البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
سنة ستين من الهجرة النبوية
فيها كانت غزوة مالك بن عبد الله مدينة سورية، قال الواقدي: وفيها دخل
جنادة بن أبي أمية جزيرة رودس، وفيها أخذ معاوية البيعة ليزيد من الوفد
الذين قدموا صحبة عبيد الله بن زياد إلى دمشق، وفيها مرض معاوية مرضه
الذي توفي فيه في رجب منها كما سنبينه.
فروى ابن جرير: من طريق أبي مخنف: حدثني عبد الملك بن نوفل بن مساحق بن
عبد الله بن مخرمة أن معاوية لما مرض مرضته التي هلك فيها، دعا ابنه
يزيد فقال: يا بني إني قد كفيتك الرحلة والرجال (1).
ووطأت لك الاشياء، وذللت لك الاعزاء (2)، وأخضعت لك أعناق العرب، وإني
لا أتخوف أن ينازعك هذا الامر الذي أسسته إلا أربعة نفر، الحسين بن
علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر.
كذا قال: والصحيح أن عبد الرحمن كان قد توفي قبل موت معاوية بسنتين كما
قدمنا، فاما ابن عمر فهو رجل ثقة قد وقدته العبادة، وإذا لم يبق أحد
غيره بايعك، وأما الحسين فإن أهل العراق خلفه لا يدعونه حتى يخرجونه
عليك، فإن خرج فظفرت به فاصفح عنه، فإن له رحما ماسة، وحقا عظيما.
وأما ابن أبي بكر فهو رجل إن رأى أصحابه صنعوا شيئا صنع مثله، ليست له
همة إلا في النساء واللهو.
وأما الذي يجثم لك جثوم الاسد، ويراوغك روغان الثعلب، وإذا أمكنته فرصة
وثب، فذاك ابن الزبير، فإن هو فعلها بك فقدرت عليه فقطعه إربا إربا.
قال غير واحد: فحين حضرت معاوية الوفاة كان يزيد في الصيد (3)، فاستدعى
معاوية الضحاك بن قيس الفهري - وكان على شرطة دمشق - ومسلم بن عقبة
فأوصى إليهما أن يبلغا يزيد السلام ويقولان له يتوصى بأهل الحجاز، وإن
سأله أهل العراق في كل يوم أن يعزل عنهم عاملا ويولي عليهم عاملا
فليفعل، فعزل واحد أحب إليك من أن يسل عليك مائة ألف سيف، وأن يتوصى
بأهل الشام، وأن يجعلهم أنصاره، وأن يعرف لهم حقهم، ولست أخاف عليه من
قريش سوى ثلاثة، الحسين، وابن عمر، وابن الزبير.
ولم يذكر عبد الرحمن بن أبي بكر، وهذا أصح، فأما ابن عمر فقد وقدته
العبادة، وأما الحسين فرجل ضعيف (4) وأرجو أن يكفيكه الله تعالى بمن
قتل أباه وخذل أخاه، وإن له رحما ماسة وحقا عظيما،
__________
(1) في الطبري 6 / 179: الرحلة والترحال، وفي الكامل 4 / 6: الشدة
والترحال.
وفي ابن الاعثم: الجد والترحال.
(2) في الطبري والكامل: الاعداء.
وفي فتوح ابن الاعثم: ولقد وطأت لك يا بني البلاد، وذللت لك رقاب العرب
الصعاب...(وزاد انظر الفتوح ج 4 / 259).
(3) في الاخبار الطوال ص 226: أن يزيد بن معاوية كان غائبا عن دمشق،
وقد أبطأ عليه فدفع الكتاب إلى الضحاك ومسلم بن عقبة...ثم عاد يزيد،
فأعاد عليه الوصية ثم قضى.
وقال في الامامة والسياسة 1 / 203: أن يزيد قدم دمشق بعد موت أبيه.
(4) في الطبري والكامل: خفيف.
(*)
(8/123)
وقرابة من محمد
صلى الله عليه وسلم، ولا أظن أهل العراق تاركيه حتى يخرجوه، فإن قدرت
عليه فاصفح عنه فإني لو صاحبته عفوت عنه.
وأما ابن الزبير فإنه خب ضب فإن شخص لك فانبذ إليه أن يلتمس منك صلحا،:
فإن فعل فاقبل منه، واصفح عن دماء قومك ما استطعت (1).
وكان موت معاوية لاستهلال رجب من هذه السنة، قاله هشام بن الكلبي.
وقيل للنصف منه، قاله الواقدي.
وقيل يوم الخميس لثمان بقين منه، قاله المدائني.
قال ابن جرير: وأجمعوا على أنه هلك في رجب منها، وكان مدة ملكه
استقلالا من جمادى سنة إحدى وأربعين حين بايعه الحسن بن علي باذرج،
فذلك تسع عشرة سنة وثلاث أشهر، وكان نائبا في الشام عشرين سنة تقريبا،
وقيل غير ذلك: وكان عمره ثلاثا وسبعين سنة، وقيل خمسا وسبعين سنة، وقيل
ثمانيا وسبعين سنة، وقيل خمسا وثمانين سنة (2)، وسيأتي بقية الكلام في
آخر ترجمته.
وقال أبو السكن زكريا بن يحيى: حدثني عم أبي زحر بن حصين، عن جده حميد
بن منهب.
قال: كانت هند بنت عتبة عند الفاكه بن المغيرة المخزومي، وكان الفاكه
من فتيان قريش، وكان له بيت للضيافة يغشاه الناس من غير إذن، فخلا ذلك
البيت يوما فاضطجع الفاكه وهند فيه في وقت القائلة، ثم خرج الفاكه لبعض
شأنه، وأقبل رجل ممن كان يغشاه فولج البيت فلما رأى المرأة فيه ولى
هاربا، ورآه الفاكه وهو خارج من
البيت، فأقبل إلى هند وهي مضطجعة فضربها برجله وقال: من هذا الذي كان
عندك ؟ قالت: ما رأيت أحدا ولا انتبهت حتى أنبهتني أنت، فقال لها:
الحقي بأبيك، وتكلم فيها الناس، فقال لها أبوها: يا بنية إن الناس قد
أكثروا فيك القالة، فانبئيني نبأك، فإن يكن الرجل عليك صادقا دسست إليه
من يقتله فينقطع عنك القالة، وإن يك كاذبا حاكمته إلى بعض كهان اليمن،
فعند ذلك حلفت هند لابيها بما كانوا يحلفون في الجاهلية إنه لكاذب
عليها، فقال عتبة بن ربيعة للفاكه: يا هذا إنك قد رميت ابنتي بأمر
عظيم، وعار كبير، لا يغسله الماء، وقد جعلتنا في العرب بمكان ذلة
ومنقصة، ولولا أنك مني ذو قرابة لقتلتك، ولكن سأحاكمك إلى كاهن اليمن.
فحاكمني إلى بعض كهان اليمن، فخرج الفاكه في بعض جماعة من بني - مخزوم
أقاربه - وخرج عتبة في جماعة من بني عبدمناف، وخرجوا بهند ونسوة معها
من أقاربهم، ثم ساروا قاصدين بلاد اليمن، فلما شارفوا بلاد الكاهن
قالوا غدا نأتي الكاهن، فلما سمعت هند ذلك تنكرت حالها وتغير وجهها،
وأخذت في البكاء، فقال لها أبوها: يا بنية قد أرى ما بك من تنكر الحال،
وكثرة البكاء، وما ذاك أراه عندك إلا لمكروه أحدثتيه، وعمل اقترفتيه،
فهلا كان هذا قبل أن يشيع في الناس ويشتهر مسيرنا ؟ فقالت: والله يا
أبتاه ما هذا الذي تراه مني لمكروه وقع مني، وإني لبريئة،
__________
(1) انظر كتاب العهد (الوصية) في الطبري 6 / 179 - 180 الكامل 4 / 5 -
6 الاخبار الطوال 226 فتوح ابن الاعثم 4 / 256 وما بعدها.
والبيان والتبيين 2 / 107.
(2) في مدة عمره ومدة خلافته اختلاف انظر الطبري 6 / 180 - 181 الكامل
4 / 76.
والاصابة 3 / 433 - 434 والاستيعاب على هامش الاصابة 3 / 398.
وأسد الغابة 4 / 386.
(*)
(8/124)
ولكن هذا الذي
تراه من الحزن وتغير الحال هو أني أعلم أنكم تأتون هذا الكاهن وهو بشر
يخطئ ويصيب، وأخاف أن يخطئ في أمري بشئ يكون عاره على إلى آخر الدهر،
ولا آمنه أن يسمني ميسما تكون علي سبة في العرب.
فقال لها أبوها: لا تخافي فإني سوف أختبره وأمتحنه قبل أن يتكلم في
شأنك وأمرك، فإن أخطأ فيما أمتحنه به لم أدعه يتكلم في أمرك.
ثم إنه انفرد عن القوم - وكان
راكبا مهرا - حتى توارى عنهم خلف رابية فنزل عن فرسه ثم صفر له حتى
أدلى، ثم أخذ حبة بر فأدخلها في إحليل المهر، وأوكى عليها بسير حتى
أحكم ربطها، ثم صفر له حتى اجتمع إحليله، ثم أتى القوم فظنوا أنه ذهب
ليقضي حاجة له، ثم أتى الكاهن فلما قدموا عليه أكرمهم ونحر لهم، فقال
له عتبة: إنا قد جئناك في أمر، ولكن لا أدعك تتكلم فيه حتى تبين لنا ما
خبأت لك، فإني قد خبأت لك خبيئا فانظر ما هو، فأخبرنا به.
قال الكاهن: ثمرة في كمرة، قال: أريد أبين من هذا، قال: حبات بر في
إحليل مهر، قال: صدقت فخذ لما جئناك له، أنظر في أمر هؤلاء النسوة،
فأجلس النساء خلفه وهند معهم لا يعرفها، ثم جعل يدنو من إحداهن فيضرب
كتفها ويبريها ويقول: انهضي، حتى دنا من هند فضرب كتفها وقال انهضي
حصان رزان، غير رسخا ولا زانية، ولتلدن ملكا يقال له معاوية.
فوثب إليها الفكه فأخذ بيدها، فنترت يدها من يده وقالت له: إليك عني،
والله لا يجمع رأسي ورأسك وسادة، والله لاحرصن أن يكون هذا الملك من
غيرك، فتزوجها أبو سفيان بن حرب فجاءت منه بمعاوية هذا.
وفي رواية أن أباها هو الذي قال للفاكه ذلك والله سبحانه أعلم.
وهذه ترجمة معاوية وذكر شئ من أيامه وما
ورد في مناقبه وفضائله وهو معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن
أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، القرشي الاموي، أبو عبد الرحمن،
خال المؤمنين، وكاتب وحي رسول الله رب العالمين.
وأمه هند بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، أسلم معاوية عام الفتح، وروي
عنه أنه قال: أسلمت يوم القضية ولكن كتمت إسلامي من أبي، ثم علم بذلك
فقال لي: هذا أخوك يزيد وهو خير منك على دين قومه، فقلت له: لم آل نفسي
جهدا.
قال معاوية: ولقد دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة
القضاء وإني لمصدق به، ثم لما دخل عام الفتح أظهرت إسلامي فجئته فرحب
بي، وكتبت بين يديه.
قال الواقدي: وشهد معه حنينا، وأعطاه مائة من الابل، وأربعين أوقية من
ذهب، وزنها بلال، وشهد اليمامة.
وزعم بعضهم أنه هو الذي قتل مسيلمة، حكاه ابن عساكر، وقد
يكون له شرك في قتله، وإنما الذي طعنه وحشي، وجلله أبو دجانة سماك بن
خرشة بالسيف، وكان أبوه من سادات قريش، وتفرد بالسؤدد بعد يوم بدر، ثم
لما أسلم حسن بعد ذلك إسلامه، وكان له مواقف شريفة، وآثار محمودة في
يوم اليرموك وما قبله وما بعده، وصحب معاوية
(8/125)
رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وكتب الوحي بين يديه مع الكتاب، وروى عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما من السنن والمسانيد،
وروى عنه جماعة من الصحابة والتابعين، قال أبو بكر بن أبي الدنيا: كان
معاوية طويلا أبيض جميلا، إذا ضحك انقلبت شفته العليا، وكان يخضب.
حدثني محمد بن يزيد الازدي، ثنا أبو مسهر، عن سعيد بن عبد العزيز، عن
أبي عبد رب قال: رأيت معاوية يصفر لحيته كأنها الذهب.
وقال غيره: كان أبيض طويلا أجلح أبيض الرأس واللحية يخضبهما بالحناء
والكتم.
وقد أصابته لوقة في آخر عمره، فكان يستر وجهه ويقول: رحم الله عبدا دعا
لي بالعافية، فقد رميت في أحسني وما يبدو مني ولولا هواي في يزيد
لابصرت رشدي، وكان حليما وقورا رئيسا سيدا في الناس، كريما عادلا شهما.
وقال المدائني عن صالح بن كيسان قال: رأى بعض متفرسي العرب معاوية وهو
صبي صغير، فقال: إني لاظن هذا الغلام سيسود قومه، فقالت هند: ثكلته إن
كان لا يسود إلا قومه.
وقال الشافعي قال أبو هريرة: رأيت هندا بمكة كأن وجهها فلقة قمر،
وخلفها من عجيزتها مثل الرجال الجالس، ومعها صبي يلعب، فمر رجل فنظر
إليه فقال: إني لارى غلاما إن عاش ليسودن قومه، فقالت هند: إن لم يسد
إلا قومه فأماته الله، وهو معاوية بن أبي سفيان.
وقال محمد بن سعد: أنبأنا علي بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف قال: نظر
أبو سفيان يوما إلى معاوية وهو غلام فقال لهند: إن ابني هذا لعظيم
الرأس، وإنه لخليق أن يسود قومه، فقالت هند: قومه فقط، ثكلته إن لم يسد
العرب قاطبة.
وكانت هند تحمله وهو صغير وتقول: إن بني معرق كريم * محبب في أهله حليم
ليس بفاحش ولا لئيم * ولا ضجور ولا سؤوم
صخر بني فهر به زعيم * لا يخلف الظن ولا يخيم قال: فلما ولى عمر يزيد
بن أبي سفيان ما ولاه من الشام، خرج إليه معاوية فقال أبو سفيان لهند:
كيف رأيت صار ابنك تابعا لابني ؟ فقالت: إن اضطربت خيل العرب فستعلم
أين يقع ابنك مما يكون فيه ابني، فلما مات يزيد بن أبي سفيان سنة بضع
عشرة، وجاء البريد إلى عمر بموته، رد عمر البريد إلى الشام بولاية
معاوية مكان أخيه يزيد، ثم عزى أبا سفيان في ابنه يزيد، فقال: يا أمير
المؤمنين من وليت مكانه ؟ قال أخوه معاوية، قال: وصلت رحما يا أمير
المؤمنين.
وقالت هند لمعاوية فيما كتبت به إليه: والله يا بني إنه قل أن تلد حرة
مثلك، وإن هذا الرجل قد استنهضك في هذا الامر، فاعمل بطاعته فيما أحببت
وكرهت.
وقال له أبوه: يا بني إن هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا وتأخرنا
فرفعهم سبقهم وقدمهم عند الله وعند رسوله، وقصر بنا تأخيرنا فصاروا
قادة وسادة.
وصرنا أتباعا، وقد ولوك جسيما من أمورهم فلا تخالفهم، فإنك تجري إلى
أمد فنافس فإن بلغته أورثته عقبك، فلم يزل معاوية نائبا على الشام في
الدولة العمرية والعثمانية مدة خلافة عثمان، وافتتح في سنة سبع وعشرين
جزيرة قبرص وسكنها المسلمون قريبا
(8/126)
من ستين سنة في
أيامه ومن بعده، ولم تزل الفتوحات والجهاد قائما على ساقه في أيامه في
بلاد الروم والفرنج وغيرها، فلما كان من أمره وأمر أمير المؤمنين علي
ما كان، لم يقع في تلك الايام فتح بالكلية، لا على يديه ولا على يدي
علي، وطمع في معاوية ملك الروم بعد أن كان قد أخشاه وأذله، وقهر جنده
ودحاهم، فلما رأى ملك الروم اشتغال معاوية بحرب علي تدانى إلى بعض
البلاد في جنود عظيمة وطمع فيه، فكتب معاوية إليه: والله لئن لم تنته
وترجع إلى بلادك يا لعين لاصطلحن أنا وابن عمي عليك ولاخرجنك من جميع
بلادك، ولاضيقن عليك الارض بما رحبت.
فعند ذلك خاف ملك الروم وانكف، وبعث يطلب الهدنة.
ثم كان من أمر التحكيم ما كان، وكذلك ما بعده إلى وقت اصطلاحه مع الحسن
بن علي كما تقدم، فانعقدت الكلمة على معاوية، وأجمعت الرعايا على بيعته
في سنة إحدى وأربعين كما قدمنا، فلم يزل مستقلا بالامر في
هذه المدة إلى هذه السنة التي كانت فيها وفاته، والجهاد في بلاد العدو
قائم، وكلمة الله عالية.
والغنائم ترد إليه من أطراف الارض، والمسلمون معه في راحة وعدل، وصفح
وعفو.
وقد ثبت في صحيح مسلم: من طريق عكرمة بن عمار، عن أبي زميل: سماك بن
الوليد، عن ابن عباس.
