاص - أخت مروان بن الحكم - ولما حضرت سعيدا الوفاة جمع بنيه وقال لهم: لا يفقدن أصحابي غير وجهي، وصلوهم بما كنت أصلهم به، وأجروا عليهم ما كنت أجري عليهم، واكفوهم مؤنة الطلب، فإن الرجل إذا طلب الحاجة اضطربت أركانه، وارتعدت فرائصه مخافة أن يرد، فوالله لرجل يتململ على فراشه يراكم موضعا لحاجته أعظم منة عليكم مما تعطونه.
ثم
أوصاهم بوصايا كثيرة، منها أن يوفوا ما عليه من الدين والوعود، وأن لا يزوجوا أخوانهم إلا من الاكفاء، وأن يسودوا أكبرهم.
فتكفل بذلك كله ابنه عمرو بن سعيد الاشدق، فلما مات دفنه بالبقيع ثم ركب عمرو إلى معاوية فعزاه فيه واسترجع معاوية وحزن عليه وقال: هل ترك من دين عليه ؟ قال: نعم ! قال: وكم هو ؟ قال: ثلثمائة ألف درهم، وفي رواية ثلاثة آلاف ألف درهم (1)، فقال معاوية: هي علي ! فقال ابنه: يا أمير المؤمنين، إنه أوصاني أن لا أقضي دينه إلا من ثمن أراضيه، فاشترى منه معاوية أراضي بمبلغ الدين، وسأل منه عمرو أن يحملها إلى المدينة فحملها له، ثم شرع عمرو يقضي ما على أبيه من الدين حتى لم يبق أحد، فكان من جملة من طالبه شاب معه رقعة من أديم فيها عشرون ألفا، فقال له عمرو: كيف استحققت هذه على أبي ؟ فقال الشاب: إنه كان يوما يمشي وحده فأحببت أن أكون معه حتى يصل إلى منزله، فقال: ابغني رقعة من أدم، فذهبت إلى الجزارين فأتيته بهذه فكتب لي فيها هذا المبلغ، واعتذر بأنه ليس عنده اليوم شئ.
فدفع إليه عمرو ذلك المال وزاده شيئا كثيرا، ويروى أن معاوية قال لعمرو بن سعيد: من ترك مثلك لم يمت، ثم قال: رحم الله أبا عثمان: قد مات من هو أكبر مني ومن هو أصغر مني، وأنشد قول الشاعر: إذا سار من دون امرئ وأمامه * وأوحش من إخوانه فهو سائر وكانت وفاة سعيد بن العاص في هذه السنة، وقيل في التي قبلها، وقيل في التي بعدها.
وقال بعضهم: كانت وفاته قبل عبد الله بن عامر بجمعة.
شداد بن أوس بن ثابت ابن المنذر بن حرام، أبو يعلى الانصاري الخزرجي، صحابي جليل، وهو ابن أخي
__________
(1) في أسد الغابة 2 / 311 والاصابة 2 / 48: ثمانون ألف دينار.
(*)

(8/94)


حسان بن ثابت.
وحكى ابن منده عن موسى بن عقبة أنه قال: شهد بدرا.
قال ابن منده وهو وهم، وكان من الاجتهاد في العبادة على جانب عظيم، كان إذا أخذ مضجعه تعلق على فراشه
ويتقلب عليه ويتلوى كما تتلوى الحية ويقول: اللهم إن خوف النار قد أقلقني، ثم يقوم إلى صلاته.
قال عبادة بن الصامت: كان شداد من الذين أوتوا العلم والحلم.
نزل شداد فلسطين وبيت المقدس، ومات في هذه السنة عن خمس وسبعين سنة، وقيل: مات سنة أربع وستين، وقيل سنة إحدى وأربعين.
فالله أعلم.
عبد الله بن عامر ابن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي القرشي العبشمي، ابن خال عثمان بن عفان، ولد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفل في فيه، فجعل يبتلع ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " إنه لمسقاء "، فكان لا يعالج أرضا إلا ظهر له الماء، وكان كريما ممدحا ميمون النقيبة، استنابه عثمان على البصرة بعد أبي موسى، وولاه بلاد فارس بعد عثمان بن أبي العاص، وعمره إذا ذاك خمسا وعشرين سنة، ففتح خراسان كلها، وأطراف فارس وسجستان وكرمان وبلاد غزنة، وقتل كسرى ملك الملوك في أيامه - وهو يزدجرد - ثم أحرم عبد الله بن عامر بحجة، وقيل بعمرة من تلك البلاد شكرا لله عز وجل، وفرق في أهل المدينة أموالا كثيرة جزيلة، وهو أول من لبس الخز بالبصرة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وهو أول من اتخذ الحياض (1) بعرفة وأجرى إليها الماء المعين والعين، ولم يزل على البصرة حتى قتل عثمان، فأخذ أموال بيت المال وتلقى بها طلحة والزبير وحضر معهم الجمل، ثم سار إلى دمشق، ولم يسمع له بذكر في صفين، ولكن ولاه معاوية البصرة بعد صلحه مع الحسن، وتوفي في هذه السنة بأرضه بعرفات، وأوصى إلى عبد الله بن الزبير.
له حديث واحد، وليس له في الكتب شئ، روى مصعب الزبيري عن أبيه عن حنظلة بن قيس عن عبد الله بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قتل دون ماله فهو شهيد " وقد زوجه معاوية بابنته هند، وكانت جميلة، فكانت تلي خدمته بنفسها من محبتها له، فنظر يوما في المرآة فرأى صباحة وجهها وشيبة في لحيته فطلقها، وبعث إلى أبيها أن يزوجها بشاب كأن وجهه ورقة مصحف.
توفي في هذه السنة وقيل بعدها بسنة.
عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما
وهو أكبر ولد أبي بكر الصديق، قاله الزبير بن بكار، قال: وكانت فيه دعابة، وأمه أم رومان، وأم عائشة فهو شقيقها، بارز يوم بدر وأخذ مع المشركين، وأراد قتل أبيه أبي بكر، فتقدم إليه أبوه أبو بكر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمتعنا بنفسك " ثم أسلم عبد الرحمن بعد ذلك في
__________
(1) في الاصابة: السقايات، والحياض والسقايات، الاحواض.
(*)

(8/95)


الهدنة، وهاجر قبل الفتح، ورزقه رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر كل سنة أربعين وسقا، وكان من سادات المسلمين، وهو الذي دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات وعائشة مسندته إلى صدرها، ومع عبد الرحمن سواك رطب فأخذه بصره، فأخذت عائشة ذلك السواك فقضمته وطيبته، ثم دفعته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستن به أحسن استنان ثم قال: " اللهم في الرفيق الاعلا ".
ثم قضى.
قالت: فجمع الله بين ريقي وريقه، ومات بين سحري ونحري، في بيتي ويومي لم أظلم فيه أحدا.
وقد شهد عبد الرحمن فتح اليمامة وقتل يومئذ سبعة، وهو الذي قتل محكم بن الطفيل.
صديق مسيلمة على باطله - كان محكم واقفا في ثلمة حائط فرماه عبد الرحمن فسقط محكم، فدخل المسلمون من الثلمة فخلصوا إلى مسيلمة فقتلوه.
وقد شهد فتح الشام، وكان معظما بين أهل الاسلام ونفل ليلى بنت الجودي ملك عرب الشام، نفله إياها خالد بن الوليد عن أمر عمر بن الخطاب كما سنذكره مفصلا.
وقد قال عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: حدثني عبد الرحمن بن أبي بكر - ولم يجرب عليه كذبة قط - ذكر عنه حكاية أنه لما جاءت بيعة يزيد بن معاوية إلى المدينة، قال عبد الرحمن لمروان: جعلتموها والله هرقلية وكسروية - يعني جعلتم ملك الملك لمن بعده من ولده - فقال له مروان: اسكت فإنك أنت الذي أنزل الله فيك: * (والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج) * [ الاحقاف: 17 ] فقالت عائشة: ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن، إلا أنه أنزل عذري، ويروى أنها بعثت إلى مروان تعتبه وتؤنبه وتخبره بخبر فيه ذم له ولابيه لا يصح عنها، قال الزبير بن بكار: حدثني إبراهيم بن محمد بن عبد العزيز الزهري
عن أبيه عن جده.
قال: بعث معاوية إلى عبد الرحمن بن أبي بكر بمائة ألف درهم بعد أن أبى البيعة ليزيد بن معاوية، فردها عبد الرحمن وأبى أن يأخذها، وقال: أبيع ديني بدنياي ؟ وخرج إلى مكة فمات بها.
وقال أبو زرعة الدمشقي: ثنا أبو مسهر ثنا مالك قال: توفي عبد الرحمن بن أبي بكر في نومة نامها.
ورواه أبو مصعب عن مالك عن يحيى بن سعيد فذكره وزاد: فأعتقت عنه عائشة رقابا.
ورواه الثوري عن يحيى بن سعيد عن القاسم فذكره.
ولما توفي كانت وفاته بمكان يقال له الحبشي - على ستة أميال من مكة، وقيل اثني عشر ميلا - فحمله الرجال على أعناقهم حتى دفن بأعلى مكة، فلما قدمت عائشة مكة زارته وقالت: أما والله لو شهدتك لم أبك عليك، ولو كنت عندك لم أنقلك من موضعك الذي مت فيه، ثم تمثلت بشعر متمم بن نويرة في أخيه مالك: وكنا كندماني جذيمة برهة (1) * من الدهر حتى قيل لن يتصدعا فلما تفرقنا كأني ومالك * لطول اجتماع لم نبت ليلة معا رواه الترمذي وغيره.
وروى ابن سعد أن ابن عمر مرة رأى فسطاطا مضروبا على قبر
__________
(1) في الاستيعاب وأسد الغابة حقبة.
(*)

(8/96)


عبد الرحمن - ضربته عائشة بعدما ارتحلت - فأمر ابن عمر بنزعه وقال: إنما يظله عمله.
وكانت وفاته في هذا العام في قول كثير من علماء التاريخ، ويقال إن عبد الرحمن توفي سنة ثلاث وخمسين قاله الواقدي وكاتبه محمد بن سعد وأبو عبيد وغير واحد، وقيل سنة أربع وخمسين فالله أعلم.
قصته مع ليلى بنت الجودي ملك عرب الشام قال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الضحاك الحزامي عن أبيه أن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قدم الشام في تجارة - يعني في زمان جاهليته - فرأى امرأة يقال لها ليلى ابنة الجودي على طنفسة لها وحولها ولائدها فأعجبته، قال ابن عساكر: رآها بأرض بصرى فقال فيها: تذكرت ليلى والسماوة دونها * فمال ابنة الجودي ليلى وماليا
وأنى تعاطى قلبه حارثية * تؤمن بصرى أو تحل الحوابيا وإني بلاقيها (1) بلى ولعلها * إن الناس حجوا قابلا أن توافيا قال: فلما بعث عمر بن الخطاب جيشه إلى الشام قال للامير على الجيش: إن ظفرت بليلى بنت الجودي عنوة فادفعها إلى عبد الرحمن بن أبي بكر، فظفر بها فدفعها إليه فأعجب بها وآثرها على نسائه حتى جعلن يشكونها إلى عائشة، فعاتبته عائشة على ذلك، فقال: والله كأني أرشف بأنيابها (2) حب الرمان، فأصابها وجع سقط له فوها فجفاها حتى شكته إلى عائشة، فقالت له عائشة: يا عبد الرحمن لقد أحببت ليلى فأفرطت، وأبغضتها فأفرطت، فإما أن تنصفها وإما أن تجهزها إلى أهلها.
قال الزبيري: وحدثني عبد الله بن نافع عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه.
قال: إن عمر بن الخطاب نفل عبد الرحمن بن أبي بكر ليلى بنت الجودي حين فتح دمشق، وكانت ابنة ملك دمشق - يعني ابنة ملك العرب الذين حول دمشق - والله أعلم.
عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب القرشي الهاشمي ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أصغر من أخيه عبد الله بسنة، وأمها أم الفضل لبابة بنت الحارث الهلالية، وكان عبيد الله كريما جميلا وسيما يشبه أباه في الجمال، روينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان يصف عبد الله وعبيد الله وكثيرا صفا ويقول: من سبق إلي فله كذا، فيستبقون إليه فيقعون على ظهره وصدره فيقبلهم ويلتزمهم ".
وقد استنابه علي بن أبي طالب في
__________
(1) في الاصابة 2 / 408 وأسد الغابة 3 / 305: وأنى تلاقيها...(2) في أسد الغابة: أرشف من ثناياها.
(*)

(8/97)


