البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
ثم دخلت سنة أربع وستين
ففيها في أول المحرم منها سار مسلم بن عقبة إلى مكة قاصدا قتال ابن
الزبير ومن التف عليه من الاعراب، على مخالفة يزيد بن معاوية، واستخلف
على المدينة روح بن زنباع (1)، فلما بلغ ثنية هرشا (2) بعث إلى رؤوس
الاجناد فجمعهم، فقال: إن أمير المؤمنين عهد إلي أن حديث بي حدث الموت
أن أستخلف عليكم حصين بن نمير السكوني، ووالله لو كان الامر لي ما
فعلت، ثم دعا به فقال: انظر يا بن بردعة الحمار فاحفظ ما أوصيك به، ثم
أمره إذا وصل مكة أن يناجز ابن الزبير قبل ثلاث، ثم قال: اللهم إني لم
أعمل عملا قط بعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، أحب
إلي من قتل أهل المدينة، وأجزى عندي في الآخرة.
وإن دخلت النار بعد ذلك إني لشقي، ثم مات قبحه الله ودفن بالمسلك (3)
فيما قاله الواقدي.
ثم أتبعه الله بيزيد بن معاوية فمات بعده في ربيع الاول لاربع عشر ليلة
خلت منه، فما متعهما الله بشئ مما رجوه وأملوه، بل قهرهم القاهر فوق
عباده، وسلبهم الملك، ونزعه منهم من ينزع الملك ممن يشاء.
وسار حصين بن نمير بالجيش نحو مكة فانتهى إليها لاربع بقين من المحرم
فيما قاله الواقدي، وقيل لسبع مضين منه، وقد تلاحق بابن الزبير جماعات
ممن بقي من أشراف أهل المدينة،
__________
(1) وقال الواقدي: استخلف عمرو بن محرز الاشجعي.
(2) هرشى: ثنية في طريق مكة قريبة من الجحفة.
(3) في الطبري 7 / 14: المشلل، وفي رواية هشام بن الكلبي: ثنية هرشى.
وفي مروج الذهب 3 / 86 والامامة والسياسة 2 / 11: قديد.
(*)
(8/246)
وانضاف إليه
أيضا نجدة بن عامر الحنفي - من أهل اليمامة - في طائفة من أهلها
ليمنعوا البيت من أهل الشام، فنزل حصين بن نمير ظاهر مكة، وخرج إليه
ابن الزبير في أهل مكة ومن التف معه فاقتتلوا عند ذلك قتالا شديدا،
وتبارز المنذر بن الزبير ورجل من أهل الشام فقتل كل واحد منهما صاحبه،
وحمل أهل الشام على أهل مكة حملة صادقة، فانكشف أهل مكة، وعثرت بغلة
عبد الله بن الزبير به، فكر عليه المسور بن مخرمة ومصعب بن عبد الرحمن
بن عوف وطائفة فقاتلوا دونه حتى قتلوا جميعا، وصابرهم ابن الزبير حتى
الليل فانصرفوا عنه ثم اقتتلوا في بقية شهر المحرم وصفرا بكماله، فلما
كان يوم السبت ثالث ربيع الاول سنة أربع وستين نصبوا المجانيق على
الكعبة ورموها حتى بالنار، فاحترق جدار البيت في يوم السبت، هذا قول
الواقدي، وهم يقولون: خطاره مثل الفتيق المزبد * ترمى بها جدران (1)
هذا المسجد وجعل عمر بن حوطة السدوسي يقول: كيف ترى صنيع أم فروة *
تأخذهم بين الصفا والمروة وأم فروة اسم المنجنيق، وقيل: إنما احترقت
لان أهل المسجد جعلوا يوقدون النار وهم حول الكعبة، فعلقت النار في بعض
أستار الكعبة فسرت إلى أخشابها وسقوفها فاحترقت، وقيل إنما احترقت لان
ابن الزبير سمع التكبير على بعض جبال مكة في ليلة ظلماء فظن أنهم أهل
الشام، فرفعت نار على رمح لينظروا من هؤلاء الذين على الجبل، فأطارت
الريح شررة من رأس الرمح إلى ما بين الركن اليماني والاسود من الكعبة،
فعلقت في أستارها وأخشابها فاحترقت، واسود الركن وانصدع في ثلاثة أمكنة
منه.
واستمر الحصار إلى مستهل ربيع الآخر، وجاء الناس نعي يزيد بن معاوية،
وأنه قد مات لاربع عشرة ليلة خلت من ربيع الاول سنة أربع وستين، وهو
ابن خمس أو ثمان أو تسع وثلاثين سنة، فكانت ولايته ثلاث سنين وستة أو
ثمانية أشهر، فغلب أهل
الشام هنالك وانقلبوا صاغرين، فحينئذ خمدت الحرب وطفئت نار الفتنة،
ويقال: إنهم مكثوا يحاصرون ابن الزبير بعد موت يزيد نحو أربعين ليلة،
ويذكر أن ابن الزبير علم بموت يزيد قبل أهل الشام فنادى فيهم: يا أهل
الشام قد أهلك الله طاغيتكم، فمن أحب منكم أن يدخل فيما دخل فيه الناس
فليفعل، ومن أحب أن يرجع إلى شامه فليرجع، فلم يصدق الشاميون أهل مكة
فيما أخبروهم به، حتى جاء ثابت بن قيس بن القيقع (2) بالخبر اليقين.
ويذكر أن حصين بن نمير دعاه ابن الزبير ليحدثه بين الصفين فاجتمعا حتى
اختلفت رؤوس فرسيهما، وجعلت فرس حصين تنفر ويكفها، فقال له ابن الزبير:
مالك ؟ فقال: إن الحمام تحت رجلي فرسي تأكل من الروث
__________
(1) في الطبري 7 / 14 وفي الكامل 4 / 124: نرمي بها أعواد.
(2) في الطبري 7 / 16: المنقع.
(*)
(8/247)
فأكره أن أطأ
حمام الحرم، فقال له: تفعل هذا وأنت تقتل المسلمين ؟ فقال له حصين.
فأذن لنا فلنطف بالكعبة ثم ترجع جلى بلادنا، فأذن لهم فطافوا.
وذكر ابن جرير أن حصينا وابن الزبير اتعدا ليلة أن يجتمعا فاجتمعا
بظاهر مكة (1)، فقال له حصين: إن كان هذا الرجل قد هلك فأنت أحق الناس
بهذا الامر بعده، فهلم فارحل معي إلى الشام، فوالله لا يختلف عليك
اثنان.
فيقال: إن ابن الزبير لم يثق منه بذلك وأغلظ له في المقال فنفر منه ابن
نمير وقال: أنا أدعوه إلى الخلافة وهو يغلظ لي في المقال ؟ ثم كر
بالجيش راجعا إلى الشام، وقال: أعده بالملك ويتواعدني بالقتل ؟.
ثم ندم ابن الزبير على ما كان منه إليه من الغلظة، فبعث إليه يقول له:
أما الشام فلست آتيه ولكن خذلي البيعة على من هناك، فإني أؤمنكم وأعدل
فيكم.
فبعث إليه يقول له: إن من يبتغيها من أهل هذا البيت بالشام لكثير.
فرجع فاجتاز بالمدينة فطمع فيه أهلها وأهانوهم إهانة بالغة، وأكرمهم
علي بن الحسين " زين العابدين " وأهدى لحصين بن نمير قتا وعلفا،
وارتحلت بنو أمية مع الجيش إلى الشام فوجدوا معاوية بن يزيد بن معاوية
قد استخلف مكان أبيه بدمشق عن وصية من أبيه له بذلك، والله
سبحانه أعلم بالصواب.
وهذه ترجمة يزيد بن معاوية
هو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان بن صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس،
أمير المؤمنين أبو خالد الاموي، ولد سنة خمس أو ست أو سبع وعشرين،
وبويع له بالخلافة في حياة أبيه أن يكون ولي العهد من بعده، ثم أكد ذلك
بعد موت أبيه في النصف من رجب سنة ستين، فاستمر متوليا إلى أن توفي في
الرابع عشر من ربيع الاول سنة أربع وستين، وأمه ميسون بنت مخول بن أنيف
بن دلجة بن نفاثة بن عدي بن زهير بن حارثة الكلبي.
روى عن أبيه معاوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من يرد
الله به خيرا يفقهه في الدين " (2).
وحديثا آخر في الوضوء.
وعنه ابنه خالد وعبد الملك بن مروان، وقد ذكره أبو زرعة الدمشقي في
الطبقة التي تلي الصحابة، وهي العليا، وقال: له أحاديث، وكان كثير
اللحم عظيم الجسم كثير الشعر جميلا طويلا ضخم الهامة محدد الاصابع
غليظها مجدرا، وكان أبوه قد طلق أمه وهي حامل به، فرأت أمه في المنام
أنه خرج منها قمر من قبلها، فقصت رؤياها على أمها فقالت: إن صدقت رؤياك
لتلدن من يبايع له
__________
(1) في الطبري 7 / 17: بالابطح.
(2) أخرجه البخاري في العلم ح (10) وفي الخمس وفي الاعتصام.
ومسلم في الامارة ح (175) وفي الزكاة ح (98) و 100.
والترمذي في العلم ح (4) وابن ماجة في المقدمة.
والدارمي في المقدمة والرقاق.
وأحمد في المسند 1 / 306، 2 / 234، 4 / 92، 93، 95، 96، 97، 98، 99،
100.
(*)
(8/248)
بالخلافة.
وجلست أمه ميسون يوما تمشطه وهو صبي صغير، وأبوه معاوية مع زوجته
الحظية عنده في المنظرة، وهي فاختة بنت قرظة، فلما فرغت من مشطه نظرت
أمه إليه فأعجبها فقبلته بين عينيه، فقال معاوية عند ذلك: إذا مات لم
تفلح مزينة بعده * فنوطي عليه يا مزين التمائما وانطلق يزيد يمشي
وفاختة تتبعه بصرها ثم قالت: لعن الله سواد ساقي أمك، فقال
معاوية: أما والله إنه لخير من ابنك عبد الله - وهو ولده منها وكان
أحمق - فقالت فاختة: لا والله لكنك تؤثر هذا عليه، فقال: سوف أبين لك
ذلك حتى تعرفينه قبل أن تقومي من مجلسك هذا، ثم استدعى بابنها عبد الله
فقال له: إنه قد بدا لي أن أعطيك كل ما تسألني في مجلسي هذا، فقال:
حاجتي أن تشتري لي كلبا فارها وحمارا فارها، فقال: يا بني أنت حمار
وتشتري لك حمارا ؟ قم فاخرج.
ثم قال لامه: كيف رأيت ؟ ثم استدعى بيزيد فقال: إني قد بدا لي أن أعطيك
كل ما تسألني في مجلسي هذا، فسلني ما بدا لك.
فخر يزيد ساجدا ثم قال حين رفع رأسه: الحمد لله الذي بلغ أمير المؤمنين
هذه المدة، وأراه في هذا الرأي، حاجتي أن تعقد لي العهد من بعدك،
وتوليني العام صائفة المسلمين، وتأذن لي في الحج إذا رجعت، وتوليني
الموسم، وتزيد أهل الشام عشرة دنانير لكل رجل في عطائه، وتجعل ذلك
بشفاعتي، وتعرض لايتام بني جمح، وأيتام بني سهم، وأيتام بني عدي.
فقال: مالك ولايتام بن عدي ؟ فقال: لانهم حالفوني وانتقلوا إلى داري.
فقال معاوية: قد فعلت ذلك كله، وقبل وجهه، ثم قال لفاختة بنت قرظة: كيف
رأيت ؟ فقالت: يا أمير المؤمنين أوصه بي فأنت أعلم به مني، ففعل.
وفي رواية أن يزيد لما قال له أبوه: سلني حاجتك، قال له يزيد: اعتقني
من النار أعتق الله رقبتك منها، قال: وكيف ؟ قال: لاني وجدت في الآثار
أنه من تقلد أمر الامة ثلاثة أيام حرمه الله على النار، فاعهد إلي
بالامر من بعدك ففعل.
وقال العتبي: رأى معاوية ابنه يزيد يضرب غلاما له فقال له: اعلم أن
الله أقدر عليك منك عليه، سوأة لك ! ! أتضرب من لا يستطيع أن يمتنع
عليك ؟ والله لقد منعتني القدرة من الانتقام من ذوي الاحن، وإن أحسن من
عفا لمن قدر.
قلت: وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى أبا مسعود
يضرب غلاما له فقال: " اعلم أبا مسعود لله أقدر عليك منك عليه " (1).
قال العتبي: وقدم زياد بأموال كثيرة وبسفط مملوء جواهر على معاوية فسر
بذلك معاوية، فقام زياد فصعد المنبر ثم افتخر بما يفعله بأرض
__________
(1) أخرجه مسلم في الايمان ح (34) (35) (36) وأبو داود في الادب ح
(124) والترمذي في البر ح (30) وأحمد
في المسند 4 / 120.
(*)
(8/249)
العراق من
تمهيد الممالك لمعاوية، فقام يزيد فقال: إن تفعل ذلك يا زياد فنحن
نقلناك من ولاء ثقيف إلى قريش، ومن القلم إلى المنابر، ومن زياد بن
عبيد إلى حرب بني أمية.
فقال له معاوية: اجلس فداك أبي وأمي.