قال قال أبو سفيان: يا رسول الله ثلاثا أعطنيهن، قال: نعم، قال: تؤمرني
حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين، قال: نعم ! قال ومعاوية
تجعله كاتبا بين يديك، قال: نعم: وذكر الثالثة وهو أنه أراد أن يزوج
رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنته الاخرى عزة بنت أبي سفيان،
واستعان على ذلك باختها أم حبيبة، فقال: " إن ذلك لا يحل لي " (1) وقد
تكلمنا على ذلك في جزء مفرد، وذكرنا أقوال الائمة واعتذارهم عنه ولله
الحمد.
والمقصود منه أن معاوية كان من جملة الكتاب بين يدي رسول الله صلى الله
عليه وسلم الذين يكتبون الوحي.
وروى الامام أحمد ومسلم والحاكم في مستدركه من طريق أبي عوانة - الوضاح
بن عبد الله اليشكري - عن أبي حمزة عمران بن أبي عطاء عن ابن عباس.
قال: كنت ألعب مع الغلمان فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء
فقلت: ما جاء إلا إلي، فاختبأت على باب فجاءني فخطاني خطاة أو خطاتين
(2)، ثم قال " اذهب فادع لي معاوية - وكان يكتب الوحي - قال: فذهبت
فدعوته له فقيل: إنه يأكل، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة (40) باب.
ح 168 وعند مسلم: قال عندي أحسن العرب وأجمله: أم حبيبة بنت أبي سفيان
أزوجكها.
هذا الحديث من الاحاديث المشهورة بالاشكال ووجهه أن أبا سفيان إنما
أسلم يوم فتح مكة سنة ثمان من الهجرة وهذا لا خلاف فيه ومتعارف عليه.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد تزوج بأم حبيبة قبل ذلك بزمن طويل -
تزوجها سنة ست - وقيل سنة سبع - واختلفوا اين تزوجها - قال ابن سعد
زوجه إياها النجاشي وهي في الحبشة وقدم بها خالد بن سعيد بن العاص إلى
النبي صلى الله عليه وسلم - وغيره قال بعد قدومها من الحبشة إلى
المدينة، والجمهور: بالحبشة.
هنا الارجح صوابية ما أثبتنا من أن أبا سفيان عرض أن يزوجه ابنته عزة.
(2) في صحيح مسلم: فحطأني حطأة: أي قفدني، وهو الضرب باليد مبسوطة بين
الكتفين.
(*)
(8/127)
فقلت إنه يأكل،
فقال: اذهب فادعه، فأتيته الثانية فقيل: إنه يأكل فأخبرته، فقال في
الثالثة: لا أشبع الله بطنه " قال: فما شبع بعدها (1)، وقد انتفع
معاوية بهذه الدعوة في دنياه وأخراه، أما في دنياه فإنه لما صار إلى
الشام أميرا، كان يأكل في اليوم سبع مرات يجاء بقصعة فيها لحم كثير
ويصل فيأكل منها، ويأكل في اليوم سبع أكلات بلحم، ومن الحلوى والفاكهة
شيئا كثيرا ويقول والله ما أشبع وإنما أعيا، وهذه نعمة ومعدة يرغب فيها
كل الملوك.
وأما في الآخرة فقد أتبع مسلم هذا الحديث بالحديث الذي رواه البخاري
وغيرهما من غير وجه عن جماعة من الصحابة.
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم إنما أنا بشر فأيما عبد
سببته أو جلدته أو دعوت عليه وليس لذلك أهلا فاجعل ذلك كفارة وقربة
تقربه بها عندك يوم القيامة " (2).
فركب مسلم من الحديث الاول وهذا الحديث فضيلة لمعاوية، ولم يورد له غير
ذلك.
وقال المسيب بن واضح عن أبي إسحاق الفزاري، عن عبد الملك بن أبي
سليمان، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس.
قال: " أتى جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد اقرئ
معاوية السلام واستوص به خيرا، فإنه أمين الله على كتابه ووحيه ونعم
الامين.
ثم أورده ابن عساكر من وجه آخر عن عبد الملك بن أبي سليمان، ثم أورده
أيضا من رواية علي وجابر بن عبد الله " أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم استشار جبريل في استكتابه معاوية، فقال: استكتبه فإنه أمين ".
ولكن في الاسانيد إليهما غرابة، ثم أورد عن علي في ذلك غرائب كثيرة عن
غيره أيضا.
وقال أبو عوانة عن سليمان عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن الحارث، عن
زهير بن الاقمر الزبيدي، عن عبد الله بن عمرو.
قال: كان معاوية يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن محمد الصيدلاني ثنا السري، عن
عاصم، ثنا عبد الله بن يحيى بن أبي كثير، عن أبيه عن هشام بن عروة، عن
عائشة.
قالت: لما كان يوم أم حبيبة من النبي صلى الله عليه وسلم، دق الباب
داق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " انظروا من هذا ؟ قالوا: معاوية،
قال: ائذنوا له، فدخل وعلى أذنه قلم يخط به، فقال: ما هذا القلم على
أذنك يا معاوية ؟ قال: قلم أعددته لله ولرسوله، فقال له: جزاك الله عن
نبيك خيرا، والله ما استكتبتك إلا بوحي من الله، وما أفعل من صغيرة ولا
كبيرة إلا بوحي من الله، كيف بك لو قمصك الله قميصا - يعني الخلافة - ؟
فقامت أم حبيبة فجلست بين يديه وقالت: يا رسول الله وإن الله مقمصه
قميصا ؟ قال: نعم ! ولكن فيه هنات وهنات.
فقالت: يا رسول الله فادع الله له، فقال: اللهم اهده بالهدى، وجنبه
الردى، واغفر له في الآخرة والاولى ".
قال الطبراني تفرد به السري، عن عاصم عن عبد الله بن يحيى بن أبي كثير،
عن هشام.
وقد أورد ابن عساكر بعد هذا أحاديث كثيرة موضوعة، والعجب منه مع حفظه
واطلاعه كيف لا ينبه عليها وعلى نكارتها وضعف رجالها والله الموفق
للصواب.
وقد أوردنا من طريق أبي هريرة وأنس وواثلة بن الاسقع مرفوعا: " الامناء
ثلاثة، جبريل، وأنا
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده 1 / 291، 335 ومسلم في البر والصلة (25) باب ح
(96) ص (2010).
(2) أخرجه مسلم في البر والصلة (25) باب ح (95) ص (2009) عن أنس بن
مالك.
(*)
(8/128)
ومعاوية " ولا
يصح من جميع وجوهه، ومن رواية ابن عباس: " الامناء سبعة، القلم،
واللوح، وإسرافيل، وميكائيل، وجبريل، وأنا، ومعاوية " وهذا أنكر من
الاحاديث التي قبله، وأضعف إسنادا.
قال الامام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية - يعني ابن صالح
- عن يونس بن سيف، عن الحارث بن زياد، عن أبي رهم، عن العرباض بن سارية
السلمي.
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا إلى السحور في شهر
رمضان: هلم إلى الغداء المبارك، ثم سمعته يقول: اللهم علم معاوية
الكتاب والحساب وقه العذاب " (1).
تفرد به أحمد.
ورواه ابن جرير من حديث ابن مهدي، وكذلك رواه أسد بن موسى، وبشر بن
السري، وعبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، باسناده مثله.
وفي رواية بشر بن السري " وأدخله الجنة " ورواه ابن عدي وغيره من حديث
عثمان بن عبد الرحمن الجمحي، عن عطاء، عن ابن عباس.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم علم معاوية الكتاب
والحساب وقه العذاب ".
وقال محمد بن سعد: ثنا سليمان بن حرب والحسين بن موسى الاشيب قال: ثنا
أبو هلال محمد بن سليم، ثنا جبلة بن عطية، عن مسلمة بن مخلد، وقال
الاشهب: قال أبو هلال أو عن رجل عن مسلمة بن مخلد، وقال سليمان بن حرب
أو حدثه مسلمة عن رجل أنه رأى معاوية يأكل فقال
لعمرو بن العاص: إن ابن عمك هذا لمخضد: قال أما أني أقول لك هذا وقد
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اللهم علمه الكتاب ومكن له
في البلاد وقه العذاب ".
وقد أرسله غير واحد من التابعين منهم الزهري، وعروة بن رويم، وجرير بن
عثمان الرحبي الحمصي، ويونس بن ميسرة بن حلبس.
وقال الطبراني: ثنا أبو زرعة وأحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة الدمشقيان
قالا: ثنا أبو مسهر، ثنا سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعة بن يزيد، عن عبد
الرحمن بن أبي عميرة المزني - وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاوية: " اللهم علمه الكتاب
والحساب وقه العذاب " قال ابن عساكر: وهذا غريب، والمحفوظ بهذا الاسناد
حديث العرباض الذي تقدم، ثم روي من طريق الطبراني عن أبي زرعة، عن أبي
مسهر، عن سعيد، عن ربيعة، عن عبد الرحمن بن أبي عميرة المزني.
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لمعاوية: " اللهم اجعله
هاديا مهديا واهده واهد به " وقال الامام أحمد: حدثنا علي بن بحر، ثنا
الوليد بن مسلم، ثنا سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعة بن يزيد، عن عبد
الرحمن بن أبي عميرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر معاوية فقال:
" اللهم اجعله هاديا مهديا واهد به " (2) وهكذا رواه الترمذي عن محمد
بن يحيى، عن أبي مسهر، عن سعيد بن عبد العزيز به.
وقال حسن غريب.
وقد رواه عمر بن عبد الواحد، ومحمد بن سليمان الحراني كما رواه الوليد
بن مسلم وأبو مسهر عن سعيد، عن ربيعة بن يزيد عن
__________
(1) مسند أحمد ج 4 / 127.
(2) أخرجه أحمد في مسنده ج 4 / 216، 365 والترمذي في المناقب ح (3842)
ص 5 / 687.
(*)
(8/129)
عبد الرحمن بن
أبي عميرة.
ورواه محمد بن المصفى عن مروان بن محمد الطاطري عن سعيد بن عبد العزيز
عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس عن ابن أبي عميرة أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم دعا لمعاوية فقال: " اللهم علمه العلم، واجعله هاديا مهديا،
واهده واهد به " وقد رواه سلمة بن شبيب وصفوان بن صالح وعيسى بن هلال
وأبو الازهر عن مروان الطاطري، ولم يذكروا أبا إدريس في
إسناده.
ورواه الطبراني عن عبدان بن أحمد، عن علي بن سهل الرملي، عن الوليد بن
مسلم، عن سعيد بن عبد العزيز، عن يونس بن ميسرة بن حلبس، عن عبد الرحمن
بن أبي عميرة المزني.
أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر معاوية فقال: " اللهم اجعله
هاديا مهديا واهده " قال ابن عساكر: وقول الجماعة هو الصواب.
وقد اعتنى ابن عساكر بهذا الحديث وأطنب فيه وأطيب وأطرب، وأفاد وأجاد،
وأحسن الانتقاد، فرحمه الله، كم له من موطن قد تبرز فيه على غيره من
الحفاظ والنقاد.
وقال الترمذي: حدثنا محمد بن يحيى، ثنا عبد الله بن محمد النفيلي، ثنا
عمرو بن واقد، عن يونس بن حلبس، عن أبي إدريس الخولاني قال: لما عزل
عمر بن الخطاب عمير بن سعد عن الشام وولى معاوية قال الناس: عزل عمر
عميرا وولى معاوية، فقال عمر: لا تذكروا معاوية إلا بخبر، فإني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اللهم اهد به " (1) تفرد به
الترمذي وقال: غريب.
وعمرو بن واقد ضعيف، هكذا ذكره أصحاب الاطراف في مسند عمير بن سعد
الانصاري.
وعندي أنه ينبغي أن يكون من رواية عمر بن الخطاب، ويكون الصواب فقال
عمر: لا تذكروا معاوية إلا بخير، ليكون عذرا له في توليته له.
ومما يقوي هذا أن هشام بن عمار قال: حدثنا ابن أبي السائب - وهو عبد
العزيز بن الوليد بن سليمان - قال: وسمعت أبي يذكر أن عمر بن الخطاب
ولى معاوية بن أبي سفيان فقالوا: ولى حدث السن، فقال: تلومونني في
ولايته، وأنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اللهم اجعله
هاديا مهديا واهد به " وهذا منقطع يقويه ما قبله.
قال الطبراني: حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح ثنا نعيم بن حماد، ثنا محمد
بن شعيب بن سابور، ثنا مروان بن جناح، عن يونس بن ميسرة بن حلبس، عن
عبد الله بن بسر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " استشار أبا بكر
وعمر في أمر فقال: أشيروا علي، فقالا: الله ورسوله أعلم، فقال: ادعوا
معاوية ؟ فقال أبو بكر وعمر: أما في رسول الله صلى الله عليه وسلم
ورجلين من رجال قريش ما يتقنون أمرهم، حتى يبعث رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى غلام من غلمان قريش ؟ فقال: ادعوا لي معاوية فدعي له،
فلما وقف بين يديه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحضروه أمركم
وأشهدوه أمركم، فإنه قوي
أمين ".
ورواه بعضهم عن نعيم وزاد " وحملوه أمركم ".
ثم ساق ابن عساكر أحاديث كثيرة
__________
(1) صحيح الترمذي - كتاب المناقب ح (3843) ص 5 / 687 وفيه: عزل عمر
عمير بن سعيد عن حمص.
(*)
(8/130)
موضوعة بلا شك
في فضل معاوية، أضربنا عنها صفحا، واكتفينا بما أوردناه من الاحاديث
الصحاح والحسان والمستجادات عما سواها من الموضوعات والمنكرات.
ثم قال ابن عساكر: وأصح ما روي في فضل معاوية حديث أبي جمرة عن ابن
عباس " أنه كان كاتب النبي صلى الله عليه وسلم منذ أسلم " أخرجه مسلم
في صحيحه، وبعده حديث العرباض: " اللهم علم معاوية الكتاب " وبعده حديث
ابن أبي عميرة: " اللهم اجعله هاديا مهديا " قلت: وقد قال البخاري في
كتاب المناقب (1): ذكر معاوية بن أبي سفيان: حدثنا الحسن بن بشر، ثنا
المعافى، عن عثمان بن الاسود، عن ابن أبي مليكة قال: أوتر معاوية بعد
العشاء بركعة وعنده مولى لابن عباس (2)، فأتى ابن عباس، فقال: أوتر
معاوية بركعة بعد العشاء، فقال: دعه فإنه قد صحب رسول الله صلى الله
عليه وسلم.
حدثنا ابن أبي مريم ثنا نافع بن عمر، ثنا ابن أبي مليكة.
قال: قيل لابن عباس: هل لك في أمير المؤمنين معاوية ؟ فإنه ما أوتر إلا
بواحدة ! قال: أصاب، إنه فقيه.
ثنا عمرو بن عباس ثنا جعفر ثنا شعبة، عن أبي التياح قال: سمعت حمران بن
أبان (3) عن معاوية.
قال: إنكم لتصلون صلاة، لقد صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فما
رأيناه يصليهما، ولقد نهى عنهما - يعني الركعتين بعد العصر - ثم قال
البخاري بعد ذلك (4): ذكر هند بنت عتبة بن ربيعة: حدثنا عبدان ثنا عبد
الله يونس عن الزهري حدثني عروة أن عائشة قالت: جاءت هند بنت عتبة -
امرأة أبي سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول
الله ما كان على ظهر الارض من أهل خباء أحب إلي من أن يذلوا من أهل
خبائك [ ثم ما أصبح اليوم على ظهر الارض أهل خباء أحب إلي أن يعزوا من
أهل خبائك ] (5)، فقال: وأيضا والذي نفسي بيده.
فقالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل مسيك، فهل علي من حرج أن أطعم من
الذي له عيالنا ؟ قال: لا إلا بالمعروف ".
فالمدحة في قوله: " وأيضا والذي نفسي بيده " وهو أنه كان يود أن هند
وأهلها وكل كافر يذلوا في
حال كفرهم، فلما أسلموا كان يحب أن يعزوا فأعزهم الله - يعني أهل
خبائها.
وقال الامام أحمد: حدثنا روح، ثنا أبو أمية، عمرو بن يحيى بن سعيد قال.
سمعت جدي يحدث أن معاوية أخذ الاداوة بعد أبي هريرة فتبع رسول الله صلى
الله عليه وسلم بها - وكان أبو هريرة قد
__________
(1) كذا بالاصل، أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة 28 باب ح 3764 -
3765.
فتح الباري 7 / 104.
(2) وهو كريب، قاله محمد بن نصر المروزي في كتاب الوتر.
(3) في نسخ البداية المطبوعة: حمدان عن أبان تحريف.
(4) في كتاب مناقب الانصار 23 باب.
فتح الباري 7 / 141.
حديث (3825).
(5) ما بين معكوفتين زيادة من البخاري.
(*)
(8/131)
اشتكى - فبينما
هو يوضئ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ رفع رأسه إليه مرة أو مرتين
وهو يتوضأ فقال: يا معاوية إن وليت أمرا فاتق الله واعدل.
قال معاوية فما زلت أظن أني سأبتلي بعمل لقول النبي صلى الله عليه وسلم
حتى ابتليت " (1).
تفرد به أحمد، ورواه أبو بكر بن أبي الدنيا، عن أبي إسحاق الهمذاني،
سعيد بن زنبور بن ثابت، عن عمرو بن يحيى بن سعيد.
ورواه ابن منده من حديث بشر بن الحكم عن عمرو بن يحيى به.
