البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي

ثم دخلت سنة خمس وستين
فيها اجتمع إلى سليمان بن صرد نحو من سبعة عشر ألفا، كلهم يطلبون الاخذ بثأر الحسين ممن قتله، قال الواقدي: لما خرج الناس إلى النخيلة كانوا قليلا، فلم تعجب سليمان قلتهم، فأرسل حكيم بن منقذ (1) فنادى في الكوفة بأعلى صوته: يا ثارات الحسين، فلم يزل ينادي حتى بلغ المسجد الاعظم، فسمع الناس فخرجوا إلى النخيلة وخرج أشراف الكوفة فكانوا قريبا من عشرين ألفا أو يزيدون، في ديوان سليمان بن صرد، فلما عزم على المسير بهم لم يصف معه منهم سوى أربعة آلاف، فقال المسيب بن نجية لسليمان: إنه لا ينفعك الكاره، ولا يقاتل معك إلا من أخرجته النية، وباع نفسه لله عز وجل، فلا تنتظرن أحدا وامض لامرك في جهاد عدوك واستعن بالله عليهم.
فقام سليمان في أصحابه وقال: يا أيها الناس ! من كان إنما خرج لوجه الله وثواب الآخرة
فذلك منا ونحن منه، ومن كان خروجه معنا للدنيا فليس منا ولا يصحبنا.
فقال الباقون معه: ما للدنيا خرجنا، ولا لها طلبنا، فقيل له: أنسير إلى قتلة الحسين بالشام وقتلته عندنا بالكوفة كلهم مثل عمر بن سعد وغيره ؟ فقال سليمان: إن ابن زياد هو الذي جهز الجيش إليه وفعل به ما فعل، فإذا فرغنا منه عدنا إلى أعدائه بالكوفة، ولو قاتلتوهم أولا، وهم أهل مصركم ما عدم الرجل منكم أن يرى رجلا قد قتل أباه قد قتل أخاه أو حميمه، فيقع التخاذل، فإذا فرغتم من
__________
(1) في الطبري 7 / 66 زيد: والوليد بن غضين الكناني، وفي ابن الاعثم 6 / 58: ابن عصين وفي الكامل: ابن عصير.
(*)

(8/276)


الفاسق ابن زياد حصل لكم المراد.
فقالوا: صدقت.
فنادى فيهم: سيروا على اسم الله تعالى، فساروا عشية الجمعة لخمس مضين من ربيع الاول.
وقال في خطبته: من كان خرج منكم للدنيا ذهبها وزبرجدها فليس معنا مما يطلب شئ، وإنما معنا سيوف على عواتقنا، ورماح في أكفنا، وزاد يكفينا حتى نلقى عدونا.
فأجابوه إلى السمع والطاعة والحالة هذه، وقال لهم: عليكم بابن زياد الفاسق أولا، فليس له إلا السيف، وها هو قد أقبل من الشام قاصدا العراق.
فصمم الناس معه على هذا الرأي، فلما أزمعوا على ذلك بعث عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد أمراء الكوفة من جهة ابن الزبير، إلى سليمان بن صرد يقولان له: إنا نحب أن تكون أيدينا واحدة على ابن زياد: وأنهم يريدون أن يبعثوا معهم جيشا ليقويهم على ما هم قد قصدوا له، وبعثوا بريدا بذلك ينتظرهم حتى يقدموا عليه، فتهيأ سليمان بن صرد لقدومهم عليه في رؤس الامراء، وجلس في أبهته والجيوش محدقة به، وأقبل عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن طلحة في أشراف أهل الكوفة من غير قتلة الحسين، لئلا يطمعوا فيهم، وكان عمر بن سعد بن أبي وقاص في هذه الايام كلها لا يبيت إلا في قصر الامارة عند عبد الله بن يزيد خوفا على نفسه، فلما اجتمع الاميران عند سليمان بن صرد قالا له وأشارا عليه أن لا يذهبوا حتى تكون أيديهما واحدة على قتال ابن زياد، ويجهزوا معهم جيشا، فإن أهل الشام جمع
كثير وجم غفير، وهم يحاجفون عن ابن زياد، فامتنع سليمان من قبول قولهما وقال: إنا خرجنا لامر لا نرجع عنه ولا نتأخر فيه.
فانصرف الاميران راجعين إلى الكوفة، وانتظر سليمان بن صرد وأصحابه أصحابهم الذين كانوا قد واعدوهم من أهل البصرة وأهل المدائن فلم يقدموا عليهم ولا واحد منهم، فقام سليمان في أصحابه خطيبا وحرضهم على الذهاب لما خرجوا عليه، وقال: لو قد سمع إخوانكم بخروجكم للحقوكم سراعا.
فخرج سليمان وأصحابه من النخيلة يوم الجمعة لخمس مضين من ربيع الاول (1) سنة خمس وستين، فسار بهم مراحل (2)، ما يتقدمون مرحلة إلى نحو الشام إلا تخلف عنه طائفة من الناس الذين معه، فلما مروا بقبر الحسين صاحوا صيحة واحدة وتباكوا وباتوا عنده ليلة يصلون ويدعون، وظلوا يوما يترحمون عليه ويستغفرون له ويترضون عنه ويتمنون أن لو كانوا ماتوا معه شهداء - قلت: لو كان هذا العزم والاجتماع قبل وصول الحسين إلى تلك المنزلة، لكان أنفع له وأنصر من اجتماع سليمان وأصحابه لنصرته بعد أربع سنين - ولما أرادوا الانصراف جعل لا يريم أحد منهم حتى يأتي القبر فيترحم عليه ويستغفر له، حتى جعلوا يزدحمون أشد من ازدحامهم عند الحجر الاسود.
ثم ساروا قاصدين
__________
(1) في الطبري والكامل وابن الاعثم: ربيع الآخر.
(2) في الكامل 4 / 177 وصل دار الاهواز، وفي الطبري وابن الاعثم: نزل الاقساس، والاقساس: قرية بالكوفة أو كورة يقال لها اقساس مالك (معجم البلدان).
(*)

(8/277)