وعن عطاء بن السائب قال: غضب معاوية على ابنه يزيد فهجره فقال له
الاحنف بن قيس: يا أمير المؤمنين إنما هم أولادنا، ثمار قلوبنا وعماد
ظهورنا، ونحن لهم سماء ظليلة، وأرض ذليلة، إن غضبوا فارضهم، وإن طلبوا
فاعطهم، ولا تكن عليهم ثقلا فيملوا حياتك ويتمنوا موتك.
فقال معاوية: لله درك يا أبا بحر، يا غلام ائت يزيد فأقره مني السلام
وقل له: إن أمير المؤمنين قد أمر لك بمائة ألف درهم، ومائة ثوب.
فقال يزيد: من عند أمير المؤمنين ؟ فقال: الاحنف، فقال يزيد: لا جرم
لاقاسمنه، فبعث إلى الاحنف بخمسين ألفا وخمسين ثوبا.
وقال الطبراني: حدثنا محمد بن زكريا الغلابي، ثنا ابن عائشة عن أبيه.
قال: كان يزيد في حداثته صاحب شراب يأخذ مأخذ الاحداث، فأحس معاوية
بذلك فأحب أن يعظه في رفق، فقال: يا بني ما أقدرك على أن تصل إلى حاجتك
من غير تهتك يذهب بمرؤتك وقدرك، ويشمت بك عدوك ويسئ بك صديقك، ثم قال:
يا بني إني منشدك أبياتا فتأدب بها واحفظها، فأنشده: انصب نهارا في
طلاب العلا * واصبر على هجر الحبيب القريب حتى إذا الليل أتى بالدجا *
واكتحلت بالغمض عين الرقيب فباشر الليل بما تشتهي * فإنما الليل نهار
الاريب كم فاسق تحسبه ناسكا * قد باشر الليل بأمر عجيب غطى عليه الليل
أستاره * فبات في أمن وعيش خصيب ولذة الاحمق مكشوفة * يسعى بها كل عدو
مريب (1)
قلت: وهذا كما جاء في الحديث " من ابتلي بشئ من هذه القاذورات فليستتر
بستر الله عز وجل " (2).
وروى المدائني: أن عبد الله بن عباس وفد إلى معاوية فأمر معاوية ابنه
يزيد أن يأتيه فيعزيه في الحسن بن علي، فلما دخل على ابن عباس رحب به
وأكرمه، وجلس عنده بين يديه، فأراد ابن عباس أن يرفع مجلسه فأبى وقال:
إنما أجلس مجلس المعزي لا المهني، ثم ذكر الحسن فقال: رحم
__________
(1) في نسخ البداية المطبوعة قال في الهامش: بالهامش - ونسبة هذا الشعر
إلى معاوية فيه نظر والله سبحانه وتعالى أعلم.
(2) أخرجه مالك في الموطأ في الحدود.
ح (12).
(*)
(8/250)
الله أبا محمد
أوسع الرحمة وأفسحها، وأعظم الله أجرك وأحسن عزاك، وعوضك من مصابك ما
هو خير لك ثوابا وخير عقبى.
فلما نهض يزيد من عنده قال ابن عباس: إذا ذهب بنو حرب ذهب علماء الناس،
ثم أنشد متمثلا: مغاض عن العوراء لا ينطقوا بها * وأصل وراثات الحلوم
الاوائل وقد كان يزيد أول من غزى مدينة قسطنطينية في سنة تسع وأربعين
في قول يعقوب بن سفيان.
وقال خليفة بن خياط: سنة خمسين.
ثم حج بالناس في تلك السنة بعد مرجعه من هذه الغزوة من أرض الروم.
وقد ثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أول جيش
يغزو مدينة قيصر مغفور لهم ".
وهو الجيش الثاني الذي رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه عند
أم حرام فقالت: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: " أنت من الاولين "
(1).
يعني جيش معاوية حين غزا قبرص، ففتحها في سنة سبع وعشرين أيام عثمان بن
عفان، وكانت معهم أم حرام فماتت هنالك بقبرص، ثم كان أمير الجيش الثاني
ابنه يزيد بن معاوية، ولم تدرك أم حرام جيش يزيد هذا.
وهذا من أعظم دلائل النبوة.
وقد أورد الحافظ ابن عساكر ههنا الحديث الذي رواه محاضر، عن الاعمش، عن
إبراهيم بن عبيدة، عن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم " (2).
وكذلك رواه عبد الله بن شفيق عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
مثله.
ثم أورد من طريق حماد بن سلمة عن أبي محمد عن زرارة بن أوفى قال: القرن
عشرون ومائة سنة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في قرن وكان آخره
موت يزيد بن معاوية.
قال أبو بكر بن عياش: حج بالناس يزيد بن معاوية في سنة إحدى وخمسين
وثنتين وخمسين وثلاث وخمسين.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا أبو كريب، ثنا رشد بن عمرو بن الحارث، عن
أبي بكير بن الاشج أن معاوية قال ليزيد: كيف تراك فاعلا إن وليت ؟ قال:
يمتع الله بك يا أمير المؤمنين، قال لتخبرني: قال، كنت والله يا أبة
عاملا فيهم عمل عمر بن الخطاب.
فقال معاوية: سبحان الله يا بني والله لقد جهدت على سيرة عثمان بن عفان
فما أطقتها فكيف بك وسيرة عمر ؟.
وقال الواقدي: حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن مروان بن أبي
سعيد بن المعلى.
قال: قال معاوية ليزيد وهو يوصيه عند الموت: يا يزيد ! ! اتق الله فقد
وطأت لك هذا الامر،
__________
(1) الحديث أخرجه البخاري عن يحيى بن يحيى في الجهاد والسير (3) باب.
وأخرجه مسلم في الامارة (49) باب فضل الغزو في البحر.
(2) أخرجه مسلم عن عبد الرحمن بن بشر عن عمران بن حصين في فضائل
الصحابة (52) باب.
ح (214) ص (4 / 1964).
(*)
(8/251)
ووليت من ذلك
ما وليت، فإن يك خيرا فأنا أسعد به، وإن كان غير ذلك شقيت به، فارفق
بالناس وأغمض عما بلغك من قول تؤذي به وتنتقص به، وطأ عليه يهنك عيشك،
وتصلح لك رعيتك، وإياك والمناقشة وحمل الغضب، فإنك تهلك نفسك ورعيتك،
وإياك وخيرة أهل الشرف واستها نتهم والتكبر عليهم، ولن لهم لينا بحيث
لا يروا منك ضعفا ولا خورا، وأوطئهم فراشك وقربهم إليك وادنهم منك،
فانهم يعلموا لك حقك، ولا تهنهم ولا تستخف بحقهم فيهينوك ويستخفوا بحقك
ويقعوا فيك، فإذا أردت أمرا فادع أهل السن والتجربة من أهل الخير من
المشايخ وأهل التقوى فشاورهم ولا تخالفهم، وياك والاستبداد برأيك فإن
الرأي ليس في صدر واحد، وصدق من أشار عليك إذا حملك على ما تعرف، واخزن
ذلك عن نسائك وخدمك، وشمر إزارك، وتعاهد جندك، وأصلح نفسك تصلح لك
الناس، لا تدع لهم فيك مقالا فإن الناس سراع إلى الشر، واحضر الصلاة،
فإنك إذا فعلت ما أوصيك به عرف الناس لك حقك، وعظمت مملكتك، وعظمت في
أعين الناس، واعرف شرف أهل المدينة ومكة فانهم أصلك وعشيرتك، واحفظ
لاهل الشام شرفهم فإنهم أهل طاعتك، واكتب إلى أهل الامصار بكتاب تعدهم
فيه منك بالمعروف، فإن ذلك يبسط آمالهم، وإن وفد عليك وافد من الكور
كلها فأحسن إليهم وأكرمهم فإنهم لمن ورائهم، ولا تسمعن قول قاذف ولا
ماحل فإني رأيتهم وزراء سوء.
ومن وجه آخر أن معاوية قال ليزيد: إن لي خليلا من أهل المدينة فأكرمه،
قال: ومن هو ؟ قال: عبد الله بن جعفر.
فلما وفد بعد موت معاوية على يزيد أضعف جائزته التي كان معاوية يعطيه
إياها، وكانت جائزته على معاوية ستمائة ألف، فأعطاه يزيد ألف ألف، فقال
له: بأبي أنت وأمي، فأعطاه ألف ألف أخرى.
فقال له ابن جعفر: والله لا أجمع أبوي لاحد بعدك.
ولما خرج ابن جعفر من عند يزيد وقد أعطاه ألفي ألف، رأى على باب يزيد
بخاتي مبركات قد قدم عليها هدية من خراسان، فرجع عبد الله بن جعفر إلى
يزيد فسأله منها ثلاث بخاتي ليركب عليها إلى الحج والعمرة، وإذا وفد
إلى الشام على يزيد، فقال يزيد للحاجب: ما هذه البخاتي التي على الباب
؟ - ولم يكن شعر بها - فقال: يا أمير المؤمنين هذه أربعمائة بختية
جاءتنا من خراسان تحمل أنواع الالطاف - وكان عليها أنواع من الاموال
كلها - فقال: اصرفها إلى أبي جعفر بما عليها.
فكان عبد الله بن جعفر يقول: أتلومونني على حسن الرأي في هذا ؟ - يعني
يزيد -.
وقد كان يزيد فيه خصال محمودة من الكرم والحلم والفصاحة والشعر
والشجاعة وحسن الرأي في الملك.
وكان ذا جمال حسن المعاشرة، وكان فيه أيضا إقبال على الشهوات وترك بعض
الصلوات في بعض الاوقات، وإماتتها في غالب الاوقات.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا أبو عبد الرحمن، ثنا حيوة، حدثني بشير بن
أبي عمرو الخولاني: أن الوليد بن قيس حدثه أنه سمع أبا
سعيد الخدري يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يكون خلف
من بعد ستين سنة أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون عيا، ثم
يكون خلف يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم،
(8/252)
ويقرأ القرآن
ثلاثة مؤمن ومنافق وفاجر ".
فقلت للوليد: ما هؤلاء الثلاثة ؟ قال: المنافق كافر به، والفاجر يتأكل
به، والمؤمن يؤمن به (1).
تفرد به أحمد.
وقال الحافظ أبو يعلي: حدثنا زهير بن حرب، ثنا الفضل بن دكين، ثنا كامل
أبو العلاء: سمعت أبا صالح سمعت أبا هريرة.
يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تعوذوا بالله من سنة سبعين،
ومن إمارة الصبيان " (2).
وروى الزبير بن بكار عن عبد الرحمن بن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أنه
قال في يزيد بن معاوية: لست منا وليس خالك منا * يا مضيع الصلوات
للشهوات قال: وزعم بعض الناس أن هذا الشعر لموسى بن يسار، ويعرف بموسى
شهوات (3)، وروي عن عبد الله بن الزبير أنه سمع جارية له تغني بهذا
البيت فضربها وقال قولي: أنت منا وليس خالك منا * يا مضيع الصلوات
للشهوات وقال الحافظ أبو يعلي: حدثنا الحكم بن موسى، ثنا يحيى بن حمزة،
عن هشام بن الغاز، عن مكحول عن أبي عبيدة: أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: " لا يزال أمر أمتي قائما بالقسط حتى يثلمه رجل من بني أمية
يقال له يزيد ".
وهذا منقطع بين مكحول وأبي عبيدة بل معضل.
وقد رواه ابن عساكر من طريق صدقة بن عبد الله الدمشقي عن هشام بن الغاز
عن مكحول عن أبي ثعلبة الخشني عن أبي عبيدة.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يزال أمر هذه الامة قائما
بالقسط حتى يكون أول من يثلمه رجل من بني أمية يقال له يزيد " (4).
ثم قال وهو منقطع أيضا بين مكحول وأبي ثعلبة.
وقال أبو يعلى: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا معاوية بن هشام، عن
سفيان، عن عوف عن خالد بن أبي المهاجر، عن أبي العالية.
قال: كنا مع أبي ذر بالشام فقال أبو ذر سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: " أول من يغير سنتي رجل من بني أمية ".
ورواه ابن خزيمة عن بندار عن
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده ج 3 / 38.
(2) أخرجه الترمذي من طريق إبراهيم بن سعيد الجوهري في الزهد (23) باب.
ح (2331) وفيه: عمر أمتي من ستين سنة إلى سبعين سنة.
وقال وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة.
وأخرجه ابن ماجه في الزهد.
باب (37).
وأخرج البيهقي في الدلائل 6 / 466 عن أبي هريرة قال: اللهم لا تدركني
سنة الستين ويحكم تمسكوا بصدغي معاوية، اللهم لا تدركني إمارة الصبيان.
(3) شهوات لقب غلب عليه، يكنى أبا محمد اختلف في ولائه قيل أنه مولى
بني سهم وقيل مولى بني تيم بن مرة وقيل مولى بني عدي بن كعب.
ولقب بشهوات لانه كان سؤولا ملحفا فكان كلما رأى شيئا يعجبه...قال
أشتهي هذا.
وقيل غير هذا.
(4) رواه البيهقي في الدلائل 6 / 467.
(*)
(8/253)
عبد الوهاب بن
عبد المجيد عن عوف: حدثنا مهاجر بن أبي مخلد حدثني أبو العالية حدثني
أبو مسلم عن أبي ذر فذكر نحوه، وفيه قصة وهي أن أبا ذر كان في غزاة
عليهم يزيد بن أبي سفيان فاغتصب يزيد من رجل جارية، فاستعان الرجل بأبي
ذر على يزيد أن يردها عليه، فأمره أبو ذر أن يردها عليه، فتلكأ فذكر
أبو ذر له الحديث فردها، وقال يزيد لابي ذر: نشدتك بالله أهو أنا ؟
قال: لا (1).