وقال أبو يعلى: حدثنا سويد بن سعيد، ثنا عمرو بن يحيى بن سعيد، عن جده
عن معاوية قال: " اتبعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء، فلما توضأ
نظر إلي فقال: يا معاوية إن وليت أمرا فاتق واعدل، فما زلت أظن أني
مبتلى بعمل حتى وليت ".
ورواه غالب القطان عن الحسن.
قال: سمعت معاوية يخطب وهو يقول: " صببت يوما على رسول الله صلى الله
عليه وسلم وضوءه فرفع رأسه إلي فقال: أما إنك ستلي أمر أمتي بعدي، فإذا
كان ذلك فاقبل من محسنهم وتجاوز عن مسيئهم، وقال: فما زلت أرجو حتى قمت
مقامي هذا ".
وروى البيهقي عن الحاكم بسنده إلى إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، عن عبد
الملك بن عمير.
قال قال معاوية: والله ما حملني على الخلافة إلا قول رسول الله صلى
الله عليه وسلم: " إن ملكت فأحسن " قال البيهقي: إسماعيل بن إبراهيم
(2)
هذا ضعيف، إلا أن للحديث شواهد (3).
وروى ابن عساكر باسناده عن نعيم بن حماد: ثنا محمد بن حرب، عن أبي بكر
بن أبي مريم، ثنا محمد بن زياد، عن عوف بن مالك الاشجعي قال: " بينما
أنا راقد في كنيسة يوحنا - وهي يومئذ مسجد يصلى فيها - إذا انتبهت من
نومي فإذا أنا بأسد يمشي بين يدي، فوثبت إلى سلاحي، فقال الاسد: مه !
إنما أرسلت إليك برسالة لتبلغها، قلت: ومن أرسلك ؟ قال: الله أرسلني
إليك لتبلغ معاوية السلام وتعلمه أنه من أهل الجنة، فقلت له.
ومن معاوية ؟ قال: معاوية بن أبي سفيان " ورواه الطبراني عن أبي يزيد
القراطيسي عن المعلى بن الوليد القعقاعي، عن محمد بن حبيب الخولاني، عن
أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني، وفيه ضعف وهذا غريب جدا،
ولعل الجميع مناما، ويكون قوله: إذا انتبهت من نومي مدرجا لم يضبطه ابن
أبي مريم، والله أعلم.
وقال محمد بن عائذ، عن الوليد، عن ابن لهيعة، عن يونس عن الزهري.
قال: قدم عمر الجابية فنزع شرحبيل وأمر عمرو بن العاص بالمسير إلى مصر،
ونفى الشام على أميرين أبي عبيدة ويزيد، ثم توفي أبو عبيدة فاستخلف
عياض بن غنم، ثم توفي يزيد فأمر معاوية مكانه، ثم نعاه عمر لابي سفيان،
فقال لابي سفيان: احتسب يزيد بن أبي سفيان، قال: من أمرت مكانه ؟
__________
(1) مسند أحمد ج 4 / 101.
(2) اسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر البجلي الكوفي - كان فاحش الخطأ، ضعفه
غير واحد، قال البخاري: فيه نظر، وذكره العقيلي في الضعفاء الكبير (1 /
73) وابن حيان في المجروحين (1 / 122).
(3) دلائل البيهقي 6 / 446.
(*)
(8/132)
قال: معاوية،
فقال: وصلت رحما يا أمير المؤمنين، فكان معاوية على الشام، وعمير بن
سعد حتى قتل عمر، رضي الله عنهم.
وقال محمد بن إسحاق: مات أبو عبيدة في طاعون عمواس واستخلف معاذا، فمات
معاذ واستخلف يزيد بن أبي سفيان، فمات واستخلف أخاه معاوية فأقره عمر،
وولى عمرو بن العاص فلسطين والاردن، ومعاوية دمشق وبعلبك والبلقاء،
وولى
سعد بن عامر بن جذيم حمص، ثم جمع الشام كلها لمعاوية بن أبي سفيان، ثم
أمره عثمان بن عفان على الشام.
وقال إسماعيل بن أمية: أفرد عمر معاوية بامرة الشام، وجعل له في كل شهر
ثمانين دينارا.
والصواب أن الذي جمع لمعاوية الشام كلها عثمان بن عفان، وأما عمر فإنه
إنما ولاه بعض أعمالها.
وقال بعضهم: لما عزيت هند في يزيد بن أبي سفيان - ولم يكن منها - قيل
لها: إنه قد جعل معاوية أميرا مكانه، فقالت: أو مثل معاوية يجعل خلفا
من أحد ؟ فوالله لو أن العرب اجتمعت متوافرة ثم رمي به فيها لخرج من أي
أعراضها (نواحيها) شاء.
وقال آخرون: ذكر معاوية عند عمر فقال: دعوا فتى قريش وابن سيدها، إنه
لمن يضحك في الغضب ولا ينال منه إلا على الرضا، ومن لا يؤخذ من فوق
رأسه إلا من تحت قدميه.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثني محمد بن قدامة الجوهري، حدثني عبد العزيز
بن يحيى، عن شيخ له.
قال: لما قدم عمر بن الخطاب الشام تلقاه معاوية في موكب عظيم، فلما دنا
من عمر قال له: أنت صاحب الموكب ؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين.
قال: هذا حالك مع ما بلغني من طول وقوف ذوي الحاجات ببابك ؟ قال: هو ما
بلغك من ذلك.
قال: ولم تفعل هذا ؟ لقد هممت أن آمرك بالمشي حافيا إلى بلاد الحجاز،
قال: يا أمير المؤمنين إنا بأرض جواسيس العدو فيها كثيرة، فيجب أن نظهر
من عز السلطان ما يكون فيه عز للاسلام وأهله ويرهبهم به، فإن أمرتني
فعلت، وإن نهيتني انتهيت.
فقال له عمر: يا معاوية ما سألتك عن شئ إلا تركتني في مثل رواجب الضرس،
لئن كان ما قلت حقا إنه لرأي أريت (1)، ولئن كان باطلا إنه لخديعة
أديت.
قال: فمرني يا أمير المؤمنين بما شئت، قال: لا آمرك ولا أنهاك.
فقال رجل: يا أمير المؤمنين ما أحسن ما صدر الفتى عما أوردته فيه ؟ !
فقال عمر: لحسن موارده ومصادره جشمناه ما جشمناه.
وفي رواية أن معاوية تلقى عمر حين قدم الشام، ومعاوية في موكب كثيف،
فاجتاز بعمر وهو وعبد الرحمن بن عوف راكبان على حمار، ولم يشعر بهما،
فقيل له: إنك جاوزت أمير المؤمنين، فرجع، فلما رأى عمر ترجل وجعل يقول
له ما ذكرنا، فقال عبد الرحمن بن عوف: ما أحسن ما صدر عما أوردته فيه
يا أمير المؤمنين ؟ ! فقال: من أجل ذلك جشمناه ما جشمناه.
وقال عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد: أخبرنا محمد بن ذئب، عن مسلم
بن جندب، عن أسلم مولى عمر قال: قدم علينا معاوية وهو أبيض نص وباص،
أبض الناس وأجملهم،
__________
(1) في الاستيعاب هامش الاصابة 3 / 397: أريب وإن كان باطلا أنه لخدعة
أديب.
(*)
(8/133)
فخرج إلى الحج
مع عمر، فكان عمر ينظر إليه فيعجب منه، ثم يضع أصبعه على متن معاوية ثم
يرفعها عن مثل الشراك، فيقول: بخ بخ، نحن إذا خير الناس، أن جمع لنا
خير الدنيا والآخرة.
فقال معاوية: يا أمير المؤمنين سأحدثك أنا بأرض الحمامات والريف
والشهوات، فقال عمر: سأحدثك ما بك إلا إلطافك نفسك بأطيب الطعام وتصبحك
حتى تضرب الشمس متنيك، وذووا الحاجات وراء الباب.
فقال: يا أمير المؤمنين علمني أمتثل.
قال: فلما جئنا ذا طوى أخرج معاوية حلة فلبسها، فوجد عمر منها ريحا
كأنه ريح طيب، فقال: يعمد أحدكم فيخرج حاجا مقلا حتى إذا جاء أعظم
بلدان الله حرمة أخرج ثوبيه كأنهما كانا في الطيب فلبسهما ؟ ! فقال
معاوية: إنما لبستهما لادخل فيهما على عشيرتي وقومي، والله لقد بلغني
أذاك ههنا وبالشام، فالله يعلم أني لقد عرفت الحياء فيه، ثم نزع معاوية
ثوبيه ولبس ثوبيه اللذين أحرم فيهما.
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثني أبي، عن هشام بن محمد، عن أبي عبد
الرحمن المدني.
قال: كان عمر بن الخطاب إذا رأى معاوية قال: هذا كسرى العرب (1).
وهكذا حكى المدائني عن عمر أنه قال ذلك.
وقال عمرو بن يحيى بن سعيد الاموي، عن جده.
قال: دخل معاوية على عمر وعليه حلة خضراء، فنظر إليها الصحابة، فلما
رأى ذلك عمر وثب إليه بالدرة فجعل يضربه بها، وجعل معاوية يقول: يا
أمير المؤمنين الله الله في، فرجع عمر إلى مجلسه فقال له القوم: لم
ضربته يا أمير المؤمنين ؟ وما في قومك مثله ؟ فقال: والله ما رأيت إلا
خيرا، وما بلغني إلا خير، ولو بلغني غير ذلك لكان مني إليه غير ما
رأيتم، ولكن رأيته - وأشار بيده - فأحببت أن أضع منه ما شمخ.
وقد قال أبو داود: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، ثنا يحيى بن
حمزة، ثنا ابن أبي مريم أن القاسم بن مخيمرة أخبره، أن أبا مريم الازدي
أخبره.
قال: دخلت على معاوية فقال: ما أنعمنا بك أبا فلان - وهي كلمة تقولها
العرب - فقلت: حديث سمعته أخبرك به، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: " من ولاه الله شيئا من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم
وفقرهم، احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره ".
قال: فجعل معاوية حين سمع هذا الحديث رجلا على حوائج الناس (2).
ورواه الترمذي وغيره.
وقال الامام أحمد: حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، ثنا حبيب بن الشهيد
عن أبي مجلز.
قال: خرج معاوية على الناس فقاموا له فقال: سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: " من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من
النار " (3).
وفي رواية.
قال: خرج معاوية على ابن
__________
(1) في رواية ابن عبد البر أن عمر قال ذلك في معاوية عند قدومه الشام
وتلقاه معاوية في موكب عظيم.
(2) أخرجه أبو داود في سننه - كتاب الخراج - باب فيما يلزم الامام من
أمر الرعية ح (2948) ص (3 / 135).
(3) أخرجه الامام أحمد في مسنده 4 / 91.
(*)
(8/134)
عامر وابن
الزبير فقام له ابن عامر ولم يقم له ابن الزبير، فقال معاوية لابن
عامر: إجلس ! فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من أحب
أن يتمثل له العباد قياما فليبتوأ مقعده من النار ".
ورواه أبو داود والترمذي من حديث حبيب بن الشهيد، وقال الترمذي: حديث
حسن.
وروى أبو داود من حديث الثوري عن ثور بن يزيد، عن راشد بن سعد المقري
الحمصي، عن معاوية.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنك إن تتبعت عورات الناس
أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم ".
قال: كلمة سمعها معاوية نفعه الله بها.
تفرد به أحمد - يعني أنه كان جيد السيرة، حسن التجاوز، جميل العفو،
كثير الستر رحمه الله تعالى - وثبت في الصحيحين: من حديث الزهري، عن
حميد بن عبد الرحمن، عن معاوية.
أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من يرد الله به
خيرا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي، ولا يزال طائفة من
أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر
الله وهم ظاهرون ".
وفي رواية " وهم على
ذلك " وقد خطب معاوية بهذا الحديث مرة ثم قال: وهذا مالك بن يخامر يخبر
عن معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهم بالشام - يحث بهذا
أهل الشام على مناجزة أهل العراق: " وإن أهل الشام هم الطائفة المنصورة
على من خالفها " وهذا مما كان يحتج به معاوية لاهل الشام في قتالهم أهل
العراق.
وقال الليث بن سعد: فتح معاوية قيسارية سنة تسع عشرة في دولة عمر بن
الخطاب.
وقال غيره: وفتح قبرص سنة خمس وقيل سبع، وقيل ثمان وعشرين في أيام
عثمان.
قالوا: وكان عام غزوة المضيق - يعني مضيق القسطنطينية - في سنة ثنتين
وثلاثين في أيامه وكان هو الامير على الناس عامئذ.
وجمع عثمان لمعاوية جميع الشام، وقيل إن عمر هو الذي جمعها له، والصحيح
عثمان.
واستقضى معاوية فضالة بن عبيد بعد أبي الدرداء، ثم كان ما كان بينه
وبين علي بعد قتل عثمان، على سبيل الاجتهاد والرأي، فجرى بينهما قتال
عظيم كما قدمنا، وكان الحق والصواب مع علي، ومعاوية معذور عند جمهور
العلماء سلفا وخلفا، وقد شهدت الاحاديث الصحيحة بالاسلام للفريقين من
الطرفين - أهل العراق وأهل الشام - كما ثبت في الحديث الصحيح " تمرق
مارقة على خير فرقة من المسلمين، فيقتلها أدنى الطائفتين إلى الحق "
(1) فكانت المارقة الخوارج، وقتلهم علي وأصحابه، ثم قتل علي فاستقل
معاوية بالامر سنة إحدى وأربعين، وكان يغزو الروم في كل سنة مرتين، مرة
في الصيف ومرة في الشتاء، ويأمر بجلا من قومه فيحج بالناس، وحج هو سنة
خمسين، وحج ابنه يزيد سنة إحدى وخمسين.
وفيها أو في التي بعدها أغزاه بلاد الروم فسار معه خلق كثير من كبراء
الصحابة حتى حاصر القسطنطينية، وقد ثبت في الصحيح: " أول جيش يغزو
القسطنطينية مغفور لهم ".
وقال وكيع عن الاعمش عن أبي صالح.
قال: كان الحادي
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد في الزكاة (47) باب.
ح (150) و (151) وفيه: تمرق مارقة عند فرقة المسلمين تقتلها أولى
الطائفتين بالحق.
وفي رواية من طريق أبي أحمد: تقتلهم أقرب الطائفتين من الحق ح (153).
ص 2 / 746.
(*)
(8/135)
يحدو بعثمان
فيقول:
إن الامير بعده علي * وفي الزبير خلف مرضي فقال كعب: بل هو صاحب البغلة
الشهباء - يعني معاوية - فقال: يا أبا إسحاق تقول هذا وههنا علي
والزبير وأصحاب محمد ؟ فقال: أنت صاحبها.
ورواه سيف عن بدر بن الخليل عن عثمان بن عطية الاسدي عن رجل من بني
أسد.
قال: ما زال معاوية يطمع فيها منذ سمع الحادي في أيام عثمان يقول: إن
الامير بعده علي * وفي الزبير خلف مرضي فقال كعب: كذبت ! بل صاحب
البغلة الشهباء بعده - يعني معاوية - فقال له معاوية في ذلك فقال: نعم
! أنت الامير بعده، ولكنها والله لا تصل إليك حتى تكذب بحديثي هذا،
فوقعت في نفس معاوية.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا محمد بن عباد المكي، ثنا سفيان بن عيينة،
عن أبي هارون قال قال عمر: إياكم والفرقة بعدي، فإن فعلتم فإن معاوية
بالشام، وستعلمون إذا وكلتم إلى رأيكم كيف يستبزها دونكم.
ورواه الواقدي من وجه آخر عن عمر رضي الله عنه.
وقد روى ابن عساكر عن عامر الشعبي: أن عليا حين بعث جرير بن عبد الله
البجلي إلى معاوية قبل وقعة صفين - وذلك حين عزم علي على قصد الشام،
وجمع الجيوش لذلك - وكتب معه كتابا إلى معاوية يذكر له فيه أنه قد
لزمته بيعته، لانه قد بايعه المهاجرون والانصار، فإن لم تبايع استعنت
بالله عليك وقاتلتك.
وقد أكثرت القول في قتلة عثمان، فادخل فيما دخل فيه الناس، ثم حاكم
القوم إلي أحملك وإياهم على كتاب الله، في كلام طويل.
وقد قدمنا أكثره، فقرأ معاوية على الناس وقام جرير فخطب الناس، وأمر في
خطبته معاوية بالسمع والطاعة، وحذره من المخالفة والمعاندة، ونهاه عن
إيقاع الفتنة بين الناس، وأن يضرب بعضهم بعضا بالسيوف (1).
فقال معاوية: انتظر حتى آخذ برأي أهل الشام، فلما كان بعد ذلك أمر
معاوية مناديا فنادى في الناس: الصلاة جامعة.
فلما اجتمع الناس صعد المنبر فخطب فقال: " الحمد لله الذي جعل الدعائم
للاسلام أركانا، والشرائع للايمان برهانا، يتوقد مصباحه (2) بالسنة في
الارض المقدسة التي جعلها الله محل الانبياء والصالحين
من عباده، فأحلها أهل الشام ورضيهم لها، ورضيها لهم، لما سبق في مكنون
علمه من طاعتهم ومناصحتهم أولياءه فيها، والقوام بأمره، الذابين عن
دينه وحرماته، ثم جعلهم لهذه (3) الامة
__________
(1) انظر خطبة جرير بن عبد الله في فتوح ابن الاعثم 2 / 379 - 380.
(2) في ابن الاعثم: مقباسه.
(3) في ابن الاعثم: ثم جعل لهذه البلدة الآمنة نظاما ولسننه أعلاما.