أيام خلافته على اليمن.
وحج بالناس سنة ست وثلاثين وسنة سبع وثلاثين، فلما كان سنة ثمان وثلاثين اختلف هو ويزيد بن سمرة (1) الرهاوي الذي قدم على الحج من جهة معاوية، ثم اصطلحا على شيبة بن عثمان الحجبي، فأقام للناس الحج عامئذ، ثم لما صارت الشوكة لمعاوية
تسلط على عبيد الله بسر بن أبي أرطاة فقتل له ولدين، وجرت أمور باليمن قد ذكرنا بعضها.
وكان يقدم هو وأخوه عببد الله المدينة فيوسعهم عبد الله علما، ويوسعهم عبيد الله كرما.
وقد روي أنه نزل في مسير له مع مولى له على خيمة رجل من الاعراب، فلما رآه الاعرابي أعظمه وأجله، ورأى حسنه وشكله، فقال لامرأته: ويحك ماذا عندك لضيفنا هذا ؟ فقالت: ليس عندنا إلا هذه الشويهة التي حياة ابنتك من لبنها، فقال: إنها لابد من ذبحها، فقالت: أتقتل ابنتك ؟ فقال: وإن، فأخذ الشفرة والشاة وجعل يذبحها ويسلخها وهو يقول مرتجزا: يا جارتي لا توقظي البنية * إن توقظيها تنتحب عليه وتنزع الشفرة من يديه ثم هيأها طعاما فوضعها بين يدي عبيد الله ومولاه فعشاهما، وكان عبيد الله قد سمع محاورته لامرأته في الشاة، فلما أراد الارتحال قال لمولاه: ويلك ماذا معك من المال ؟ فقال: معي خمسمائة دينار فضلت من نفقتك، فقال: ادفعها إلى الاعرابي، فقال: سبحان الله ! تعطيه خمسمائة دينار وإنما ذبح لك شاة واحدة تساوي خمسة دراهم ؟ فقال: ويحك والله لهو أسخى منا وأجود، لانا إنما أعطيناه بعض ما نملك، وجاد هو علينا بجميع ما يملك، وآثرنا على مهجة نفسه وولده.
فبلغ ذلك معاوية فقال: لله در عبيد الله، من أي بيضة خرج ؟.
ومن أي شئ درج.
قال خليفة بن خياط: توفي سنة ثمان وخمسين.
وقال غيره: توفي في أيام يزيد بن معاوية، قال أبو عبيد القاسم بن سلام ! توفي في سنة سبع وثمانين، وكانت وفاته بالمدينة، وقيل باليمن، وله حديث واحد، قال أحمد: ثنا هشيم، ثنا يحيى بن [ أبي ] إسحاق، عن سليمان بن يسار، عن عبيد الله بن عباس قال: جاءت العميصا - أو الرميصا - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تشكو زوجها تزعم أنه لا يصل إليها، فما كان إلا يسيرا حتى جاء زوجها فزعم أنها كاذبة، وأنها تريد أن ترجع إلى زوجها الاول، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس لك ذلك حتى يذوق عسيلتك رجل غيره " (2) وأخرجه النسائي عن علي بن حجرة عن هشيم به.
وممن توفي فيها: أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق
وزوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحب أزواجه إليه، المبرأة من فوق سبع سموات رضي الله
__________
(1) في الاستيعاب 2 / 430 وأسد الغابة 3 / 340: شجرة.
(2) مسند أحمد ج 1 / 214.
(*)

(8/98)


عنها، وعن أبيها.
وأمها هي أم رومان بنت عامر بن عويمر الكنانية، تكنى عائشة بأم عبد الله، قيل كناها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن أختها عبد الله بن الزبير، وقيل إنها أسقطت من رسول الله صلى الله عليه وسلم سقطا فسماه عبد الله، ولم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بكرا غيرها، ولم ينزل عليه الوحي في لحاف امرأة غيرها، ولم يكن في أزواجه أحب إليه منها، تزوجها بمكة بعد وفاة خديجة، وقد أتاه الملك بها في المنام في سرقة من حريرة، مرتين أو ثلاثا، فيقول: هذه زوجتك.
قال: " فأكشف عنك فإذا هي أنت، فأقول، إن يكن هذا من عند الله يمضه، فخطبها من أبيها فقال: يا رسول الله أو تحل لك ؟ قال: نعم ! قال: أو لست أخوك ؟ قال: بلى في الاسلام، وهي لي حلال، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحضيت عنده ".
وقد قدمنا ذلك في أول السيرة، وكان ذلك قبل الهجرة بسنتين، وقيل بسنة ونصف، وقيل بثلاث سنين، وكان عمرها إذ ذاك ست سنين ثم دخل بها وهي بنت تسع سنين بعد بدر، في شوال من سنة ثنتين من الهجرة فأحبها.
ولما تكلم فيها أهل الافك بالزور والبهتان، غار الله لها فأنزل براءتها في عشر آيات من القرآن تتلى على تعاقب الزمان.
وقد ذكرنا ذلك مفصلا فيما سلف، وشرحنا الآيات والاحاديث الواردة في ذلك في غزوة المريسيع، وبسطنا ذلك أيضا في كتاب التفسير بما فيه كفاية ومقنع، ولله الحمد والمنة.
وقد أجمع العلماء على تكفير من قذفها بعد براءتها، واختلفوا في بقية أمهات المؤمنين، هل يكفر من قذفهن أم لا ؟ على قولين، وأصحهما أنه يكفر، لان المقذوفة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى إنما غضب لها لانها زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي وغيرها منهن سواء.
ومن خصائصها رضي الله عنها أنها كان لها في القسم يومان يومها ويوم سودة حين وهبتها ذلك تقربا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه مات في يومها وفي بيتها وبين سحرها ونحرها، وجمع الله بين ريقه وريقها في آخر ساعة من ساعاته
في الدنيا، وأول ساعة من الآخرة، ودفن في بيتها.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا وكيع عن إسماعيل عن مصعب بن إسحاق بن طلحة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: " إنه ليهون علي أني رأيت بياض كف عائشة في الجنة " (1) تفرد به أحمد.
وهذا في غاية ما يكون من المحبة العظيمة أنه يرتاح لانه رأى بياض كفها أمامه في الجنة.
ومن خصائصها أنها أعلم نساء النبي صلى الله عليه وسلم، بل هي أعلم النساء على الاطلاق.
قال الزهري: لو جمع علم عائشة إلى علم جميع أزواجه، وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل.
وقال عطاء بن أبي رباح: كانت عائشة أفقه الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس رأيا في العامة.
وقال عروة: ما رأيت أحدا أعلم بفقه ولا طب ولا شعر من عائشة، ولم ترو امرأة ولا رجل غير أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاحاديث بقدر روايتها رضي الله عنها، وقال أبو موسى الاشعري: " ما أشكل علينا أصحاب محمد حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علما " (2).
رواه الترمذي، وقال أبو الضحى عن مسروق: رأيت
__________
(1) أخرجه الامام أحمد في مسنده 6 / 138.
(2) رواه الترمذي في المناقب ح 3883 ص 5 / 705.
(*)

(8/99)


مشيخة أصحاب محمد الاكابر يسألونها عن الفرائض.
فأما ما يلهج به كثير من الفقهاء وعلماء الاصول من إيراد حديث: " خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء " (1) فإنه ليس له أصل ولا هو مثبت في شئ من أصول الاسلام، وسألت عنه شيخنا أبا الحجاج المزي فقال: لا أصل له.
ثم لم يكن في النساء أعلم من تلميذاتها عمرة بنت عبد الرحمن، وحفصة بنت سيرين، وعائشة بنت طلحة.
وقد تفردت أم المؤمنين عائشة بمسائل عن الصحابة لم توجد إلا عندها، وانفردت باختيارات أيضا وردت أخبار بخلافها بنوع من التأويل.
وقد جمع ذلك غير واحد من الائمة، فمن ذلك قال الشعبي: كان مسروق إذا حدث عن عائشة قال: حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة رسول الله المبرأة من فوق سبع سموات.
وثبت في صحيح البخاري من حديث أبي عثمان النهدي عن عمرو بن العاص.
قال: " قلت يا رسول الله أي الناس أحب إليك ؟
قال: عائشة، قلت: ومن الرجال ؟ قال: أبوها " وفي صحيح البخاري أيضا عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وآسية امرأة فرعون، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " (2) وقد استدل كثير من العلماء ممن ذهب إلى تفضيل عائشة على خديجة بهذا الحديث، قال: فإنه دخل فيه سائر النساء الثلاث المذكورات وغيرهن، ويعضد ذلك أيضا الحديث الذي رواه البخاري: حدثنا إسماعيل بن خليل ثنا، علي بن مسهر، عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة.
قالت: " استأذنت هالة بنت خويلد - أخت خديجة - على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف استئذان خديجة فارتاع لذلك، فقال: اللهم هالة، قالت عائشة: فغرت وقلت: ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين هلكت في الدهر الاول، قد أبدلك الله خيرا منها ؟ " هكذا رواه البخاري، فأما ما يروى فيه من الزيادة: " والله ما أبدلني خيرا منها " فليس يصح سندها.
وقد ذكرنا ذلك مطولا عند وفاة خديجة، وذكرنا حجة من ذهب إلى تفضيلها على عائشة بما أغنى عن إعادتها ههنا.
وروى البخاري عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوما: " يا عائش هذا جبرئيل يقرئك السلام، فقلت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته، ترى مالا أرى " (1) وثبت في صحيح البخاري أن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة، فاجتمع أزواجه إلى أم سلمة وقلن لها: قولي له يأمر الناس أن يهدوا له حيث كان، فقالت أم سلمة: فلما دخل علي قلت له ذلك فأعرض عني، ثم قلن لها ذلك فقالت له فأعرض عنها، ثم لما دار إليها قالت له فقال: يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة، فإنه والله ما نزل علي الوحي في بيت وأنا في لحاف امرأة منكن
__________
(1) رواه الترمذي في المناقب ح 3885 ص 5 / 706.
(2) أخرجه البخاري في فضائل الصحابة ح 3770 فتح الباري 7 / 106 والترمذي في المناقب ح 3887 ص 5 / 706.
(*)

(8/100)


غيرها " (1) وذكر أنهن بعثن فاطمة ابنته إليه فقالت: " إن نساءك ينشدونك العدل في ابنة أبي
بكر بن أبي قحافة، فقال: يا بنية ألا تحبين من أحب ؟ قالت: قلت بلى ! قال: فأحبي هذه ".
ثم بعثن زينب بنت جحش فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة فتكلمت زينب ونالت من عائشة، فانتصرت عائشة منها وكلمتها حتى أفحمتها، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عائشة ويقول: " إنها ابنة أبي بكر ".
وذكرنا أن عمارا لما جاء يستصرخ الناس ويستنفرهم إلى قتال طلحة والزبير أيام الجمل، صعد هو والحسن بن علي على منبر الكوفة، فسمع عمار رجلا ينال من عائشة فقال له: اسكت مقبوحا منبوذا، والله إنها لزوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا وفي الآخرة، ولكن الله ابتلاكم ليعلم إياه تطيعون أو إياها (2).
وقال الامام أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو، ثنا زائدة، ثنا عبد الله بن خثيم، حدثني عبد الله بن أبي مليكة أنه حدثه ذكوان - حاجب عائشة - أنه جاء عبد الله بن عباس يستأذن على عائشة فجئت - وعند رأسها عبد الله ابن أخيها عبد الرحمن - فقلت: هذا ابن عباس يستأذن، فأكب عليها ابن أخيها عبد الله فقال: هذا عبد الله بن عباس يستأذن - وهي تموت - فقالت: دعني من ابن عباس، فقال: يا أماه ! ! إن ابن عباس من صالح بنيك يسلم عليك ويودعك، فقالت: ائذن له إن شئت، قال فأدخلته، فلما جلس قال: أبشري فقالت: بماذا ؟ فقال: ما بينك وبين أن تلقي محمدا والاحبة إلا أن تخرج الروح من الجسد، وكنت أحب نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب إلا طيبا، وسقطت قلادتك ليلة الابواء فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصبح الناس وليس معهم ماء، فأنزل الله آية التيمم، فكان ذلك في سببك، وما أنزل الله من الرخصة لهذه الامة، وأنزل الله براءتك من فوق سبع سموات، جاء بها الروح الامين، فأصبح ليس مسجد من مساجد الله إلا يتلى فيه آناء الليل وآناء النهار، فقالت: دعني منك يا بن عباس، والذي نفسي بيده لوددت أني كنت نسيا منسيا.
والاحاديث في فضائلها ومناقبها كثيرة جدا.
وقد كانت وفاتها في هذا العام سنة ثمان وخمسين وقيل قبله بسنة، وقيل بعده بسنة، والمشهور في رمضان منه وقيل في شوال، والاشهر ليلة الثلاثاء السابع عشر من رمضان، وأوصت أن تدفن بالبقيع ليلا، وصلى عليها أبو هريرة بعد صلاة الوتر، ونزل في قبرها خمسة، وهم عبد الله وعروة ابنا الزبير بن العوام، من أختها أسماء بنت أبي بكر، والقاسم
وعبد الله ابنا أخيها محمد بن أبي بكر، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، وكان عمرها يومئذ سبعا وستين سنة، لانه توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمرها ثمان عشرة سنة، وكان عمرها عام الهجرة ثمان سنين أو تسع سنين، فالله أعلم ورضي الله تعالى عن أبيها وعن الصحابة أجمعين.
__________
(1) فتح الباري - كتاب المناقب ح 3775 ص 7 / 107 وفي الترمذي - المناقب ح 3879 ص 5 / 703 كلاهما عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة.
(2) فتح الباري 7 / 106 كتاب المناقب ح 3772.
(*)