الشام، فلما اجتازوا بقرقيسيا تحصن منهم زفر بن الحارث، فبعث إليه سليمان بن صرد: إنا لم نأت لقتالكم فأخرج إلينا سوقا فإنا إنما نقيم عندكم يوما أو بعض يوم، فأمر زفر بن الحارث أن يخرج إليهم سوق، وأمر للرسول إليه وهو المسيب بن نجبة بفرس وألف درهم.
فقال: أما المال فلا.
وأما الفرس فنعم.
وبعث زفر بن الحارث إلى سليمان بن صرد ورؤس الامراء الذين معه إلى كل واحد عشرين جزورا وطعاما وعلفا كثيرا، ثم خرج زفر بن الحارث فشيعهم، وسار مع سليمان بن صرد وقال له: إنه قد بلغني أن أهل الشام قد جهزوا جيشا كثيفا وعددا كثيرا، مع
حصين بن نمير، وشرحبيل بن ذي الكلاع، وأدهم بن محرز الباهلي (1).
وربيعة بن مخارق الغنوي (2)، وجبلة بن عبد الله الخثعمي.
فقال سليمان بن صرد: على الله تولكنا وعلى الله فليتوكل المؤمنون.
ثم عرض عليهم زفر أن يدخلوا مدينته أو يكونوا عند بابها، فإن جاءهم أحد كان معهم عليه، فأبوا أن يقبلوا وقالوا: قد عرض علينا أهل بلدنا مثل ذلك فامتنعنا.
قال: فإذا أبيتم ذلك فبادروهم إلى عين الوردة، فيكون الماء والمدينة والاسواق والسباق خلف ظهوركم، وما بيننا وبينكم فأنتم آمنون منه، ثم أشار عليهم بما يعتمدونه في حال القتال فقال: ولا تقاتلوهم في فضاء فإنهم أكثر منكم عددا فيحيطون بكم، فإني لا أرى معكم رجالا والقوم ذووا رجال وفرسان، ومعهم كراديس فاحذروهم، فأثنى عليه سليمان بن صرد والناس خيرا، ثم رجع عنهم، وسار سليمان بن صرد فبادر إلى عين الوردة فنزل غربيها، وأقام هناك قبل وصول أعدائه إليه، واستراح سليمان وأصحابه واطمأنوا.
وقعة عين وردة فلما اقترب أهل الشام إليهم خطب سليمان أصحابه فرغبهم في الآخرة وزهدهم في الدنيا، وحثهم على الجهاد، وقال: إن قتلت فالامير عليكم المسيب بن نجبة، فإن قتل فعبد الله بن سعد بن نفيل، فإن قتل فعبد الله بن وال، فإن قتل فرفاعة بن شداد، ثم بعث بين يديه المسيب بن نجبة في خمسمائة (3) فارس، فأغاروا على جيش ابن ذي الكلاع وهم عارون، فقتلوا منهم جماعة وجرحوا آخرين، واستاقوا نعما، وأتى الخبر إلى عبيد الله بن زياد فأرسل بين يديه الحصين بن نمير في اثني عشر ألفا، فصبح سليمان بن صرد وجيشه واقفون في يوم الاربعاء لثمان بقين من جمادى الاولى، وحصين بن نمير قائم في اثني عشر ألفا، وقد تهيأ كل من الفريقين
__________
(1) في الطبري 7 / 73 زاد: وأبو مالك بن أدهم.
(2) في الكامل 4 / 180: وعبيد الله بن زياد، ولم يذكر ربيعة بن مخارق الغنوي.
وفي ابن الاعثم 6 / 80: أن عبيد الله بن زياد قد ترك الرقة...وقد وجه نحوكم بخمسة من قواده...وذكرهم وفيه: حملة بن عبد الله الخثعمي بدل جبلة.
(3) في الكامل 4 / 181: أربعمائة فارس.
(*)

(8/278)


لصاحبه، فدعا الشاميون أصحاب سليمان إلى الدخول في طاعة مروان بن الحكم (1)، ودعا أصحاب سليمان الشاميين إلى أن يسلموا إلى إليهم عبيد الله بن زياد فيقتلونه عن الحسين، وامتنع كل من الفريقين أن يجيب إلى ما دعا إليه الآخر، فاقتتلوا قتالا شديدا عامة يومهم إلى الليل، وكانت الدائرة فيه للعراقيين على الشاميين، فلما أصبحوا أصبح ابن ذي الكلاع وقد وصل إلى الشاميين في ثمانية عشر (2) ألف فارس، وقد أنبه وشتمه ابن زياد، فاقتتل الناس في هذا اليوم قتالا لم ير الشيب والمرد مثله قط، لا يحجز بينهم إلا أوقات الصلوات إلى الليل، فلما أصبح الناس من اليوم الثالث وصل إلى الشاميين أدهم بن محرز في عشرة آلاف، ذلك في يوم الجمعة، فاقتتلوا قتالا شديدا إلى حين ارتفاع الضحى، ثم استدار أهل الشام بأهل العراق وأحاطوا بهم من كل جانب، فخطب سليمان بن صرد الناس وحرضهم على الجهاد، فاقتتل الناس قتالا عظيما جدا، ثم ترجل سليمان بن صرد وكسر جفن سيفه ونادى يا عباد الله، من أراد الرواح، إلى الجنة والتوبة من ذنبه والوفاء بعهده فليأت إلي، فترجل معه ناس كثيرون وكسروا جفون سيوفهم، وحملوا حتى صاروا في وسط القوم.
وقتلوا من أهل الشام مقتلة عظيمة حتى خاضوا في الدماء، وقتل سليمان بن صرد أمير العراقيين، رماه رجل يقال له يزيد بن الحصين بسهم فوقع، ثم وثب ثم وقع ثم وثب ثم وقع، وهو يقول: فزت ورب الكعبة فأخذ الراية المسيب بن نجبة فقاتل بها قتالا شديدا وهو يقول: قد علمت ميالة الذوائب * واضحة اللبات والترائب أني غداة الروع والتغالب * أشجع من ذي لبدة مواثب * قصاع أقران مخوف الجانب * (3) ثم قاتل قتالا شديدا فقضى ابن نجبة نحبه، ولحق في ذلك الموقف صحبه رحمهم الله، فأخذ الراية عبد الله بن سعد بن نفيل فقاتل قتالا شديدا أيضا، وحمل حينئذ ربيعة بن مخارق على أهل
العراق حملة منكرة، وتبارز هو وعبد الله بن سعد بن نفيل، ثم اتحدا فحمل ابن أخي ربيعة على عبد الله بن سعد فقتله، ثم احتمل عمه، فأخذ الراية عبد الله بن وال، فحرض الناس على الجهاد وجعل يقول: الرواح إلى الجنة - وذلك بعد العصر - وحمل بالناس ففرق من كان حوله ثم
__________
(1) في الطبري 7 / 75 وابن الاعثم 6 / 82 والكامل 4 / 182: عبد الملك بن مروان.
والصواب مروان بن الحكم فوقعة عين الوردة كانت في جمادى الاولى، وكانت وفاة مروان على الارجح في رمضان سنة 65 ه، ولعل من قال عبد الملك يريد اعلان الطاعة والقبول بولاية عهد عبد الملك وقد كانت البيعة بولاية العهد قد أخذت له.
(2) في الطبري: ثمانية آلاف.
(3) ذكر ابن الاعثم 6 / 83 شعر المسيب قال: لقد منيتم يا أخي جلادي * بيت المقام مقفص الاعادي ليس بفرار ولا حياد * أشجع من ليث عرين عادي (*)