(*)
(8/136)
نظاما، وفي
أعلام الخير عظاما، يردع الله بهم الناكثين، ويجمع بهم الالفة بين
المؤمنين، والله نستعين على إصلاح ما تشعث من أمور المسلمين، وتباعد
بينهم بعد القرب والالفة، اللهم انصرنا على قوم يوقظون نائما، ويخيفون
آمنا، ويريدون هراقة دمائنا، وإخافة سبلنا، وقد يعلم الله أنا لا نريد
لهم عقابا، ولا نهتك لهم حجابا، غير أن الله الحميد كسانا من الكرامة
ثوبا لن ننزعه طوعا ما جاوب الصدى، وسقط الندى، وعرف الهدى، وقد علمنا
أن الذي حملهم على خلافنا البغي والحسد لنا، فالله نستعين عليهم.
أيها الناس ! قد علمتم أني خليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وأني
خليفة أمير المؤمنين عثمان عليكم، وأني لم أقم رجلا منكم على خزائه قط،
وإني ولي عثمان وابن عمه، قال الله تعالى في كتابه: * (ومن قتل مظلوما
فقد جعلنا لوليه سلطانا) * [ الاسراء: 33 ] وقد علمتم أنه قتل مظلوما،
وأنا أحب أن تعلموني ذات أنفسكم في قتل عثمان.
فقال أهل الشام بأجمعهم: بل نطلب بدمه، فأجابوه إلى ذلك وبايعوه،
ووثقوا له أن يبذلوا في ذلك أنفسهم وأموالهم، أو يدركوا بثأره، أو يفني
الله أرواحهم قبل ذلك، فلما رأى جرير من طاعة أهل الشام لمعاوية ما
رأى، أفزعه ذلك، وعجب منه.
وقال معاوية لجرير: إن ولاني علي الشام ومصر بايعته على أن لا يكون
لاحد بعده على بيعة، فقال: اكتب إلى علي بما شئت، وأنا أكتب معك، فلما
بلغ عليا الكتاب قال: هذه خديعة، وقد سألني المغيرة بن شعبة أن أولي
معاوية الشام وأنا بالمدينة فأبيت ذلك * (وما كنت متخذ المضلين عضدا) *
[ الكهف: 51 ] ثم كتب إلى جرير بالقدوم عليه، فما قدم إلا وقد اجتمعت
العساكر إلى علي، وكتب معاوية إلى عمرو بن
العاص - وكان معتزلا بفلسطين حين قتل عثمان - وكان عثمان قد عزله عن
مصر فاعتزل بفلسطين، فكتب إليه معاوية يستدعيه ليستشيره في أموره فركب
إليه فاجتمعا على حرب علي.
وقد قال (1) عقبة بن أبي معيط في كتاب معاوية إلى علي حين سأله نيابة
الشام ومصر، فكتب إلى معاوية يؤنبه ويلومه على ذلك ويعرض بأشياء فيه:
معاوي إن الشام شامك فاعتصم * بشامك لا تدخل عليك الافاعيا فإن عليا
ناظر ما تجيبه * فأهد له حربا يشيب النواصيا
__________
(1) كذا بالاصل، والصواب الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وهي من قصيدة
وجهها إلى معاوية وإلى أخيه عتبة بن أبي سفيان يعرض فيها بموقف معاوية
وحاول تحريك عتبة ومنها: أعتبة حرك من أخيك ولا تكن * فول الهوينا إن
أراد مؤاتيا وانك قد اشبهت صخرا ومن يكن * شبيها له يصبح على الناس
عاليا وقال في قصيدة أخرى يحرض معاوية فيها: فوالله ما هند بأمك إن مضى
ال * - نهار ولم يثأر بعثمان ثائر أيقتل عبد القوم سيد قومه * ولم
تقتلوه ليت أمك عاقر الاستيعاب على هامش الاصابة 3 / 636 فتوح ابن
الاعثم 2 / 395.
(*)
(8/137)
وحام عليها
بالقتال وبالقنا * ولا تك مخشوش الذراعين وانيا وإلا فسلم إن في الامن
راحة * لمن لا يريد الحرب فاختر معاويا وإن كتابا يا بن حرب كتبته *
على طمع جان عليك الدواهيا سألت عليا فيه مالا تناله * ولو نلته لم يبق
إلا لياليا إلى أن ترى منه الذي ليس بعدها * بقاء فلا تكثر عليك
الامانيا ومثل علي تغترره بخدعة * وقد كان ما خربت من قبل بانيا ولو
نشبت أظفاره فيك مرة * فراك ابن هند بعد ما كنت فاريا
وقد ورد من غير وجه أن أبا مسلم الخولاني وجماعة معه دخلوا على معاوية
فقالوا له: أنت تنازع عليا أم أنت مثله ؟ فقال: والله إني لاعلم أنه
خير مني وأفضل، وأحق بالامر مني، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل
مظلوما، وأنا ابن عمه، وأنا أطلب بدمه وأمره إلي ؟ فقولوا له: فليسلم
إلي قتلة عثمان وأنا أسلم له أمره.
فأتوا عليا فكلموه في ذلك فلم يدفع إليهم أحدا، فعند ذلك صمم أهل الشام
على القتال مع معاوية.
وعن عمرو بن شمر عن جابر الجعفي، عن عامر الشعبي وأبي جعفر الباقر.
قال: بعث علي رجلا إلى دمشق ينذرهم أن عليا قد نهد في أهل العراق إليكم
ليستعلم طاعتكم لمعاوية، فلما قدم أمر معاوية فنودي في الناس: الصلاة
جامعة، فملاوا المسجد ثم صعد المنبر فقال في خطبته: إن عليا قد نهد
إليكم في أهل العراق فما الرأي ؟ فضرب كل منهم على صدره، ولم يتكلم أحد
منهم، ولا رفعوا إليه أبصارهم، وقام ذو الكلاع فقال: يا أمير المؤمنين
عليك الرأي وعلينا الفعال، ثم نادى معاوية في الناس: أن اخرجوا إلى
معسكركم في ثلاث، فمن تخلف بعدها فقد أحل بنفسه، فاجتمعوا كلهم، فركب
ذلك الرجل إلى علي فأخبره، فأمر علي مناديا فنادى: الصلاة جامعة،
فاجتمعوا فصعد المنبر فقال: إن معاوية قد جمع الناس لحربكم، فما الرأي
؟ فقال كل فريق منهم مقالة، واختلط كلام بعضهم في بعض، فلم يدر علي مما
قالوا شيئا، فنزل عن المنبر وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ذهب
والله بها ابن آكلة الاكباد.
ثم كان من أمر الفريقين بصفين ما كان، كما ذكرناه مبسوطا في سنة ست
وثلاثين.
وقد قال أبو بكر بن دريد: أنبأنا أبو حاتم عن أبي عبيدة.
قال قال معاوية: لقد وضعت رجلي في الركاب وهممت يوم صفين بالهزيمة، فما
منعني إلا قول ابن الاطنابة حيث يقول: أبت لي عفتي وأبى بلائي * وأخذي
الحمد بالثمن الربيح وإكراهي على المكروه نفسي * وضربي هامة البطل
المشيح وقولي كلما جشأت وجاشت * مكانك تحمدي أو تستريحي وروى البيهقي
عن الامام أحمد أنه قال: الخلفاء أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، فقيل له:
فمعاوية ؟ قال: لم يكن أحد أحق بالخلافة في زمان علي من علي، ورحم الله
معاوية.
وقال
(8/138)
علي بن
المديني: سمعت سفيان بن عيينة يقول: ما كنت في علي خصلة تقصر به عن
الخلافة، ولم يكن في معاوية خصلة ينازع بها عليا.
وقيل لشريك القاضي: كان معاوية حليما ؟ فقال: ليس بحليم من سفه الحق
وقاتل عليا.
رواه ابن عساكر.
وقال سفيان الثوري، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه ذكر
معاوية وأنه لبى عشية عرفة فقال فيه قولا شديدا، ثم بلغه أن عليا لبى
عشية عرفة فتركه.
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثني عباد بن موسى، ثنا علي بن ثابت
الجزري، عن سعيد بن أبي عروبة عن عمر بن عبد العزيز.
قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وأبو بكر وعمر
جالساه عنده، فسلمت عليه وجلست، فبينما أنا جالس إذ أتي بعلي ومعاوية،
فأدخلا بيتا وأجيف الباب وأنا أنظر، فما كان بأسرع من أن خرج علي وهو
يقول: قضي لي ورب الكعبة، ثم ما كان بأسرع من أن خرج معاوية وهو يقول:
غفر لي ورب الكعبة.
وروى ابن عساكر عن أبي زرعة الرازي أنه قال له رجل: إني أبغض معاوية،
فقال له: ولم ؟ قال: لانه قاتل عليا، فقال له أبو زرعة: ويحك إن رب
معاوية رحيم، وخصم معاوية خصم كريم، فأيش دخولك أنت بينهما ؟ رضي الله
عنهما.
وسئل الامام أحمد عما جرى بين علي ومعاوية فقرأ: * (تلك أمة قد خلت لها
ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون) * [ البقرة: 134 ]
وكذا قال غير واحد من السلف.
وقال الاوزاعي: سئل الحسن عما جرى بين علي وعثمان فقال: كانت لهذا
سابقة ولهذا سابقة، ولهذا قرابة ولهذا قرابة، فابتلى هذا وعوفي هذا.
وسئل عما جرى بين علي ومعاوية فقال: كانت لهذا قرابة ولهذا قرابة،
ولهذا سابقة ولم يكن لهذا سابقة، فابتليا جميعا.
وقال كلثوم بن جوشن: سأل النضر أبو عمر الحسن البصري فقال: أبو بكر
أفضل أم علي ؟ فقال: سبحان الله ولا سواء، سبقت لعلي سوابق يشركه فيها
أبو بكر، وأحدث علي حوادث لم يشركه فيها أبو بكر، أبو بكر أفضل.
قال: فعمر أفضل أم علي ؟ فقال: مثل قوله في أبي بكر، ثم قال: عمر أفضل.
ثم قال: عثمان أفضل أم علي ؟ فقال مثل قوله الاول، ثم قال: عثمان أفضل.
قال:
فعلي أفضل أم معاوية ؟ فقال: سبحان الله ولا سواء سبقت لعلي سوابق لم
يشركه فيها معاوية، وأحدث علي أحداثا شركه فيها معاوية، علي أفضل من
معاوية.
وقد روي عن الحسن البصري أنه كان ينقم على معاوية أربعة أشياء، قتاله
عليا، وقتله حجر بن عدي، واستلحاقه زياد بن أبيه، ومبايعته ليزيد ابنه.
وقال جرير بن عبد الحميد عن مغيرة.
قال: لما جاء خبر قتل علي إلى معاوية جعل يبكي، فقالت له امرأته:
أتبكيه وقد قاتلته ؟ فقال: ويحك إنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل
والفقه والعلم، وفي رواية أنها قالت له بالامس تقاتلنه واليوم تبكينه
؟.
قلت: وقد كان مقتل علي في رمضان سنة أربعين، ولهذا قال الليث بن سعد:
إن معاوية بويع له بإيليا بيعة الجماعة، ودخل الكوفة سنة أربعين،
والصحيح الذي قاله ابن إسحاق والجمهور أنه بويع له بإيليا في رمضان سنة
أربعين، حين بلغ أهل الشام مقتل علي، ولكنه إنما
(8/139)
دخل الكوفة بعد
مصالحة الحسن له في شهر ربيع الاول سنة إحدى وأربعين، وهو عام الجماعة،
وذلك بمكان يقال له أدرج، وقيل بمسكن من أرض سواد العراق من ناحية
الانبار، فاستقل معاوية بالامر إلى أن مات سنة ستين.
قال بعضهم: كان نقش خاتم معاوية: كل عمل ثواب.
وقيل بل كان: لا قوة إلا بالله.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وسعيد بن منصور قالا:
ثنا أبو معاوية ثنا الاعمش عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن سويد.
قال: صلى بنا معاوية بالنخيلة - يعني خارج الكوفة - الجمعة في الضحى ثم
خطبنا فقال: ما قاتلتكم لتصوموا ولا لتصلوا ولا لتحجوا ولا لتزكوا، قد
عرفت أنكم تفعلون ذلك، ولكن إنما قاتلتكم لاتأمر عليكم، فقد أعطاني
الله ذلك وأنتم كارهون ".
رواه محمد بن سعد عن يعلى بن عبيد عن الاعمش به.
وقال محمد بن سعد: حدثنا عارم ثنا حماد بن يزيد، عن معمر، عن الزهري،
أن معاوية عمل سنتين عمل عمر ما يخرم فيه، ثم إنه بعد عن ذلك.
وقال نعيم بن حماد: حدثنا ابن فضيل عن السري بن إسماعيل، عن الشعبي،
حدثني سفيان بن الليل قال: قلت للحسن بن علي لما قدم من الكوفة إلى
المدينة: يا مذل المؤمنين، قال: لا تقل ذلك فإني سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول:
" لا تذهب الايام والليالي حتى يملك معاوية ".
فعلمت أن أمر الله واقع، فكرهت أن تهراق بيني وبينه دماء المسلمين.
وقال مجالد عن الشعبي عن الحارث الاعور.
قال قال علي بعدما رجع من صفين: أيها الناس لا تكرهوا إمارة معاوية،
فإنكم لو فقدتموه رأيتم الرؤوس تندر عن كواهلها كأنها الحنظل.
وقال ابن عساكر باسناده عن أبي داود الطيالسي: ثنا أيوب بن جابر، عن
أبي إسحاق، عن الاسود بن يزيد، قال قلت لعائشة: ألا تعجبين لرجل من
الطلقاء ينازع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخلافة ؟ فقالت:
وما تعجب من ذلك ؟ هو سلطان الله يؤتيه البر والفاجر، وقد ملك فرعون
أهل مصر أربعمائة سنة، وكذلك غيره من الكفار.
وقال الزهري: حدثني القاسم بن محمد أن معاوية حين قدم المدينة يريد
الحج دخل على عائشة فكلمها خاليين لم يشهد كلامهما أحد إلا ذكوان أبو
عمر ومولى عائشة، فقالت: أمنت أن أخبأ لك رجلا يقتلك بقتلك أخي محمدا ؟
فقال: صدقتي، فلما قضى معاوية كلامه معها تشهدت عائشة ثم ذكرت ما بعث
الله به نبيه صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق، والذي سن الخلفاء
بعده، وحضت معاوية على العدل واتباع أثرهم، فقالت في ذلك فلم يترك له
عذرا، فلما قضت مقالتها قال لها معاوية: أنت والله العالمة العاملة
بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، الناصحة المشفقة البليغة الموعظة،
حضضت على الخير، وأمرت به، ولم تأمرينا إلا بالذي هو لنا مصلحة، وأنت
أهل أن تطاعي.
وتكلمت هي ومعاوية كلاما كثيرا.
فلما قام معاوية اتكأ على ذكوان وقال: والله ما سمعت خطيبا ليس رسول
الله صلى الله عليه وسلم أبلغ من عائشة.
وقال محمد بن سعد: حدثنا خالد بن مخلد البجلي، ثنا سليمان بن بلال،
حدثني علقمة بن أبي علقمة عن أمه.
قالت: قدم معاوية بن أبي سفيان المدينة فأرسل إلى عائشة: أن ارسلي
بانبجانية رسول الله صلى الله عليه وسلم وشعره، فأرسلت به معي أحمله،
حتى
(8/140)
دخلت به عليه،
فأخذ الانبجانية فلبسها، وأخذ شعره فدعا بماء فغسله وشربه وأفاض على
جلده.
وقال الاصمعي عن الهذلي، عن الشعبي قال: لما قدم معاوية المدينة عام
الجماعة تلقته رجال من وجوه قريش فقالوا: الحمد لله الذي أعز نصرك،
وأعلا أمرك.
فما رد عليهم جوابا
حتى دخل المدينة، فقصد المسجد وعلا المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم
قال: أما بعد ! فإني والله ما وليت أمركم حين وليته وأنا أعلم أنكم لا
تسرون بولايتي ولا تحبونها، وإني لعالم بما في نفوسكم من ذلك، ولكني
خالستكم بسيفي هذا مخالسة، ولقد رمت نفسي على عمل ابن أبي قحافة فلم
أجدها تقوم بذلك ولا تقدر عليه، وأردتها على عمل ابن الخطاب فكانت أشد
نفورا وأعظم هربا من ذلك، وحاولتها على مثل سنيات عثمان فأبت علي وأين
مثل هؤلاء ؟ ومن يقدر على أعمالهم ؟ هيهات أن يدرك فضلهم أحد ممن بعدهم
؟ رحمة الله ورضوانه عليهم، غير أني سلكت بها طريقا لي فيه منفعة، ولكم
فيه مثل ذلك.
ولكل فيه مواكلة حسنة، ومشاربة جميلة، ما استقامت السيرة وحسنت الطاعة،
فإن لم تجدوني خيركم فأنا خير لكم، والله لا أحمل السيف على من لا سيف
معه، ومهما تقدم مما قد علمتموه فقد جعلته دبر أذني، وإن لم تجدوني
أقوم بحقكم كله فارضوا مني ببعضه، فانها بقاببة قوبها، وإن السيل إذا
جاء يبرى، وإن قل أغنى، وإياكم والفتنة فلا تهموا بها، فإنها تفسد
المعيشة، وتكدر النعمة، وتورث الاستيصال، أستغفر الله لي ولكم، أستغفر
الله.
ثم نزل.
- قال أهل اللغة: القاببة البيضة، والقوب الفرخ، قابت البيضة تقوب إذا
انفلقت عن الفرخ -.