(8/101)


ثم دخلت سنة تسع وخمسين
فيها شتى عمرو بن مرة الجهني في أرض الروم في البر، قاله الواقدي، ولم يكن فيها غزو في البحر، وقال غيره: بل غزا في البحر عامئذ جنادة بن أبي أمية.
وفيها عزل معاوية ابن أم الحكم عن الكوفة لسوء سيرته فيهم، وولى عليهم النعمان بن بشير.
وفيها ولى معاوية عبد الرحمن بن زياد ولاية خراسان وعزل عنها سعيد بن عثمان بن عفان، فصار عبيد الله على البصرة، وأخوه عبد الرحمن هذا على خراسان، وعباد بن زياد على سجستان، ولم يزل عبد الرحمن عليها واليا إلى زمن يزيد، فقدم عليه بعد مقتل الحسين فقال له: كم قدمت به من هذا المال ؟ قال: عشرون ألف ألف، فقال له: إن شئت حاسبناك، وإن شئت سوغناكها وعزلناك عنها، على أن تعطي عبد الله بن جعفر خمسمائة ألف درهم، قال: بل سوغها، وأما عبد الله بن جعفر فأعطيه ما قلت ومثلها معها، فعزله وولى غيره، وبعث عبد الرحمن بن زياد إلى عبد الله بن جعفر بألف ألف درهم، وقال: خمسمائة ألف من جهة أمير المؤمنين، وخمسمائة ألف من قبلي.
وفي هذه السنة وفد عبيد الله بن زياد على معاوية ومعه أشراف أهل البصرة والعراق، فاستأذن لهم عبد الله عليه على منازلهم منه، وكان آخر من أدخله على معاوية الاحنف بن قيس، - ولم يكن عبيد الله يجله - فلما رأى معاوية الاحنف رحب به وعظمه وأجله وأجلسه معه على السرير، ورفع منزلته، ثم تكلم القوم فأثنوا على عبيد الله والاحنف ساكت، فقال له معاوية: مالك يا أبا بحر لا تتكلم ؟ فقال
له: إن تكلمت خالفت القوم، فقال معاوية: انهضوا فقد عزلته عنكم فاطلبوا واليا ترضونه، فمكثوا أياما يترددون إلى أشراف بني أمية، يسألون كل واحد أن يتولى عليهم فلم يقبل أحد منهم ذلك، ثم جمعهم معاوية فقال: من اخترتم ؟ فاختلفوا عليه، والاحنف ساكت، فقال له معاوية: مالك لا تتكلم ؟ فقال: يا أمير المؤمنين إن كنت تريد غير أهل بيتك فرأيك فقال معاوية: قد أعدته إليكم.
وقال ابن جرير: قال الاحنف: يا أمير المؤمنين إن وليت علينا من أهل بيتك فإنا لا نعدل بعبيد الله بن زياد أحدا، وإن وليت علينا من غيرهم فانظر لنا في ذلك.
فقال معاوية: قد أعدته إليكم.
ثم إن معاوية أوصى عبيد الله بن زياد بالاحنف خيرا، وقبح رأيه فيه وفي مباعدته، فكان الاحنف بعد ذلك أخص أصحاب عبيد الله، ولما وقعت الفتنة لم يف لعبيد الله غير الاحنف بن قيس، والله أعلم.

قصة يزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري مع ابني زياد عبيد الله وعباد
ذكر ابن جرير عن أبي عبيدة معمر بن المثنى وغيره أن هذا الرجل كان شاعرا، وكان مع عباد بن زياد بسجستان، فاشتغل عنه بحرب الترك، وضاق على الناس علف الدواب، فقال ابن مفرغ شعرا يهجو به ابن زياد على ما كان منه فقال: ألا ليت اللحى كانت حشيشا * فنعلفها خيول المسلمينا

(8/102)


وكان عباد بن زياد عظيم اللحية كبيرها جدا، فبلغه ذلك فغضب وتطلبه فهرب منه وقال فيه قصائده يهجوه بها كثيرة فمن ذلك قوله: إذا أودى معاوية بن حرب * فبشر شعب قعبك بانصداع فأشهد أن أمك لم تباشر * أبا سفيان واضعة القناع ولكن كان أمرا فيه لبس * على خوف (1) شديد وارتياع وقال أيضا: ألا أبلغ معاوية بن حرب * مغلغلة من الرجل اليماني
أتغضب أن يقال أبوك عف * وترضى أن يقال أبوك زاني فأشهد أن رحمك من زياد * كرحم الفيل من ولد الاتان فكتب عباد بن زياد إلى أخيه عبيد الله وهو وافد على معاوية بهذه الابيات، فقرأها عبيد الله على معاوية واستأذنه في قتله، فقال: لا تقتله، ولكن أدبه ولا تبلغ به القتل، فلما رجع عبيد الله إلى البصرة استحضره وكان قد استجار بوالد زوجة عبيد الله بن زياد، وهو المنذر بن الجارود، وكانت ابنته بحرية عند عبيد الله، فأجاره وآواه إلى داره، وجاء الجارود مسلما على عبيد الله، وبعث عبيد الله الشرط إلى دار المنذر فجاؤوا بابن مفرغ فأوقف بين يديه، فقال المنذر: إني قد أجرته، فقال: يمدحك ويمدح أباك فترضى به، ويهجوني ويهجو أبي ثم تجيره علي، ثم أمر عبيد الله بابن مفرغ فسقي دواء مسهلا وحملوه على حمار عليه إكاف وجعلوا يطوفون به في الاسواق وهو يسلح والناس ينظرون إليه، ثم أمر به فنفي إلى سجستان إلى عند أخيه عباد، فقال ابن مفرغ لعبيد الله بن زياد: يغسل الماء ما صنعت وقولي * راسخ منك في العظام البوالي فلما أمر عبيد الله بنفي ابن مفرغ إلى سجستان، كلم اليمانيون معاوية في أمر ابن مفرغ، وأنه إنما بعثه إلى أخيه ليقتله، فبعث معاوية إلى ابن مفرغ وأحضره، فلما وقفت بين يديه بكى وشكى إلى معاوية ما فعل به ابن زياد، فقال له معاوية: إنك هجوته، ألست القائل كذا ؟ ألست القائل كذا ؟ فأنكر أن يكون قال من ذلك شيئا، وذكر أن القائل ذلك هو عبد الرحمن بن الحكم أخو مروان، وأحب أن يسندها إلي، فغضب معاوية على عبد الرحمن بن الحكم ومنعه العطاء حتى يرضى عنه عبيد الله بن زياد، وأنشد ابن مفرغ ما قاله في الطريق في معاوية يخاطب راحلته:
__________
(1) في الطبري والكامل: وجل.
(*)

(8/103)


عدس ما لعباد عليك إمارة * نجوت وهذا تحملين طليق
لعمري لقد نجاك من هوة الردى * إمام وحبل للانام وثيق سأشكر ما أوليت من حسن نعمة * ومثلي بشكر المنعمين حقيق فقال له معاوية: أما لو كنا نحن الذين هجوتنا لم يكن من أذانا شئ يصل إليك، ولم نتعرض لذلك، فقال: يا أمير المؤمنين إنه ارتكب في ما لم يرتكب مسلم من مسلم على غير حدث ولا جرم، قال: ألست القائل كذا ؟ ألست القائل كذا ؟ فقد عفونا عن جرمك، أما إنك لو إيانا تعامل لم يكن مما كان شئ فانظر الآن من تخاطب ومن تشاكل، فليس كل أحد يحتمل الهجاء، ولا تعامل أحدا إلا بالحسنى، وانظر لنفسك أي البلاد أحب إليك تقيم بها حتى نبعثك إليها، فاختار الموصل فأرسله إليها، ثم استأذن عبيد الله في القدوم إلى البصرة والمقام بها فأذن له.
ثم إن عبد الرحمن ركب إلى عبيد الله فاسترضاه فرضي عنه وأنشده عبد الرحمن: لانت زيادة في آل حرب * أحب إلي من إحدى بناني أراك أخا وعما وابن عم * فلا أدري بغيب ما تراني فقال له عبيد الله: أراك والله شاعر سوء، ثم رضي عنه وأعاد إليه ما كان منعه من العطاء.
قال أبو معشر والواقدي: وحج بالناس في هذه السنة عثمان بن محمد بن أبي سفيان، وكان نائب المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وعلى الكوفة النعمان بن بشير، وقاضيها شريح، وعلى البصرة عبيد الله بن زياد، وعلى سجستان عباد بن زياد، وعلى كرمان شريك بن الاعور الحارثي، من قبل عبيد الله بن زياد.
من توفي في هذه السنة من الاعيان قال ابن الجوزي: توفي فيها أسامة بن زيد، والصحيح قبلها كما تقدم.
الحطيئة الشاعر واسمه جرول (1) بن مالك بن جرول بن مالك بن جوية بن مخزوم بن مالك بن قطيعة بن عيسى بن مليكة، الشاعر الملقب بالحطيئة لقصره (2)، أدرك الجاهلية وأسلم في زمن الصديق،
__________
(1) في الاصابة 1 / 378: جرول بن أوس بن مالك بن حيوة بن مخزوم بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس
العبسي.
(انظر الاغاني 2 / 157 طبقات ابن سلام: 93 الشعر والشعراء: 238).
(2) في الاغاني 2 / 157 والاصابة 1 / 378: لقب بالحطيئة لانه ضرط ضرطة بين قوم، فقيل له، ما هذا ؟ فقال: إنما هي حطيئة: فسمي الحطيئة.
والحطيئة تصغير حطأة: فعلة من قولهم حطأ حطأ إذا ضرط (تاج العروس).
(*)

(8/104)


وكان كثير الهجاء حتى يقال إنه هجا أباه وأمه، وخاله وعمه، ونفسه وعرسه، فمما قال في أمه قوله: تنحي فاقعدي عني بعيدا (1) * أراح الله منك العالمينا أغربالا إذا استودعت سرا * وكانونا على المتحدثينا (2) جزاك الله شرا من عجوز * ولقاك العقوق من البنينا وقال في أبيه وعمه وخاله: لحاك الله ثم لحاك حقا * أبا ولحاك من عم وخال فنعم الشيخ أنت لدى المخازي * وبئس الشيخ أنت لدي المعالي ومما قال في نفسه يذمها (3): أبت شفتاي اليوم أن تتكلما * بشر فما أدري لمن أنا قائله ؟ أرى لي وجها شوه (4) الله خلقه * فقبح من وجه وقبح حامله وقد شكاه الناس إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فأحضره وحبسه، وكان سبب ذلك أن الزبرقان بن بدر شكاه لعمر أنه قال له يهجوه: دع المكارم لا ترحل لبغيتها * واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي فقال له عمر: ما أراه هجاك، أما ترضى أن تكون طاعما كاسيا ؟ فقال: يا أمير المؤمنين إنه لا يكون هجاء أشد من هذا، فبعث عمر إلى حسان بن ثابت فسأله عن ذلك، فقال: يا أمير المؤمنين ما هجاه ولكن سلح عليه، فعند ذلك حبسه عمر وقال: يا خبيث لاشغلنك عن أعراض
المسلمين، ثم شفع فيه عمرو بن العاص فأخرجه وأخذ عليه العهد أن لا يهجو الناس واستتابه، ويقال إنه أراد أن يقطع لسانه فشفعوا فيه حتى أطلقه، وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الضحاك بن عثمان الحرامي عن عبد الله بن مصعب حدثني عن ربيعة بن عثمان عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: أمر عمر بإخراج الحطيئة من الحبس وقد كلمه فيه عمرو بن العاص وغيره، فأخرج وأنا حاضر فأنشأ يقول:
__________
(1) في الكامل للمبرد 1 / 354 وفوات الوفيات 1 / 276 والاغاني 2 / 163: تنحي فاجلسي عني بعيدا...(2) الكانون: قيل النمام، وقيل الثقيل، وقيل الذي إذا دخل على القوم كنوا حديثهم منه وقيل هو المصطلي.
وقيل الغربال: النمام أيضا.
(3) في الكامل للمبرد وقوات الوفيات: اطلع في حوض ماء فرأس وجهه فقال: (4) في الكامل للمبرد وفوات الوفيات: قبح.
(*)