وكذا رواه البخاري في التاريخ وأبو يعلى عن محمد بن المثنى عن عبد
الوهاب.
ثم قال البخاري: والحديث معلول ولا نعرف أن أبا ذر قدم الشام زمن عمر
بن الخطاب.
قال: وقد مات يزيد بن أبي سفيان زمن عمر فولى مكانه أخاه معاوية.
وقال عباس الدوري: سألت ابن معين: أسمع أبو العالية من أبي ذر ؟ قال:
لا إنما يروي عن أبي مسلم عنه، قلت: فمن أبو مسلم هذا ؟ قال: لا أدري.
وقد أورد ابن عساكر أحاديث في ذم يزيد بن معاوية كلها موضوعة لا يصح شئ
منها، وأجود ما ورد ما ذكرناه على ضعف أسانيده وانقطاع بعضه والله
أعلم.
قال الحارث بن مسكين،
عن سفيان، عن شبيب، عن عرقدة بن المستظل.
قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: قد علمت ورب الكعبة متى تهلك العرب، إذا
ساسهم من لم يدرك الجاهلية ولم يكن له قدم في الاسلام.
قلت: يزيد بن معاوية أكثر ما نقم عليه في عمله شرب الخمر، وإتيان بعض
الفواحش، فأما قتل الحسين فإنه كما قال جده أبو سفيان يوم أحد لم يأمر
بذلك ولم يسؤه.
وقد قدمنا أنه قال: لو كنت أنا لم أفعل معه ما فعله ابن مرجانة - يعني
عبيد الله بن زياد - وقال للرسل الذين جاؤوا برأسه: قد كان يكفيكم من
الطاعة دون هذا، ولم يعطهم شيئا، وأكرم آل بيت الحسين ورد عليهم جميع
ما فقد لهم وأضعافه، وردهم إلى المدينة في محامل وأهبة عظيمة، وقد ناح
أهله في منزله على الحسين حين كان أهل الحسين عندهم ثلاثة أيام، وقيل
إن يزيد فرح بقتل الحسين أول ما بلغه ثم ندم على ذلك، فقال أبو عبيدة
معمر بن المثنى: إن يونس بن حبيب الجرمي حدثه قال: لما قتل ابن زياد
الحسين ومن معه بعث برؤوسهم إلى يزيد، فسر بقتله أولا وحسنت بذلك منزلة
ابن زياد عنده، ثم لم يلبث إلا قليلا حتى ندم ! فكان يقول: وما كان علي
لو احتملت الاذى وأنزلته في داري وحكمته فيما يريده، وإن كان علي في
ذلك وكف ووهن في سلطاني، حفظا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ورعاية
لحقه وقرابته، ثم يقول: لعن الله ابن مرجانة فإنه أحرجه واضطره، وقد
كان سأله أن يخلي سبيله أو يأتيني أو يكون بثغر من ثغور المسلمين حتى
يتوفاه الله، فلم يفعل، بل أبى عليه وقتله، فبغضني بقتله إلى المسلمين،
وزرع لي في قلوبهم العداوة،
__________
(1) رواه البيهقي في الدلائل 6 / 467 وقال: يزيد بن أبي سفيان كان من
أمراء الاجناد بالشام في أيام أبي بكر وعمر لكن سميه يزيد بن معاوية
يشبه أن يكون به.
والله أعلم.
وقال: هذا الاسناد إرسال بين أبي العالية وأبي ذر.
(*)
(8/254)
فأبغضني البر
والفاجر بما استعظم الناس من قتلي حسينا، مالي ولابن مرجانة قبحه الله
وغضب عليه.
ولما خرج أهل المدينة عن طاعته وخلعوه وولوا عليهم ابن مطيع وابن
حنظلة، لم يذكروا عنه
- وهم أشد الناس عداوة له - إلا ما ذكروه عنه من شرب الخمر وإيتانه بعض
القاذورات، لم يتهموه بزندقة كما يقذفه بذلك بعض الروافض، بل قد كان
فاسقا والفاسق لا يجوز خلعه لاجل ما يثور بسبب ذلك من الفتنة ووقع
الهرج كما وقع زمن الحرة، فإنه بعث إليهم من يردهم إلى الطاعة وأنظرهم
ثلاثة أيام، فلما رجعوا قاتلهم وغير ذلك، وقد كان في قتال أهل الحرة
كفاية، ولكن تجاوز الحد باباحة المدينة ثلاثة أيام، فوقع بسبب ذلك شر
عظيم كما قدمنا، وقد كان عبد الله بن عمر بن الخطاب وجماعات أهل بيت
النبوة ممن لم ينقض العهد.
ولا بايع أحدا بعد بيعته ليزيد.
كما قال الامام أحمد: حدثنا إسماعيل بن علية، حدثني صخر بن جويرية عن
نافع.
قال: لما خلع الناس يزيد بن معاوية جمع ابن عمر بنيه وأهله ثم تشهد ثم
قال: أما بعد فإنا بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله، وإني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الغادر ينصب له لواء يوم
القيامة يقال هذه غدرة فلان، وإن من أعظم الغدر إلا أن يكون الاشراك
بالله، أن يبايع رجل رجلا على بيع الله ورسوله ثم ينكث بيعته " (1).
فلا يخلعن أحد منكم يزيد ولا يسرفن أحد منكم في هذا الامر، فيكون
الفيصل بيني وبينه.
وقد رواه مسلم والترمذي من حديث صخر بن جويرية، وقال الترمذي: حسن
صحيح.
وقد رواه أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف المدائني، عن
صخر بن جويرية، عن نافع، عن ابن عمر فذكر مثله.
ولما رجع أهل المدينة من عند يزيد مشى عبد الله بن مطيع وأصحابه إلى
محمد بن الحنفية فأرادوه على خلع يزيد فأبى عليهم، فقال ابن مطيع: إن
يزيد يشرب الخمر ويترك الصلاة ويتعدى حكم الكتاب.
فقال لهم: ما رأيت منه ما تذكرون، وقد حضرته وأقمت عنده فرأيته مواضبا
على الصلاة متحريا للخير يسأل عن الفقه ملازما للسنة، قالوا: فإن ذلك
كان منه تصنعا لك.
فقال: وما الذي خاف مني أو رجا حتى يظهر إلي الخشوع ؟ أفأطلعكم على ما
تذكرون من شرب الخمر ؟ فلئن كان أطلعكم على ذلك إنكم لشركاؤه، وإن لم
يكن أطلعكم فما يحل لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا.
قالوا: إنه عندنا لحق وإن لم يكن رأيناه.
فقال لهم أبى الله ذلك على أهل الشهادة، فقال: * (إلا من شهد بالحق وهم
يعلمون) * [ الزخرف: 86 ] ولست من أمركم في شئ،
قالوا: فلعلك تكره أن يتولى الامر غيرك فنحن نوليك أمرنا.
قال: ما أستحل القتال على ما
__________
(1) أخرجه الامام أحمد في مسنده 2 / 48 ومسلم في الجهاد والسير (4) باب
ح 9 و 10 ص 3 / 1360 والترمذي في السير (28) باب.
ح (1581) ص 4 / 144.
(*)
(8/255)
تريدونني عليه
تابعا ولا متبوعا.
قالوا: فقد قالت مع أبيك، قال: جيئوني بمثل أبي أقاتل على مثل ما قاتل
عليه، قالوا: فمر ابنيك أبا القاسم والقاسم بالقتال معنا، قال: لو
أمرتهما قاتلت.
قالوا: فقم معنا مقاما تحض الناس فيه على القتال، قال: سبحان الله ! !
آمر الناس بما لا أفعله ولا أرضاه إذا ما نصحت لله في عباده.
قالوا: إذا نكرهك.
قال: إذا آمر الناس بتقوى الله ولا يرضون المخلوق بسخط الخالق، وخرج
إلى مكة.
وقال أبو القاسم البغوي: حدثنا مصعب الزبيري، ثنا ابن أبي حازم، عن
هشام، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، أن ابن عمر دخل وهو معه على ابن مطيع،
فلما دخل عليه.
قال: مرحبا بأبي عبد الرحمن ضعوا له وسادة، فقال: إنما جئتك لاحدثك
حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من نزع يدا من
طاعة فإنه يأتي يوم القيامة لا حجة له، ومن مات مفارق الجماعة فإنه
يموت موتة جاهلية " (1).
وهكذا رواه مسلم من حديث هشام بن سعد عن زيد عن أبيه عن ابن عمر به،
وتابعه إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن زيد بن أسلم عن أبيه.
وقد رواه الليث عن محمد بن عجلان، عن زيد بن أسلم عن ابن عمر فذكره.
وقال أبو جعفر الباقر: لم يخرج أحد من آل أبي طالب ولا من بني عبد
المطلب أيام الحرة، ولما قدم مسلم بن عقبة المدينة أكرمه وأدنى مجلسه
وأعطاه كتاب أمان.
وروى المدائني أن مسلم بن عقبة بعث روح بن زنباع إلى يزيد ببشارة
الحرة، فلما أخبره بما وقع قال: واقوماه، ثم دعا الضحاك بن قيس القهري
فقال له: ترى ما لقي أهل المدينة ؟ فما الذي يجبرهم ؟ قال: الطعام
والاعطية، فأمر بحمل الطعام إليهم وأفاض عليهم أعطيته.
وهذا خلاف ما ذكره كذبة الروافض عنه من أنه شمت بهم واشتفى بقتلهم،
وأنه أنشد ذكرا وأثرا شعر ابن الزبعرى المتقدم ذكره.
وقال أبو بكر محمد بن خلف بن
المرزبان بن بسام: حدثني محمد بن القاسم سمعت الاصمعي يقول سمعت هارون
الرشيد ينشد ليزيد بن معاوية: إنها بين عامر بن لؤي * حين تمنى وبين
عبد مناف ولها في الطيبين جدود * ثم نالت مكارم الاخلاف بنت عم النبي
أكرم من * يمشي بنعل على التراب وحافي لن تراها على التبدل والغل * -
ظة إلا كدرة الاصداف وقال الزبير بن بكار: أنشدني عمي مصعب ليزيد بن
معاوية بن أبي سفيان: آب هذا الهم فاكتنفا * ثم مر النوم فامتنعا راعيا
للنجم أرقبه * فإذا ما كوكب طلعا حام حتى أنني لارى * أنه بالغور قد
وقعا
__________
(1) أخرجه مسلم في الامارة (13) باب.
ح 58 ص 3 / 1478.
(*)
(8/256)
ولها بالمطارون
إذا * أكل النمل الذي جمعا (1) نزهه حتى إذا بلغت * نزلت من خلق تبعا
في قباب وسط دسكرة * حولها الزيتون قد ينعا ومن شعره: وقائلة لي حين
شبهت وجهها * ببدر الدجى يوما وقد ضاق منهجي (2) تشبهني بالبدر هذا
تناقص * بقدري ولكن لست أول من هجي ألم تر أن البدر عند كماله * إذا
بلغ التشبيه عاد كدملجي فلا فخر إن شبهت بالبدر مبسمي * وبالسحر أجفاني
وبالليل مدعجي (3) قد ذكره الزبير بن بكار عن أبي محمد الجزري قال:
كانت بالمدينة جارية مغنية يقال لها سلامة، من أحسن النساء وجها،
وأحسنهن عقلا وأحسنهن قدا، قد قرأت القرآن.
وروت
الشعر وقالته، وكان عبد الرحمن بن حسان والاحوص بن محمد يجلسان إليها.
فعلقت بالاحوص فصدت عن عبد الرحمن، فرحل ابن حسان إلى يزيد بن معاوية
إلى الشام فامتدحه ودله على سلامة وجمالها وحسنها وفصاحتها.
وقال: لا تصلح إلا لك يا أمير المؤمنين، وأن تكون من سمارك، فأرسل يزيد
فاشتريت له وحملت إليه، فوقعت منه موقعا عظيما، وفضلها على جميع من
عنده، ورجع عبد الرحمن إلى المدينة فمر بالاحوص فوجده مهموما، فأراد أن
يزيده إلى ما به من الهم هما فقال: يا مبتلى بالحب مقروحا * لاقي من
الحب تباريحا أفحمه الحب فما ينثني * إلا بكاس الحب مصبوحا وصار ما
يعجبه مغلقا * عنه وما يكره مفتوحا قد حازها من أصبحت عنده * ينال منها
الشم والريحا خليفة الله فسل الهوى * وعز قلبا منك مجروحا قال: فأمسك
الاحوص عن جوابه ثم غلبه وجده عليها فسار إلى يزيد فامتدحه فأكرمه يزيد
وحظي عنده، فدست إليه سلامة خادما وأعطته مالا على أن يدخله إليها،
فأخبر الخادم يزيد بذلك، فقال: امض لرسالتها، ففعل وأدخل الاحوص عليها
وجلس يزيد في مكان يراهما ولا يريانه، فلما بصرت الجارية بالاحوص بكت
إليه وبكى إليها، وأمرت فألقي له كرسي فقعد
__________
(1) المطارون: موضع بالشام.
(2) المنهج: البهر وتتابع النفس.