والظاهر أن هذه الخطبة كانت عام حج في سنة أربع وأربعين، أو في سنة
خمسين، لا في عام الجماعة.
وقال الليث: حدثني علوان بن صالح بن كيسان أن معاوية قدم المدينة أول
حجة حجها بعد اجتماع الناس عليه، فلقيه الحسن والحسين ورجال من قريش،
فتوجه إلى دار عثمان بن عفان، فلما دنا إلى باب الدار صاحت عائشة بنت
عثمان وندبت أباها، فقال معاوية لمن معه: انصرفوا إلى منازلكم فإن لي
حاجة في هذه الدار، فانصرفوا ودخل فسكن عائشة بن عثمان، وأمرها بالكف
وقال لها: يا بنت أخي إن الناس أعطونا سلطاننا فأظهرنا لهم حلما تحته
غضب، وأظهروا لنا طاعة تحتحها حقد، فبعناهم هذا بهذا، وباعونا هذا
بهذا، فإن أعطيناهم غير ما اشتروا منا شحوا علينا بحقنا وغمطناهم
بحقهم، ومع كل إنسان منهم شيعته، وهو يرى مكان شيعته، فإن نكثناهم
نكثوا بنا، ثم لا ندري أتكون لنا الدائرة أم علينا ؟ وأن تكوني ابنة
عثمان
أمير المؤمنين أحب إلي أن تكوني أمة من إماء المسلمين، ونعم الخلف أنا
لك بعد أبيك.
وقد روي ابن عدي من طريق علي بن زيد، وهو ضعيف، عن أبي نضرة عن أبي
سعيد، ومن حديث مجالد، وهو ضعيف أيضا، عن أبي الوداك عن أبي سعيد.
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا رأيتم معاوية على منبري
فاقتلوه ".
وأسنده أيضا من طريق الحكم بن ظهير - وهو متروك - عن عاصم عن زر عن ابن
مسعود مرفوعا.
وهذا الحديث كذب بلا شك، ولو كان صحيحا لبادر الصحابة
(8/141)
إلى فعل ذلك،
لانهم كانوا لا تأخذهم في الله لومة لائم.
وأرسله عمرو بن عبيد عن الحسن البصري، قال أيوب: وهو كذب ورواه الخطيب
البغدادي باسناد مجهول عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا: " إذا رأيتم
معاوية يخطب على منبري فاقتلوه (1) فإنه أمين مأمون ".
وقد قال أبو زرعة الدمشقي عن دحيم، عن الوليد، عن الاوزاعي قال: أدركت
خلافة معاوية عدة من الصحابة منهم أسامة وسعد وجابر وابن عمر وزيد بن
ثابت وسلمة بن مخلد وأبو سعيد ورافع بن خديج وأبو أمامة وأنس بن مالك،
ورجال أكثر وأطيب ممن سمينا بأضعاف مضاعفة، كانوا مصابيح الهدى، وأوعية
العلم، حضروا من الكتاب تنزيله، ومن الدين جديده، وعرفوا من الاسلام ما
لم يعرفه غيرهم، وأخذوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تأويل القرآن.
ومن التابعين لهم باحسان ما شاء الله، منهم المسور بن مخرمة، وعبد
الرحمن بن الاسود بن عبد يغوث، وسعيد بن المسيب، وعبد الله بن محيريز،
وفي أشباه لهم لم ينزعوا يدا من جماعة في أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو زرعة عن دحيم، عن الوليد، عن سعيد بن عبد العزيز.
قال: لما قتل عثمان لم يكن للناس غازية تغزو، حتى كان عام الجماعة
فأغزا معاوية أرض الروم ست عشرة غزوة، تذهب سرية في الصيف ويشتوا بأرض
الروم، ثم تقفل وتعقبها أخرى، وكان في جملة من أغزى ابنه يزيد ومعه خلق
من الصحابة، فجاز بهم الخليج، وقاتلوا أهل القسطنطينية على بابها، ثم
قفل بهم راجعا إلى الشام، وكان آخر ما أوصى به معاوية أن قال: شد خناق
الروم.
وقال ابن وهب عن يونس عن الزهري قال.
حج معاوية بالناس في أيام خلافته مرتين، وكانت أيامه
عشرين سنة إلا شهرا.
وقال أبو بكر بن عياش: حج بالناس معاوية سنة أربع وأربعين، وسنة خمسين.
وقال غيره: سنة إحدى وخمسين (2) فالله أعلم.
وقال الليث بن سعد: حدثنا بكير عن بشر بن سعيد أن سعد بن أبي وقاص قال:
ما رأيت أحدا بعد عثمان أقضى بحق من صاحب هذا الباب - يعني معاوية -
وقال عبد الرزاق: حدثنا معمر عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن ثنا
المسور بن مخرمة أنه وفد على معاوية.
قال: فلما دخلت عليه - حسبت أنه قال سلمت عليه - فقال: ما فعل طعنك على
الائمة يا مسور ؟ قال قلت: ارفضنا من هذا وأحسن فيما قدمنا له، فقال:
لتكلمني بذات نفسك، قال: فلم أدع شيئا أعيبه عليه إلا أخبرته به، فقال:
لا تبرأ من الذنوب، فهل لك من ذنوب تخاف أن تهلكك إن لم يغفرها الله لك
؟ قال: قلت: نعم ! إن لي ذنوبا إن لم تغفرها هلكت بسببها، قال: فما
الذي يجعلك أحق بأن ترجو أنت المغفرة مني، فوالله لما
__________
(1) كذا بالاصل، وفي هامش المطبوعة: " لعله فاقبلوه بدليل قوله في سياق
الكلام: فإنه أمين مأمون، ولا يطعن في الحديث، ويصح المعنى والله أعلم
".
(2) في الطبري 6 / 161: حج بالناس سنة إحدى وخمسين يزيد بن معاوية،
وقال بعضهم حج يزيد في سنة خمسين وقال بعضهم الآخر حج معاوية.
(*)
(8/142)
إلي من إصلاح
الرعايا وإقامة الحدود والاصلاح بين الناس والجهاد في سبيل الله
والامور العظام التي لا يحصيها إلا الله ولا نحصيها أكثر مما تذكر من
العيوب والذنوب، وإني لعلى دين يقبل الله فيه الحسنات ويعفو عن
السيئات، والله على ذلك ما كنت لاخير بين الله وغيره إلا اخترت الله
على غيره مما سواه، فقال: ففكرت حين قال لي ما قال فعرفت أنه قد خصمني.
قال: فكان المسور إذا ذكره بعد ذلك دعا له بخير.
وقد رواه شعيب عن الزهري عن عروة عن المسور بنحوه.
وقال ابن دريد عن أبي حاتم عن العتبي قال قال معاوية: يأيها الناس ! ما
أنا بخيركم وإن منكم لمن هو خير مني، عبد الله بن عمر، وعبد الله بن
عمرو، وغيرهما من الافاضل، ولكن عسى أن أكون أنفعكم ولاية، وأنكاكم في
عدوكم، وأدركم حلبا.
وقد رواه أصحاب محمد عن ابن
سعد عن محمد بن مصعب، عن أبي بكر بن أبي مريم عن ثابت مولى معاوية أنه
سمع معاوية يقول نحو ذلك.
وقال هشام بن عمار خطيب دمشق: حدثنا عمرو بن واقد، ثنا يونس بن حلبس
قال سمعت معاوية على منبر دمشق يوم جمعة يقول: أيها الناس اعقلوا قولي،
فلن تجدوا أعلم بأمور الدنيا والآخرة مني، أقيموا وجوهكم وصفوفكم في
الصلاة، أو ليخالفن الله بين قلوبكم، خذوا على أيدي سفهائكم أو ليسلطن
الله عليكم عدوكم فليسومنكم سوء العذاب.
تصدقوا ولا يقولن الرجل إني مقل، فإن صدقة المقل أفضل من صدقة الغني،
إياكم وقذف المحصنات، وأن يقول الرجل: سمعت وبلغني، فلو قذف أحدكم
امرأة على عهد نوح لسئل عنها يوم القيامة.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا يزيد بن طهمان الرقاشي ثنا محمد بن
سيرين.
قال: كان معاوية إذا حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتهم.
ورواه أبو القاسم البغوي عن سويد بن سعيد، عن همام بن إسماعيل، عن أبي
قبيل.
قال: كان معاوية يبعث رجلا يقال له أبو الجيش في كل يوم فيدور على
المجالس يسأل هل ولد لاحد مولود ؟ أو قدم أحد من الوفود ؟ فإذا أخبر
بذلك أثبت في الديوان - يعني ليجري عليه الرزق - وقال غيره: كان معاوية
متواضعا ليس له مجالد إلا كمجالد الصبيان التي يسمونها المخاريق فيضرب
بها الناس.
وقال هشام بن عمار، عن عمرو بن واقد، عن يونس بن ميسرة بن حلبس.
قال: رأيت معاوية في سوق دمشق وهو مردف وراءه وصفيا عليه قميص مرقوع
الجيب، وهو يسير في أسواق دمشق، وقال الاعمش عن مجاهد، إنه قال: لو
رأيتم معاوية لقلتم هذا المهدي.
وقال هشيم عن العوام عن جبلة بن سحيم، عن ابن عمرو.
قال: ما رأيت أحدا أسود من معاوية، قال قلت: ولا عمر ؟ قال: كان عمر
خيرا منه، وكان معاوية أسود منه.
ورواه أبو سفيان الحيري، عن العوام بن حوشب به.
وقال: ما رأيت أحدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسود من معاوية،
قيل ولا أبو بكر ؟ قال: كان أبو بكر وعمر وعثمان خيرا منه، وهو أسود.
وروى من طريق عن ابن عمر مثله.
وقال عبد الرزاق: عن معمر عن همام سمعت ابن عباس يقول: ما رأيت رجلا
كان أخلق بالملك من معاوية، وقال حنبل بن إسحاق:
(8/143)
حدثنا أبو نعيم
حدثنا ابن أبي عتيبة عن شيخ من أهل المدينة قال قال معاوية.
أنا أول الملوك (1).
وقال ابن أبي خيثمة: حدثنا هارون بن معروف حدثنا حمزة عن ابن شوذب قال:
كان معاوية يقول أنا أول الملوك وآخر خليفة، قلت: والسنة أن يقال
لمعاوية ملك، ولا يقال له خليفة لحديث سفينة: " الخلافة بعدي ثلاثون
سنة ثم تكون ملكا عضوضا " (2).
وقال عبد الملك بن مروان يوما وذكر معاوية فقال: ما رأيت مثله في حلمه
واحتماله وكرمه.
وقال قبيصة بن جابر: ما رأيت أحدا أعظم حلما ولا أكثر سؤددا ولا أبعد
أناة ولا ألين مخرجا، ولا أرحب باعا بالمعروف من معاوية.
وقال بعضهم: أسمع رجل معاوية كلاما شيئا شديدا، فقيل له لو سطوت عليه ؟
فقال: إني لاستحيي من الله أن يضيق حلمي عن ذنب أحد من رعيتي.
وفي رواية قال له رجل: يا أمير المؤمنين ما أحلمك ؟ فقال: إني لاستحيي
أن يكون جرم أحد أعظم من حلمي.
وقال الاصمعي عن الثوري: قال قال معاوية: إني لاستحيي أن يكون ذنب أعظم
من عفوي، أو جهل أكبر من حلمي، أو تكون عورة لا أواريها بستري.
وقال الشعبي والاصمعي عن أبيه قالا: جرى بين رجل يقال له أبو الجهم
وبين معاوية كلام فتكلم أبو الجهم بكلام فيه غمر لمعاوية، فأطرق
معاوية.
ثم رفع رأسه فقال: يا أبا الجهم إياك والسلطان فإنه يغضب غضب الصبيان،
ويأخذ أخذ الاسد، وإن قليله يغلب كثير الناس.
ثم أمر معاوية لابي الجهم بمال فقال: أبو الجهم في ذلك يمدح معاوية:
نميل على جوانبه كأنا * نميل إذا نميل على أبينا نقلبه لنخبر حالتيه *
فنخبر منهما كرما ولينا وقال الاعمش: طاف الحسن بن علي مع معاوية فكان
معاوية يمشي بين يديه، فقال الحسن: ما أشبه أليتيه بأليتي هند ؟ !
فالتفت إليه معاوية فقال: أما إن ذلك كان يعجب أبا سفيان.
وقال ابن أخته عبد الرحمن بن أبي الحكم لمعاوية: إن فلانا يشتمني، فقال
له: طأطئ لها فتمر فتجاوزك.
وقال ابن الاعرابي: قال رجل لمعاوية: ما رأيت أنذل منك، فقال معاوية:
بلى
من واجه الرجال بمثل هذا.
وقال أبو عمرو بن العلاء قال معاوية: ما يسرني بذل الكرم حمر
__________
(1) في رواية عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: " خلافة نبوة ثلاثين عاما ثم يؤتي الله الملك من
يشاء " فقال معاوية: قد رضينا بالملك.
أنظر الحديث في سنن أبي داود - كتاب السنة (4 / 211) والترمذي في الفتن
4 / 503 والامام أحمد في المسند 4 / 273 ودلائل البيهقي 6 / 342.
(2) أخرجه الامام أحمد 5 / 44 و 5 / 220 وأبو داود في السنة ح (4646)
بلفظ خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يأتي الملك من يشاء.
ومن طريق يعقوب بن سفيان عن سفينة الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم ملك
بعد ملك.
(*)
(8/144)
النعم.
وقال: ما يسر بي بذل الحلم عز النصر.
وقال بعضهم: قال معاوية: يا بني أمية فارقوا قريشا بالحلم، فوالله لقد
كنت ألقى الرجل في الجاهلية فيوسعني شتما وأوسعه حلما، فأرجع وهو لي
صديق، إن استنجدته أنجدني، وأثور به فيثور معي، وما وضع الحلم عن شريف
شرفه، ولا زاده إلا كرما وقال: آفة الحلم الذل.
وقال: لا يبلغ الرجل مبلغ الرأي حتى يغلب حلمه جهله، وصبره شهوته، ولا
يبلغ الرجل ذلك إلا بقوة الحلم.
وقال عبد الله بن الزبير: لله در ابن هند، إن كنا لنفرقه وما الليث على
براثنه بأجرأ منه، فيتفارق لنا، وإن كنا لنخدعه وما ابن ليلة من أهل
الارض بأدهى منة فيتخادع لنا، والله لوددت أنا متعنا به ما دام في هذا
الجبل حجر - وأشار إلى أبي قيس - وقال رجل لمعاوية: من أسود الناس ؟
فقال: أسخاهم نفسا حين سأل، وأحسنهم في المجالس خلقا، وأحلمهم حين
يستجهل.
وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: كان معاوية يتمثل بهذه الابيات كثيرا:
فما قتل السفاهة مثل حلم * يعود به على الجهل الحليم فلا تسفه وإن ملئت
غيظا * على أحد فإن الفحش لوم ولا تقطع أخا لك عند ذنب * فإن الذنب
يغفره الكريم وقال القاضي الماوردي في الاحكام السلطانية: وحكي أن
معاوية أتي بلصوص فقطعهم حتى بقي واحد من بينهم، فقال:
يميني أمير المؤمنين أعيذها * بعفوك أن تلقى مكانا يشينها يدي كانت
الحسناء لو تم سترها * ولا تعدم الحسناء عيبا يشيبها فلا خير في الدنيا
وكانت حبيبة * إذا ما شمالي فارقتها يمينها فقال معاوية: كيف أصنع بك ؟
قد قطعنا أصحابك ؟ فقالت أم السارق: يا أمير المؤمنين ! اجعلها في
ذنوبك التي تتوب منها.
فخلى سبيله، فكان أول جد ترك في الاسلام وعن ابن عباس أنه قال: قد علمت
بم غلب معاوية الناس، كانوا إذا طاروا وقع، وإذا وقع طاروا، وقال غيره:
كتب معاوية إلى نائبه زياد: إنه لا ينبغي أن يسوس الناس سياسة واحدة
باللين فيمرحوا، ولا بالشدة فيحمل الناس على المهالك، ولكن كن أنت
للشدة والفظاظة والغلظة، وأنا للين والالفة والرحمة، حتى إذا خاف خائف
وجد بابا يدخل منه.
وقال أبو مسهر عن سعيد بن عبد العزيز.
قال: قضى معاوية عن عائشة أم المؤمنين ثمانية عشر ألف دينار، وما كان
عليها من الدين الذي كانت تعطيه الناس.
وقال هشام بن عروة عن أبيه: بعث معاوية إلى أم المؤمنين عائشة بمائة
ألف ففرقتها من يومها فلم يبق منها درهم،
(8/145)
فقالت لها
خادمتها: هلا أبقيت لنا درهما نشتري به لحما تفطري عليه ؟ فقالت: لو
ذكرتيني لفعلت (1).
وقال عطاء: بعث معاوية إلى عائشة وهي بمكة بطوق قيمته مائة ألف فقبلته.
وقال زيد بن الحباب عن الحسين بن واقد، عن عبد الله بن بريدة.
قال: قدم الحسن بن علي على معاوية فقال له: لاجيزنك بجائزة لم يجزها
أحد كان قبلي، فأعطاه أربعمائة ألف ألف (2).
ووفد إليه مرة الحسن والحسين فأجازهما على الفور بمائتي ألف، وقال
لهما: ما أجاز بهما أحد قبلي، فقال له الحسين: ولم تعط أحدا أفضل منا.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا يوسف ابن موسى ثنا جرير عن مغيرة.