(8/105)


ماذا تقول لافراخ بذي مرخ (1) * زغب (2) الحواصل لا ماء ولا شجر غادرت كاسبهم في قعر مظلمة * فارحم هداك مليك الناس يا عمر (3) أنت الامام الذي من بعد صاحبه * ألقى إليك مقاليد النهى البشر لم يؤثروك بها إذ قدموك لها * لكن لانفسهم كانت بك الاثر (4) فامنن على صبية بالرمل مسكنهم * بين الاباطح يغشاهم بها القدر (5) نفسي فداؤك كم بيني وبينهم * من عرض وادية يعمى بها الخبر قال: فلما قال الحطيئة: ماذا تقول الافراخ بذي مرخ، بكى عمر، فقال عمرو بن العاص: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أعدل من رجل يبكي على تركه الحطيئة.
ثم ذكروا أنه أراد قطع لسان الحطيئة لئلا يهجو به الناس فأجلسه على كرسي وجئ بالموسى، فقال الناس: لا يعود يا أمير المؤمنين وأشاروا إليه قل: لا أعود، فقال له عمر النجا، فلما ولى قال له عمر: ارجع يا حطيئة، فرجع فقال له: كأني بك عند شاب من قريش قد كسر لك نمرقة، وبسط لك
أخرى، وقال: يا حطيئة غننا، فاندفعت تغنيه بأعراض الناس، قال أسلم: فرأيت الحطيئة بعد ذلك عند عبيد الله بن عمرو وقد كسر له نمرقة وبسط له أخرى، وقال: يا حطيئة غننا فاندفع حطيئة يغني، فقلت له: يا حطيئة أتذكر يوم عمر حين قال لك ما قال ؟ ففزع وقال: رحم الله ذلك المرء، لو كان حيا ما فعلنا هذا، فقلت لعبيد الله: إني سمعت أباك يقول كذا وكذا فكنت أنت ذلك الرجل، وقال الزبير: حدثني محمد بن الضحاك عن أبيه قال قال عمر للحطيئة: دع قول الشعر.
قال لا أستطيع، قال: لم ؟ قال: هو مأكلة عيالي، وعلة لساني، قال: فدع المدحة المجحفة، قال: وما هي يا أمير المؤمنين ؟ قال تقول بنو فلان أفضل من بني فلان، امدح ولا تفضل، فقال: أنت أشعر مني يا أمير المؤمنين.
ومن مديحه الجيد المشهور قوله: أقلوا عليهم لا أبا لابيكم * من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا أولئك قومي إن بنوا أحسنوا البنا * وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا وإن كانت النعماء فيهم جزوا بها * وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا
__________
(1) مرخ: قال ياقوت: واد بين فدك والوابشية كثير الشجر.
ويروى بذي أمر: موضع بنجد من ديار غطفان.
(2) في الكامل للمبرد: حمر.
(3) في الاغاني 2 / 186 وفوات الوفيات 12 / 277 والكامل للمبرد 1 / 353: ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة...فاغفر عليك سلام الله يا عمر (4) الاثر: جمع أثرة وهي المكرمة، وفي الديوان: كانت بها الخير.
(5) في الاغاني: أهلي...من عرض داوية...والداوية والدوية: الفلاة الواسعة.
(*)

(8/106)


قالوا: ولما احتضر الحطيئة قيل له أوص قال أوصيكم بالشعر، ثم قال: الشعر صعب وطويل سلمه * إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه زلت به إلى الحضيض قدمه * والشعر لا يستطبعه من يظلمه أراد أن يعربه فأعجمه
قال أبو الفرج بن الجوزي في المنتظم.
توفي الحطيئة في هذه السنة، وذكر أيضا فيها وفاة عبد الله بن عامر بن كريز، وقد تقدم في التي قبلها.
عبد الله بن مالك بن القشب واسمه جندب بن نضلة بن عبد الله بن رافع الازدي، أبو محمد حليف بني عبد المطلب، المعروف بابن بجينة، وهي أمه بحينة بنت الارث، واسمه الحارث بن المطلب بن عبد مناف، أسلم قديما، وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ناسكا قواما صواما، وكان ممن يسرد صوم الدهر كله، قال ابن سعد: كان ينزل بطن ريم على ثلاثين ميلا من المدينة، ومات في عمل مروان في المرة الثانية، ما بين سنة أربع وخمسين إلى ثمان وخمسين، والعجب أن ابن الجوزي نقل من كلام محمد بن سعد، ثم إنه ذكر وفاته في هذه السنة - يعني سنة تسع وخمسين فالله أعلم.
قيس بن سعد بن عبادة الخزرجي صحابي جليل كأبيه، له في الصحيحين حديث، وهو القيام للجنازة، وله في المسند حديث في صوم عاشوراء، وحديث غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في دارهم وغير ذلك، وخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، وثبت في صحيح البخاري عن أنس قال: كان قيس بن سعد من النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة صاحب الشرطة من الامير.
وحمل لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الغزوات، واستعمله على الصدقة، ولما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح ومعه ثلثمائة من المهاجرين والانصار، فأصابهم ذلك الجهد الكثير فنحر لهم قيس بن سعد تسع جزائر، حتى وجدوا تلك الدابة على سيف البحر فأكلوا منها، وأقاموا عليها شهرا حتى سمنوا، وكان قيس سيدا مطاعا كريما ممدحا شجاعا، ولاه علي نيابة مصر، وكان يقاوم بدهائه وخديعته وسياسته لمعاوية وعمرو بن العاص، ولم يزل معاوية يعمل عليه حتى عزله علي عن مصر وولى عليها محمد بن أبي بكر الصديق، فاستخفه معاوية، ولم يزل حتى أخذ منه مصر كما قدمنا.
وأقام قيس عند علي فشهد معه صفين والنهروان ولزمه حتى قتل ثم صار إلى المدينة، فلما اجتمعت الكلمة على معاوية جاءه ليبايعه كما بايعه أصحابه، قال عبد الرزاق عن ابن عيينة قال قدم قيس بن سعد على معاوية فقال له معاوية:
وأنت يا قيس تلجم علي مع من ألجم ؟ أما والله لقد كنت أحب أن لا تأتيني هذا اليوم إلا وقد ظفر بك ظفر من أظافري موجع، فقال له قيس: وأنا والله قد كنت كارها أن أقوم في هذا المقام

(8/107)


فأحييك بهذه التحية، فقال له معاوية: ولم ؟ وهل أنت إلا حبر من أحبار اليهود ؟ فقال له قيس: وأنت يا معاوية كنت صنما من أصنام الجاهلية، دخلت في الاسلام كارها، وخرجت منه طائعا، فقال معاوية: اللهم غفرا، مد يدك، فقال له قيس بن سعد: إن شئت.
زدت وزدت.
وقال موسى بن عقبة: قالت عجوز لقيس: أشكو إليك قلة فأر بيتي، فقال قيس: ما أحسن هذه الكناية ! ! املاوا بيتها خبزا ولحما وسمنا وتمرا.
وقال غيره: كانت له صحفة يدار بها حيث دار، وكان ينادي له مناد: هلموا إلى اللحم والثريد وكان أبوه وجده من قبله يفعلان كفعله، وقال عروة بن الزبير: باع قيس بن سعد من معاوية أرضا بتسعين ألفا، فقدم المدينة فنادى مناديه: من أراد القرض فليأت، فأقرض منها خمسين ألفا وأطلق الباقي، ثم مرض بعد ذلك فقل عواده، فقال لزوجته - قريبة بنت أبي عتيق أخت أبي بكر الصديق - إني أرى قلة من عادني في مرضي هذا، وإني لارى ذلك من أجل مالي على الناس من القرض، فبعث إلى كل رجل ممن كان له عليه دين بصكه المكتوب عليه، فوهبهم ماله عليهم، وقيل: إنه أمر مناديه فنادى: من كان لقيس بن سعد عليه دين فهو منه في حل، فما أمسى حتى كسرت عتبة بابه من كثرة العواد، وكان ؟ قول: اللهم ارزقني مالا وفعالا، فإنه لا يصلح الفعال إلا بالمال.
وقال سفيان الثوري: اقترض رجل من قيس بن سعد ثلاثين ألفا فلما جاء ليوفيه إياها قال له قيس: إنا قوم ما أعطينا أحدا شيئا فنرجع فيه.
وقال الهيثم بن عدي: اختلف ثلاثة عند الكعبة في أكرم أهل زمانهم، فقال أحدهم: عبد الله بن جعفر، وقال الآخر: قيس بن سعد، وقال الآخر: عرابة الاوسي، فتماروا في ذلك حتى ارتفع ضجيجهم عند الكعبة، فقال لهم رجل: فليذهب كل رجل منكم إلى صاحبه الذي يزعم أنه أكرم من غيره، فلينظر ما يعطيه وليحكم على العيان.
فذهب صاحب عبد الله بن جعفر إليه فوجده قد وضع رجله في الغرز ليذهب إلى ضيعة له، فقال له: يا بن عم رسول الله ابن
سبيل ومنقطع به، قال: فأخرج رجله من الغرز وقال: ضع رجلك واستو عليها فهي لك بما عليها، وخذ ما في الحقيبة ولا تخدعن عن السيف فإنه من سيوف علي، فرجع إلى أصحابه بناقة عظيمة وإذا في الحقيبة أربعة آلاف دينار، ومطارف من خز وغير ذلك، وأجل ذلك سيف علي بن أبي طالب.
ومضى صاحب قيس بن سعد إليه فوجده نائما، فقالت له الجارية: ما حاجتك إليه ؟ قال: ابن سبيل ومنقطع به، قالت: فحاجتك أيسر من إيقاظه، هذا كيس فيه سبعمائة دينار ما في دار قيس مال غيره اليوم، واذهب إلى مولانا في معاطن الابل فخذ لك ناقة وعبدا، واذهب راشدا.
فلما استيقظ قيس من نومه أخبرته الجارية بما صنعت فأعتقها شكرا على صنيعها ذلك، وقال: هلا أيقظتيني حتى أعطيه ما يكفيه أبدا، فلعل الذي أعطيتيه لا يقع منه موقع حاجته.
وذهب صاحب عرابة الاوسي إليه فوجده وقد خرج من منزله يريد الصلاة وهو يتوكأ على عبدين له - وكان قد كف بصره - فقال له: يا عرابة، فقال: قل، فقال: ابن سبيل ومنقطع به، قال: فخلى عن العبدين ثم صفق بيديه، باليمنى على اليسرى، ثم قال أوه أوه، والله ما أصبحت ولا

(8/108)