(3) مدعجي: الدعجة: سواد العين مع سعتها.
(*)
(8/257)
عليه، وجعل كل
واحد منهما يشكو إلى صاحبه شدة شوقه إليه فلم يزالا يتحدثان إلى السحر،
ويزيد يسمع كلامهما من غير أن يكون بينهما ريبة، حتى إذا هم الاحوص
بالخروج قال: أمسى فؤادي في هم وبلبال * من حب من لم أزل منه على بال
فقالت: صحا المحبون بعد النأي إذ يئسوا * وقد يئست وما أضحوا على حال
فقال: من كان يسلو بيأس عن أخي ثقة * فعنك سلام ما أمسيت بالسالي
فقالت: والله والله لا أنساك يا شجني * حتى تفارق مني الروح أوصالي
فقال: والله ما خاب من أمسى وأنت له * يا قرة العين في أهل وفي مال
قال: ثم ودعها وخرج، فأخذه يزيد ودعا بها فقال: أخبراني عما كان في
ليلتكما وأصدقاني، فأخبراه وأنشده ما قالا، فلم يحرفا منه حرفا ولا
غيرا شيئا مما سمعه، فقال لها يزيد: أتحبينه ؟ قالت: إي والله يا أمير
المؤمنين: حبا شديدا جرى كالروح في جسدي * فهل يفرق بين الروح والجسد ؟
فقال له: أتحبها ؟ فقال: إي والله يا أمير المؤمنين: حبا شديدا تليدا
غير مطرف * بين الجوانح مثل النار يضطرم فقال يزيد: إنكما لتصفان حبا
شديدا خذها يا أحوص فهي لك، ووصله صلة سنية.
فرجع بها الاحوص إلى الحجاز وهو قرير العين.
وقد روي أن يزيد كان قد اشتهر بالمعازف وشرب الخمر والغنا والصيد
واتخاذ الغلمان والقيان والكلاب والنطاح بين الكباش والدباب والقرود،
وما من يوم إلا يصبح فيه مخمورا، وكان يشد القرد على فرس مسرجة بحبال
ويسوق به، ويلبس القرد قلانس الذهب، وكذلك الغلمان، وكان يسابق بين
الخيل، وكان إذا مات القرد حزن عليه.
وقيل: إن سبب موته أنه حمل قردة وجعل ينقزها فعضته.
وذكروا عنه غير ذلك والله أعلم بصحة ذلك.
وقال عبد الرحمن بن أبي مدعور: حدثني بعض أهل العلم قال: آخر ما تكلم
به يزيد بن
معاوية: اللهم لا تؤاخذني بما لم أحبه، ولم أرده، واحكم بيني وبين عبيد
الله بن زياد.
وكان نقش خاتمه آمنت بالله العظيم.
(8/258)
مات يزيد
بحوارين من قرى دمشق في رابع عشر ربيع الاول، وقيل يوم الخميس للنصف
منه، سنة أربع وستين.
وكانت ولايته بعد موت أبيه في منتصف رجب سنة ستين، وكان مولده في سنة
خمس، وقيل سنة ست، وقيل سبع وعشرين.
ومع هذا فقد اختلف في سنه ومبلغ أيامه في الامارة على أقوال كثيرة،
وإذا تأملت ما ذكرته لك من هذه التحديدات انزاح عنك الاشكال من هذا
الخلاف، فإن منهم من قال: جاوز الاربعين حين مات فالله أعلم.
ثم حمل بعد موته إلى دمشق وصلى عليه ابنه معاوية بن يزيد أمير المؤمنين
يومئذ، ودفن بمقابر باب الصغير، وفي أيامه وسع النهر المسمى بيزيد في
ذيل جبل قاسيون، وكان جدولا صغيرا فوسعه أضعاف ما كان يجري فيه من
الماء.
وقال ابن عساكر: حدثنا أبو الفضل محمد بن محمد بن الفضل بن المظفر
العبدي قاضي البحرين من لفظه وكتبه لي بخطه - قال: رأيت يزيد بن معاوية
في النوم فقلت له: أنت قتلت الحسين ؟ فقال: لا ! فقلت له: هل غفر الله
لك ؟ قال: نعم، وأدخلني الجنة.
قلت: فالحديث الذي يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " رأى معاوية
يحمل يزيد فقال: رجل من أهل الجنة يحمل رجلا من أهل النار " ؟ فقال:
ليس بصحيح.
قال ابن عساكر.
وهو كما قال، فإن يزيد بن معاوية لم يولد في حياة النبي صلى الله عليه
وسلم.
وإنما ولد بعد العشرين من الهجرة.
وقال أبو جعفر بن جرير: أولاد يزيد بن معاوية وعددهم فمنهم معاوية بن
يزيد بن معاوية يكنى أبا ليلى وهو الذي يقول فيه الشاعر: إني أرى فتنة
قد حان أولها * والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا وخالد بن يزيد يكنى أبا
هاشم كان يقال إنه أصاب علم الكيمياء، وأبو سفيان، وأمهما أم
هاشم بنت أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وقد تزوجها بعد يزيد
مروان بن الحكم، وهي التي يقول فيها الشاعر: أنعمي أم خالد * رب ساع
كقاعد وعبد العزيز (1) بن يزيد ويقال له الاسوار، وكان من أرمى العرب،
وأمه أم كلثوم بنت عبد الله بن عامر وهو الذي يقول فيه الشاعر: زعم
الناس أن خير قريش * كلهم حين يذكرون الاساور (2)
__________
(1) في الطبري 7 / 16 والكامل: 4 / 125: عبد الله.
(2) في الطبري: حين تذكر الاسوار.
(*)
(8/259)
وعبد الله
الاصغر، وأبو بكر، وعتبة، وعبد الرحمن، والربيع، ومحمد، لامهات أولاد
شتى.
ويزيد وحرب وعمر وعثمان.
فهؤلاء خمسة عشر ذكرا، وكان له من البنات عاتكة ورملة وأم عبد الرحمن
وأم يزيد، وأم محمد، فهؤلاء خمس بنات.
وقد انقرضوا كافة فلم يبق ليزيد عقب، والله سبحانه أعلم.
إمارة معاوية بن يزيد بن معاوية أبي عبد الرحمن ويقال أبو يزيد ويقال
أبو يعلى القرشي الاموي، وأمه أم هاشم بنت أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة،
بويع له بعد موت أبيه - وكان ولي عهده من بعده - في رابع عشر ربيع
الاول سنة أربع وستين، وكان رجلا صالحا ناسكا، ولم تطل مدته، قيل: إنه
مكث في الملك أربعين يوما، وقيل عشرين يوما، وقيل شهرين، وقيل شهرا
ونصف شهر، وقيل ثلاثة أشهر وعشرون يوما، وقيل أربعة أشهر فالله أعلم.
وكان في مدة ولايته مريضا لم يخرج إلى الناس (1)، وكان الضحاك بن قيس
هو الذي يصلي بالناس ويسد الامور، ثم مات معاوية بن يزيد هذا عن إحدى
وعشرين وقيل ثلاث وعشرين سنة وثمانية عشر يوما، وقيل تسع عشرة سنة،
وقيل عشرون سنة، وقيل ثلاث وعشرون سنة،
وقيل: إنما عاش ثماني عشرة سنة، وقيل تسع عشرة سنة، وقيل عشرون، وقيل
خمس وعشرون فالله أعلم.
وصلى عليه أخوه خالد، وقيل عثمان بن عنبسة، وقيل الوليد بن عتبة (2)
وهو الصحيح، فإنه أوصى إليه بذلك، وشهد دفنه مروان بن الحكم، وكان
الضحاك بن قيس هو الذي يصلي بالناس بعده حتى استقر الامر لمروان
بالشام، ودفن بمقابر باب الصغير بدمشق، ولما حضرته الوفاة قيل له ألا
توصي فقال: لا أتزود مرارتها إلى اخرتي وأترك حلاوتها لبني أمية، وكان
__________
(1) لم يرد لا في الطبري أو في ابن الاثير أنه كان مريضا، وقال ابن
قتيبة في الامامة 2 / 13: لبث واليا شهرين وليال محجوبا لا يرى، وعند
ابن العبري ص 111: أنه كان قدريا وقال: لا أحب أن ألقى الله بتبعاتكم
فشأنكم وأمركم ولوه من شئتم وتخلى للعبادة حتى مات.
ورأى الفخري ص 118: أنه كان صبيا ضعيفا وقد عرف بأبي ليلى لضعفه كما
قال المسعودي: وهذه الكنية للمستصعف من العرب ويعود اعتكافه وعزلته في
منزله كما نرى لاسباب كثيرة أقلها ثلاثة: - عدم اقتناعه - من حيث
المبدأ - بأحقيته بالولاية (العبري).
- اشتداد الصراع بين أطراف القيادة الاموية، بين القيسية (الضحاك)
واليمنية.
- ظهور عبد الله بن الزبير الرجل القوي، بعد موت يزيد، ودعوته الناس
لمبايعته وادعائه الخلافة وظفره بالحجاز والعراق وخراسان واليمن ومصر
والشام إلا الاردن.
(2) قال المسعودي صلى عليه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، فلما كبر
الثانية طعن فسقط ميتا قبل تمام الصلاة فقدم عثمان بن عتبة بن أبي
سفيان.
(*)
(8/260)
رحمه الله أبيض
شديد البياض كثير الشعر كبير العينين جعد الشعر أقنى الانف، مدور
الرأس، جميل الوجه كثير شعر الوجه دقيقه حسن الجسم.
قال أبو زرعة الدمشقي: معاوية وعبد الرحمن وخالد أخوه، وكانوا من صالحي
القوم وقال فيه بعض الشعراء - وهو عبد الله بن همام البلوي: تلقاها
يزيد عن أبيه * فدونكها معاوي عن يزيدا أديروها بني حرب عليكم * ولا
ترموا بها الغرض البعيدا
ويروى أن معاوية بن يزيد هذا نادى في الناس الصلاة جامعة ذات يوم،
فاجتمع الناس فقال لهم فيما قال: يا أيها الناس ! إني قد وليت أمركم
وأنا ضعيف عنه، فإن أحببتم تركتها لرجل قوي كما تركها الصديق لعمر، وإن
شئتم تركتها شورى في ستة منكم كما تركها عمر بن الخطاب، وليس فيكم من
هو صالح لذلك، وقد تركت لكم أمركم فولوا عليكم من يصلح لكم (1).
ثم نزل ودخل منزله فلم يخرج منه حتى مات رحمه الله تعالى.
ويقال إنه سقي ويقال إنه طعن.
ولما دفن حضر مروان دفنه فلما فرغ منه قال مروان: أتدرون من دفنتم ؟
قالوا: نعم معاوية بن يزيد، فقال مروان: هو أبو ليلى الذي قال فيه أرثم
الفزاري: إني أرى فتنة تغلي (2) مراجلها * والملك بعد أبي ليلى لمن
غلبا قالوا: فكان الامر كما قال، وذلك أن أبا ليلى توفي من غير عهد منه
إلى أحد، فتغلب إلى الحجاز عبد الله بن الزبير، وعلى دمشق وأعمالها
مروان بن الحكم، وبايع أهل خراسان سلم بن زياد حتى يتولى على الناس
خليفة، وأحبوه محبة عظيمة، وسار فيهم سلم سيرة حسنة أحبوه عليها، ثم
أخرجوه من بين أظهرهم.
وخرج القراء والخوارج بالبصرة وعليهم نافع بن الازرق، وطردوا عنهم عبيد
الله بن زياد بعد ما كانوا بايعوه عليهم حتى يصير للناس إمام، فأخرجوه
عنهم، فذهب إلى الشام بعد فصول يطول ذكرها، وقد بايعوا بعده عبد الله
بن الحارث بن نوفل المعروف ببة، وأمه هند بنت أبي سفيان، وقد جعل على
شرطة البصرة هميان بن عدي السدوسي، فبايعه الناس في مستهل جمادى الآخرة
سنة أربع وستين، وقد قال الفرزدق: وبايعت أقواما وفيت بعهدهم * وببة قد
بايعته غير نادم فأقام فيها أربعة أشهر ثم لزم بيته، فكتب أهل البصرة
إلى ابن الزبير فكتب ابن الزبير إلى
__________
(1) أورد خطبة له - باختلاف: ابن قتيبة في الامامة 2 / 13 والفخري ص
118 ابن العبري في تاريخ مختصر الدول ص 111 وابن الاثير في الكامل 4 /
130 ومروج الذهب 3 / 88 والطبري 7 / 34.
(2) في مروج الذهب: هاجت، وفي المعارف ص 154: فتنا بدل فتنة.
(*)
(8/261)
أنس بن مالك
يأمره أن يصلي بالناس، فصلى بهم شهرين (1)، ثم كان ما سنذكره.
وخرج نجدة بن عامر الحنفي باليمامة، وخرج بنو ماحورا في الاهواز وفارس
وغير ذلك على ما سيأتي تفصيله قريبا إن شاء الله تعالى.