قال: أرسل الحسن بن علي وعبد الله بن جعفر إلى معاوية يسألانه المال،
فبعث إليهما - أو إلى كل منهما - بمائة ألف، فبلغ ذلك عليا فقال لهما:
ألا تستحيان ؟ رجل نطعن في عينه غدوة وعشية تسألانه المال ؟ فقالا: بل
حرمتنا أنت وجاد هولنا.
وروى الاصمعي قال: وفد الحسن وعبد الله بن الزبير على معاوية فقال
للحسن: مرحبا وأهلا بابن رسول الله، وأمر له بثلاثمائة ألف، وقال لابن
الزبير: مرحبا وأهلا بابن عمة رسول الله، وأمر له بمائة ألف.
وقال أبو مروان المرواني: بعث معاوية إلى الحسن بن علي بمائة ألف
فقسمها على جلسائه، وكانوة عشرة، فأصاب كل واحد عشرة آلاف.
وبعث إلى عبد الله بن جعفر بمائة ألف فاستو هبتها منه امرأته فاطمة
فأطلقها لها، وبعث إلى مروان بن الحكم بمائة ألف فقسم منها خمسين ألفا
وحبس خمسين ألفا، وبعث إلى ابن عمر بمائة ألف ففرق منها تسعين واستبقى
عشرة آلاف.
فقال معاوية: إنه لمقتصد يحب الاقتصاد.
وبعث إلى عبد الله بن الزبير بمائة ألف فقال للرسول: لم جئت بها
بالنهار ؟ فلا جئت بها بالليل ؟ ثم حبسها عنده ولم يعط منها أحدا شيئا،
فقال معاوية: إنه لخب ضب (3)، كأنك به قد رفع ذنبه وقطع حبله.
وقال ابن دآب: كان لعبد الله بن جعفر على معاوية في كل سنة ألف ألف،
ويقضي له معها مائة حاجة، فقدم عليه عاما فأعطاه المال وقضى له
الحاجات، وبقيت منها واحدة، فبينما هو عنده إذ قدم أصبغهند سجستان يطلب
من معاوية أن يملكه على تلك البلاد، ووعد من قضى له هذه الحاجة من ماله
ألف ألف، فطاف على رؤوس الاشهاد والامراء من أهل الشام وأمراء العراق،
ممن قدم مع الاحنف بن قيس، فكلمهم يقولون: عليك بعبد الله بن جعفر،
فقصده الدهقان فكلم فيه ابن جعفر معاوية فقضى حاجته تكملة المائة حاجة،
وأمر الكتاب فكتب له عهده، وخرج به ابن جعفر إلى الدهقان فسجد له وحمل
إليه ألف ألف درهم، فقال له ابن جعفر: اسجد لله واحمل مالك إلى منزلك،
فإنا أهل بيت لا نبيع المعروف بالثمن.
فبلغ ذلك معاوية فقال: لان يكون يزيد قالها أحب إلي من
__________
(1) في ابن سعد 8 / 66 ذكر الرواية عن هشام بن عروة عن ابن المنكدر عن
ام ذرة وفيها أن ابن الزبير بعث بالمائة ألف إلى عائشة.
ونقلها ابن حجر في الاصابة عن ابن سعد 4 / 361 ولم يذكر فيها من أرسل
إليها المال.
(2) الرواية في الاصابة من طريق الحسن بن شقيق وفيه: أربعمائة ألف (1 /
330).
(3) خب: خداع.
ضب: حاقد.
(*)
(8/146)
خراج العراق،
أبت بنو هاشم إلا كرما، وقال غيره: كان لعبدالله بن جعفر على معاوية في
كل سنة ألف ألف، فاجتمع عليه في بعض الاوقات دين خمسمائة ألف، فألح
عليه غرماؤه فاستنظرهم حتى يقدم على معاوية فيسأله أن يسلفه شيئا من
العطاء، فركب إليه فقال له: ما أقدمك يا بن جعفر ؟ فقال: دين ألح علي
غرماؤه، فقال: وكم هو ؟ قال: خمسمائة ألف.
فقضاها عنه وقال له: إن الالف ألف ستأتيك في وقتها.
وقال ابن سعيد: حدثنا موسى بن إسماعيل ثنا ابن هلال عن قتادة.
قال قال معاوية: يا عجبا للحسن بن علي ! ! شرب شربة غسل يمانية بماء
رومة فقضى نحبه، ثم قال لابن عباس: لا يسؤك الله ولا يحزنك في الحسن بن
علي، فقال ابن عباس لمعاوية: لا يحزنني الله ولا يسؤني ما أبقى الله
أمير المؤمنين.
قال: فأعطاه ألف ألف درهم وعروضا وأشياء، وقال: خذها فاقسمها في أهلك.
وقال أبو الحسن المدايني عن سلمة بن محارب قال: قيل لمعاوية أيكم كان
أشرف، أنتم أو بنو هاشم ؟ قال: كنا أكثر أشرافا وكانوا هم أشرف، فيهم
واحد لم يكن في بني عبد مناف مثل هاشم، فلما هلك كنا أكثر عددا وأكثر
اشرافا، وكان فيهم عبد المطلب ولم يكن فينا مثله، فلما مات صرنا أكثر
عددا وأكثر أشرافا، ولم يكن فيهم واحد كواحدنا، فلم يكن إلا كقرار
العين حتى قالوا: منا نبي، فجاء نبي لم يسمع الاولون والآخرون بمثله،
محمد صلى الله عليه وسلم، فمن يدرك هذه الفضيلة وهذا الشرف ؟.
وروى ابن أبي خيثمة عن موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد
عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أن عمرو بن العاص قص على معاوية مناما
رأى فيه أبا بكر وعمر وعثمان وهم يحاسبون على ما ولوه في أيامهم، ورأى
معاوية وهو موكل به رجلان يحاسبانه على ما عمل في أيامه، فقال له
معاوية: وما رأيت ثم دنانير مصر ؟.
وقال ابن دريد عن أبي حاتم عن العتبي.
قال: دخل عمرو على معاوية وقد ورد عليه كتاب فيه تعزية له في بعض
الصحابة، فاسترجع معاوية فقال عمرو بن العاص: تموت الصالحون وأنت حي *
تخطاك المنايا لا تموت فقال له معاوية:
أترجو أن أموت وأنت حي * فلست بميت حتى تموت وقال ابن السماك قال
معاوية: كل الناس أستطيع أن أرضيه إلا حاسد نعمة فإنه لا يرضيه إلا
زوالها، وقال الزهري عن عبد الملك عن أبي بحرية.
قال قال معاوية: المروءة في أربع، العفاف في الاسلام، واستصلاح المال،
وحفظ الاخوان، وحفظ الجار.
وقال أبو بكر الهذلي: كان معاوية يقول الشعر فلما ولي الخلافة قال له
أهله: قد بلغت الغاية فماذا تصنع بالشعر ؟ فارتاح يوما فقال: صرمت
سفاهتي وأرحت حلمي * وفي على تحملي اعتراض
(8/147)
على أني أجيب
إذا دعتني * إلى حاجاتها الحدق المراض وقال مغيرة عن الشعبي: أول من
خطب جالسا معاوية حين كثر شحمه وعظم بطنه.
وكذا روى عن مغيرة عن إبراهيم أنه قال: أول من خطب جالسا يوم الجمعة
معاوية.
وقال أبو المليح عن ميمون: أول من جلس على المنبر معاوية واستأذن الناس
في الجلوس.
وقال قتادة عن سعيد بن المسيب: أول من أذن وأقام يوم الفطر والنحر
معاوية.
وقال أبو جعفر الباقر: كانت أبواب مكة لا أغلاق لها، وأول من اتخذ لها
الابواب معاوية.
وقال أبو اليمان عن شعيب عن الزهري: مضت السنة أن لا يرث الكافر
المسلم، ولا المسلم الكافر، وأول من ورث المسلم من الكافر معاوية، وقضى
بذلك بنو أمية بعده، حتى كان عمر بن عبد العزيز فراجع السنة، وأعاد
هشام ما قضى به معاوية وبنو أمية من بعده، وبه قال الزهري، ومضت السنة
أن دية المعاهد كدية المسلم، وكان معاوية أول من قصرها إلى النصف، وأخذ
النصف لنفسه.
وقال ابن وهب عن مالك عن الزهري قال: سألت سعيد بن المسيب عن أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: اسمع يا زهري، من مات حبا لابي
بكر وعمر وعثمان وعلي، وشهد للعشرة بالجنة، وترحم على معاوية، كان حقا
على الله أن لا يناقشه الحساب.
وقال سعيد بن يعقوب الطالقاني: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: تراب في
أنف معاوية أفضل من عمر بن عبد العزيز.
وقال محمد بن
يحيى بن سعيد: سئل ابن المبارك عن معاوية فقال: ما أقول في رجل قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: سمع الله لمن حمده، فقال خلفه: ربنا ولك
الحمد، فقيل له: أيهما أفضل ؟ هو أو عمر بن عبد العزيز ؟ فقال: لتراب
في منخري معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير وأفضل من عمر بن
عبد العزيز.
وقال غيره عن ابن المبارك قال معاوية: عندنا محنة فمن رأيناه ينظر إليه
شزرا اتهمناه على القول - يعني الصحابة - وقال محمد بن عبد الله بن
عمار الموصلي وغيره: سئل المعافى بن عمران أيهما أفضل ؟ معاوية أو عمر
بن عبد العزيز ؟ فغضب وقال للسائل: أتجعل رجلا من الصحابة مثل رجل من
التابعين ؟ معاوية صاحبه وصهره وكاتبه وأمينه على وحي الله.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دعوا لي أصحابي وأصهاري، فمن
سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ".
وكذا قال الفضل بن عتيبة.
وقال أبو توبة الربيع بن نافع الحلبي: معاوية ستر لاصحاب محمد صلى الله
عليه وسلم، فإذا كشف الرجل الستر اجترأ على ما وراءه.
وقال الميموني قال لي أحمد بن حنبل: يا أبا الحسن إذا رأيت رجلا يذكر
أحدا من الصحابة بسوء فاتهمه على الاسلام.
وقال الفضل بن زياد: سمعت أبا عبد الله يسأل عن رجل تنقص معاوية وعمرو
بن العاص أيقال له رافضي ؟ فقال: إنه لم يجترئ عليهما إلا وله خبيئة
سوء، ما انتقص أحد أحدا من الصحابة إلا وله داخلة سوء.
وقال ابن المبارك عن محمد بن مسلم عن إبراهيم بن ميسرة.
قال: ما رأيت عمر بن عبد العزيز ضرب إنسانا قط إلا إنسانا شتم معاوية،
فإنه ضرب أسواطا.
وقال بعض السلف: بينما أنا على جبل بالشام إذ سمعت هاتفا يقول: من أبغض
الصديق فذاك زنديق، ومن أبغض عمر فإلى جهنم
(8/148)
زمرا، ومن أبغض
عثمان فذاك خصمه الرحمن، ومن أبغض عليا فذاك خصمه النبي، ومن أبغض
معاوية سحبته الزبانية، إلى جهنم الحامية، يرمى به في الحامية الهاوية.
وقال بعضهم: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر وعمر
وعثمان وعلي ومعاوية، إذ جاء رجل فقال عمر: يا رسول الله هذا يتنقصنا،
فكأنه انتهره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني لا
أتنقص هؤلاء ولكن هذا - يعني معاوية - فقال: " ويلك ! أو ليس هو من
أصحابي ؟ قالها ثلاثا، ثم أخذ
رسول الله صلى الله عليه وسلم حربة فناولها معاوية فقال: جابها في لبته
" فضربه بها وانتبهت فبكرت إلى منزلي فإذا ذلك الرجل قد أصابته الذبحة
من الليل ومات، وهو راشد الكندي.
وروى ابن عساكر عن الفضيل بن عياض أنه كان يقول: معاوية من الصحابة، من
العلماء الكبار، ولكن ابتلى بحب الدنيا.
وقال العتبي: قيل لمعاوية أسرع إليك الشيب ؟ فقال: كيف لا ولا أزال أرى
رجلا من العرب قائما على رأسي يلقح لي كلاما يلزمني جوابه، فإن أصبت لم
أحمد، وإن أخطأت سارت بها البرود.
وقال الشعبي وغيره: أصابت معاوية في آخر عمره لوقة (1)، وروى ابن عساكر
في ترجمة خديج الخصي مولى معاوية قال: اشترى معاوية جارية بيضاء جميلة
فأدخلتها عليه مجردة، وبيده قضيب، فجعل يهوي به إلى متاعها - يعني
فرجها - ويقول: هذا المتاع لو كان لي متاع، اذهب بها إلى يزيد بن
معاوية، ثم قال: لا ! ادع لي ربيعة بن عمرو الجرشي - وكان فقيها - فلما
دخل عليه قال: إن هذه أتيت بها مجردة فرأيت منها ذاك وذاك، وإني أردت
أن أبعث بها إلى يزيد، قال: لا تفعل يا أمير المؤمنين ! فإنها لا تصلح
له، فقال: نعم ما رأيت، قال: ثم وهبها لعبد الله بن مسعدة الفزاري مولى
فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أسود فقال له: بيض بها
ولدك، وهذا من فقه معاوية ونحريه، حيث كان نظر إليها بشهوة، ولكنه
استضعف نفسه عنها، فتحرج أن يهبها من ولده يزيد لقوله تعالى: * (ولا
تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) * [ النساء: 22 ] وقد وافقه على ذلك
الفقيه ربيعة بن عمرو الجرشي الدمشقي.
وذكر ابن جرير أن عمرو بن العاص قدم في وفد أهل مصر إلى معاوية، فقال
لهم في الطريق: إذا دخلتم على معاوية فلا تسلموا عليه بالخلافة فإنه لا
يحب ذلك، فلما دخل عليه عمرو قبلهم، قال معاوية لحاجبه: أدخلهم، وأوعز
إليه أن يخوفهم في الدخول ويرعبهم، وقال: إني لاظن عمرا قد تقدم إليهم
في شئ ؟.
فلما أدخلوهم عليه - وقد أهانوهم - جعل أحدهم إذا دخل يقول: السلام
عليك يا رسول الله، فلما نهض عمرو من عنده قال: قبحكم الله ! نهيتكم عن
أن تسلموا عليه بالخلافة فسلمتم عليه بالنبوة.
__________
(1) قال الجاحظ في البيان والتبيين 3 / 134 لما سقطت ثنيتا معاوية لف
وجهه بعمامة، ثم خرج إلى الناس فقال:
لئن ابتليت لقد ابتلى الصالحون قبلي، وإني لارجو أن أكون منهم، ولئن
عوقبت لقد عوقب الخاطئون قبلي، وما آمن أن أكون منهم ولئن سقط عضوان
مني لما بقي أكثر...(*)
(8/149)
وذكر أن رجلا
سأل من معاوية أن يساعده في بناء داره باثني عشر ألف جذع من الخشب.
فقال له معاوية: أين دارك ؟ قال: بالبصرة، قال: وكم اتساعها ؟ قال:
فرسخان في فرسخين، قال: لا تقل داري بالبصرة، ولكن قل: البصرة في داري.
وذكر أن رجلا دخل بابن معه فجلسا على سماط معاوية فجعل ولده يأكل أكلا
ذريعا، فجعل معاوية يلاحظه، وجعل أبوه يريد أن ينهاه عن ذلك فلا يفطن،
فلما خرجا لامه أبوه وقطعه عن الدخول، فقال له معاوية ! أين ابنك
التلقامة ؟ قال: اشتكى.
قال: قد علمت أن أكله سيورثه داء.
قال: ونظر معاوية إلى رجل وقف بين يديه يخاطبه وعليه عباءة فجعل
يزدريه، فقال: يا أمير المؤمنين إنك لا تخاطب العباءة، إنما يخاطبك من
بها.
وقال معاوية: أفضل الناس من إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا غضب
كظم، وإذا قدر غفر، وإذا وعد أنجز، وإذا أساء استغفر.
وكتب رجل (1) من أهل المدينة إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه:
إذا الرجال ولدت أولادها * واضطربت من كبر أعضادها وجعلت أسقامها
تعتادها * فهي زروع قد دنا حصادها فقال معاوية: نعى إلي نفسي وقال ابن
أبي الدنيا: حدثني هارون بن سفيان عن عبد الله السهمي حدثني ثمامة بن
كلثوم أن آخر خطبة خطبها معاوية أن قال: أيها الناس ! إن من زرع قد
استحصد، وإني قد وليتكم ولن يليكم أحد بعدي خير مني، وإنما يليكم من هو
شر مني، كما كان من وليكم قبلي خيرا مني (2)، ويا زيد إذا دنا أجلي فول
غسلي رجلا لبيبا، فإن اللبيب من الله بمكان، فلينعم الغسل وليجهر
بالتكبير، ثم اعمد إلى منديل في الخزانة فيه ثوب من ثياب رسول الله صلى
الله عليه وسلم وقراضة من شعره وأظفاره، فاستودع القراضة أنفي وفمي،
وأذني وعيني (3)، واجعل ذلك الثوب مما يلي
جلدي دون لفافي، ويا يزيد احفظ وصية الله في الوالدين، فإذا أدرجتموني
في جريدتي ووضعتموني في حفرتي فخلوا معاوية وأرحم الراحمين.
وقال بعضهم: لما احتضر معاوية جعل يقول: لعمري لقد عمرت في الدهر برهة
* ودانت لي الدنيا بوقع البواتر وأعطيت حمر المال والحكم والنهى * ولي
سلمت كل الملوك الجبابر
__________
(1) في الطبري 6 / 187: زر بن حبيش أو أيمن بن خريم.