أمسيت وقد تركت الحقوق من مال عرابة شيئا، ولكن خذ هذين العبدين، قال: ما كنت لافعل، فقال: إن لم تأخذهما فهما حران، فإن شئت فأعتق، وإن شئت فخذ.
وأقبل يلتمس الحائط بيده، قال: فأخذهما وجاء بهما إلى صاحبيه، قال فحكم الناس على أن ابن جعفر قد جاد بمال عظيم، وأن ذلك ليس بمستنكر له، إلا أن السيف أجلها.
وأن قيسا أحد الاجواد حكم مملوكته في ماله بغير علمه واستحسن فعلها وعتقها شكرا لها على ما فعلت، وأجمعوا على أن أسخى الثلاثة عرابة الاوسي، لانه جاد بجميع ما يملكه، وذلك جهد من مقل.
وقال سفيان الثوري عن عمرو عن أبي صالح قال: قسم سعد بن عبادة ماله بين أولاده وخرج إلى الشام فمات بها، فولد له ولد بعد وفاته، فجاء أبو بكر وعمر إلى قيس بن سعد فقالا: إن أباك قسم ماله ولم يعلم بحال هذا الولد إذ كان حملا، فاقسموا له معكم، فقال قيس: إني لا أغير ما فعله سعد ولكن نصيبي له.
ورواه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن محمد بن سيرين فذكره.
ورواه عبد الرزاق
عن ابن جريج أخبرني عطاء فذكره.
وقال ابن أبي خيثمة: ثنا أبو نعيم ثنا مسعر، عن معبد بن خالد.
قال: كان قيس بن سعد لا يزال هكذا رافعا أصبعه المسبحة - يعني يدعو - وقال هشام بن عمار: ثنا الجراح بن مليح ثنا أبو رافع عن قيس بن سعد.
قال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " المكر والخديعة في النار ": لكنت من أمكر هذه الامة.
وقال الزهري: دهاة العرب حين ثارت الفتنة خمسة: معاوية، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وقيس بن سعد، وعبد الله بن بديل وكانا مع علي، وكان المغيرة معتزلا بالطائف حتى حكم الخصمان فصارا إلى معاوية.
وقد تقدم أن محمد بن أبي حذيفة كان قد تغلب على مصر وأخرج منها عبد الله بن سعد بن أبي سرح، نائب عثمان بعد عمرو بن العاص، فأقره عليها علي مدة يسيرة ثم عزله بقيس بن سعد، فلما دخلها سار فيها سيرة حسنة وضبطها، وذلك سنة ست وثلاثين، فثقل أمره على معاوية وعمرو بن العاص، فكاتباه ليكون معهما على علي فامتنع وأظهر للناس مناصحته لهما، وفي الباطن هو مع علي، فبلغ ذلك عليا فعزله وبعث إلى مصر الاشتر النخعي فمات الاشتر في الرملة قبل أن يصل إليها، فبعث علي محمد بن أبي بكر فخف أمره على معاوية وعمرو، فلم يزالا حتى أخذا منه الديار المصرية، وقتل محمد بن أبي بكر هذا وأحرق في جيفة حمار.
ثم سسار قيس إلى المدينة، ثم سار إلى علي بن أبي طالب إلى العراق، فكان معه في حروبه حتى قتل علي، ثم كان مع الحسن بن علي حين سار إلى معاوية ليقاتله، فكان قيس على مقدمة الجيش، فلما بايع الحسن معاوية ساء قيسا ذلك وما أحبه، وامتنع من طاعته معاوية، ثم ارتحل إلى المدينة، ثم قدم على معاوية في وفد من الانصار فبايع معاوية بعد معاتبة شديدة وقعت بينهما، وكلام فيه غلظة، ثم أكرمه معاوية وقدمه وحظي عنده، فبينما هو مع الوفد عند معاوية إذ قدم كتاب ملك الروم على معاوية وفيه: أن ابعث إلي بسراويل أطول رجل في العرب، فقال معاوية: ما أرنا إلا قد احتجنا إلا سراويلك ؟ - وكان قيس مديد القامة جدا لا يصل أطول الرجال إلى صدره - فقام قيس فتنحى

(8/109)


ثم خلع سراويله فألقاها إلى معاوية فقال له معاوية: لو ذهبت إلى منزلك ثم أرسلت بها إلينا،
فأنشأ قيس يقول عند ذلك: أردت بها كي يعلم الناس أنها * سراويل قيس والوفود شهود وأن لا يقولوا غاب قيس وهذه * سراويل غادي سمد وثمود وإني من الحي اليماني لسيد * وما الناس إلا سيد ومسود فكدهم بمثلي إن مثلي عليهم * شديد وخلقي في الرحال مديد وفضلني في الناس أصل ووالد * وباع به أعلو الرجال مديد قال: فأمر معاوية أطول رجل في الوفد فوضعها على أنفه فوقعت بالارض، وفي رواية أن ملك الروم بعث إلى معاوية برجلين من جيشه يزعم أن أحدهما أقوى الروم، والآخر أطول الروم فانظر هل في قومك من يفوقهما في قوة هذا وطول هذا ؟ فإن كان في قومك من يفوقهما بعثت إليك من الاسارى كذا وكذا، ومن التحف كذا وكذا، وإن لم يكن في جيشك من هو أقوى وأطول منهما فهادني ثلاث سنين.
فلما حضرا عند معاوية قال: من لهذا القوي ؟ فقالوا: ماله إلا أحد رجلين، إما محمد بن الحنفية، أو عبد الله بن الزبير، فجئ بمحمد بن الحنفية وهو ابن علي بن أبي طالب، فلما اجتمع الناس عند معاوية قال له معاوية: أتعلم فيم أرسلت إليك ؟ قال: لا ! فذكر له أمر الرومي وشدة بأسه، فقال للرومي: إما أن تجلس لي أو أجلس إليك وتناولني يدك أو أناولك يدي، فأينا قدر على أن يقيم الآخر من مكانه غلبه، وإلا فقد غلب.
فقال له: ماذا تريد ؟ تجلس أو أجلس ؟ فقال له الرومي: بل اجلس أنت، فجلس محمد بن الحنفية وأعطى الرومي يده فاجتهد الرومي بكل ما يقدر عليه من القوة أن يزيله من مكانه أو يحركه ليقيمه فلم يقدر على ذلك، ولا وجد إليه سبيلا، فغلب الرومي: عند ذلك، وظهر لمن معه من الوفود من بلاد الروم أنه قد غلب، ثم قام محمد بن الحنفية فقال للرومي اجلس لي، فجلس وأعطى محمدا يده فما أمهله أن أقامه سريعا، ورفعه في الهواء ثم ألقاه على الارض فسر بذلك معاوية سرورا عظيما، ونهض قيس بن سعد فتنحى عن الناس ثم خلع سراويله وأعطاها لذلك الرومي الطويل فلبسها فبلغت إلى ثدييه وأطرافها تخط بالارض، فاعترف الرومي بالغلب، وبعث ملكهم ما كان
التزمه لمعاوية، وعاتب الانصار قيس بن سعد في خلعه سراويله بحضرة الناس فقال: ذلك الشعر المتقدم معتذرا به إليهم، وليكون ذلك ألزم للحجة التي تقوم على الروم، وأقطع لما حاولوه.
ورواه الحميدي عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال: كان قيس بن سعد رجلا ضخما جسيما صغير الرأس له لحية في ذقنه، وكان إذا ركب الحمار العالي خطت رجلاه الارض، وقال الواقدي وخليفة بن خياط وغير واحد: توفي بالمدينة في آخر خلافة معاوية.
وذكر ابن الجوزي وفاته في هذه السنة، فتبعناه في ذلك.

(8/110)


معقل بن يسار المزني صحابي جليل، شهد الحديبية، وكان هو الذي كان يرفع أغصان الشجرة عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبايع الناس تحتها، وكانت من السمر، وهي المذكورة في القرآن في قوله تعالى: * (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) * [ الفتح: 18 ] وقد ولاه عمر إمرة البصرة فحفر بها النهر المنسوب إليه، فيقال نهر معقل، وله بها دار، قال الحسن البصري: دخل عبيد الله بن زياد على معقل بن يسار يعوده في مرضه الذي مات فيه، فقال له معقل: إني محدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لو لم أكن على حالتي هذه لم أحدثك به، سمعته يقول: " من استرعاه الله رعية فلم يحطها بنصيحة لم يجد رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة مائة عام ".
وممن توفي في هذه السنة: أبو هريرة الدوسي رضي الله عنه وقد اختلف في اسمه في الجاهلية والاسلام، واسم أبيه على أقوال متعددة (1)، وقد بسطنا أكثرها في كتابنا التكميل، وقد بسط ذلك ابن عساكر في تاريخه، والاشهر أن اسمه عبد الرحمن بن صخر وهو من الازد، ثم من دوس.
ويقال: كان اسمه في الجاهلية عبد شمس، وقيل عبد نهم، وقيل عبد غنم، ويكنى بأبي الاسود، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله، وقيل عبد الرحمن، وكناه بأبي هريرة، وروى عنه أنه قال: وجدت هريرة وحشية فأخذت أولادها فقال
لي أبي: ما هذه في حجرك ؟ فأخبرته، فقال: أنت أبو هريرة.
وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: " أبا هر " وثبت أنه قال له: " يا أبا هريرة " قال محمد بن سعد وابن الكلبي والطبراني: اسم أمه ميمونة بنت صفيح بن الحارث (2) بن أبي صعب بن هبة بن سعد بن ثعلبة، أسلمت وماتت مسلمة.
وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الكثير الطيب، وكان من حفاظ الصحابة، وروى عن أبي بكر وعمر وأبي بن كعب، وأسامة بن زيد، ونضرة بن أبي نضرة، والفضل بن العباس، وكعب الاحبار، وعائشة أم المؤمنين.
وحدث عنه خلائق من أهل العلم قد ذكرناهم مرتبين على حروف المعجم في التكميل، كما ذكره شيخنا في تهذيبه.
قال البخاري: روى عنه نحو من ثمانمائة رجل أو أكثر من أهل العلم، من الصحابة والتابعين وغيرهم.
وقال عمرو بن علي الفلاس: كان ينزل المدينة وكان إسلامه سنة خيبر: قال الواقدي: وكان بذي الحليفة له دار، وقال غيره: كان آدم اللون، بعيد ما بين المنكبين، ذا طفرتين، أقرن
__________
(1) انظر الاصابة 4 / 202 والاستيعاب على هامش الاصابة 4 / 202 طبقات ابن سعد 4 / 325 صفة الصفوة 1 / 685 أسد الغابة 5 / 315.
(2) في ابن سعد: الحارث بن شابي بن أبي صعب بن هنية.
(*)

(8/111)


الثنيتين.
وقال أبو داود الطيالسي وغير واحد عن أبي خلدة، خالد بن دينار عن أبي العالية عن أبي هريرة قال: لما أسلمت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ممن أنت ؟ فقلت: من دوس، فوضع يده على جبهته وقال: ما كنت أرى أن في دوس رجلا فيه خير " وقال الزهري عن سعيد عن أبي هريرة قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، وروى عبد الرزاق عن سفيان بن عيينة عن إسماعيل عن قيس.
قال: قال أبو هريرة: جئت يوم خيبر بعدما فرغوا من القتال.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا سعيد بن أبي مريم ثنا الدراوردي.
قال: حدثني خيثم، عن عراك بن مالك، عن أبيه عن أبي هريرة.
قال: " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة، قال أبو هريرة: وقدمت المدينة فهاجروا فصليت الصبح وراء سباع فقرأ في السجدة الاولى سورة مريم،
وفي الثانية ويل للمطففين، قال أبو هريرة: فقلت في نفسي: ويل لابي فلان، لرجل كان بأرض الازد - وكان له مكيالان مكيال يكيل به لنفسه، ومكيال يبخس به الناس ".
وقد ثبت في صحيح البخاري أنه ضل غلام له في الليلة التي اجتمع في صبيحتها برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه جعل ينشد: يا ليلة من طولها وعنائها * على أنها من دارة الكفر نجت فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: " هذا غلامك " ؟ فقال هو حر لوجه الله عز وجل.
وقد لزم أبو هريرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إسلامه، فلم يفارقه في حضر ولا سفر، وكان أحرص شئ على سماع الحديث منه، وتفقه عنه، وكان يلزمه على شبع بطنه.
وقال أبو هريرة - وقد تمخط يوما في قميص له كتان - بخ بخ، أبو هريرة يمتخط في الكتان، لقد رأيتني أخر فيما بين المنبر والحجر من الجوع، فيمر المار فيقول: به جنون وما بي إلا الجوع، والله الذي لا إله إلا هو لقد كنت أعتمد بكبدي على الارض من الجوع، وأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد كنت أستقرئ أحدهم الآية وأنا أعلم بها منه، وما بي إلا أن يستتبعني إلى منزله فيطعمني شيئا، وذكر الحديث اللبن مع أهل الصفة كما قدمناه في دلائل النبوة.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، ثنا عكرمة بن عامر، حدثني أبو كثير - وهو يزيد بن عبد الرحمن بن أذينة السحيمي الاعمى - حدثني أبو هريرة.
قال: والله ما خلق الله مؤمنا يسمع بي ولا يراني إلا أحبني، قلت: وما عملك بذلك يا أبا هريرة ؟ قال: إن أمي كانت امرأة مشركة، وإني كنت أدعوها إلى الاسلام وكانت تأبى علي، فدعوتها يوما فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقلت: يا رسول الله إني كنت أدعو أمي إلى الاسلام فكانت تأبى علي، وإني دعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال: " اللهم اهد أم أبي هريرة " فخرجت أعدو أبشرها بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لها، فلما أتيت الباب إذا هو مجاف، وسمعت خضخضة (خشخشة) وسمعت خشف رجل - يعني وقعها - فقالت: يا أبا هريرة كما أنت، ثم فتحت الباب وقد لبست درعها وعجلت عن خمارها أن تلبسه، وقالت: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن

(8/112)


محمدا عبده ورسوله، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبكي من الفرح كما بكيت من الحزن، فقلت: يا رسول الله أبشر فقد استجاب الله دعاءك، قد هدى الله أم أبي هريرة، وقلت: يا رسول الله ادعو الله أن يحببني وأمي إلى عباده المؤمنين، فقال: اللهم حبب عبيدك هذا وأمه إلى عبادك المؤمنين، وحببهم إليهما " قال أبو هريرة: فما خلق الله من مؤمن يسمع بي ولا يراني أو يرى أمي إلا وهو يحبني (1).
وقد رواه مسلم من حديث عكرمة عن عمار نحوه.
وهذا الحديث من دلائل النبوة، فإن أبا هريرة محبب إلى جميع الناس، وقد شهر الله ذكره بما قدره أن يكون من روايته من إيراد هذا الخبر عنه على رؤوس الناس في الجوامع المتعددة في سائر الاقاليم في الانصات يوم الجمعة بين يدي الخطبة، والامام على المنبر، وهذا من تقدير الله العزيز العليم، ومحبة الناس له رضي الله عنه.
وقال هشام بن عمار: حدثنا سعيد، ثنا عبد الحميد بن جعفر، عن المقبري، عن سالم مولى النضريين: أنه سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنما محمد بشر أغضب كما يغضب البشر وإني قد اتخذت عندك عهدا لن تخلفنيه، فأيما رجل من المسلمين آذيته أو شتمته أو جلدته فاجعلها له قربة بها عندك يوم القيامة " قال أبو هريرة: لقد رفع علي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما الدرة ليضربني بها فلان يكون ضربني بها أحب إلي من حمر النعم، ذلك بأني أرجو أن أكون مؤمنا وأن يستجاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم دعوته، وقال ابن أبي ذيب، عن سعيد المقبري عن أبي هريرة.
قال: قلت يا رسول الله إني أسمع منك حديثا كثيرا فأنساه، فقال: " ابسط رداءك، فبسطته، ثم قال: ضمه فضممته فما نسيت حديثا بعد " (2) رواه البخاري.
وقال الامام أحمد: حدثنا سفيان عن الزهري عن عبد الرحمن الاعرج.
قال: سمعت أبا هريرة يقول: إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله الموعد إني كنت امرأ مسكينا أصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني، وكان المهاجرون يشغلهم الصفق في الاسواق، وكانت الانصار يشغلهم القيام على أموالهم، فحضرت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما مجلسا فقال: " من بسط رداءه حتى أقضي مقالتي ثم يقبضه إليه فلن ينسى شيئا سمعه مني ".
فبسطت بردة علي حتى قضى مقالته ثم قبضتها إلي فوالذي نفسي بيده ما نسيت شيئا سمعته منه بعد ذلك (3).
وقد رواه ابن وهب عن يونس عن
الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة وله طرق أخر عنه.
وقد قيل إن هذا كان خاصا بتلك المقالة لم ينس منها شيئا، بدليل أنه نسي بعض الاحاديث كما هو مصرح في الصحيح، حيث نسي حديث " لا عدوى ولا طيرة " مع حديثه " لا يورد ممرض على مصح " وقيل: إن هذا كان عاما في
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه في فضائل الصحابة (35) باب ح 158 ص (1938).
وأخرجه الامام أحمد في مسنده ج 2 / 320.
(2) أخرجه البخاري في كتاب العلم باب (42) وفي المناقب باب (28) ح 3648 فتح الباري 6 / 633 والترمذي في المناقب ح 3835 ص 5 / 684.
(3) مسند أحمد ج 2 / 240.
(*)

(8/113)


تلك المقالة وغيرها والله أعلم.
وقال الدراوردي، عن عمرو بن أبي عمرو، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة أنه قال: " يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة ؟ فقال: لقد ظننت يا أبا هريرة أن أحدا لا يسألني عن هذا الحديث أول منك، لما رأيت من حرصك على الناس، إن أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قبل نفسه " (1) ورواه البخاري من حديث عمرو بن أبي عمرو به.
وقال ابن أبي ذيب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة أنه قال: " حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين فأما أحدهما فبثثته في الناس، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم " رواه البخاري من حديث ابن أبي ذيب، ورواه غير واحد عن أبي هريرة، وهذا الوعاء الذي كان لا يتظاهر به هو الفتن والملاحم وما وقع بين الناس من الحروب والقتال، وما سيقع التي لو أخبر بها قبل كونها لبادر كثير من الناس إلى تكذيبه، وردوا ما أخبر به من الحق، كما قال: لو أخبرتكم أنكم تقتلون إمامكم وتقتتلون فيما بينكم بالسيوف لما صدقتموني.
وقد يتمسك بهذا الحديث طوائف من أهل الاهواء والبدع الباطلة، والاعمال الفاسدة، ويسندون ذلك إلى هذا الجواب الذي لم يقله أبو هريرة، ويعتقدون أن ما هم عليه كان في هذا الجواب الذي لم يخبر به أبو هريرة، وما من مبطل مع تضاد أقوالهم إلا وهو يدعي هذا وكلهم يكذبون، فإذا لم يكن أبو هريرة
قد أخبر به فمن علمه بعده ؟ وإنما كان الذي فيه شئ من الفتن والملاحم كما أخبر بها هو وغيره من الصحابة، مما ذكرناه ومما سنذكره في كتاب الفتن والملاحم.
وقال حماد بن زيد: حدثنا عمرو بن عبيد الانصاري، ثنا أبو الزعيزعة كاتب مروان بن الحكم أن مروان دعا أبا هريرة وأقعده خلف السرير، وجعل مروان يسأل وجعلت أكتب عنه، حتى إذا كان عند رأس الحول دعا به وأقعده من وراء الحجاب فجعل يسأله عن ذلك الكتاب، فما زاد ولا نقص، ولا قدم ولا أخر.
وروى أبو بكر بن عياش وغيره عن الاعمش عن أبي صالح.
قال: كان أبو هريرة من أحفظ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن بأفضلهم.
وقال الربيع قال الشافعي: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره.
وقال أبو القاسم البغوي.
حدثنا أبو خيثمة ثنا الوليد بن مسلم ثنا سعيد بن عبد العزيز عن مكحول قال: تواعد الناس ليلة من الليالي إلى قبة من قباب معاوية فاجتمعوا فيها، فقام أبو هريرة فحدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح.
وقال سفيان بن عيينة، عن معمر، عن وهب بن منبه، عن أخيه همام بن منبه.
قال: سمعت أبا هريرة يقول: ما من أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر حديثا عنه عني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب.
وقال أبو زرعة الدمشقي: حدثني محمد بن زرعة الرعيني، ثنا مروان بن محمد، ثنا سعيد بن عبد العزيز، عن إسماعيل بن عبد الله، عن السائب بن يزيد قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول
__________
(1) رواه البخاري في كتاب العلم (33) باب.
وأعاده في الرقاق (51) باب.
وأخرجه الامام أحمد في مسنده 2 / 373.
(*)

(8/114)


لابي هريرة: لتتركن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولالحقنك بأرض دوس، وقال لكعب الاحبار: لتتركن الحديث عن الاول أو لالحقنك بأرض القردة.
قال أبو زرعة، وسمعت أبا مسهر يذكره عن سعيد بن عبد العزيز نحوا منه ولم يسنده، وهذا محمول من عمر على أنه خشي من الاحاديث التي قد تضعها الناس على غير مواضعها، وأنهم يتكلمون على ما فيها من أحاديث الرخص، وأن الرجل إذا أكثر من الحديث ربما وقع في أحاديثه بعض الغلط أو الخطأ فيحملها الناس عنه أو نحو
ذلك.
وقد جاء أن عمر أذن له بعد ذلك في التحديث، فقال مسدد: حدثنا خالد الطحان، ثنا يحيى بن عبد الله، عن أبيه عن أبي هريرة.
قال: بلغ عمر حديثي فأرسل إلي فقال: كنت معنا يوم كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت فلان ؟ قال قلت: نعم ! وقد علمت لم تسألني عن ذلك ؟ قال: ولم سألتك ؟ قلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ " من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " قال: أما إذا فاذهب فحدث.
وقال الامام أحمد: حدثنا عفان ثنا عبد الواحد - يعني ابن زياد - ثنا عاصم بن كليب حدثني أبي.
قال: سمعت أبا هريرة يقول - وكان يبتدئ حديثه بأن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق: " من كذب علي عامدا فليتبوأ مقعده من النار ".
وروى مثله من وجه آخر عنه.
وقال ابن وهب: حدثني يحيى بن أيوب عن محمد بن عجلان.
أنا أبا هريرة كان يقول: إني لاحدث أحاديث لو تكلمت بها في زمان عمر أو عند عمر لشج رأسي.
وقال صالح بن أبي الاخضر، عن الزهري، عن أبي سلمة: سمعت أبا هريرة يقول: ما كنا نستطيع أن نقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قبض عمر، وقال محمد بن يحيى الذهلي، ثنا عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري.
قال قال عمر: أقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا فيما يعمل به.
قال ثم يقول أبو هريرة: أفكنت محدثكم بهذه الاحاديث وعمر حي ؟ أما والله إذا لايقنت أن المحففة ستباشر ظهري، فإن عمر كان يقول، اشتغلوا بالقرآن فإن القرآن كلام الله، ولهذا لما بعث أبا موسى إلى العراق قال له: إنك تأتي قوما لهم في مساجدهم دوي بالقرآن كدوي النحل، فدعهم على ما هم عليه، ولا تشغلهم بالاحاديث، وأنا شريكك في ذلك.
هذا معروف عن عمر رضي الله عنه.
وقال الامام أحمد: حدثنا هشيم، عن يعلى بن عطاء، عن الوليد بن عبد الرحمن، عن ابن عمر.
أنه مر بأبي هريرة وهو يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من تبع جنازة فصلى عليها فله قيراط، فإن شهد دفنها فله قيراطان، القيراط أعظم من أحد ".
فقال له ابن عمر: أبا هر انظر ما تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام إليه أبو هريرة حتى انطلق به إلى عائشة فقال لها: يا أم المؤمنين أنشدك بالله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من تبع جنازة فصلى عليها فله قيراط فإن شهد دفنها فله قيراطان " ؟ فقالت: اللهم نعم.
فقال أبو هريرة: إنه لم يكن يشغلني
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غرس بالوادي وصفق بالاسواق، إني إنما كنت أطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة يعلمنيها، أو أكلة يطعمنيها، فقال له ابن عمر: أنت يا أبا هر كنت ألزمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمنا

(8/115)


بحديثه (1).
وقال الواقدي: حدثني عبد الله بن نافع عن أبيه.
قال: كنت مع ابن عمر في جنازة أبي هريرة وهو يمشي أمامها ويكثر الترحم عليه، ويقول: كان ممن يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين (2).
وقد روي أن عائشة تأولت أحاديث كثيرة من أبي هريرة ووهمته في بعضها، وفي الصحيح أنها عابت عليه سرد الحديث، أي الاكثار منه في الساعة الواحدة.
وقال أبو القاسم البغوي: حدثنا بشر بن الوليد الكندي، ثنا إسحاق بن سعد، عن سعيد أن عائشة قالت لابي هريرة: أكثرت الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا هريرة، قال: إني والله ما كنت تشغلني عنه المكحلة والخضاب، ولكن أرى ذلك شغلك عما استكثرت من حديثي.
قالت: لعله.
وقال أبو يعلى: حدثنا إبراهيم الشامي، ثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي رافع أن رجلا من قريش أتى أبا هريرة في حلة وهو يتبختر فيها، فقال: يا أبا هريرة إنك تكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل سمعته يقول في حلتي هذه شيئا ؟ قال: والله إنكم لتؤذوننا، ولولا ما أخذ الله على أهل الكتاب * (لتبيننه للناس ولا يكتمونه) * [ آل عمران: 187 ] ما حدثتكم بشئ، سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: " إن رجلا ممن كان قبلكم بينما هو يتبختر في حلة إذ خسف الله به الارض فهو يتجلجل فيها حتى تقوم الساعة " (3).
فوالله ما أدري لعله كان من قومك أو من رهطك - شك أبو يعلى - وقال محمد بن سعد: حدثنا محمد بن عمر، حدثني كثير ين زيد، عن الوليد بن رباح.
قال: سمعت أبا هريرة يقول لمروان: والله ما أنت بوال، وإن الوالي لغيرك فدعه - يعني حين أرادوا يدفنون الحسن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - ولكن تدخل فيما لا يعنيك، إنما يريد بهذا إرضاء من هو غائب عنك - يعني معاوية - قال: فأقبل عليه مروان مغضبا فقال: يا أبا هريرة إن الناس قد قالوا إنك أكثرت على رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث، وإنما قدمت قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بيسير، فقال أبو هريرة: نعم ! قدمت ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر سنة سبع، وأنا يومئذ قد زدت على الثلاثين سنة
سنوات، وأقمت معه حتى توفي، أدور معه في بيوت نسائه وأخدمه، وأنا والله يومئذ مقل، وأصلي خلفه وأحج وأغزو معه، فكنت والله أعلم الناس بحديثه، قد والله سبقني قوم بصحبته والهجرة إليه من قريش والانصار، وكانوا يعرفون لزومي له فيسألوني عن حديثه، منهم عمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير، فلا والله ما يخفى علي كل حديث كان بالمدينة، وكل من أحب الله ورسوله، وكل من كانت له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلة، وكل صاحب له، وكان أبو بكر صاحبه في الغار وغيره، وقد أخرجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يساكنه - يعرض بأبي مروان الحكم بن العاص -.
__________
(1) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 5 / 276.
(2) طبقات ابن سعد 4 / 340.
(3) أخرجه البخاري في اللباس (5) باب.
وفي أحاديث الانبياء (54) باب.
ومسلم في اللباس (49) باب.
والنسائي في الزينة (101) باب.
وابن ماجه في الفتن باب (22).
والدارمي في المقدمة (40) وأحمد في المسند 2 / 66، 267، 315، 390، 413، 456، 467، 531، 3 / 40.
(*)