(8/279)


قتل - وكان من الفقهاء المفتيين - قتله أدهم بن محرز الباهلي أمير حرب الشاميين ساعتئذ، فأخذ الراية رفاعة بن شداد فانحاز بالناس وقد دخل الظلام، ورجع الشاميون إلى رحالهم، وانشمر رفاعية بمن بقي معه راجعا إلى بلاده، فلما أصبح الشاميون إذا العراقيون قد كروا راجعين إلى بلادهم، فلم يبعثوا وراءهم طلبا ولا أحدا لما لقوا منهم من القتل والجراح، فلما وصلوا إلى هيت إذا سعد بن حذيفة بن اليمان قد أقبل بمن معه من أهل المدائن، قاصدين إلى نصرتهم (1)، فلما أخبروه بما كان من أمرهم وما حل بهم، ونعوا إليه أصحابهم ترحموا عليهم واستغفروا لهم وتباكوا على إخوانهم، وانصرف أهل المدائن إليها، ورجع راجعة أهل الكوفة إليها، وقد قتل منهم خلق كثير وجم غفير، وإذا المختار بن أبي عبيد كما هو في السجن لم يخرج منه (2)، فكتب إلى رفاعة بن شداد يعزيه فيمن قتل منهم ويترحم عليهم ويغبطهم بما نالوا من الشهادة، وجزيل الثواب ويقول: مرحبا بالذين أعظم الله أجورهم ورضي عنهم، والله ما خطا منهم أحد خطوة إلا كان ثواب الله له فيها أعظم من الدنيا وما فيها، وإن سليمان قد قضى ما عليه وتوفاه الله وجعل روحه
في أرواح النبيين والشهداء والصالحين، وبعد فأنا الامير المأمون، قاتل الجبارين والمفسدين إن شاء الله، فأعدوا واستعدوا وأبشروا، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنة رسوله، والطلب بدماء أهل البيت.
وذكر كلاما كثيرا في هذا المعنى.
وقد كان قبل قدومهم أخبر الناس بهلاكهم عن ربه الذي كان يأتي إليه من الشياطين، فإنه قد كان يأتي إليه شيطان فيوحي إليه قريبا مما كان يوحي شيطان مسيلمة إليه، وكان جيش سليمان بن صرد وأصحابه يسمى بجيش التوابين رحمهم الله، وقد كان سليمان بن صرد الخزرجي صحابيا جليلا نبيلا عابدا زاهدا، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في الصحيحين وغيرهما، وشهد مع علي صفين، وكان أحد من كان يجتمع الشيعة في داره لبيعة الحسين، وكتب إلى الحسين فيمن كتب بالقدوم إلى العراق، فلما قدمها تخلوا عنه وقتل بكربلاء بعد ذلك، ورأى هؤلاء أنهم كانوا سببا في قدومه، وأنهم خذلوه حتى قتل هو وأهل بيته، فندموا، على ما فعلوا معه، ثم اجتمعوا في هذا الجيش وسموا جيشهم جيش التوابين، وسموا أميرهم سليمان بن صرد أمير التوابين، فقتل سليمان رضي الله عنه في هذه الوقعة بعين وردة سنة خمس وستين، وقيل سنة سبع وستين، والاول أصح.
وكان عمره يوم قتل ثلاثا وتسعين سنة رحمه الله.
وحمل رأسه ورأس المسيب بن نجبة إلى مروان بن الحكم (3) بعد الوقعة، وكتب أمراء الشاميين إلى مروان بما فتح الله عليهم
__________
(1) في مروج الذهب 3 / 113 قال: " قيل لعبد الله بن سعد بن نفيل وهو في القتال: إن إخواننا قد لحقونا من البصرة والمدائن " قال وقد قاتلوا واستشهد منهم.
وفي ابن الاعثم 6 / 84 إشارة إلى وجود أهل المدائن في القتال وقد قاتلوا إلى جانب رفاعة بن شداد (وانظر الطبري 7 / 77).
(2) أما ابن الاعثم فقال أن المختار كان من جملة من خرج إليهم لاستقبالهم وتعزيتهم (6 / 86).
(3) في الطبري والكامل: عبد الملك بن مروان - وقد تقدم قريبا ملاحظة هذا الامر فليراجع.
(*)

(8/280)