إمارة عبد الله بن الزبير وعند ابن حزم وطائفة أنه أمير المؤمنين آنذاك
قد قدمنا أنه لما مات يزيد أقلع الجيش عن مكة وهم الذين كانوا يحاصرون
ابن الزبير وهو عائذ بالبيت فلما رجع حصين بن نمير السكوني بالجيش إلى
الشام، استفحل ابن الزبير بالحجاز وما والاها، وبايعه الناس بعد يزيد
بيعة هناك، واستناب على أهل المدينة أخاه عبيد الله بن الزبير، وأمره
باجلاء بني أمية عن المدينة فأجلاهم فرحلوا إلى الشام، وفيهم مروان بن
الحكم وابنه عبد الملك، ثم بعث أهل البصرة إلى ابن الزبير بعد حروب جرت
بينهم وفتن كثيرة يطول استقصاؤها، غير أنهم في أقل من ستة أشهر أقاموا
عليهم نحوا من أربعة أمراء (2) من بينهم ثم تضطرب أمورهم، ثم بعثوا إلى
ابن الزبير وهو بمكة يخطبونه لانفسهم، فكتب إلى أنس بن مالك ليصلي بهم،
ويقال إن أول من بايع ابن الزبير مصعب بن عبد الرحمن، فقال الناس: هذا
أمر فيه صعوبة، وبايعه عبد الله بن جعفر وعبد الله بن علي بن أبي طالب،
وبعث إلى ابن عمر وابن الحنفية وابن عباس ليبايعوا فأبوا عليه.
وبويع في رجب بعد أن أقام الناس نحو ثلاثة أشهر بلا إمام.
وبعث ابن الزبير إلى أهل الكوفة عبد الرحمن بن يزيد الانصاري على
الصلاة، وإبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله على الخراج، واستوثق له
المصران جميعا، وأرسل إلى مصر فبايعوه.
واستناب عليها عبد الرحمن بن جحدر (3)، وأطاعت له الجزيرة، وبعث على
البصرة الحارث بن عبد الله بن ربيعة، وبعث إلى اليمن فبايعوه، وإلى
خراسان فبايعوه، وإلى الضحاك بن قيس بالشام فبايع، وقيل إن أهل دمشق
وأعمالها من بلاد الاردن لم يبايعوه (4)، لانهم بايعوا مروان بن
__________
(1) في ابن الاثير 4 / 143: أربعين يوما.
(2) جدد أهل البصرة مبايعة عبيد الله بن زياد واليا عليهم حتى يتفق
الناس على أمام لهم، ثم عزلوه وطردوه واتفقوا
فيما بينهم على عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب
الملقب بببة ثم اختلفوا فيما بينهم، وبقي ببة يقيم فيهم الصلاة، ثم
أرسل ابن الزبير أميرا على البصرة عمر بن عبيد الله بن معمر ثم عزله
وولى الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي - القباع - (انظر
الكامل ج 4 والطبري ج 7 حوادث سنة 64).
(3) في الطبري 7 / 34، والكامل 4 / 145: ابن جحدم، وفي مروج الذهب 3 /
106: عبد الرحمن بن عتبة بن جحدم.
(4) في الكامل 4 / 145: بايع الضحاك في دمشق سرا للزبير، وبايعت قنسرين
وحمص، وفي مروج الذهب 3 / 101: اخذت له البيعة بالشام وخطب له على سائر
المنابر إلا منبر طبرية من بلاد الاردن وفي فتوح ابن الاعثم 5 / 312:
أن الضحاك دعا إلى نفسه في الشام.
(*)
(8/262)
الحكم لما رجع
الحصين بن نمير من مكة إلى الشام، وقد كان التف على عبد الله بن الزبير
جماعة من الخوارج يدافعون عنه، منهم نافع بن الازرق، وعبد الله بن
أباض، وجماعة من رؤسهم.
فلما استقر أمره في الخلافة قالوا فيما بينهم: إنكم قد أخطأتم لانكم
قاتلتم مع هذا الرجل ولم تعلموا رأيه في عثمان بن عفان - وكانوا
ينتقصون عثمان - فاجتمعوا إليه فسألوه عن عثمان فأجابهم فيه بما
يسوؤهم، وذكر لهم ما كان متصفا به من الايمان والتصديق، والعدل
والاحسان والسيرة الحسنة، والرجوع إلى الحق إذا تبين له، فعند ذلك
نفروا عنه وفارقوه وقصدوا بلاد العراق وخراسان، فتفرقوا فيها بأبدانهم
وأديانهم ومذاهبهم ومسالكهم المختلفة المنتشرة، التي لا تنضبط ولا
تنحصر، لانها مفرعة على الجهل وقوة النفوس، والاعتقاد الفاسد، ومع هذا
استحوذوا على كثير من البلدان والكور، حتى انتزعت منهم على ما سنذكره
فيما بعد إن شاء الله.
ذكر بيعة مروان بن الحكم
وكان سبب ذلك أن حصين بن نمير لما رجع من أرض الحجاز وارتحل عبيد الله
بن زياد من البصرة إلى الشام، وانتقلت بنو أمية من المدينة إلى الشام،
اجتمعوا إلى مروان بن الحكم بعد موت معاوية بن يزيد، وقد كان معاوية بن
يزيد قد عزم على أن يبايع لابن الزبير بدمشق، وقد
بايع أهلها الضحاك بن قيس على أن يصلح بينهم ويقيم لهم أمرهم حتى يجتمع
الناس على إمام، والضحاك يريد أن يبايع لابن الزبير، وقد بايع لابن
الزبير النعمان بن بشير بحمص، وبايع له زفر بن عبد الله الكلابي
بقنسرين، وبايع له نائل (1) بن قيس بفلسطين، وأخرج منها روح بن زنباع
الجذامي، فلم يزل عبيد الله بن زياد والحصين بن نمير بمروان بن الحكم
يحسنون له أن يتولى، حتى ثنوه عن رأيه وحذروه من دخول سلطان ابن الزبير
وملكه إلى الشام، وقالوا له: أنت شيخ قريش وسيدها: فأنت أحق بهذا
الامر.
فرجع عن البيعة لابن الزبير، وخاف ابن زياد الهلاك إن تولى غير بني
أمية، فعند ذلك التف هؤلاء كلهم مع قومه بني أمية ومع أهل اليمن على
مروان، فوافقهم على ما أرادوا، وجعل يقول ما فات شئ، وكتب حسان بن مالك
بن بحدل الكلبي إلى الضحاك بن قيس يثنيه عن المبايعة لابن الزبير،
ويعرفه أيادي بني أمية عنده وإحسانهم، ويذكر فضلهم وشرفهم، وقد بايع
حسان بن مالك أهل الاردن لبني أمية، وهو يدعو إلى ابن أخته خالد بن
يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وبعث إلى الضحاك كتابا بذلك، وأمره أن
يقرأ كتابه على أهل دمشق يوم الجمعة على المنبر، وبعث بالكتاب مع رجل
يقال له ناغضة بن كريب الطابجي، وقيل هو من بني كلب وقال له: إن لم
يقرأه هو على الناس فاقرأه أنت، فأعطاه الكتاب فسار إلى الضحاك فأمره
بقراءة الكتاب فلم يقبل، فقام ناغض فقرأه على الناس فصدقه جماعة من
أمراء
__________
(1) في الطبري والكامل: ناتل.
(*)
(8/263)
الناس، وكذبه
آخرون، وثارت فتنة عظيمة بين الناس، فقام خالد بن يزيد بن معاوية وهو
شاب حدث على درجتين من المنبر فسكن الناس، ونزل الضحاك فصلى بالناس
الجمعة، وأمر الضحاك بن قيس بأولئك الذين صدقوا ناغضة أن يسجنوا، فثارت
قبائلهم فأخرجوهم من السجن، واضطرب أهل دمشق في ابن الزبير وبني أمية،
وكان اجتماع الناس لذلك ووقوفهم بعد صلاة الجمعة بباب الجيرون " فسمي
هذا اليوم بيوم جيرون ".
قال المدائني: وقد أراد الناس الوليد بن عتبة بن أبي سفيان أن يتولى
عليهم فأبى، وهلك في
تلك الليالي (1)، ثم إن الضحاك بن قيس صعد منبر المسجد الجامع فخطبهم
به، ونال من يزيد بن معاوية، فقام إليه شاب من بني كلب فضربه بعصى كانت
معه، والناس جلوس متقلدي سيوفهم، فقام بعضهم إلى بعض فاقتتلوا في
المسجد قتالا شديدا، فقيس ومن لف لفيفها يدعون إلى ابن الزبير وينصرون
الضحاك بن قيس، وبنو كلب يدعون إلى بني أمية وإلى البيعة لخالد بن يزيد
بن معاوية، ويتعصبون ليزيد وأهل بيته، فنهض الضحاك بن قيس فدخل دار
الامارة وأغلق الباب ولم يخرج إلى الناس إلا يوم السبت لصلاة الفجر، ثم
أرسل إلى بني أمية فجمعهم إليه فدخلوا عليه وفيهم مروان بن الحكم،
وعمرو بن سعيد بن العاص، وخالد وعبد الله ابنا يزيد بن معاوية.
قال المدائني: فاعتذر إليهم مما كان منه، واتفق معهم أن يركب معهم إلى
حسان بن مالك الكلبي فيتفقوا على رجل يرتضونه من بني أمية للامارة،
فركبوا جميعا إليه، فينما هم يسيرون إلى الجابية لقصد حسان، إذ جاء معن
بن ثور بن الاخنس في قومه قيس، فقال له: إنك دعوتنا إلى بيعة ابن
الزبير فأجبناك، وأنت الآن ذاهب إلى هذا الاعرابي ليستخلف ابن أخته
خالد بن يزيد بن معاوية، فقال له الضحاك: وما الرأي ؟ قال: الرأي أن
نظهر ما كنا نسر، وأن ندعو إلى طاعة ابن الزبير ونقاتل عليها من أباها.
فمال الضحاك بمن معه فرجع إلى دمشق (2)، فأقام بها بمن معه من الجيش من
قيس ومن لف لفيفها، وبعث إلى أمراء الاجناد وبايع الناس لابن الزبير،
وكتب بذلك إلى ابن الزبير يعلمه بذلك، فذكره ابن الزبير لاهل مكة وشكره
على صنيعه، وكتب إليه بنيابة الشام، وقيل بل بايع لنفسه بالخلافة فالله
أعلم.
والذي ذكره المدائني أنه إنما دعا إلى بيعة ابن الزبير أولا، ثم حسن له
عبيد الله بن زياد أن يدعو إلى نفسه، وذلك إنما فعله مكرا منه وكبارا
ليفسد عليه ما هو بصدده، فدعا الضحاك إلى نفسه ثلاثة أيام، فنقم الناس
عليه ذلك وقالوا: دعوتنا إلى بيعة رجل فبايعناه ثم خلعته بلا سبب
__________
(1) في مروج الذهب 3 / 89: طعن وهو يصلي على معاوية بن يزيد ومات وهو
في الركعة الثانية.
(2) في الكامل 4 / 147 والطبري 7 / 37: رجع إلى مرج راهط ودمشق بيده
(وفي الطبري: جل أهل دمشق من أهل اليمن وغيرهم على ذلك).
وفي الامامة والسياسة 2 / 17: أن الضحاك بايع لنفسه بعد بيعة بني أمية
لمروان (وانظر الفتوح لابن الاعثم 5 / 312).
(*)
(8/264)
ولا عذر، ثم
دعوتنا إلى نفسك ؟ فرجع إلى البيعة لابن الزبير فسقط بذلك عند الناس،
وذلك الذي أراد ابن زياد.
وكان اجتماع عبيد الله بن زياد به بعد اجتماعه بمروان وتحسينه له أن
يدعو إلى نفسه، ثم فارق مروان ليخدع له الضحاك، فنزل عنده بدمشق وجعل
يركب إليه كل يوم، ثم أشار ابن زياد على الضحاك أن يخرج من دمشق إلى
الصحراء ويدعو بالجيوش إليه ليكون أمكن له، فركب الضحاك إلى مرج راهط
فنزل بمن معه من الجنود، وعند ذلك اجتمع بنو أمية ومن اتبعهم بالاردن
واجتمع إليهم من هنالك من قوم حسان بن مالك من بني كلب.
ولما رأى مروان بن الحكم ما انتظم من البيعة لابن الزبير، وما استوثق
له من الملك، عزم على الرحيل إليه لمبايعته وليأخذ منه أمانا لبني
أمية، فسار حتى بلغ أذرعات فلقيه ابن زياد مقبلا من العراق فصده عن ذلك
وهجن رأيه، واجتمع إليه عمرو بن سعيد بن العاص، وحصين بن نمير، وابن
زياد، وأهل اليمن وخلق، فقالوا لمروان: أنت كبير قريش، وخالد بن يزيد
غلام، و عبد الله بن الزبير كهل، فإنما يقرع الحديد بعضه ببعض، فلا
تناوئه بهذا الغلام، وارم بنحرك في نحره، ونحن نبايعك، ابسط يدك، فبسط
يده فبايعوه (1) بالجابية في يوم الاربعاء لثلاث خلون من ذي القعدة سنة
أربع وستين، قاله الواقدي، فلما تمهد له الامر سار بمن معه نحو الضحاك
بن قيس فالتقيا بمرج راهط فغلبه مروان بن الحكم وقتله وقتل من قيس
مقتلة لم يسمع بمثلها، على ما سيأتي تفصيله في أول سنة خمس وستين.
فإن الواقدي وغيره قالوا: إنما كانت هذه الوقعة في المحرم من أول سنة
خمس وستين.
وفي رواية محمد بن سعد: وعن الواقدي وغيره قالوا: إنما كانت في أواخر
هذه السنة.