(8/116)


ثم قال أبو هريرة: ليسألني أبو عبد الملك عن هذا وأشباهه فإنه يجد عندي منه علما جما ومقالا، قال: فوالله ما زال مروان يقصر عن أبي هريرة ويتقيه بعد ذلك ويخافه ويخاف جوابه.
وفي رواية أن أبا هريرة قال لمروان: إني أسلمت وهاجرت اختيارا وطوعا، وأحببت رسول الله صلى الله عليه وسلم حبا شديدا، وأنتم أهل الدار وموضع الدعوة، أخرجتم الداعي من أرضه، وآذيتموه وأصحابه، وتأخر إسلامكم عن إسلامي إلى الوقت المكروه إليكم.
فندم مروان على كلامه له واتقاه.
وقال ابن أبي خيثمة: حدثنا هارون بن معروف ثنا محمد بن سلمة ثنا محمد بن إسحاق عن عمر أو عثمان بن عروة عن أبيه - يعني عروة بن الزبير بن العوام - قال: قال لي أبي الزبير: ادنني من هذا اليماني - يعني أبا هريرة - فإنه يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأدنيته منه، فجعل أبو هريرة يحدث، وجعل الزبير يقول: صدق، كذب صدق، كذب.
قال: قلت يا أبة ما قولك صدق كذب ؟ قال: يا بني أما أن يكون سمع هذه الاحاديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أشك، ولكن منها
ما يضعه على مواضعه، ومنها ما وضعه على غير مواضعه.
وقال علي بن المديني عن وهب بن جرير، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي اليسر بن أبي عامر.
قال: كنت عند طلحة بن عبيد الله إذ دخل رجل فقال: يا أبا محمد والله ما ندري هذا اليماني أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم، أم يقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يسمع، أو ما لم يقل ؟ فقال طلحة.
والله ما نشك أنه قد سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم نسمع، وعلم ما لم نعلم، إنا كنا قوما أغنياء، لنا بيوتات وأهلون، وكنا نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار ثم نرجع، وكان هو مسكينا لا مال له ولا أهل، وإنما كانت يده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يدور معه حيث ما دار، فما شك أنه قد علم ما لم نعلم وسمع ما لم نسمع (1).
وقد رواه الترمذي بنحوه.
وقال شعبة عن أشعث بن سليم عن أبيه قال: سمعت أبا أيوب يحدث عن أبي هريرة فقيل له: أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدث عن أبي هريرة ؟ فقال: إن أبا هريرة قد سمع ما لم نسمع، وإني إن أحدث عنه أحب إلي من أن أحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني ما لم أسمعه منه - وقال مسلم بن الحجاج: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، ثنا مروان الدمشقي عن الليث بن سعد، حدثني بكير بن الاشج.
قال: قال لنا بشر بن سعيد: اتقوا الله وتحفظوا من الحديث، فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحدثنا عن كعب الاحبار ثم يقوم فأسمع بعض ما كان معنا يجعل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كعب، وحديث كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية يجعل ما قاله كعب عن رسول الله، وما قاله رسول الله عن كعب، فاتقوا الله وتحفظوا في الحديث، وقال يزيد بن هارون: سمعت شعبة يقول: أبو هريرة كان يدلس - أي يروي ما سمعه من كعب وما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يميز هذا من هذا - ذكره ابن عساكر.
وكان شعبة يشير بهذا إلى حديثه
__________
(1) أخرجه الترمذي في المناقب ح (3837) ص 5 / 684 وقال: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن اسحاق.
(*)

(8/117)


" من أصبح جنبا فلا صيام له " فإنه لما حوقق عليه قال: أخبرنيه مخبر ولم أسمعه من
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال شريك عن مغيرة عن إبراهيم.
قال: كان أصحابنا يدعون من حديث أبي هريرة، وروى الاعمش عن إبراهيم.
قال: ما كانوا يأخذون بكل حديث أبي هريرة، وقال الثوري عن منصور عن إبراهيم قال: كانوا يرون في أحاديث أبي هريرة شيئا، وما كانوا يأخذون بكل حديث أبي هريرة، إلا ما كان من حديث صفة جنة أو نار، أو حث على عمل صالح، أو نهي عن شر جاء القرآن به.
وقد انتصر ابن عساكر لابي هريرة ورد هذا الذي قاله إبراهيم النخعي.
وقد قال ما قاله إبراهيم طائفة من الكوفيين، والجمهور على خلافهم.
وقد كان أبو هريرة من الصدق والحفظ والديانة والعبادة والزهادة والعمل الصالح على جانب عظيم.
قال حماد بن زيد: عن عباس الجريري، عن أبي عثمان النهدي.
قال: كان أبو هريرة يقوم ثلث الليل.
وامرأته ثلثه، وابنته ثلثه، يقوم هذا ثم يوقظ هذا، ثم يوقظ هذا هذا (1).
وفي الصحيحين عنه أنه قال: " أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام ": وقال ابن جريج عمن حدثه.
قال قال أبو هريرة: إني أجزئ الليل ثلاثة أجزاء فجزءا لقراءة القرآن، وجزءا أنام فيه، وجزءا أتذكر فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال محمد بن سعد: ثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا إسحاق بن عثمان القرشي، ثنا أبو أيوب.
قال كان لابي هريرة مسجد في مخدعه، ومسجد في بيته، ومسجد في حجرته، ومسجد على باب داره، إذا خرج صلى فيها جميعها، وإذا دخل صلى فيها جميعا.
وقال عكرمة: كان أبو هريرة يسبح كل ليلة ثنتي عشرة ألف تسبيحة، يقول: أسبح على قدر ديتي.
وقال هشيم عن يعلى بن عطاء، عن ميمون بن أبي ميسرة.
قال: كانت لابي هريرة صيحتان في كل يوم، أول النهار صيحة يقول: ذهب الليل وجاء النهار وعرض آل فرعون على النار، وإذا كان العشي يقول: ذهب النهار وجاء الليل وعرض آل فرعون على النار، فلا يسمع أحد صوته إلا استعاذ بالله من النار.
وقال عبد الله بن المبارك: حدثنا موسى بن عبيدة، عن زياد بن ثوبان، عن أبي هريرة.
قال: لا تغبطن فاجرا بنعمة فإن من ورائه طالبا حثيثا طلبه، جهنم كلما خبث زدناهم سعيرا.
وقال ابن لهيعة عن أبي يونس، عن أبي هريرة أنه صلى بالناس يوما فلما اسلم رفع صوته فقال: الحمد لله
الذي جعل الدين قواما، وجعل أبا هريرة إماما، بعدما كان أجيرا لابنة غزوان على شبع بطنه وحمولة رجله.
وقال إبراهيم بن إسحاق الحربي: ثنا عفان، ثنا سليم بن حيان قال: سمعت أبي يحدث عن أبي هريرة قال: نشأت يتيما، وهاجرت مسكينا، وكنت أجيرا لابنة غزوان بطعام بطني وعقبة رجلي، أحدو بهم إذا ركبوا وأحتطب إذا نزلوا، فالحمد لله الذي جعل الدين قواما
__________
(1) في صفة الصفوة عن أبي عثمان النهدي قال: كان هو وامرأته وخادمه يتعقبون الليل أثلاثا (أي يتناوبون) يصلي هذا ثم يوقظ هذا ويصلي هذا ثم يوقظ هذا 1 / 692.
(*)

(8/118)


وجعل أبا هريرة إماما، ثم يقول: والله يا أهل الاسلام إن كانت إجارتي معهم إلا على كسرة يابسة، وعقبة في ليلة غبراء مظلمة، ثم زوجنيها الله فكنت أركب إذا ركبوا، وأخذم إذا خدموا، وأنزل إذا نزلوا.
وقال إبراهيم بن يعقوب الجورجاني: حدثنا الحجاج بن نصر ثنا هلال بن عبد الرحمن الحنفي، عن عطاء بن أبي ميمونة، عن أبي سلمة.
قال قال أبو هريرة وأبو ذر: باب من العلم نتعلمه أحب إلينا من ألف ركعة تطوعا، وباب نعلمه علمنا به أو لم نعمل به، أحب إلينا من مائة ركعة تطوعا، وقالا: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا جاء طالب العلم الموت وهو على هذه الحال مات وهو شهيد " وهذا حديث غريب من هذا الوجه، وروى غير واحد عن أبي هريرة أنه كان يتعوذ في سجوده أن يزني أو يسرق، أو يكفر أو يعمل كبيرة.
فقيل له: أتخاف ذلك ؟ فقال: ما يؤمنني وإبليس حي، ومصرف القلوب يصرفها كيف يشاء ؟.
وقالت له ابنته: يا أبة إن النبات يعيرنني يقلن: لم لا يحليك أبوك بالذهب ؟ فقال: يا بنية قولي لهن.
إن أبي يخشى على حر اللهب وقال أبو هريرة أتيت عمر بن الخطاب فقمت له وهو يسبح بعد الصلاة فانتظرته فلما انصرف دنوت منه فقلت.
اقرئني آيات من كتاب الله، قال: وما أريد إلا الطعام، قال فأقرأني آيات من سورة آل عمران، فلما بلغ أهله دخل وتركني على الباب، فقلت: ينزع ثيابه ثم يأمر لي بطعام، فلم أر شيئا، فلما طال علي قمت فمشيت فاستقبلني رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمني فقال: " يا أبا هريرة إن خلوف فمك الليلة لشديد ؟ فقلت: أجل يا رسول الله، لقد
ظللت صائما وما أفطرت بعد، وما أجد ما أفطر عليه، قال: فانطلق، فانطلقت معه حتى أتى بيته فدعا جارية له سوداء فقال: إيتنا بتلك القصعة، فأتينا بقصعة فيها وضر من طعام أراه شعيرا قد أكل وبقي في جوانبها بعضه وهو يسير، فسميت وجعلت أتتبعه فأكلت حتى شبعت ".
وقال الطبراني: ثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن محمد بن سيرين أنا أبا هريرة قال لابنته: لا تلبسي الذهب فإني أخشى عليك حر اللهب.
وقد روي هذا عن أبي هريرة من طرق.
وقال الامام أحمد: حدثنا حجاج، ثنا شعبة، عن سماك بن حرب، عن أبي الربيع عن أبي هريرة أنه قال: إن هذه الكناسة مهلكة دنياكم وآخرتكم - يعني الشهوات وما يأكلونه - وروى الطبراني عن ابن سيرين عن أبي هريرة أن عمر بن الخطاب دعاه ليستعمله فأبى أن يعمل له، فقال: أتكره العمل وقد عمل من هو خير منك ؟ - أو قال: قد طلبه من هو خير منك - ؟ قال: من ؟ قال: يوسف عليه السلام فقال أبو هريرة: يوسف نبي ابن نبي، وأنا أبو هريرة بن أميمة، فأخشى ثلاثا أو اثنتين.
فقال عمر: أفلا قلت خمسا ؟ قال: أخشى أن أقول بغير علم، وأقضي بغير حلم، وأن يضرب ظهري، وينزع مالي، ويشتم عرضي.
وقال سعيد بن أبي هند، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: " ألا تسألني من هذه الغنائم التي سألني أصحابك ؟ فقلت: أسألك أن تعلمني مما علمك الله، قال: فنزع نمرة على ظهري فبسطها بيني وبينه حتى كأني إلى القمل يدب عليها، فحدثني حتى إذا استوعب حديثه قال: اجمعها إليك