وأظفرهم من عدوهم، فخطب الناس وأعلمهم بما كان من أمر الجنود ومن قتل من أهل العراق، وقد قال: أهلك الله رؤوس الضلال سليمان بن صرد وأصحابه، وعلق الرؤوس بدمشق، وكان
مروان بن الحكم قد عهد بالامر من بعده إلى ولديه عبد الملك ثم من بعده عبد العزيز: وأخذ بيعة الامراء على ذلك في هذه السنة، قاله ابن جرير وغيره.
وفيها دخل مروان بن الحكم وعمرو بن سعيد الاشدق إلى الديار المصرية فأخذاها من نائبها الذي كان لعبد الله بن الزبير، وهو عبد الرحمن بن جحدم، وكان سبب ذلك أن مروان قصدها فخرج إليه نائبها ابن جحدم فقابله مروان ليقاتله فاشتغل به، وخلص عمرو بن سعيد بطائفة من الجيش من وراء عبد الرحمن بن جحدم فدخل مصر فملكها، وهرب عبد الرحمن ودخل مروان إلى مصر فملكها، وجعل عليها ولده عبد العزيز.
وفيها بعث ابن الزبير أخاه مصعبا ليفتح له الشام، فبعث إليه مروان عمرو بن سعيد فتلقاه إلى فلسطين فهرب منه مصعب بن الزبير وكر راجعا ولم يظفر بشئ.
واستقر ملك الشام ومصر لمروان.
وقال الواقدي: إن مروان حاصر مصر فخندق عبد الرحمن بن جحدم على البلد خندقا، وخرج في أهل مصر إلى قتاله، وكانوا يتناوبون القتال ويستريحون، ويسمى ذلك يوم التراويح، واستمر القتال في خواص أهل البلد فقتل منهم خلق كثير، وقتل يومئذ عبد الله بن يزيد بن معدي كرب الكلاعي أحد الاشراف.
ثم صالح عبد الرحمن مروان على أن يخرج إلى مكة بماله وأهله، فأجابه مروان إلى ذلك، وكتب إلى أهل مصر كتاب أمان بيده، وتفرق الناس وأخذوا في دفن موتاهم والبكاء عليهم، وضرب مروان عنق ثمانين رجلا تخلفوا عن مبايعته، وضرب عنق الاكيدر بن حملة اللخمي، وكان من قتلة عثمان، وذلك في نصف جمادى الآخر يوم توفي عبد الله بن عمرو بن العاص، فما قدروا أن يخرجوا بجنازته فدفنوه في داره واستولى مروان على مصر وأقام بها شهرا، ثم استعمل عليها ولده عبد العزيز، وترك عنده أخاه بشر بن مروان وموسى بن نصير وزيرا له، وأوصاه بالاحسان إلى الاكابر ورجع إلى الشام.
وفيها جهز مروان جيشين أحدهما مع حبيش بن دلجة العتيبي ليأخذ له المدينة، وكان من أمره ما سنذكره، والآخر مع عبيد الله بن زياد إلى العراق لينتزعه من نواب ابن الزبير، فلما كانوا ببعض الطريق لقوا جيش التوابين مع سليمان بن صرد وكان من أمرهم ما تقدم ذكره.
واستمر
جيش الشاميين ذاهبا إلى العراق، فلما كانوا بالجزيرة بلغهم موت مروان بن الحكم.
وكانت وفاته في شهر رمضان من هذه السنة، وكان سبب موته أنه تزوج بأم خالد امرأة يزيد بن معاوية، وهي أم هاشم بنت هاشم بن عتبة بن ربيعة، وإنما أراد مروان بتزويجه إياها

(8/281)


ليصغر ابنها خالدا في أعين الناس، فإنه قد كان في نفوس كثير من الناس منه (1) أن يملكوه بعد أخيه معاوية، فتزوج أمه ليصغر أمره، فبينما هو ذات يوم داخل إلى عند مروان، إذ جعل مروان يتكلم فيه عند جلسائه، فلما جلس قال له فيما خاطبه به: يا بن الرطبة الاست، فذهب خالد إلى أمه فأخبرها بما قال له، فقالت: اكتم ذلك ولا تعلمه أنك أعلمتني بذلك، فلما دخل عليها مروان قال لها: هل ذكرني خالد عندك بسوء ؟ فقالت له: وما عساه يقول لك وهو يحبك ويعظمك ؟ ثم إن مروان رقد عندها، فلما أخذه النوم عمدت إلى وسادة فوضعتها على وجهه وتحاملت عليها هي وجواريها حتى مات غما، وكان ذلك في ثالث شهر رمضان سنة خمس وستين بدمشق، وله من العمر ثلاث وستون سنة، وقيل إحدى وثمانون سنة، وكانت إمارته تسعة أشهر، وقيل عشرة أشهر إلا ثلاثة أيام.
ترجمة مروان بن الحكم
هو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن شمس بن عبد مناف القرشي الاموي، أبو عبد الملك ويقال أبو الحكم، ويقال أبو القاسم، وهو صحابي عند طائفة كثيرة لانه ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه في حديث صلح الحديبية، وفي رواية في صحيح البخاري عن مروان والمسور بن مخرمة عن جماعة من الصحابة الحديث بطوله، وروى مروان عن عمر وعثمان وكان كاتبه - أي كان كاتب عثمان - وعلي وزيد بن ثابت وبسيرة بنت صفوان الازدية وكانت حماته، وقال الحاكم أبو أحمد: كانت خالته، ولا منافاة بين كونها حماته وخالته.
وروى عنه ابنه عبد الملك وسهل بن سعد وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلي بن الحسين زين العابدين ومجاهد وغيرهم.
قال الواقدي ومحمد بن سعد: أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحفظ عنه شيئا، وكان عمره ثمان
سنين حين توفي النبي صلى الله عليه وسلم، وذكره ابن سعد في الطبقة الاولى من التابعين، وقد كان مروان من سادات قريش وفضلائها، روى ابن عساكر وغيره أن عمر بن الخطاب خطب امرأة إلى أمها فقالت: قد خطبها جرير بن عبد الله البجلي وهو سيد شباب المشرق، ومروان بن الحكم وهو سيد شباب قريش، وعبد الله بن عمر وهو من قد علمتم، فقالت المرأة: أجاد يا أمير المؤمنين ؟ قال: نعم.
قالت: قد زوجناك يا أمير المؤمنين.
وقد كان عثمان بن عفان يكرمه ويعظمه.
وكان كاتب الحكم بين يديه، ومن تحت رأسه جرت قضية الدار، وبسببه حصر عثمان بن عفان فيها.
وألح عليه أولئك أن يسلم مروان إليهم فامتنع عثمان أشد الامتناع، وقد قاتل مروان يوم الدار قتالا شديدا، وقتل بعض الخوارج، وكان على الميسرة يوم الجمل، ويقال إنه رمى طلحة بسهم في ركبته فقتله فالله أعلم.
__________
(1) كذا بالاصول، ولعل كلمة: منه زائدة.
(*)