وقال الليث بن وسعد والواقدي والمدائني وأبو سليمان بن يزيد وأبو عبيدة
وغير واحد: كانت وقعة مرج راهط للنصف من ذي الحجة سنة أربع وستين والله
سبحانه وتعالى أعلم.
وقعة مرج راهط ومقتل الضحاك بن قيس الفهري
رضي الله عنه قد تقدم أن الضحاك كان نائب دمشق لمعاوية بن أبي سفيان،
وكان يصلي عنهم إذا اشتغلوا
أو غابوا، ويقيم الحدود ويسد الامور، فلما مات معاوية قام بأعباء بيعة
يزيد ابنه، ثم لما مات يزيد بايع الناس لمعاوية بن يزيد، فلما مات
معاوية بن يزيد بايعه الناس من دمشق حتى تجتمع الناس على إمام، فلما
اتسعت البيعة لابن الزبير عزم على المبايعة له، فخطب الناس يوما وتكلم
في يزيد بن معاوية وذمه، فقامت فتنة في المسجد الجامع، حتى اقتتل الناس
فيه بالسيوف، فسكن الناس ثم دخل دار الامارة من الخضراء وأغلق عليه
الباب، ثم اتفق مع بني أمية على أن يركبوا إلى حسان بن مالك بن بحدل
وهو بالاردن فيجتمعوا عنده على من يراه أهلا للامارة، وكان حسان
__________
(1) بايعوه على الخلافة ومن بعده خالد بن يزيد ومن بعده إلى عمرو بن
سعيد (مروج الذهب 3 / 103.
الكامل لابن الاثير 4 / 148 والطبري 7 / 38).
(*)
(8/265)
يريد أن يبايع
لابن أخته خالد بن يزيد، ويزيد ابن ميسون، وميسون بنت بحدل، أخت حسان،
فلما ركب الضحاك معهم انخذل بأكثر الجيش فرجع إلى دمشق فامتنع بها،
وبعث إلى أمراء الاجناد فبايعهم لابن الزبير، وسار بنو أمية ومعهم
مروان وعمرو بن سعيد، وخالد وعبد الله ابنا يزيد بن معاوية، حتى
اجتمعوا بحسان بن مالك بالجابية.
وليس لهم قوة طائلة بالنسبة إلى الضحاك بن قيس، فعزم مروان على الرحيل
إلى ابن الزبير ليبايعه ويأخذ أمانا منه لبني أمية، فإنه كان قد أمر
بإجلائهم عن المدينة، فسار حتى وصل إلى أذرعات فلقيه عبيد الله بن زياد
مقبلا من العراق، فاجتمع به ومعه حصين بن نمير، وعمرو بن سعيد بن
العاص، فحسنوا إليه أن يدعو إلى نفسه، فإنه أحق بذلك من ابن الزبير
الذي قد فارق الجماعة وخلع ثلاثة من الخلفاء، فلم يزالوا بمروان حتى
أجابهم إلى ذلك، وقال له عبيد الله بن زياد: وأنا أذهب لك إلى الضحاك
إلى دمشق فأخدعه لك وأخذل أمره، فسار إليه وجعل يركب إليه كل يوم ويظهر
له الود والنصيحة والمحبة، ثم حسن له أن يدعو إلى نفسه ويخلع ابن
الزبير فإنك أحق بالامر منه، لانك لم تزل في الطاعة مشهورا بالامانة،
وابن الزبير خارج عن الناس، فدعا الضحاك الناس إلى نفسه ثلاثة أيام فلم
يصمد معه، فرجع إلى الدعوة لابن الزبير، ولكن انحط بها عند الناس، ثم
قال له ابن
زياد: إن من يطلب ما تطلب لا ينزل المدن والحصون، وإنما ينزل الصحراء
ويدعو إليه بالجنود، فبرز الضحاك إلى مرج راهط فنزله، وأقام ابن زياد
بدمشق وبنو أمية بتدمر، وخالد وعبد الله عند خالهم حسان بالجابية، فكتب
ابن زياد إلى مروان يأمره أن يظهر دعوته، فدعا إلى نفسه، وتزوج بأم
خالد بن يزيد (1) - وهي أم هاشم.
بنت هاشم بن عتبة بن ربيعة - فعظم أمره وبايعه الناس، واجتمعوا عليه،
وسار إلى مرج راهط نحوه الضحاك بن قيس، وركب إليه عبيد الله بن زياد
وأخوه عباد بن زياد، حتى اجتمع مع مروان ثلاثة عشر ألفا، وبدمشق من
جهته يزيد بن أبي النمر (2)، وقد أخرج عامل الضحاك منها وهو يمد مروان
بالسلاح والرجال وغير ذلك.
ويقال كان نائبه على دمشق يومئذ عبد الرحمن بن أم الحكم، وجعل مروان
على ميمنته عبيد الله بن زياد، وعلى ميسرته عمرو بن سعيد بن العاص (3)،
وبعث الضحاك إلى النعمان بن بشير فأمده النعمان بأهل حمص عليهم شرحبيل
بن ذي الكلاع.
وركب إليه زفر بن الحارث الكلابي في أهل قنسرين.
فكان الضحاك في ثلاثين ألفا، على ميمنته زياد بن عمرو العقيلي، وعلى
ميسرته زكريا بن شمر الهلالي، فتصافوا وتقاتلوا بالمرج عشرين يوما،
يلتقون بالمرج في كل يوم فيقتتلون قتالا شديدا،
__________
(1) في الاخبار الطوال ص 285، ومروج الذهب 3 / 107 والفخري ص 119
والامامة والسياسة ص 2 / 16: تزوج بأم خالد بن يزيد بعد مبايعة الناس
له، وما زواجه بها - حسب رأي أصحابه له - إلا إذلالا لابنها خالد وليضع
من قدره وليصغر بذلك من شأنه فيسقط عن درجة الخلافة.
(2) في الطبري 7 / 39 يزيد بن أبي نمس وفي الكامل 4 / 149: يزيد بن أبي
الغمس.
(3) في الكامل 4 / 149: على ميمنته عمرو بن سعيد وعلى ميسرته عبيد الله
بن زياد (الطبري 7 / 38).
(*)
(8/266)
ثم أشار عبيد
الله على مروان أن يدعوهم إلى الموادعة خديعة فإن الحرب خدعة، وأنت
وأصحابك على الحق، وهم على الباطل، فنودي في الناس بذلك، ثم غدر أصحاب
مروان فمالوا يقتلونهم قتالا شديدا، وصبر الضحاك صبرا بليغا، فقتل
الضحاك بن قيس في المعركة، قتله رجل يقال له زحمة (1) بن عبد الله من
بني كلب، طعنه بحربة فأنفذه ولم يعرفه.
وصبر مروان وأصحابه صبرا
شديدا حتى فر أولئك بين يديه، فنادى مروان: ألا لا تتبعوا مدبرا، ثم جئ
برأس الضحاك، ويقال إن أول من بشره بقتله روح بن زنباع الجذامي، واستقر
ملك الشام بيد مروان بن الحكم.
وروي أنه بكى على نفسه يوم مرج راهط، فقال: أبعد ما كبرت وضعفت صرت إلى
أن أقتل بالسيوف على الملك ؟.
قلت: ولم تطل مدته في الملك إلا تسعة أشهر (2) على ما سنذكره.
وقد كان الضحاك بن قيس بن خالد الاكبر بن وهب بن ثعلبة بن وائلة بن
عمرو بن شيبان (3) بن محارب بن فهر بن مالك، أبو أنيس الفهري أحد
الصحابة على الصحيح، وقد سمع من النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه
أحاديث عدة، وروى عنه جماعة من التابعين، وهو أخو فاطمة بنت قيس وكانت
أكبر منه بعشر سنين، وكان أبو عبيدة بن الجراح عمه.
حكاه ابن أبي حاتم.
وزعم بعضهم أنه لا صحبة له، وقال الواقدي: أدرك النبي صلى الله عليه
وسلم وسمع منه قبل البلوغ.
وفي رواية عن الواقدي أنه قال: ولد الضحاك قبل وفاة النبي صلى الله
عليه وسلم بسنتين.
وقد شهد فتح دمشق وسكنها وله بها دار عند حجر الذهب مما يلي نهر بردا،
وكان أميرا على أهل دمشق يوم صفين مع معاوية، ولما أخذ معاوية الكوفة
استنابه بها في سنة أربع وخمسون وقد روى البخاري في التاريخ: أن الضحاك
قرأ سورة ص في الصلاة فسجد فيها فلم يتابعه علقمة وأصحاب ابن مسعود في
السجود.
ثم استنابه معاوية عنده على دمشق فلم يزل عنده حتى مات معاوية وتولى
ابنه يزيد، ثم ابن ابنه معاوية بن يزيد، ثم صار أمره إلى ما ذكرنا.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا عفان بن مسلم، ثنا حماد بن سلمة أنبأنا علي
بن زيد، عن الحسن أن الضحاك بن قيس كتب إلى الهيثم حين مات يزيد بن
معاوية: السلام عليك أما بعد فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: " إن بين يدي الساعة فتنا كقطع الليل المظلم، فتنا كقطع الدخان،
يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا،
ويمسي مؤمنا
__________
(1) في الطبري 7 / 39: زحنة، وفي مروج الذهب 3 / 105: قتله رجل من تيم
اللات.
(2) في العبري ص 111: سبعة أشهر وأياما.
وفي الفخري ص 120: تسعة أشهر وبعض شهر.
وفي الكامل
4 / 191: توفي في شهر رمضان سنة (65) وانظر الطبري 7 / 83.
وفي المعارف ص 154: كانت ولايته عشرة أشهر.
(3) في الاصابة 2 / 207: سنان.
(*)
(8/267)
ويصبح كافرا،
يبيع أقوام أخلاقهم ودينهم بعرض من الدنيا قليل ".
وإن يزيد بن معاوية قد مات وأنتم إخواننا وأشقاؤنا فلا تسبقونا حتى
نحتال لانفسنا (1).
وقد روى ابن عساكر من طريق ابن قتيبة عن العباس بن الفرج الرياشي عن
يعقوب بن إسحاق بن ثوبة عن حماد بن زيد.
قال: دخل الضحاك بن قيس على معاوية فقال معاوية منشدا له: تطاولت
للضحاك حتى رددته * إلى حسب في قومه متقاصر فقال الضحاك: قد علم قومنا
أنا أحلاس الخيل، فقال: صدقت، أنتم أحلاسها ونحن فرسانها يريد معاوية
أنتم راضة وساسة، ونحن الفرسان -.
ورأى أن أصل الكلمة من الحلس وهو كساء يكون تحت البرذعة أي أنه لازم
ظهر الفرس كما يلزم الحلس ظهر البعير والدابة.
وروى أن مؤذن دمشق قال للضحاك بن قيس: والله أيها الامير إني لاحبك في
الله.
فقال له الضحاك: ولكني والله أبغضك في الله.
قال: ولم أصلحك الله ؟ قال: لانك تتراءى في أذانك وتأخذ على تعليمك
أجرا.
قتل الضحاك رحمه الله يوم مرج راهط وذلك للنصف من ذي الحجة سنة أربع
وستين، قاله الليث بن سعد وأبو عبيد والواقدي وابن زير والمدائني.
وفيها مقتل النعمان بن بشير الانصاري وأمه عمرة بنت رواحة، كان النعمان
أول مولود ولد بالمدينة بعد الهجرة للانصار، في جمادى الاول (2) سنة
ثنتين من الهجرة، فأتت به أمه تحمله إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فحنكه وبشرها بأنه يعيش حميدا، ويقتل شهيدا، ويدخل الجنة، فعاش في خير
وسعة، ولي نيابة الكوفة لمعاوية تسعة أشهر (3)، ثم سكن الشام، وولي
قضاءها بعد فضالة بن عبيد، وفضالة بعد أبي الدرداء.
وناب
بحمص لمعاوية، وهو الذي رد آل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
المدينة بأمر يزيد له في ذلك، وهو الذي أشار على يزيد بالاحسان إليهم
فرق لهم يزيد وأحسن إليهم وأكرمهم، ثم لما كانت وقعة مروج راهط وقتل
الضحاك بن قيس، وكان النعمان قد أمده بأهل حمص.
فقتلوه بقرية يقال لها بيرين (4)، قتله رجل يقال له خالد بن خلي (5)
المازني وقتل خلي بن داود وهو جد خالد بن خلي.
وقد رثته ابنته
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده 2 / 272، 3 / 453، 4 / 416.
(2) في الاستيعاب على هامش الاصابة 3 / 551: في ربيع الآخر.
(3) في الاستيعاب: سبعة أشهر.
(4) في الاستيعاب: بيران، وفي المعارف: بين سلمية وحمص.
(5) في الطبري 7 / 40 وسمط النجوم العوالي: عمرو بن الخلي، وفي مروج
الذهب 3 / 106 والاستيعاب: خالد بن عدي الكلاعي وفي الاثير: عمرو بن
الجلي.