(8/119)


فصرها، فأصبحت لا أسقط حرفا مما حدثني ".
وقال أبو عثمان النهدي: قلت لابي هريرة: كيف تصوم ؟ قال: أصوم أول الشهر ثلاثا فإن حدث بي حدث كان لي أجر شهري.
وقال حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي عثمان النهدي: أنا أبا هريرة كان في سفر ومعه قوم فلما نزلوا وضعوا السفرة وبعثوا إليه ليأكل معهم فقال: إني صائم، فلما كادوا أن يفرغوا من أكلهم جاء فجعل يأكل، فجعل القوم ينظرون إلى رسولهم الذي أرسلوه إليه، فقال لهم: أراكم تنظرون إلي، قد والله أخبرني أنه صائم، فقال أبو هريرة: صدق، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" صوم شهر صوم الصبر، وصوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر ".
وقد صمت ثلاثة أيام من أول الشهر فأنا مفطر في تخفيف الله، صائم في تضعيف الله عز وجل.
وروى الامام أحمد: حدثنا عبد الملك بن عمرو، ثنا إسماعيل، عن أبي المتوكل، عن أبي هريرة أنه كان هو وأصحاب له إذا صاموا يجلسون في المسجد وقالوا نطهر صيامنا.
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو عبيدة الحداد حدثنا عثمان الشحام، أبو سلمة، ثنا فرقد السبخي قال: كان أبو هريرة يطوف بالبيت وهو يقول: ويل لي من بطني، إن أشبعته كهظني، وإن أجعته أضعفني.
وروى الامام أحمد عن عكرمة قال: قال أبو هريرة: إني لاستغفر الله عز وجل وأتوب إليه كل يوم اثنتي عشرة ألف مرة، وذلك على قدر ديتي: وروى عبد الله بن أحمد عن أبي هريرة: أنه كان له خى فيه اثنا عشر ألف عقدة يسبح به قبل أن ينام.
وفي رواية ألفا عقدة فلا ينام حتى يسبح به، وهو أصح من الذي قبله.
ولما حضره الموت بكى فقيل له: ما يبكيك ؟ فقال: ما أبكي على دنياكم هذه، ولكن أبكي على بعد سفري وقلة زادي، وإني أصبحت في صعود ومهبط على جنة ونار، لا أدري إلى أيهما يؤخذ بي.
وروى قتيبة بن سعيد، ثنا الفرج بن فضالة، عن أبي سعيد عن أبي هريرة قال: " إذا زوقتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فالدمار عليكم " وروى الطبراني عن معمر قال: بلغني عن أبي هريرة أنه كان إذا مر به جنازة قال روحوا فإنا غادون، أو اغدوا فإنا رائحون، موعظة بليغة، وعقلة سريعة، يذهب الاول ويبقى الآخر لا عقل له.
وقال الحافظ أبو بكر بن مالك: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثني أبو بكر ليث بن خالد البجلي، ثنا عبد المؤمن بن عبد الله السدوسي.
قال: سمعت أبن يزيد المديني يقول: قام أبو هريرة على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم دون مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعتبة، فقال: ويل للعرب من شر قد اقترب، ويل لهم من إمارة الصبيان، يحكمون فيهم بالهوى ويقتلون بالغضب.
وقال الامام أحمد: حدثنا علي بن ثابت، عن أسامة بن زيد، عن أبي زياد - مولى ابن عباس - عن أبي هريرة قال: كانت لي خمس عشرة ثمرة فأفطرت على خمس وتسحرت بخمس وأبقيت خمسا لفطري.
وقال أحمد: حدثنا عبد الملك بن عمرو، ثنا إسماعيل - يعني العبدي - عن أبي المتوكل: أن أبا هريرة كانت لهم زنجية قد غمتهم بعملها،
فرفع عليها السوط ثم قال: لولا القصاص يوم القيامة لاغشينك به، ولكن سأبيعك ممن يوفيني ثمنك، أحوج ما أكون إليه، اذهبي فأنت حرة لله عز وجل.
وروى حماد بن سلمة: عن

(8/120)


أيوب عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة: أن أبا هريرة مرض فدخلت عليه أعوده فقلت: اللهم اشف أبا هريرة، فقال: اللهم لا ترجعها، ثم قال: يا أبا سلمة يوشك أن يأتي على الناس زمان يكون الموت أحب إلى أحدهم من الذهب الاحمر.
وروى عطاء عن أبي هريرة قال: إذا رأيتم ستا فإن كانت نفس أحدكم في يده فليرسلها، فلذلك أتمنى الموت أخاف أن تدركني، إذا أمرت السفهاء، وبيع الحكم، وتهون بالدم، وقطعت الارحام، وكثرت الجلاوزة، ونشأ نشو يتخذون القرآن مزامير.
وقال ابن وهب: حدثنا عمرو بن الحارث، عن يزيد بن زياد القرظي: أن ثعلبة بن أبي مالك القرظي حدثه أن أبا هريرة أقبل في السوق يحمل حزمتي حطب - وهو يومئذ أمير لمروان بن الحكم - فقال: أوسع الطريق للامير يا بن أبي مالك، فقلت يرحمك الله يكفي هذا ! فقال: أوسع الطريق للامير والحزمة عليه.
وله فضائل ومناقب كثيرة وكلام حسن ومواعظ جمة، أسلم كما قدمنا عام خيبر، فلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفارقه إلا حين بعثه مع العلاء بن الحضرمي إلى البحرين، ووصاه به، فجعله العلاء مؤذنا بين يديه، وقال له أبو هريرة: لا تسبقني بآمين أيها الامير.
وقد استعمله عمر بن الخطاب عليها في أيام إمارته، وقاسمه مع جملة العمال.
قال عبد الرزاق: حدثنا معمر: عن أيوب، عن ابن سيرين.
أن عمر استعمل أبا هريرة على البحرين فقدم بعشرة آلاف، فقال له عمر: استأثرت بهذا الاموال أي عدو الله وعدو كتابه ؟ فقال أبو هريرة: لست بعدو الله ولا عدو كتابه، ولكن عدو من عاداهما.
فقال: فمن أين هي لك ؟ قال: خيل نتجت، وغلة ورقيق لي، وأعطية تتابعت علي.
فنظروا فوجدوه كما قال.
فلما كان بعد ذلك دعاه عمر ليستعمله فأبى أن يعمل له، فقال له: تكره العمل وقد طلبه من كان خيرا منك ؟ طلبه يوسف عليه السلام، فقال: إن يوسف نبي ابن نبي ابن نبي ابن نبي، وأنا أبو هريرة بن أمية وأخشى ثلاثا واثنين، قال
عمر: فهلا قلت خمسة ؟ قال: أخشى أن أقول بغير علم، وأقضي بغير حلم، أو يضرب ظهري، وينزع مالي، ويشتم عرضي.
وذكر غيره أن عمر غرمه في العمالة الاولى اثنى عشر ألفا فلهذا امتنع في الثانية.
وقال عبد الرزاق: عن معمر، عن محمد بن زياد.
قال: كان معاوية يبعث أبا هريرة على المدينة فإذا غضب عليه عزله وولى مروان بن الحكم، فإذا جاء أبو هريرة إلى مروان حجبه عنه، فعزل مروان ورجع أبو هريرة، فقال لمولاه: من جاءك فلا ترده واحجب مروان، فلما جاء مروان دفع الغلام في صدره فلما دخل إلا بعد جهد جهيد، فلما دخل قال: إن الغلام حجبنا عنك، فقال له أبو هريرة: إنك أحق الناس أن لا تغضب من ذلك.
والمعروف أن مروان هو الذي كان يستنيب أبا هريرة في إمرة المدينة، ولكن كان يكون عن إذن معاوية في ذلك والله أعلم.
وقال حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي رافع: كان مروان ربما استخلف أبا هريرة على المدينة فيركب الحمار ويلقى الرجل فيقول: الطريق قد جاء الامير - يعني نفسه - وكان يمر بالصبيان وهم يلعبون بالليل لعبة الاعراب، وهو أمير، فلا يشعرون إلا وقد ألقى نفسه بينهم

(8/121)


ويضرب برجليه كأنه مجنون، يريد بذلك أن يضحكهم، فيفزع الصبيان منه ويفرون عنه ههنا وههنا يتضاحكون.
قال أبو رافع: وربما دعاني أبو هريرة إلى عشائه بالليل فيقول: دع العراق للامير - يعني قطع اللحم - قال: فأنظر فإذا هو ثريد بالزيت.
وقال ابن وهب: حدثني عمرو بن الحارث، عن يزيد بن زياد القرظي أن ثعلبة بن أبي مالك حدثه أن أبا هريرة أقبل في السوق يحمل حزمة حطب وهو يومئذ خليفة مروان فقال: أوسع الطريق للامير يا بن أبي مالك.
فقلت: أصلحك الله تلقى هذا، فقال: أوسع الطريق للامير والحزمة عليه.
وقد تقدم هذا.
وروى نحوه من غير وجه.
وقال أبو الزعيزعة كاتب مروان: بعث مروان إلى أبي هريرة بمائة دينار، فلما كان الغد بعث إليه: إني غلطت ولم أردك بها، وإني إنما أردت غيرك.
فقال أبو هريرة: قد أخرجتها فإذا خرج عطائي فخذها منه - وكان قد تصدق بها - وإنما أراد مروان اختباره.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الاعلا بن عبد الجبار، ثنا حماد بن سلمة، عن يحيى بن سعيد بن المسيب
قال: كان معاوية إذا أعطى أبا هريرة سكت، وإذا أمسك عنه تكلم.
وروى غير واحد عن أبي هريرة أنه جاءه شاب فقال: يا أبا هريرة إني أصبحت صائما فدخلت على أبي فجاءني بخبز ولحم فأكلت ناسيا، فقال: طعمة أطعمكها الله لا عليك، قال: ثم دخلت دارا لاهلي فجئ بلبن لقحة فشربته ناسيا، قال: لا عليك، قال: ثم نمت فاستيقظت فشربت ماء، وفي رواية وجامعت ناسيا، فقال أبو هريرة: إنك يا بن أخي لم تعتد الصيام.
وقال غير واحد: كان أبو هريرة إذا رأى الجنازة قال: روحوا فإنا غادون، أو اغدوا فإنا رائحون.
وروى غير واحد أنه لما حضرته الوفاة بكى فقيل له: ما يبكيك ؟ قال: على قلة الزاد وشدة المفازة، وأنا على عقبة هبوط إما إلى جنة إو إلى نار فما أدري إلى أيهما أصير.
وقال مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري.
قال: دخل مروان على أبي هريرة في مرضه الذي مات فيه فقال: شفاك الله يا أبا هريرة، فقال أبو هريرة: اللهم إني أحب لقاءك فأحب لقائي.
قال: فما بلغ مروان أصحاب القطن حتى مات أبو هريرة وقال يعقوب بن سفيان عن دحيم، عن الوليد بن جابر، عن عمير بن هانئ.
قال قال أبو هريرة: اللهم لا تدركني سنة ستين، قال: فتوفي فيها أو قبلها بسنة، وهكذا قال الواقدي: إنه توفي سنة تسع وخمسين، عن ثمان وسبعين سنة، قال الواقدي: وهو الذي صلى على عائشة في رمضان، وعلى أم سلمة في شوال سنة تسع وخمسين، ثم توفي أبو هريرة بعدهما فيها، كذا قال، والصواب أن أم سلمة تأخرت بعد أبي هريرة.
وقد قال غير واحد: إنه توفي سنة تسع وخمسين وقيل ثمان، وقيل سبع وخمسين، والمشهور تسع وخمسين.
قالوا: وصلى عليه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان نائب المدينة، وفي القوم ابن عمر وأبو سعيد وخلق من الصحابة وغيرهم، وكان ذلك عند صلاة العصر، وكانت وفاته في داره بالعقيق، فحمل إلى المدينة فصلي عليه، ثم دفن بالبقيع رحمه الله ورضي عنه.
وكتب الوليد بن عتبة إلى معاوية بوفاة أبي هريرة، فكتب إليه معاوية: أن انظروا ورثته فأحسن إليهم، واصرف إليهم عشرة آلاف درهم، وأحسن جوارهم، واعمل إليهم معروفا، فإنه كان ممن نصر عثمان، وكان معه في الدار رحمهما الله تعالى.

(8/122)