(2) في الكامل للمبرد 2 / 381: ولن يأتيكم بعدي إلا من أنا خير منه كما
لم يكن قبلي إلا من هو خير مني.
(3) في ابن الاعثم 4 / 264 قال: اعملوا أني كنت بين يدي النبي صلى الله
عليه وسلم ذات يوم وهو يقلم أظفاره فأخذت من قلامته فجعلتها في قارورة
فهي عندي، وعندي أيضا شئ من شعره، إذا أنا مت وغسلتموني وكفنتموني
فقطعوا تلك القلامة فاجعلوها في عيني، واجعلوا الشعر في فمي وأذني..(*)
(8/150)
فأضحى الذي قد
كان مما يسرني * كحكم مضى في المزمنات الغوابر فيا ليتني لم أعن في
الملك ساعة * ولم أسع في لذات عيش نواضر وكنت كذي طمرين عاش ببلغة *
فلم يك حتى زار ضيق المقابر وقال محمد بن سعد: أنبأنا علي بن محمد، عن
محمد بن الحكم، عمن حدثه أن معاوية لما احتضر أوصى بنصف ماله أن يرد
إلى بيت المال - كأنه أراد أن يطيب له - لان عمر بن الخطاب قاسم عماله.
وذكروا أنه في آخر عمره اشتد به البرد فكان إذا لبس أو تغطى بشئ ثقيل
يغمه، فاتخذ له ثوبا من حواصل الطير، ثم ثقل عليه بعد ذلك، فقال: تبا
لك من دار، ملكتك أربعين سنة، عشرين أميرا، وعشرين خليفة، ثم هذا حالي
فيك، ومصيري منك، تبا للدنيا ولمحبيها.
وقال محمد بن سعد: أنبأنا أبو عبيدة، عن أبي يعقوب الثقفي، عن عبد
الملك بن عمير.
قال: لما ثقل معاوية وتحدث الناس بموته قال لاهله: احشوا عيني إثمدا،
وأوسعوا رأسي دهنا، ففعلوا وغرقوا وجهه بالدهن، ثم مهد له مجلس وقال:
اسندوني، ثم قال: إيذنوا للناس فليسلموا علي قياما ولا يجلس أحد، فجعل
الرجل يدخل فيسلم قائما فيراه مكتحلا متدهنا فيقول
متقول الناس إن أمير المؤمنين لما به وهو أصح الناس، فلما خرجوا من
عنده قال معاوية في ذلك: وتجلدي للشامتين أريهم * أني لريب الدهر لا
أتضعضع وإذا المنية أنشبت أظفارها * ألفيت كل تميمة لا تنفع (1) قال:
وكان به النقابة (2) - يعني لوقة - فمات من يومه (3) ذلك رحمه الله.
وقال موسى بن عقبة: لما نزل معاوية الموت قال: يا ليتني كنت رجلا من
قريش بذي طوى، ولم أل من هذا الامر شيئا.
وقال أبو السائب المخزومي: لما حضرت معاوية الوفاة تمثل بقول الشاعر:
إن تناقش يكن نقاشك يا رب * عذابا لا طوق لي بالعذاب أو تجاوز تجاوز
العفو واصفح (4) * عن مسئ ذنوبه كالتراب وقال بعضهم: لما احتضر معاوية
جعل أهله يقلبونه فقال لهم: أي شيخ تقلبون ؟ إن نجاه الله من عذاب
النار غدا.
__________
(1) في ابن الاعثم 4 / 252 كان في عنقه تعويذ فقطعه ورمى به وتمثل بهذا
الشعر.
(2) في الطبري 6 / 181 والكامل لابن الاثير 4 / 7: وكان به النفاثات،
وفي ابن الاعثم كان به اللقوة.
(3) في ابن الاعثم: مات بعد خمسة أيام أي يوم الاحد لايام خلت من رجب.
(4) في الكامل لابن الاثير 4 / 8: أو تجاوز فأنت رب صفوح، وفي فتوح ابن
الاعثم 4 / 264: أو تجاوز فأنت رب رحيم.
(*)
(8/151)
وقال محمد بن
سيرين: جعل معاوية لما احتضر يضع خدا على الارض ثم يقلب وجهه ويضع الخد
الآخر ويبكي ويقول: اللهم إنك قلت في كتابك: * (إن الله لا يغفر أن
يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * [ النساء: 48 ] اللهم فاجعلني
فيمن تشاء أن تغفر له.
وقال العتبي عن أبيه: تمثل معاوية عند موته بقول بعضهم وهو في السياق:
هو الموت لا منجا من الموت والذي * نحاذر بعد الموت أدهى وأفظع ثم قال:
اللهم أقل العثرة، واعف عن الزلة، وتجاوز بحلمك عن جهل من لم يرج
غيرك، فإنك واسع المغفرة، ليس لذي خطيئة من خطيئته مهرب إلا إليك.
ورواه ابن دريد عن أبي حاتم عن أبي عبيدة، عن أبي عمرو بن العلاء فذكر
مثله، وزاد: ثم مات.
وقال غيره: أغمي عليه ثم أفاق فقال لاهله: اتقوا الله فإن الله تعالى
يقي من اتقاه، ولا يقي من لا يتقي، ثم مات (1) رحمه الله وقد روى أبو
مخنف عن عبد الملك بن نوفل.
قال: لما مات معاوية صعد الضحاك بن قيس المنبر فخطب الناس - وأكفان
معاوية على يديه - فقال بعد حمد الله والثناء عليه: إن معاوية الذي كان
سور العرب وعونهم وجدهم، قطع الله به الفتنة، وملكه على العباد، وفتح
به البلاد، ألا إنه قد مات وهذه أكفانه، فنحن مدرجوه فيها ومدخلوه قبره
ومخلون بينه وبين عمله، ثم هول البرزخ إلى يوم القيامة، فمن كان منكم
يريد أن يشهده فليحضر عند الاولى.
ثم نزل وبعث البريد إلى يزيد بن معاوية يعلمه ويستحثه على المجئ (2).
ولا خلاف أنه توفي بدمشق في رجب سنة ستين.
فقال جماعة: ليلة الخميس للنصف من رجب سنة ستين، وقيل ليلة الخميس
لثمان بقين من رجب سنة ستين.
قاله ابن إسحاق وغير واحد، وقيل لاربع خلت من رجب، قاله الليث.
وقال سعد بن إبراهيم لمستهل رجب، قال محمد بن إسحاق والشافعي: صلى عليه
ابنه يزيد، وقد ورد من غير وجه أنه أوصى إليه أن يكفن في ثوب رسول الله
صلى الله عليه وسلم الذي كساه إياه، وكان مدخرا عنده لهذا اليوم، وأن
يجعل ما عنده من شعره وقلامة أظفاره في فمه وأنفه وعينيه وأذنيه.
وقال آخرون: بل كان ابنه يزيد غائبا فصلى عليه الضحاك بن قيس بعد صلاة
الظهر بمسجد دمشق، ثم دفن فقيل بدار الامارة وهي
__________
(1) في ابن الاعثم 4 / 264: اتقوا الله حق تقاته، فإن تقوى الله جنة
حصينة، وويل لمن لم يتق الله ويخاف عذابه وأليم عقابه...ثم توفي من
الغد.
(2) في الطبري 6 / 183 والكامل لابن الاثير 4 / 9 والفتوح لابن الاعثم
4 / 265: كان يزيد قد خرج في مرض أبيه إلى حوارين الثنية مقتصدا للصيد،
ومات معاوية ويزيد ليس بحضرته فكتبوا إليه فأقبل وقد دفن فأتى قبره
فصلى عليه وقال: جاء البريد بقرطاس يخب به * فأوجس القلب من قرطاسه
فزعا
أودى ابن هند وأودى المجد يتبعه * كانا جميعا فماتا قاطنين معا (*)
(8/152)
الخضراء، وقيل
بمقابر باب الصغير، وعليه الجمهور فالله أعلم.
وكان عمره إذ ذاك ثمانيا وسبعين سنة، وقيل جاوز الثمانين وهو الاشهر
والله أعلم.
ثم ركب الضحاك بن قيس في جيش وخرج ليتلقى يزيد بن معاوية - وكان يزيد
بحوارين - فلما وصلوا إلى ثنية العقاب تلقتهم أثقال يزيد، وإذا يزيد
راكب على بختي وعليه الحزن ظاهر، فسلم عليه الناس بالامارة وعزوه في
أبيه، وهو يخفض صوته في رده عليهم، والناس صامتون لا يتكلم معه إلا
الضحاك بن قيس، فانتهى إلى باب توما، فظن الناس أنه يدخل منه إلى
المدينة، فأجازه مع السور حتى انتهى إلى الباب الشرقي، فقيل: يدخل منه
لانه باب خالد، فجازه حتى أتى الباب الصغير فعرف الناس أنه قاصد قبر
أبيه، فلما وصل إلى باب الصغير ترجل عند القبر ثم دخل فصلى على أبيه
بعدما دفن (1) ثم انفتل، فلما خرج من المقبرة أتى بمراكب الخلافة فركب.
ثم دخل البلد وأمر فنودي في الناس إن الصلاة جامعة، ودخل الخضراء
فاغتسل ولبس ثيابا حسنة ثم خرج فخطب الناس أول خطبة خطبها وهو أمير
المؤمنين، فقال بعد حمد الله والثناء عليه: أيها الناس ! إن معاوية كان
عبدا من عبيد الله، أنعم الله عليه ثم قبضه إليه، وهو خير ممن بعده
ودون من قبله، ولا أزكيه على الله عز وجل فإنه أعلم به، إن عفى عنه
فبرحمته، وإن عاقبه فبذنبه، وقد وليت الامر من بعده، ولست آسى على طلب،
ولا أعتذر من تفريط (2)، وإذا أراد الله شيئا كان.
وقال لهم في خطبته هذه: وإن معاوية كان يغزيكم في البحر، وإني لست
حاملا أحدا من المسلمين في البحر، وإن معاوية كان يشتيكم بأرض الروم
ولست مشتيا أحدا بأرض الروم، وإن معاوية كان يخرج لكم العطاء أثلاثا
وأنا أجمعه لكم كله.
قال: فافترق الناس عنه وهم لا يفضلون عليه أحدا.
وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: سمعت الشافعي يقول: بعث معاوية
وهو مريض إلى ابنه يزيد، فلما جاءه البريد ركب وهو يقول: جاء البريد
بقرطاس يخب (3) به * فأوجس القلب من قرطاسه فزعا
قلنا لك الويل ماذا في صحيفتكم (4) * قال الخليفة أمسى مثقلا وجعا (5)
فمادت الارض أو كادت تميد بنا * كأن أغبر من أركانها انقلعا (6)
__________
(1) في فتوح ابن الاعثم 5 / 2: صار إلى دمشق بعد ثلاثة أيام من مدفن
معاوية.
(2) في ابن الاعثم 5 / 8 ولست أقصر عن طلب حق، ولا أعذر من تفريط في
باطل.
وانظر خطبة ليزيد بعد موت أبيه في العقد الفريد 2 / 142 و 2 / 250.
(3) في ابن الاعثم 5 / 4: يحث به.
(4) في الكامل لابن الاثير 4 / 9 والطبري 6 / 182 وابن الاعثم: كتابكم.
(5) في الطبري وابن الاثير والعقد الفريد: مثبتا وجعا: وفي ابن الاعثم:
مدنفا وجعا.
(6) في الطبري وابن الاثير وابن الاعثم: انقطعا.
(*)
(8/153)
ثم انبعثنا إلى
خوص مضمرة (1) * نرمي الفجاج بها ما نأتلي سرعا فما نبالي إذا بلغن
أرجلنا * ما مات منهن بالمرمات (2) أو طلعا لما انتهينا وباب الدار
منصفق * بصوت رملة ريع القلب فانصدعا من لا تزل (3) نفسه توفي على شرف
* توشك مقاليد تلك النفس أن تقعا أودى ابن هند وأودى المجد يتبعه *
كأنا جميعا خليطا سالمين معا (4) أغر أبلج يستسقي الغمام به * لو قارع
الناس عن أحلامهم قرعا (5) لا يرقع الناس ما أوهى وإن جهدوا * أن
يرقعوه ولا يوهون ما رقعا وقال الشافعي: سرق يزيد هذين البيتين من
الاعشى، ثم ذكر أنه دخل قبل موت أبيه دمشق وأنه أوصى إليه، وهذا قد
قاله ابن إسحاق وغير واحد، ولكن الجمهور على أن يزيد لم يدخل دمشق إلا
بعد موت أبيه، وأنه صلى على قبره بالناس كما قدمناه والله أعلم.
وقال أبو الورد العنبري يرثي معاوية رضي الله عنه: ألا أنعى معاوية بن
حرب * نعاة الحل للشهر الحرام
نعاه الناعيات بكل فج * خواضع في الازمة كالسهام فهاتيك النجوم وهن خرس
* ينحن على معاوية الهمام وقال أيمن بن خريم يرثيه أيضا (6): رمى
الحدثان نسوة آل حرب * بمقدار سمدن له سمودا (7) فرد شعورهن السود بيضا
* ورد وجوهن (8) البيض سودا فإنك لو شهدت بكاء هند * ورملة إذ يصفقن
(9) الخدودا
__________
(1) في ابن الاثير والعقد الفريد: مزممة.
(2) في ابن الاعثم: بالبيداء، والبيت ليس في الطبري وابن الاثير.
(3) في ابن الاثير، من لم تزل وفي ابن الاعثم: من لا تزال له نفس على
شرف.
(4) في ابن الاثير: كانا جميعا فماتا قاطنين معا، وفي ابن الاعثم: كانا
يكونان دهرا قاطعين معا وفي العقد الفريد: كذاك كنا جميعا قاطنين معا.
وليس البيت في الطبري.
(5) في ابن الاعثم: لو صارع الناس عن احلامهم صرعا.
(6) في الامالي للقالي 3 / 115 نسبت الابيات للكميت بن معروف الاسدي.
(7) في ابن عساكر 3 / 189: بأمر قد سمدن له سمودا.
والسمود هنا: الحزن.
(8) في الامالي وتاريخ ابن عساكر: خدودهن.
(9) في الامالي: إذ تصكان، وفي ابن الاعثم 5 / 2: حين يلطمن.
(*)
(8/154)
بكيت بكاء
معولة قريح (1) * أصاب الدهر واحدها الفريدا ذكر من تزوج من النساء ومن
ولد له كان له عبد الرحمن وبه كان يكنى، وعبد الله، وكان ضعيف العقل،
وأمهما فاختة بنت قرظة بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف، وقد تزوج بأختها
منفردة عنها بعدها، وهي كنوة بنت قرظة وهي التي كانت معه حين افتتح
قبرص، وتزوج نائلة بنت عمارة الكلبية فأعجبته وقال
لميسون بنت بحدل: ادخلي فانظري إلى ابنة عمك، فدخلت فسألها عنها فقالت:
إنها لكاملة الجمال، ولكن رأيت تحت سرتها خالا، وإني لارى هذه يقتل
زوجها ويوضع رأسه في حجرها.
فطلقها معاوية فتزوجها بعده حبيب بن مسلمة الفهري، ثم خلف عليها بعده
النعمان بن بشير فقتل ووضع رأسه في حجرها.
ومن أشهر أولاده يزيد وأمه ميسون بنت بحدل بن أنيف بن دلجة بن قنافة
الكلبي، وهي التي دخلت على نائلة فأخبرت معاوية عنها بما أخبرته، وكانت
حازمة عظيمة الشأن جمالا ورياسة وعقلا ودينا، دخل عليها معاوية يوما
ومعه خادم خصي فاستترت منه وقالت: ما هذا الرجل معك ؟ فقال: إنه خصي
فاظهري عليه، فقالت: ما كانت المثلة لتحل له ما حرم الله عليه، وحجبته
عنها.
وفي رواية أنها قالت له: إن مجرد مثلتك له لن تحل ما حرمه الله عليه،
فلهذا أولى الله ابنها يزيد الخلافة بعد أبيه.
وذكر ابن جرير: أن ميسون هذه ولدت لمعاوية بنتا أخرى يقال لها: أمة رب
المشارق، ماتت صغيرة، ورملة تزوجها عمرو بن عثمان بن عفان، كانت دارها
بدمشق عند عقبة السمك تجاه زقاق الرمان، قاله ابن عساكر قال: ولها
طاحون معروفة إلى الآن، وهند بنت معاوية تزوجها عبد الله بن عامر، فلما
أدخلت عليه بالخضراء جوار الجامع أرادها على نفسها فتمنعت عليه وأبت
أشد الاباء، فضربها فصرخت، فلما سمع الجواري صوتها صرخن وعلت أصواتهن،
فسمع معاوية فنهض إليهن فاستعلمهن ما الخبر ؟ فقلن: سمعنا صوت سيدتنا
فصحنا، فدخل فإذا بها تبكي من ضربه، فقال لابن عامر: ويحك ! ! مثل هذه
تضرب في مثل هذه الليلة ؟ ثم قال له: اخرج من ههنا، فخرج ابن عامر وخلا
بها معاوية فقال لها: يا بنية إنه زوجك الذي أحله الله لك، أو ما سمعت
قول الشاعر: من الخفرات البيض أما حرامها * فصعب وأما حلها فذلول ؟ ثم
خرج معاوية من عندها وقال لزوجها: ادخل فقد مهدت لك خلقها ووطأته.
فدخل ابن عامر فوجدها قد طابت أخلاقها فقضى حاجته منها رحمهم الله
تعالى.