(*)
(8/268)
فقالت: ليت ابن
مرنة وابنه * كانوا لقتلك واقية وبني أمية كلهم * لم تبق منهم باقية
جاء البريد بقتله * يا للكلاب العاوية يستفتحون برأسه * دارت عليهم
فانية فلابكين سريرة * ولابكين علانية ولابكينك ما حيي * - ت مع السباع
العادية وقيل إن أعشى همدان قدم على النعمان بن بشير وهو على حمص وهو
مريض، فقال له النعمان: ما أقدمك ؟ قال: لتصلني وتحفظ قرابتي وتقضي
ديني، فقال: والله ما عندي، ولكني سائلهم لك شيئا، ثم قام فصعد المنبر
ثم قال: يا أهل حمص، إن هذا ابن عمكم من العراق، وهو مسترفدكم شيئا فما
ترون ؟ فقالوا: احتكم في أموالنا، فأبى عليهم، فقالوا: قد حكمنا من
أموالنا كل رجل دينارين - وكانوا في الديوان عشرين ألف رجل - فعجلها له
النعمان من بيت المال أربعين ألف دينار، فلما خرجت أعطياتهم أسقط من
عطاء كل رجل منهم دينارين.
ومن كلام النعمان بن بشير رضي الله عنه قوله: إن الهلكة كل الهلكة أن
تعمل السيئات في زمان البلاء.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو اليمان، ثنا إسماعيل بن عياش، عن أبي
رواحة: يزيد بن أيهم عن الهيثم بن مالك الطائي سمعت النعمان بن بشير
على المنبر يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن للشيطان
مصالي وفخوخا، وإن من مصاليه وفخوخه البطر بنعم الله، والفخر بعطاء
الله، والكبر على عباد الله، واتباع الهوى في غير ذات الله ".
ومن أحاديثه الحسان الصحاح ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: " إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات لا
يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن
وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع
فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله تعالى محارمه، ألا وإن في
الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر
الجسد، ألا وهي القلب " (2).
رواه البخاري ومسلم.
وقال أبو مسهر: كان النعمان بن بشير على حمص عاملا لابن الزبير، فلما
تملك مروان خرج النعمان هاربا فاتبعه خالد بن خلي الكلاعي فقتله.
قال أبو عبيدة وغير واحد: في هذه السنة.
__________
(1) رواه البخاري في الايمان (39).
والبيوع (2) ومسلم في المساقاة ح (107) و (108) وأبو داود في البيوع
(3) باب.
وابن ماجه في الفتن (14) باب.
وأحمد في مسنده 4 / 267، 269، 271، 275.
(*)
(8/269)
وقد روى محمد
بن سعد بأسانيده أن معاوية تزوج امرأة جميلة جدا فبعث إحدى امرأتيه -
قيسون (1) أو فاختة - لتنظر إليها، فلما رأتها أعجبتها جدا، ثم رجعت
إليه فقال: كيف رأيتيها ؟ قالت: بديعة الجمال، غير أني رأيت تحت سرتها
خالا أسود، وإني أحسب أن زوجها يقتل ويلقى رأسه في حجرها.
فطلقها معاوية وتزوجها النعمان بن بشير، فلما قتل أتي برأسه فألقي في
حجرها سنة
خمس وستين، وقال سليمان بن زير قتل بسلمية سنة ست وخمسين.
وقال غيره: سنة خمس وستين، وقيل سنة ستين والصحيح ما ذكرناه.
وفيها توفي المسور بن مخرمة بن
نوفل، صحابي صغير، أصابه حجر المنجنيق مع ابن الزبير بمكة وهو قائم
يصلي في الحجر.
وهو من أعيان من قتل في حصار مكة وهو المسور بن مخرمة بن نوفل أبو عبد
الرحمن الزهري، أمه عاتكة أخت عبد الرحمن بن عوف، له صحبة ورواية، ووفد
على معاوية، وكان ممن يلزم عمر بن الخطاب، وقيل إنه كان ممن يصوم
الدهر، وإذا قدم مكة طاف لكل يوم غاب عنها سبعا، وصلى ركعتين، وقيل إنه
وجد يوم القادسية إبريق ذهب مرصع بالياقوت فلم يدر ما هو، فلقيه رجل من
الفرس فقال له: بعنيه بعشرة آلاف، فعلم أنه شئ له قيمة، فبعث به إلى
سعد بن أبي وقاص فنفله إياه.
فباعه بمائة ألف.
ولما توفي معاوية قدم مكة فأصابه حجر المنجنيق مع ابن الزبير لما رموا
به الكعبة، فمات من بعد خمسة أيام، وغسله عبد الله بن الزبير، وحمله في
جملة من حمل إلى الحجون، وكانوا يطأون به القتلى، ويمشون به بين أهل
الشام، واحتكر المسور بن مخرمة طعاما في زمن عمر بن الخطاب، فرأى سحابا
فكرهه، فلما أصبح عدا إلى السوق فقال: من جاءني أعطيته، فقال عمر:
أجننت يا أبا مخرمة ؟ فقال: لا والله يا أمير المؤمنين، ولكني رأيت
سحابا فكرهت ما فيه الناس فكرهت أن أربح فيه شيئا، فقال له عمر: جزاك
الله خيرا.
ولد المسور بمكة بعد الهجرة بسنتين.
المنذر بن الزبير بن العوام ولد في خلافة عمر بن الخطاب، وأمه أسماء
بنت أبي بكر الصديق، وقد غزا المنذر القسطنطينية مع يزيد بن معاوية،
ووفد على معاوية فأجازه بمائة ألف، وأقطعه أرضا، فمات معاوية قبل أن
يقبض المال.
وكان المنذر بن الزبير وعثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام يقاتلون أهل
الشام بالنهار.
ويطعمانهم بالليل.
قتل المنذر بمكة في حصارها مع أخيه، ولما مات معاوية أوصى إلى المنذر
أن ينزل في قبره.
مصعب بن عبد الرحمن بن عوف
كان شابا دينا فاضلا.
قتل مصعب أيضا في حصار مكة مع ابن الزبير.
__________
(1) المشهور أنها ميسون.
(*)
(8/270)
وممن قتل في
وقعة الحرة محمد بن أبي بن كعب، وعبد الرحمن بن أبي قتادة، وأبو حكيم
معاذ بن الحارث الانصاري الذي أقامه عمر يصلي بالناس، وقتل يومئذ ولدان
لزينب بنت أم سلمة، وزيد بن محمد بن سلمة الانصاري قتل يومئذ، وقتل معه
سبعة من إخوته وغير هؤلاء رحمهم الله ورضي عنهم أجمعين.
وفيها توفي الاخنس بن شريق، شهد فتح
مكة وكان مع علي يوم صفين.
وفي هذه السنة - أعني سنة أربع وستين - جرت حروب كثيرة وفتن منتشرة
ببلاد المشرق واستحوذ على بلاد خراسان رجل يقال له عبد الله بن خازم،
وقهر عمالها وأخرجهم منها، وذلك بعد موت يزيد وابنه معاوية، قبل أن
يستقر مالك ابن الزبير على تلك النواحي، وجرت بين عبد الله بن خازم هذا
وبين عمرو بن مرثد حروب يطول ذكرها وتفصيلها، اكتفينا بذكرها إجمالا إذ
لا يتعلق بذكرها كبير فائدة، وهي حروب فتنة وقتال بغاة بعضهم في بعض،
والله المستعان.
وقال الواقدي: وفي هذه السنة بعد موت معاوية بن يزيد بايع أهل خراسان
سلم بن زياد بن أبيه، وأحبوه حتى أنهم سموا باسمه في تلك السنة أكثر من
ألف غلام مولود، ثم نكثوا واختلفوا فخرج عنهم سلم وترك عليهم المهلب بن
أبي صفرة.
وفيها اجتمع ملا الشيعة على سليمان بن صرد بالكوفة، وتواعدوا النخيلة
ليأخذوا بثأر الحسين بن علي بن أبي طالب، وما زالوا في ذلك مجدين،
وعليه عازمين، من مقتل الحسين بكربلاء من يوم عاشوراء عشرة المحرم سنة
إحدى وستين، وقد ندموا على ما كان منهم من بعثهم إليه، فلما أتاهم
خذلوه وتخلوا عنه ولم ينصروه * فجادت بوصل حين لا ينفع الوصل *
فاجتمعوا في دار سليمان بن صرد وهو صحابي جليل، وكان رؤس القائمين في
ذلك خمسة، سليمان بن صرد الصحابي، والمسيب بن نجبة الفزاري أحد كبار
أصحاب علي، وعبد الله بن سعد بن نفيل
الازدي، وعبد الله بن وال التيمي، ورفاعة بن شداد البجلي.
وكلهم من أصحاب علي رضي الله عنه، فاجتمعوا كلهم بعد خطب ومواعظ على
تأمير سليمان بن صرد عليهم، فتعاهدوا وتعاقدوا وتواعدوا النخيلة، وأن
يجتمع من يستجيب لهم إلى ذلك الموضع بها في سنة خمس وستين، ثم جمعوا من
أموالهم وأسلحتهم شيئا كثيرا وأعدوه لذلك.
وقام المسيب بن نجية خطيبا فيهم، فحمد الله وأثنى عليه وقال: أما بعد
فقد ابتلينا بطول العمر وكثرة الفتن، وقد ابتلانا الله فوجدنا كاذبين
في نصرة ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن كتبنا إليه
وراسلناه، فأتانا طمعا في نصرتنا إياه، فخذلناه وأخلفناه، وأتينا به
إلى من قتله وقتل أولاده وذريته وقراباته الاخيار، فما نصرناهم
بأيدينا، ولا خذلنا (1) عنهم بألسنتنا، ولا قويناهم بأموالنا، فالويل
لنا جميعا ويلا متصلا أبدا لا
__________
(1) في الطبري 7 / 48 والكامل 4 / 159: ولا جادلنا، وفي ابن الاعثم 6 /
49: ولا دفعنا.
(*)
(8/271)
يفتر ولا يبيد
دون أن نقتل قاتله والممالئين عليه، أو نقتل دون ذلك وتذهب أموالنا
وتخرب ديارنا، أيها الناس قوموا في ذلك قومة رجل واحد، وتوبوا إلى
بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم.
وذكر كلاما طويلا.
ثم كتبوا إلى جميع إخوانهم أن يجتمعوا بالنخيلة في السنة الآتية (1).
وكتب سليمان بن صرد إلى سعد بن حذيفة بن اليمان وهو أمير على المدائن
يدعوه إلى ذلك فاستجاب له ودعا إليه سعد من أطاعه من أهل المدائن،
فبادروا إليه بالاستجابة والقبول، وتمالاوا عليه وتواعدوا النخيلة في
التاريخ المذكور.
وكتب سعد بن حذيفة إلى سليمان بن صرد بذلك ففرح أهل الكوفة من موافقة
أهل المدائن لهم على ذلك، وتنشطوا لامرهم الذي تمالاوا عليه.
فلما مات يزيد بن معاوية وابنه معاوية بعد قليل، طمعوا في الامر،
واعتقدوا أن أهل الشام قد ضعفوا، ولم يبق من يقيم لهم أمرا، فاستشاروا
سليمان في الظهور وأن يخرجوا إلى النخيلة قبل الميقات، فنهاهم عن ذلك
وقال: لا ! حتى يأتي الاجل الذي واعدنا إخواننا فيه، ثم هم في الباطن
يعدون السلاح والقوة ولا يشعر بهم جمهور الناس، وحينئذ عمد جمهور أهل
الكوفة إلى عمرو بن حريث نائب عبيد الله بن زياد على الكوفة فأخرجوه من
القصر، واصطلحوا على عامر بن
مسعود بن أمية بن خلف الملقب دحروجة (2)، فبايع لعبد الله بن الزبير،
فهو يسد الامور حتى تأتي نواب ابن الزبير.
فلما كان يوم الجمعة لثمان بقين من رمضان من هذه السنة - أعني سنة أربع
وستين - قدم أميران إلى الكوفة من جهة ابن الزبير، أحدهما عبد الله بن
يزيد الخطمي، على الحرب والثغر، والآخر إبراهيم بن محمد بن طلحة بن
عبيد الله (3) التيمي، على الخراج والاموال.
وقد كان قدم قبلهما بجمعة واحدة للنصف من هذا الشهر المختار بن أبي
عبيد - وهو المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب - فوجد الشيعة قد التفت
على سليمان بن صرد وعظموه تعظيما زائدا، وهم معدون للحرب.
فلما استقر المختار عندهم بالكوفة دعا إلى إمامة المهدي محمد بن علي بن
أبي طالب، وهو محمد بن الحنفية في الباطن، ولقبه المهدي، فاتبعه على
ذلك كثير من الشيعة وفارقوا سليمان بن صرد، وصارت الشيعة فرقتين،
الجمهور منهم مع سليمان يريدون الخروج على الناس ليأخذوا بثأر الحسين،
وفرقة أخرى مع المختار يريدون الخروج للدعوة إلى إمامة محمد بن
الحنفية، وذلك عن غير أمر ابن الحنفية ورضاه، وإنما يتقولون عليه
ليروجوا على الناس به، وليتوصلوا إلى أغراضهم الفاسدة، وجاءت العين (4)
الصافية إلى عبد الله بن يزيد الخطمي نائب ابن الزبير بما تمالا عليه
فرقتا الشيعة على اختلافهما من الخروج على الناس والدعوة إلى ما
يريدون، وأشار من
__________
(1) في ابن الاعثم 6 / 52 والطبري 7 / 50: غرة ربيع الآخر سنة 65 ه.
(2) في ابن الاعثم 6 / 53 والطبري 7 / 52: دحروجة الجعل.
(3) في ابن الاعثم: عبد الله.
(4) في الطبري 7 / 55 وابن الاعثم 6 / 57: يزيد بن الحارث بن رويم وهو
من شيعة بني أمية.