(8/282)


وقال أبو الحكم: سمعت الشافعي يقول: كان علي يوم الجمل حين انهزم الناس يكثر السؤال عن مروان فقيل له في ذلك فقال: إنه يعطفني عليه رحم ماسة، وهو سيد من شباب قريش.
وقال ابن المبارك عن جرير بن حازم عن عبد الملك بن عمير عن قبيصة بن جابر أنه قال لمعاوية: من تركت لهذا الامر من بعدك ؟ فقال: أما القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، الشديد في حدود الله، مروان بن الحكم.
وقد استنابه على المدينة غير مرة، يعزله ثم يعيده إليها، وأقام للناس الحج في سنين متعددة، وقال حنبل عن الامام أحمد، قال: يقال كان عند مروان قضاء، وكان يتتبع قضايا عمر بن الخطاب.
وقال ابن وهب: سمعت مالكا يقول وذكر مروان يوما فقال قال مروان: قرأت كتاب الله منذ أربعين سنة ثم أصبحت فيما أنا فيه، من إهراق الدماء وهذا الشأن.
وقال إسماعيل بن عياش عن صفوان بن عمرة عن شريح بن عبيد وغيره.
قال: كان مروان إذا ذكر الاسلام قال: بنعمت ربي لا بما قدمت يدي * ولا بتراثي إنني كنت خاطئا
وقال الليث عن يزيد بن حبيب، عن سالم أبي النضر أنه قال: شهد مروان جنازة فلما صلى عليها انصرف، فقال أبو هريرة: أصاب قيراطا وحرم قيراطا، فأخبر بذلك مروان فأقبل يجري حتى بدت ركبتاه، فقعد حتى أذن له.
وروى المدائني عن إبراهيم بن محمد، عن جعفر بن محمد: أن مروان كان أسلف علي بن الحسين حتى يرجع إلى المدينة بعد مقتل أبيه الحسين ستة آلاف دينار، فلما حضرته الوفاء أوصى إلى ابنه عبد الملك أن لا يسترجع من علي بن الحسين شيئا، فبعث إليه عبد الملك بذلك فامتنع من قبولها، فألح عليه فقبلها.
وقال الشافعي: إنبأنا حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد عن أبيه: أن الحسن والحسين كانا يصليان خلف مروان ولا يعيدانها، ويعتدان بها.
وقد روى عبد الرزاق: عن الثوري، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: أول من قدم الخطبة على الصلاة يوم العيد مروان، فقال له رجل: خالفت السنة، فقال له مروان: إنه قد ترك ما هنالك، فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطيع فبلسانه، فإن لم يستطيع فبقلبه، وذلك أضعف الايمان " (1).
قالوا: ولما كان نائبا بالمدينة كان إذا وقعت معضلة جمع من عنده من الصحابة فاستشارهم فيها.
قالوا: وهو الذي جمع الصيعان فأخذ بأعدلها فنسب إليه الصاع، فقيل صاع مروان، وقال الزبير بن بكار: حدثنا إبراهيم بن حمزة حدثني ابن أبي علي اللهبي عن إسماعيل بن أبي سعيد عن أبيه.
قال: خرج أبو هريرة من عند مروان فلقيه قوم قد خرجوا من عنده فقالوا له: يا أبا هريرة، إنه أشهدنا الآن على مائة
__________
(1) أخرجه أبو داود في الصلاة (242) باب وفي الملاحم (17) وابن ماجه في الاقامة (155) وفي الفتن (20) والامام أحمد في المسند 3 / 10، 52.
(*)

(8/283)


رقبة أعتقها الساعة، قال: فغمز أبو هريرة يدي وقال: يا أبا سعيد، بك من كسب طيب خير من مائة رقبة.
قال الزبير: البك الواحد.
وقال الامام أحمد: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا جرير، عن الاعمش، عن عطية، عن
أبي سعيد.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا بلغ بنو أبي فلان ثلاثين رجلا اتخذوا مال الله دولا، ودين الله دخلا، وعباد الله خولا " (1).
ورواه أبو يعلى عن زكريا بن زحمويه عن صالح بن عمر عن مطرف عن عطية عن أبي سعيد.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا بلغ بنو الحكم ثلاثين رجلا اتخذوا دين الله دخلا، وعباد الله خولا، ومال الله دولا ".
وقد رواه الطبراني عن أحمد بن عبد الوهاب عن أبي المغيرة عن أبي بكر بن أبي مريم عن راشد بن سعد عن أبي ذر.
قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا بلغ بنو أمية أربعين رجلا ".
وذكره، وهذا منقطع، ورواه العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة من قوله: " إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا " فذكره، ورواه البيهقي وغيره من حديث ابن لهيعة عن أبي قبيل عن ابن وهب، عن معاوية، وعبد الله بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا بلغ بنو الحكم ثلاثين اتخذوا مال الله بينهم دولا، وعباد الله خولا، وكتاب الله دغلا، فإذا بلغوا ستة (2) وتسعين وأربعمائة كان هلاكهم أسرع من لوك تمرة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عبد الملك بن مروان فقال أبو الجبابرة الاربعة ".
وهذه الطرق كلها ضعيفة.
وروى أبو يعلى وغيره من غير وجه عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أن بني الحكم يرقون على منبره وينزلون، فأصبح كالمتغيظ، وقال: رأيت بني الحكم ينزون على منبري نزو القردة، فما رئي رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعا ضاحكا بعد ذلك حتى مات " (3) ورواه الثوري عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب مرسلا وفيه " فأوحى الله إليه إنما هي دنيا أعطوها ".
فقرت عينه وهي قوله: * (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) * [ الاسراء: 60 ] يعني بلاء للناس واختبارا، وهذا مرسل وسنده إلى سعيد ضعيف.
وقد ورد في هذا المعنى أحاديث كثيرة موضوعة، فلهذا أضربنا صفحا عن إيرادها لعدم صحتها.
وقد كان أبوه الحكم من أكبر أعداء النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أسلم يوم الفتح، وقدم الحكم المدينة ثم طرده النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، ومات بها، ومروان كان أكبر الاسباب في حصار عثمان لانه زور على لسانه كتابا إلى مصر بقتل أولئك الوفد، ولما كان متوليا على المدينة لمعاوية كان يسب عليا كل جمعة على المنبر، وقال له الحسن بن علي: لقد لعن الله أباك الحكم وأنت في صلبه على لسان نبيه
__________
(1) مسند الامام أحمد 3 / 80.
(2) في دلائل البيهقي 6 / 508: تسعة.
- الدغل: دخل في الامر مفسد، والدول: العقبة في المال.
(3) رواه البيهقي في الدلائل 6 / 509 و 511.
(*)