كان على قضاء معاوية أبو الدرداء بولاية عمر بن الخطاب، فلما حضره
الموت أشار على
__________
(1) في الامالي: معولة حزين، وفي تاريخ ابن عساكر: معولة ثكول، وفي ابن
الاعثم: موجعة بحزن.
(*)
(8/155)
معاوية بتولية
فضالة بن عبيد، ثم مات فضالة فولى أبا إدريس الخولاني (1).
وكان على حرسه رجل من الموالي يقال له المختار وقيل مالك، ويكنى أبا
المخارق - مولى لحمير - وكان معاوية أول من اتخذ الحرس، وعلى حجابته
سعد مولاه وعلى الشرطة قيس بن حمزة، ثم زميل بن عمرو العذري، ثم الضحاك
بن قيس الفهري، وكان صاحب أمره سرجون بن منصور الرومي.
وكان معاوية أول من اتخذ ديوان الخاتم وختم الكتب (2).
وممن ذكر أنه توفي في هذه السنة - أعني سنة ستين - (صفوان بن المعطل)
بن رخصة بن المؤمل بن خزاعي أبو عمرو، وأول مشاهده المريسيع، وكان في
الساقة يومئذ، وهو الذي رماه أهل الافك بأم المؤمنين فبرأه الله وإياها
مما قالوا، وكان من سادات المسلمين، وكان ينام نوما شديدا حتى كان ربما
طلعت عليه الشمس وهو نائم لا يستيقظ، فقال له رسول الله صلى الله عليه
وسلم: " إذا استيقظت فصل " وقد قتل صفوان شهيدا.
أبو مسلم الخولاني عبد بن ثوب الخولاني من خولان ببلاد اليمن.
دعاه الاسود العنسي إلى أن يشهد أنه رسول الله فقال له: أتشهد أني رسول
الله ؟ فقال: لا أسمع، أشهد أن محمدا رسول الله، فأجج له نارا وألقاه
فيها فلم تضره، وأنجاه الله منها فكان يشبه بابراهيم الخليل، ثم هاجر
فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، فقدم على الصديق فأجلسه
بينه وبين عمر وقال له عمر: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أرى في أمة
محمد من فعل به كما فعل بابراهيم الخليل، وقبله بين عينيه، وكانت له
أحوال ومكاشفات والله سبحانه أعلم.
ويقال إنه توفي فيها النعمان بن بشير، والاظهر أنه مات بعد ذلك كما
سيأتي إن شاء الله تعالى.
يزيد بن معاوية وما جرى في أيامه بويع له بالخلافة بعد أبيه في رجب سنة
ستين، وكان مولده سنة ست وعشرين، فكان يوم بويع ابن أربع وثلاثين سنة،
فأقر نواب أبيه على الاقاليم، لم يعزل أحدا منهم، وهذا من ذكائه.
__________
(1) قال أبو زرعة الدمشقي: جاء بعد فضالة النعمان بن بشير الانصاري ثم
بلال بن أبي الدرداء الانصاري وبقي في منصبه إلى وفاة معاوية سنة 60 ه.
ص 198 - 199 وانظر الذهبي سير أعلام النبلاء ج 2 / 241 والاصابة 3 /
559.
(2) في الطبري 6 / 184 والكامل 4 / 11: وحزم الكتب ولم تكن تحزم.
وديوان الخاتم شبيه بدائرة السجلات أو الارشيف العام في الوقت الحاضر
(وانظر العسكري: الاوائل ج 1 / 157.
وقد عين معاوية موظفين مشرفين على هذا الديوان منهم عبد الله بن محصن
الحميري وقيل عبيد بن أوس الغساني (الطبري 6 / 184 والكامل 4 / 11
وخليفة بن خياط ص 228).
(*)
(8/156)
قال هشام بن
محمد الكلبي عن أبي مخنف لوط بن يحيى الكوفي في الاخباري: ولي يزيد في
هلال رجب سنة ستين، وأمير المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وأمير
الكوفة النعمان بن بشير، وأمير البصرة عبيد الله بن زياد، وأمير مكة
عمرو بن سعيد بن العاص، ولم يكن ليزيد همة حين ولي إلا بيعة النفر
الذين أبوا على معاوية البيعة ليزيد، فكتب إلى نائب المدينة الوليد بن
عتبة (1): " بسم الله الرحمن الرحيم من يزيد أمير المؤمنين إلى الوليد
بن عتبة، أما بعد فإن معاوية كان عبدا من عباد الله أكرمه الله
واستخلفه وخوله ومكن له، فعاش بقدر ومات بأجل، فرحمه الله، فقد عاش
محمودا ومات برا تقيا والسلام (2).
وكتب إليه في صحيفة كأنها أذن الفأرة: أما بعد فخذ حسينا وعبد الله بن
عمر وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذا شديدا ليست فيه رخصة حتى يبايعوا
والسلام.
فلما أتاه نعي معاوية فظع به وكبر عليه، فبعث إلى مروان فقرأ عليه
الكتاب واستشاره في أمر هؤلاء النفر، فقال: أرى أن تدعوهم قبل أن
يعلموا بموت معاوية إلى البيعة (3)، فإن أبوا ضربت أعناقهم.
فأرسل من فوره عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان إلى الحسين وابن
الزبير - وهما في المسجد - فقال لهما: أجيبا الامير، فقالا: انصرف الآن
نأتيه، فلما انصرف عنهما قال الحسين لابن الزبير: إني أرى طاغيتهم قد
هلك، قال ابن الزبير: وأنا ما أظن غيره (4).
قال: ثم نهض حسين فأخذ معه مواليه (5) وجاء
باب الامير فاستأذن فأذن له، فدخل وحده، وأجلس مواليه على الباب، وقال:
إن سمعتم أمرا يريبكم فادخلوا، فسلم وجلس ومروان عنده، فناوله الوليد
بن عتبة الكتاب ونعى إليه معاوية، فاسترجع وقال: رحم الله معاوية، وعظم
لك الاجر، فدعا الامير إلى البيعة فقال له الحسين: إن مثلي لا يبايع
سرا، وما أراك تجتزي مني بهذا، ولكن إذا اجتمع الناس دعوتنا معهم فكان
أمرا واحدا، فقال له الوليد - وكان يحب العافية - فانصرف على اسم الله
حتى تأتينا في جماعة الناس.
فقال مروان للوليد: والله لئن فارقك ولم يبايع الساعة ليكثرن القتل
بينكم وبينه، فاحبسه ولا تخرجه حتى يبايع وإلا ضربت عنقه، فنهض الحسين
وقال: يا بن الزرقاء أنت تقتلني ؟ كذبت والله وأثمت.
ثم انصرف إلى داره، فقال مروان للوليد: والله لا تراه بعدها أبدا.
فقال الوليد: والله يا مروان ما أحب أن لي الدنيا وما فيها وأني قتلت
الحسين، سبحان الله ! أقتل حسينا أن قال
__________
(1) في الامامة والسياسة 1 / 204: خالد بن الحكم.
(2) انظر كتابه في فتوح ابن الاعثم باختلاف يسير وفيه زيادة 4 / 10.
(3) في الطبري 6 / 189 والكامل لابن الاثير 4 / 14 زيد فيهما: فإنهم إن
علموا بموته وثب كل رجل منهم بناحية وأظهر الخلاف ودعا إلى نفسه.
(4) ما جعلهما يشكان في وفاة معاوية أن عبد الله أتاهما في ساعة لم يكن
الوليد يجلس فيها للناس ولا يأتيانه في مثلها (الطبري - ابن الاثير).
(5) في فتوح ابن الاعثم 5 / 16: كان في ثلاثين رجلا (*)
(8/157)
لا أبايع ؟
والله إني لاظن أن من يقتل الحسين يكون خفيف الميزان يوم القيامة.
وبعث الوليد إلى عبد الله بن الزبير فامتنع عليه وماطله يوما وليلة، ثم
إن ابن الزبير ركب في مواليه واستصحب معه أخاه جعفرا وسار إلى مكة على
طريق الفرع، وبعث الوليد خلف ابن الزبير الرجال (1) والفرسان فلم
يقدروا على رده، وقد قال جعفر لاخيه عبد الله وهما سائران متمثلا بقول
صبرة الحنظلي: وكل بني أم سيمسون ليلة * ولم يبق من أعقابهم غير واحد
فقال: سبحان الله ! ما أردت إلى هذا ؟ فقال: والله ما أردت به شيئا
يسوءك، فقال: إن كان إنما جرى على لسانك فهو أكره إلي، قالوا وتطير به.
وأما الحسين بن علي فإن الوليد تشاغل عنه بابن الزبير وجعل كلما بعث
إليه يقول حتى تنظر وننظر، ثم جمع أهله وبنيه وركب ليلة الاحد لليلتين
بقيتا من رجب من هذه السنة (2)، بعد خروج ابن الزبير بليلة، ولم يتخلف
عنه أحد من أهله سوى محمد بن الحنفية، فإنه قال له: والله يا أخي لانت
أعز أهل الارض علي، وإني ناصح لك لا تدخلن مصرا من هذه الامصار، ولكن
اسكن البوادي والرمال، وابعث إلى الناس فإذا بايعوك واجتمعوا عليك
فادخل المصر، وإن أبيت إلا سكنى المصر فاذهب إلى مكة، فإن رأيت ما تحب
وإلا ترفعت إلى الرمال والجبال فقال له: جزاك الله خيرا فقد نصحت
وأشفقت، وسار الحسين إلى مكة فاجتمع هو وابن الزبير بها، وبعث الوليد
إلى عبد الله بن عمر فقال: بايع ليزيد، فقال: إذا بايع الناس بايعت،
فقال رجل: إنما تريد أن تختلف الناس ويقتتلون حتى يتفانوا، فإذا لم يبق
غيرك بايعوك ؟ فقال ابن عمر: لا أحب شيئا مما قلت، ولكن إذا بايع الناس
فلم يبق غيري بايعت، وكانوا [ لا ] (2) يتخوفونه.
وقال الواقدي: لم يكن ابن عمر بالمدينة حين قدم نعي معاوية، وإنما كان
هو وابن عباس بمكة فلقيهما وهما مقبلان منها الحسين وابن الزبير، فقال:
ما وراءكما ؟ قالا: موت معاوية والبيعة ليزيد بن معاوية، فقال لهما ابن
عمر: اتقيا الله ولا تفرقا بين جماعة المسلمين، وقدم ابن عمر وابن عباس
إلى المدينة فلما جاءت البيعة من الامصار بايع ابن عمر مع الناس، وأما
الحسين وابن الزبير فإنهما قدما مكة فوجدا بها عمرو بن سعيد بن العاص
فخافاه وقالا: إنا جئنا عواذا بهذا البيت.
وفي هذه السنة في رمضان منها عزل يزيد بن معاوية الوليد بن عتبة عن
إمرة المدينة لتفريطه، وأضافها إلى عمرو بن سعيد بن العاص نائب مكة
(4)، فقدم المدينة في رمضان، وقيل
__________
(1) في فتوح ابن الاعثم 5 / 21: دعا حبيب بن كزبر فوجه به في ثلاثين
راكبا، وفي الاخبار الطوال ص 228: فوجه في أثره حبيب بن كوين في ثلاثين
فارسا.
(2) في فتوح ابن الاعثم 5 / 34: لثلاث ليال مضين من شهر شعبان سنة 60
ه.
(3) من الطبري والكامل.
(4) في الامامة والسياسة 1 / 205: عزل عن المدينة خالد بن الحكم وولاها
عثمان بن محمد بن أبي سفيان، وأصبح واليا على المدينة ومكة وعلى
الموسم.
(*)
(8/158)
في ذي القعدة،
وكان متآلها متكبرا، وسلط عمرو بن الزبير - وكان عدوا لاخيه عبد الله -
على حربه وجرده له، وجعل عمرو بن سعيد يبعث البعوث إلى مكة لحرب ابن
الزبير.
وقد ثبت في الصحيحين أن أبا شريح الخزاعي قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث
البعوث إلى مكة: إيذن لي أيها الامير أن أحدثك حديثا قام به رسول الله
صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح، سمعته أذناي ووعاه قلبي حين
تلكم به إنه حمد الله وأثنى عليه وقال: " إن مكة حرمها الله ولم يحرمها
الناس، وإنه لم يحل القتال فيها لاحد كان قبلي، ولم تحل لاحد بعدي، ولم
تحل لي إلا ساعة من نهار، ثم قد صارت حرمتها اليوم كحرمتها بالامس،
فليبلغ الشاهد الغائب ".
وفي رواية " فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها
فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم " فقيل لابي شريح: ما قال لك
؟ فقال: قال لي نحن أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إن الحرم لا يعيذ عاصيا
ولا فارا بدم، ولا فارا بخربة (1) (2).
قال الواقدي: ولى عمرو بن سعيد شرطة المدينة عمرو بن الزبير فتتبع
أصحاب أخيه ومن يهوى هواه، فضربهم ضربا شديدا حتى ضرب من جملة من ضرب
أخاه المنذر بن الزبير، وانه لابد أن يأخذ أخاه عبد الله في جامعة (3)
من فضة حتى يقدم به على الخليفة، فضرب المنذر بن الزبير، وابنه محمد بن
المنذر، وعبد الرحمن بن الاسود بن عبد يغوث وعثمان بن عبد الله بن حكيم
بن حزام، وخبيب بن عبد الله بن الزبير، ومحمد بن عمار بن ياسر وغيرهم،
ضربهم من الاربعين إلى الخمسين إلى الستين جلدة، وفر منه عبد الرحمن بن
عثمان التيمي، وعبد الرحمن بن عمرو بن سهل في أناس إلى (4) مكة ثم جاء
العزم من يزيد إلى عمرو بن سعيد في تطلب ابن الزبير، وأنه لا يقبل منه
وإن بايع حتى يؤتى به إلي في جامعة من ذهب أو من فضة تحت برنسه، فلا
ترى
إلا أنه يسمع صوتها، وكان ابن الزبير قد منع الحارث بن خالد المخزومي
من أن يصلي بأهل مكة، وكان نائب عمرو بن سعيد عليها، فحينئذ صمم عمرو
على تجهيز سرية إلى مكة بسبب ابن الزبير، فاستشار عمرو بن سعيد عمرو بن
الزبير: من يصلح أن نبعثه إلى مكة لاجل قتاله ؟ فقال
__________
(1) ولا فارا بخربة: هي بفتح الخاء وإسكان الراء، هذا هو المشهور،
ويقال بضم الخاء أيضا حكاها القاضي وصاحب المطالع وآخرون وأصلها سرقة
الابل، وتطلق على كل خيانة.
قال الخليل: هي الفساد في الدين من الخارب، وهو اللص المفسد في الارض.
(2) أخرجه البخاري عن سعيد بن شرحبيل عن الليث في المغازي (64) ح
(4925) فتح الباري (8 / 20).
وأخرجه في العلم باب ليبلغ الشاهد الغائب عن عبد الله بن يوسف، وفي
الحج باب لا يعضد شجرة الحرم.
عن قتيبة.
وأخرجه مسلم عن قتيبة بن سعيد في الحج (15)، (82) باب.
ح (446) ص 2 / 987.
والترمذي في أول كتاب الحج عن قتيبة وقال حسن صحيح.
(3) الجامعة: الغل والقيد، وسميت بالغل لانها تجمع اليدين إلى العنق.
(4) من الطبري والكامل، وفي الاصل: من، تحريف.
(*)
(8/159)
له عمرو بن الزبير: إنك لا تبعث إليه من هو أنكى له مني (1)، فعينه على
تلك السرية وجعل على مقدمته أنيس بن عمرو الاسلمي في سبعمائة مقاتل.
وقال الواقدي، إنما عينهما يزيد بن معاوية نفسه، وبعث بذلك إلى عمرو بن
سعيد، فعسكر أنيس بالجرف وأشار مروان بن الحكم على عمرو بن سعيد أن لا
يغزو مكة وأن يترك ابن الزبير بها، فإنه عما قليل إن لم يقتل يمت، فقال
أخوه عمرو بن الزبير: والله لنغزونه ولو في جوف الكعبة على رغم أنف من
رغم.
فقال مروان: والله إن ذلك ليسرني.
فسار أنيس واتبعه عمرو بن الزبير في بقية الجيش - وكانوا ألفين - حتى
نزل بالابطح، وقيل بداره عند الصفا، ونزل أنيس بذي طوى، فكان عمرو بن
الزبير يصلي بالناس، ويصلي وراءه أخوه عبد الله بن الزبير، وأرسل عمرو
إلى أخيه يقول له: بر يمين الخليفة، وأته وفي عنقك جامعة من ذهب أو
فضة، ولا تدع الناس يضرب بعضهم بعضا، واتق الله فإنك في بلد
حرام.
فأرسل عبد الله يقول لاخيه: موعدك المسجد.
وبعث عبد الله بن الزبير عبد الله بن صفوان بن أمية في سرية فاقتتلوا
مع عمرو بن أنيس الاسلمي فهزموا أنيسا هزيمة قبيحة، وتفرق عن عمرو بن
الزبير أصحابه وهرب عمرو إلى دار ابن علقمة، فأجاره أخوه عبيدة بن
الزبير، فلامه أخوه عبد الله بن الزبير وقال: تجير من في عنقه حقوق
الناس ؟ ثم ضربه بكل من ضربه بالمدينة إلا المنذر بن الزبير وابنه
فإنهما أبيا أن يستقيدا من عمرو، وسجنه ومعه عارم، فسمي سجن عارم، وقد
قيل إن عمرو بن الزبير مات تحت السياط والله أعلم. |