(*)
(8/272)
أشار عليه بأن
يبادر إليهم ويحتاط عليهم ويبعث الشرط والمقاتلة فيقمعهم عما هم مجمعون
عليه من إرادة الشر والفتنة.
فقام خطيبا في الناس وذكر في خطبته ما بلغه عن هؤلاء القوم، وما أجمعوا
عليه من الامر، وأن منهم من يريد الاخذ بثأر الحسين، ولقد علموا أنني
لست ممن قتله، وإني والله لممن أصيب بقتله وكره قتله، فرحمه الله ولعن
قاتله، وإني لا أتعرض لاحد قبل أن يبدأني
بالشر، وإن كان هؤلاء يريدون الاخذ بثأر الحسين فليعمدوا إلى ابن زياد
فإنه هو الذي قتل الحسين وخيار أهله فليأخذوا منه بالثأر، ولا يخرجوا
بسلاحهم على أهل بلدهم، فيكون فيه حتفهم واستئصالهم.
فقام إبراهيم بن محمد بن طلحة الامير الآخر فقال: أيها الناس لا يغرنكم
من أنفسكم كلام هذا المداهن، إنا والله قد استيقنا من أنفسنا أن قوما
يريدون الخروج علينا، ولنأخذن الوالد بالولد والولد بالوالد، والحميم
بالحميم، والعريف بما في عرافته، حتى تدينوا بالحق وتذلوا للطاعة.
فوثب إليه المسيب بن نجبة الفزاري فقطع كلامه فقال: يا بن الناكثين
أتهددنا بسيفك وغشمك ؟ أنت والله أذل من ذلك، إنا لا نلومك على بغضنا
وقد قتلنا أباك وجدك، وإنا لنرجوا أن نلحقك بهما قبل أن تخرج من هذا
القصر.
وساعد المسيب بن نجية من أصحاب إبراهيم بن محمد بن طلحة جماعة من
العمال، وجرت فتنة وشئ كبير في المسجد، فنزل عبد الله بن يزيد الخطمي
عن المنبر وحاولوا أن يوفقوا بين الاميرين فلم يتفق لهم ذلك، ثم ظهرت
الشيعة أصحاب سليمان بن صرد بالسلاح، وأظهروا ما كان في أنفسهم من
الخروج على الناس، وركبوا مع سليمان بن صرد فقصدوا نحو الجزيرة، وكان
من أمرهما ما سنذكره.
وأما المختار بن عبيد الثقفي الكذاب فإنه قد كان بغيضا إلى الشيعة من
يوم طعن الحسين وهو ذاهب إلى الشام بأهل العراق، فلجأ إلى المدائن،
فأشار المختار على عمه وهو نائب المدائن بأن يقبض على الحسين ويبعثه
إلى معاوية فيتخذ بذلك عنده اليد البيضاء، فامتنع عمر المختار من ذلك،
فأبغضته الشيعة بسبب ذلك، فلما كان من أمر مسلم بن عقيل ما كان وقتله
ابن زياد، كان المختار يومئذ بالكوفة فبلغ ابن زياد أنه يقول: لاقومن
بنصرة مسلم ولآخذن بثأره، فأحضره بين يديه وضرب عينه بقضيب كان بيده
فشترها، وأمر بسجنه، فلما بلغ أخته سجنه بكت وجزعت عليه، وكانت تحت عبد
الله بن عمر بن الخطاب، فكتب ابن عمر إلى يزيد بن معاوية يشفع عنده في
إخراج المختار من السجن، فبعث يزيد إلى ابن زياد: أن ساعة وقوفك على
هذا الكتاب تخرج المختار بن عبيد من السجن، فلم يمكن ابن زياد غير ذلك،
فأخرجه وقال له: إن وجدتك بعد ثلاثة أيام بالكوفة ضربت عنقك.
فخرج المختار إلى الحجاز وهو يقول: والله
لاقطعن أنامل عبيد الله بن زياد، ولاقتلن بالحسين بن علي على عدد من
قتل بدم يحيى بن زكريا.
فلما استفحل أمر عبد الله بن الزبير بايعه المختار بن عبيد، وكان من
كبار الامراء عنده، ولما حاصره الحصين بن نمير مع أهل الشام قاتل
المختار دون ابن الزبير أشد القتال، فلما بلغه موت يزيد بن
(8/273)
معاوية واضطراب
أهل العراق، نقم على ابن الزبير في بعض الامر (1) وخرج من الحجاز فقصد
الكوفة فدخلها في يوم الجمعة والناس يتهيئون للصلاة، فجعل لا يمر بملا
إلا سلم عليه وقال: أبشروا بالنصر.
ودخل المسجد فصلى إلى سارية هنالك حتى أقيمت الصلاة، ثم صلى من بعد
الصلاة حتى صليت العصر، ثم انصرف فسلم عليه الناس وأقبلوا إليه وعليه
وعظموه، وجعل يدعو إلى إمامة المهدي محمد بن الحنفية، ويظهر الانتصار
لاهل البيت، وأنه ما جاء إلا بصدد أن يقيم شعارهم، ويظهر منارهم،
ويستوفي ثأرهم، ويقول للناس الذين اجتمعوا على سليمان بن صرد من الشيعة
- وقد خشي أن يبادروا إلى الخروج مع سليمان - فجعل يخذلهم ويستميلهم
إليه ويقول لهم: إني قد جئتكم من قبل ولي الامر، ومعدن الفضل، ووصي
الرضى (2)، والامام المهدي، بأمر فيه الشفاء، وكشف الغطاء، وقتل
الاعداء، وتمام النعماء، وأن سليمان بن صرد يرحمنا الله وإياه إنما هو
غشمة من الغشم، وشن بال ليس بذي تجربة للامور، ولا له علم بالحروب،
إنما يريد أن يخرجكم فيقتل نفسه ويقتلكم، وإني إنما أعمل على مثل مثل
لي، وأمر قد بين لي، فيه عز وليكم، وقتل عدوكم، وشفاء صدوركم، فاسمعوا
مني وأطيعوا أمري، ثم أبشروا وتباشروا، فإني لكم بكل ما تأملون وتحبون
كفيل.
فالتف عليه خلق كثير من الشيعة، ولكن الجمهور منهم مع سليمان بن صرد،
فلما خرجوا مع سليمان إلى النخيلة (3) قال عمر بن سعد بن أبي وقاص وشبث
بن ربعي وغيرهما لعبد الله بن يزيد (4) نائب الكوفة: إن المختار بن أبي
عبيد أشد عليكم من سليمان بن صرد، فبعث إليه الشرط فأحاطوا بداره فأخذ
فذهب به إلى السجن مقيدا، وقيل بغير قيد، فأقام به مدة ومرض فيه.
قال أبو مخنف: فحدثني يحيى بن أبي عيسى أنه قال: دخلت إليه مع حميد بن
مسلم الازدي نعوده ونتعاهده.
فسمعته يقول: أما ورب
البحار، والنخيل والاشجار، والمهامه والقفار، والملائكة الابرار،
والمصلين (5) الاخيار، لاقتلن كل جبار، بكل لدن جثار خطار، ومهند بتار،
بجند من الاخيار، وجموع من الانصار، ليسوا بميل الاغمار، ولا بعزل
أشرار، حتى إذا أقمت عمود الدين، وجبرت صدع المسلمين، وشفيت غليل صدور
المؤمنين، وأدركت ثأر أولاد النبيين، لم أبك على زوال الدنيا، ولم أحفل
بالموت إذا دنا.
قال: وكان كلما أتيناه وهو في السجن يردد علينا هذا القول حتى خرج.
__________
(1) في تاريخ الطبري 7 / 63: نقم المختار على ابن الزبير لانه أقام معه
خمسة أشهر لا يستعمله وقال فيه ابن الزبير: والله لهو أحذر من ذئب قد
أطافت به السباع.
فنقم عليه المختار وخرج إلى الكوفة.
(الكامل لابن الاثير 4 / 171) وفي رواية لابن الاثير أن خروج المختار
إلى الكوفة كان بالاتفاق مع ابن الزبير لاقناع شيعة الكوفة بالقتال إلى
جانبه ضد أهل الشام.
(2) في الطبري: الوصي.
(3) في الطبري 7 / 65 والكامل 4 / 172: الجزيرة.
(4) من الطبري والكامل، وفي الاصل زياد تحريف، والمراد عبد الله بن
يزيد نائب ابن الزبير على الكوفة.
(5) في الطبري والكامل: والمصطفين.
(*)
(8/274)
ذكر هدم الكعبة وبنائها في أيام ابن الزبير
قال ابن جرير: وفي هذه السنة هدم ابن الزبير الكعبة، وذلك لانه مال
جدارها من رمي المنجنيق فهدم الجدار حتى وصل إلى أساس إبراهيم، وكان
الناس يطوفون ويصلون من وراء ذلك، وجعل الحجر الاسود في تابوت في سرق
من حرير، وادخر ما كان في الكعبة من حلي وثياب وطيب، عند الخزان حتى
أعاد ابن الزبير بناءها على ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد
أن يبنيها عليه من الشكل، وذلك كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من
المسانيد والسنن، من طرق عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: " لولا حدثان قومك بكفر لنقضت الكعبة ولادخلت فيها
الحجر، فإن قومك قصرت بهم النفقة، ولجعلت لها بابا شرقيا وبابا غربيا،
يدخل الناس من أحدهما ويخرجون
من الآخر، ولالصقت بابها بالارض فإن قومك رفعوا بابها ليدخلوا من شاؤوا
ويمنعوا من شاؤوا " (1).
فبناها ابن الزبير على ذلك كما أخبرته به خالته عائشة أم المؤمنين عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجزاه الله خيرا.
ثم لما غلبه الحجاج بن يوسف في سنة ثلاث وسبعين كما سيأتي، هدم الحائط
الشمالي وأخرج الحجر كما كان أولا، وأدخل الحجارة التي هدمها في جوف
الكعبة فرصها فيه، فارتفع الباب وسد الغربي، وتلك آثاره إلى الآن، وذلك
بأمر عبد الملك بن مروان في ذلك، ولم يكن بلغه الحديث، فلما بلغه
الحديث قال: وددنا أنا تركناه وما تولى من ذلك.
وقد هم ابن المنصور المهدي أن يعيدها على ما بناها ابن الزبير، واستشار
الامام مالك بن أنس في ذلك، فقال: إني أكره أن يتخذها الملوك لعبة، -
يعني يتلاعبون في بنائها بحسب آرائهم - فهذا يرى رأي ابن الزبير، وهذا
يرى رأي عبد الملك بن مروان، وهذا يرى رأيا آخر والله سبحانه وتعالى
أعلم.
قال ابن جرير: وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن الزبير وكان عامله
على المدينة أخوه عبيد الله (2)، وعلى الكوفة عبد الله بن يزيد الخطمي،
وعلى قضائها سعيد بن المرزبان (3)، وامتنع شريح أن يحكم في زمان
الفتنة، وعلى البصرة عمر بن معمر التيمي، وعلى قضائها هشام بن هبيرة،
وعلى خراسان عبد الله بن خازم، وكان في أواخر هذه السنة وقعة مرج راهط
كما قدمنا، وقد استقر ملك الشام لمروان بن الحكم، وذلك بعد ظفره
بالضحاك بن قيس وقتله له في الوقعة، وقيل إن فيها دخل مروان مصر وأخذها
من نائبها الذي من جهة ابن الزبير، وهو عبد الرحمن بن جحدر (4).
واستقرت يد مروان على الشام ومصر وأعمالها والله أعلم.
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) في الطبري 7 / 66 والكامل 4 / 174: عبيدة.
(3) في الطبري: سعد بن نمران، وفي الكامل: هشام بن هبيرة.
(4) تقدم: جحدم.
(*)
(8/275)
وقال الواقدي: لما أراد ابن الزبير هدم البيت شاور الناس في هدمها
فأشار عليه جابر بن عبد الله وعبيد بن عمير بذلك، وقال ابن عباس: أخشى
أن يأتي بعدك من يهدمها، فلا تزال تهدم حتى يتهاون الناس بحرمتها، ولكن
أرى أن تصلح ما يتهدم من بنيانها.
ثم إن ابن الزبير استخار الله ثلاثا أيام، ثم غدا في اليوم الرابع فبدأ
ينقض الركن إلى الاساس، فلما وصلوا إلى الاساس وجدوا أصلا بالحجر مشبكا
كأصابع اليدين، فدعا ابن الزبير خمسين رجلا فأمرهم أن يحفروا، فلما
ضربوا بالمعاول في تلك الاحجار المشبكة ارتجت مكة فتركه على حاله، ثم
أسس عليه البناء، وجعل للكعبة بابين موضعين بالارض، باب يدخل منه وباب
يخرج منه، ووضع الحجر الاسود بيده، وشده بفضة لانه كان قد تصدع، وزاد
في وسع الكعبة عشرة أذرع، ولطخ جدرانها بالمسك وسترها بالديباج، ثم
اعتمر من مساجد عائشة وطاف بالبيت وصلى وسعى، وأزال ما كان حول الكعبة
من الزبالة، وما كان حولها من الدماء، وكانت الكعبة قد وهت من أعلاها
إلى أسفلها من حجارة المنجنيق، واسود الركن وانصدع الحجر الاسود من
النار التي كانت حول الكعبة، وكان سبب تجديد الزبير لها ما ثبت في
الصحيحين من حديث عاشئة المتقدم ذكره والله أعلم. |