(8/284)


فقال: لعن الله الحكم وما ولد والله أعلم (1).
وقد تقدم أن حسان بن مالك لما قدم عليه مروان أرض الجابية، أعجبه إتيانه إليه، فبايع له وبايع أهل الاردن على أنه إذا انتظم له الامر نزل عن الامرة لخالد بن يزيد، ويكون لمروان إمرة حمص، ولعمرو بن سعيد نيابة دمشق، وكانت البيعة لمروان يوم الاثنين للنصف من ذي القعدة سنة أربع وستين، قاله الليث بن سعد وغيره، وقال الليث: وكانت وقعة مرج راهط في ذي الحجة من هذه السنة بعد عيد النحر بيومين، قالوا: فغلب الضحاك بن قيس واستوثق له ملك الشام ومصر، فلما استقر ملكه في هذه البلاد بايع من بعده لولده عبد الملك، ثم من بعده لولده عبد العزيز - والد عمر بن عبد العزيز - وترك البيعة لخالد بن يزيد بن معاوية، لانه كان لا يراه أهلا للخلافة، ووافقه على ذلك مالك بن حسان، وإن كان خالا لخالد بن يزيد، وهو الذي قام بأعباء بيعة عبد الملك، ثم إن أم خلد دبرت أمر مروان فسمته ويقال: بل وضعت على وجهه وهو نائم وسادة فمات مخنوقا ثم إنها أعلنت الصراخ هي وجواريها وصحن: مات أمير المؤمنين فجأة.
ثم قام من بعده ولده عبد الملك بن مروان كما سنذكره.
وقال عبد الله بن أبي مذعور: حدثني بعض أهل العلم قال: كان آخر ما تكلم به مروان: وجبت الجنة لمن خاف النار، وكان نقش خاتمه العزة لله.
وقال الاصمعي: حدثنا عدي بن أبي عمار، عن أبيه، عن حرب بن زياد قال: كان نقش خاتم مروان آمنت بالعزيز الرحيم.
وكانت وفاته بدمشق عن إحدى وقيل ثلاث وستين سنة، وقال أبو معشر: كان عمره يوم توفي إحدى وثمانين سنة، وقال خليفة: حدثني الوليد بن هشام عن أبيه عن جده قال: مات
مروان بدمشق لثلاث خلون من شهر رمضان سنة خمس وستين، وهو ابن ثلاث وستين، وصلى عليه ابنه عبد الملك، وكانت ولايته تسعة أشهر وثمانية عشر يوما، وقال غيره: عشرة أشهر.
وقال ابن أبي الدنيا وغيره: كان قصيرا أحمر الوجه أوقص دقيق العنق كبير الرأس واللحية، وكان يلقب خيط باطل، قال ابن عساكر: وذكر سعيد بن كثير بن عفير أن مروان مات حين انصرف من مصر بالصنبرة ويقال بلد، وقد قيل إنه مات بدمشق ودفن بين باب الجابية وباب الصغير.
وكان كاتبه عبيد بن أوس، وحاجبه المنهال مولاه، وقاضيه أبو إدريس الخولاني، وصاحب شرطته يحيى بن قيس الغساني، وكان له من الولد عبد الملك، وعبد العزيز، ومعاوية، وغير هؤلاء، وكان له عدة بنات من أمهات شتى (2).
__________
(1) رواه البيهقي في الدلائل من طريق عمرو بن مرة 6 / 512.
(2) في المعارف لابن قتيبة ص 154: فولد مروان: عبد الملك ومعاوية وعبيد الله وعبد الله وأبان وداود وعبد العزيز وعبد الرحمن وعمر وبشر ومحمد (ومن البنات) أم عمر وأم عثمان وأم عمرو.
(*)

(8/285)


خلافة عبد الملك بن مروان
بويع له بالخلافة في حياة أبيه، فلما مات أبوه في ثالث رمضان منها جددت له البيعة بدمشق ومصر وأعمالهما، فاستقرت يده على ما كانت يد أبيه عليه، وقد كان أبوه قبل وفاته بعث بعثين أحدهما مع عبيد الله بن زياد إلى العراق لينتزعها من نواب ابن الزبير، فلقي في طريقه جيش التوابين مع سليمان بن صرد عند عين الوردة، فكان من أمرهم ما تقدم، من ظفره بهم، وقتله أميرهم وأكثرهم.
والبعث الآخر مع حبيش بن دلجة إلى المدينة ليرتجعها من نائب ابن الزبير، فسأر نحوها، فلما انتهى إليها هرب نائبها جابر بن الاسود بن عوف، وهو ابن أخي عبد الرحمن بن عوف، فجهز نائب البصرة من قبل ابن الزبير وهو الحارث بن عبد الله بن ربيعة، جيشا من البصرة إلى ابن دلجة بالمدينة، فلما سمع بهم حبيش بن دلجة سار إليهم.
وبعث ابن الزبير عباس (1) بن سهل بن سعد نائبا عن المدينة، وأمره أن يسير في طلب حبيش، فسار في
طلبهم حتى لحقهم بالربذة فرمى يزيد بن سياه (2) حبيشا بسهم فقتله، وقتل بعض أصحابه وهزم الباقون، وتحصن منهم خمسمائة في المدينة ثم نزلوا على حكم عباس بن سهل فقتلهم صبرا، ورجع فلهم إلى الشام.
قال ابن جرير: ولما دخل يزيد بن سياه الاسواري قاتل حبيش بن دلجة إلى المدينة مع عباس بن سهل كان عليه ثياب بياض وهو راكب برذونا أشهب، فما لبث أن اسودت ثيابه ودابته مما يتمسح الناس به ومن كثرة ما صبوا عليه من الطيب والمسك.
وقال ابن جرير: وفي هذه السنة اشتدت شوكة الخوارج بالبصرة، وفيها قتل نافع بن الازرق وهو رأس الخوارج ورأس أهل البصرة، مسلم بن عبيس فارس أهل البصرة، ثم قتله ربيعة السلوطي وقتل بينهما نحو خمسة أمراء، وقتل في وقعة الخوارج قرة بن إياس المزني أبو معاوية، وهو من الصحابة.
ولما قتل نافع بن الازرق رأست الخوارج عليهم عبيد الله بن ماحوز (3)، فسار بهم إلى المدائن فقتلوا أهلها ثم غلبوا على الاهواز وغيرها، وجبوا الاموال وأتتهم الامداد من اليمامة والبحرين، ثم ساروا إلى أصفهان وعليها عتاب بن ورقاء الرياحي، فالتقاهم فهزمهم، ولما قتل أمير الخوارج ابن ماحوز كما سنذكر، أقاموا عليهم قطري بن الفجاءة أميرا.
__________
(1) في الطبري 7 / 84: عياش.
(2) في الكامل 4 / 191: يزيد بن سنان، وفي الطبري: جاءه سهم غرب فقتله، وعنده في رواية أخرى عن علي بن محمد: قتله يزيد بن سياه.
(3) من الكامل 4 / 195 والطبري 7 / 86: وفي الاصل: ماجور وفي الاخبار الطوال: ماحور.
وقد صحح في كل المواضع.
(*)

(8/286)


ثم أورد ابن جرير قصة قتالهم مع أهل البصرة بمكان يقال له دولاب (1)، وكانت الدولة للخوارج على أهل البصرة، وخاف أهل البصرة من الخوارج أن يدخلوا البصرة، فبعث ابن الزبير فعزل نائبها عبد الله بن الحارث المعروف بببة، بالحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المعروف بالقباع،
وأرسل ابن الزبير المهلب بن أبي صفرة الازدي على عمل خراسان، فلما وصل إلى البصرة قالوا له: إن قتال الخوارج لا يصلح إلا لك، فقال: إن أمير المؤمنين قد بعثني إلى خراسان، ولست أعصى أمره.
فاتفق أهل البصرة مع أميرهم الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة على أن كتبوا كتابا (2) على لسان ابن الزبير إلى المهلب يأمره فيه بالمسير للخوارج ليكفهم عن الدخول إلى البصرة، فلما قرئ عليه الكتاب اشترط على أهل البصرة أن يقوي جيشه من بيت مالهم، وأن يكون له ما غلب عليه من أموال الخوارج، فأجابوه إلى ذلك، ويقال إنهم كتبوا بذلك إلى ابن الزبير فأمضى لهم ذلك وسوغه، فسار إليهم المهلب.
وكان شجاعا بطلا صنديدا، فلما أراد قتال الخوارج أقبلوا إليه يزفون في عدة لم ير مثلها من الدروع والزرود والخيول والسلاح، وذلك أن لهم مدة يأكلون تلك النواحي، وقد صار لهم تحمل عظيم مع شجاعة لا تدانا، وإقدام لا يسامى، وقوة لا تجارى، وسبق إلى حومة الوغى فلما تواقف الناس بمكان يقال له سل وسل ابرى (3)، اقتتلوا قتالا شديدا عظيما، وصبر كل من الفريقين صبرا باهرا، وكان في نحو من ثلاثين ألفا ثم إن الخوارج حملوا حملة منكرة، فانهزم أصحاب المهلب لا يلوي والد على ولد، ولا يلتفت أحد إلى أحد، ووصل إلى البصرة فلا لهم، وأما المهلب فإنه سبق المنهزمين فوقف لهم بمكان مرتفع، وجعل ينادي: إلى عباد الله، فاجتمع إليه من جيشه ثلاثة آلاف من الفرسان الشجعان، فقام فيهم خطيبا فقال في خطبته: أما بعد أيها الناس، فإن الله تعالى ربما يكل الجمع الكثير إلى أنفسهم فيهزمون وينزل النصر على الجمع اليسير فيظهرون، ولعمري ما بكم الآن من قلة، وأنتم فرسان الصبر وأهل النصر، وما أحب أن أحدا ممن انهزموا معكم الآن: * (ولو كانوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا) * [ التوبة: 47 ] ثم قال: عزمت على كل رجل منكم إلا أخذ عشرة أحجار معه، ثم امشوا بنا إلى عسكرهم فإنهم الآن آمنون، وقد خرجت خيولهم في طلب إخوانكم، فوالله إني لارجو أن لا ترجع خيولهم إلا وقد استبحتم عسكرهم، وتقتلوا أميرهم.
__________
(1) دولاب: من قرى الري.
(2) انظر نسخة الكتاب في الطبري 7 / 86 وأما في الاخبار الطوال ص 271 ففيه: أن الحارث بن عبد الله كتب إلى
عبد الله بن الزبير يسأله أن يأمر المهلب بالسير إلى الخوارج، فكتب ابن الزبير إلى الملهب.
(3) في الاخبار الطوال: سلي: وفي معجم البلدان: " سلى وسلبرى بكسر أوله وثانيه وتشديده وقصر الالف، وعن محمد بن موسى، سلى بالضم وفتح اللام وهو جبل بمناذر من أعمال الاهواز فذكرته فيما بعد مع سلبرى وكانت به وقعة للخوارج مع المهلب بن أبي صفرة، وسلبرى بكسر أوله وثانيه وتشديده وباء موحدة وراء مفتوحة وألف مقصورة موضع من نواحي خوزستان قرب جنديسابور وهي مناذر الصغرى ".
(*)

(8/287)


ففعل الناس ذلك، فزحف بهم المهلب بن أبي صفرة على معشر الخوارج فقتل منهم خلقا كثيرا نحوا من سبعة آلاف، وقتل عبيد الله بن الماحوز في جماعة كثيرة من الازارقة، وحتتاز من أموالهم شيئا كثيرا، وقد أرصد المهلب خيولا بينه وبين الذين يرجعون من طلب المنهزمين، فجعلوا يقتطعون دون قومهم، وانهزم فلهم إلى كرمان وأرض أصبهان، وأقام المهلب بالاهواز حتى قدم مصعب بن الزبير إلى البصرة، وعزل عنها الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة كما سيأتي قريبا.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة وجه مروان بن الحكم قبل مهلكه ابنه محمدا إلى الجزيرة، وذلك قبل مسيره إلى مصر.
قلت: محمد بن مروان هذا هو والد مروان الحمار، وهو مروان بن محمد بن مروان، وهو آخر خلفاء بني أمية، ومن يده استلبت الخلافة العباسيون كما سيأتي.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة عزل ابن الزبير أخاه عبيد (1) الله عن إمرة المدينة وولاها أخاه مصعبا، وذلك أن عبيد (1) الله خطب الناس فقال في خطبته: وقد رأيتم ما صنع الله بقوم صالح في ناقة قيمتها خمسمائة درهم، فلما بلغت أخاه قال: إن هذا لهو التكلف، وعزله.
ويسمى عبيد (1) الله مقوم الناقة لذلك، قال ابن جرير: وفي آخرها عزل ابن الزبير عن الكوفة عبد الله بن يزيد الخطمي، وولى عليها عبد الله بن مطيع الذي كان أمير المهاجرين يوم الحرة، لما خلعوا يزيد.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة كان الطاعون الجارف بالبصرة، وقال ابن الجوزي في المنتظم: كان في سنة أربع وستين، وقد قيل إنما كان في سنة تسع وستين، وهذا هو المشهور الذي
ذكره شيخنا الذهبي وغيره، وكان معظم ذلك بالبصرة، وكان ذلك في ثلاثة أيام، فمات في أول يوم من الثلاثة من أهل سبعون ألفا، وفي اليوم الثاني منها إحدى وسبعون ألفا، وفي اليوم الثالث منها ثلاثة وسبعون ألفا، وأصبح الناس في اليوم الرابع موتي إلا قليل من آحاد الناس، حتى ذكر أن أم الامير بها ماتت فلم يوجد لها من يحملها، حتى استأجروا لها أربعة أنفس.
وقال الحافظ أبو نعيم الاصبهاني: حدثنا عبيد الله ثنا أحمد بن عصام، حدثني معدى، عن رجل، يكنى أبا النفيد، وكان قد أدرك من هذا الطاعون، قال: كنا نطوف بالقبائل وندفن الموتى، فلما كثروا لم نقو على الدفن، فكنا ندخل الدار وقد مات أهلها فنسد بابها عليهم.
قال فدخلنا دارا ففتشناها فلم نجد فيها أحدا حيا فسددنا بابها، فلما مضت الطواعين كنا نطوف فنفتح تلك السدد عن الابواب، ففتحنا سدة الباب الذي كنا فتشناه - أو قال الدار التي كنا سددناها - وفتشناها فإذا نحن بغلام في وسط الدار طري دهين، كأنما أخذ ساعتئذ من حجر أمه، قال: فبينما نحن وقوف على الغلام نتعجب منه إذ دخلت كلبة من شق في الحائط فجعلت تلوذ بالغلام والغلام يحبها إليها حتى
__________
(1) في رواية الطبري 7 / 90 عبيدة، وقد تقدم ذكره (وانظر الكامل 4 / 206).
(*)

(8/288)


مص من لبنها، قال معدى: وأنا رأيت ذلك الغلام في مسجد البصرة وقد قبض على لحيته.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة بنى عبد الله بن الزبير الكعبة البيت الحرام، يعني أكمل بناءها وأدخل فيها الحجر، وجعل لها بابين يدخل من أحدهما ويخرج من الآخر.
قال ابن جرير: حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، حدثني عبد العزيز عن خالد بن رستم الصنعاني، أبو محمد، حدثني زياد بن جبل: أنه كان بمكة يوم كان عليها ابن الزبير، فسمعته يقول: حدثتني أمي أسماء بنت أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: " لولا قرب عهد قومك بالكفر لرددت الكعبة على أساس إبراهيم فأزيد في الكعبة من الحجر ": قال: فأمر ابن الزبير فحفروا فوجدوا تلاعا أمثال الابل، فحركوا منها تلعة - أو قال صخرة - فبرقت برقة فقال: أقروها على أساسها، فبناها بن الزبير وجعل لها بابين يدخل من أحدهما ويخرج من الآخر.
قلت: هذا الحديث له طرق متعددة عن عائشة في الصحاح والحسان والمسانيد، وموضوع سياق طرق ذلك في كتاب الاحكام إن شاء الله تعالى.
وذكر ابن جرير في هذه السنة حروبا جرت بين عبد الله بن خازم بخراسان، وبين الحرشي بن هلال القزيعي (1) يطول تفصيلها.
قال: وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن الزبير، وكان على المدينة مصعب بن الزبير، وعلى الكوفة عبد الله بن مطيع، وعلى البصرة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي.
وممن توفي فيها من الاعيان عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل أبو محمد السهمي كان من خيار الصحابة وعلمائهم وعبادهم، وكتب عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا، أسلم قبل أبيه، ولم يكن أصغر من أبيه إلا باثني عشرة سنة، وكان واسع العلم مجتهدا في العبادة، عاقلا، وكان يلوم أباه في القيام مع معاوية، وكان سمينا، وكان يقرأ الكتابين القرآن والتوراة، وقيل إنه بكى حتى عمي، وكان يقوم الليل ويصوم يوما ويفطر يوما ويصوم يوما.
استنابه معاوية على الكوفة ثم عزله عنها بالمغيرة بن شعبة، توفي في هذه السنة بمصر.
وقتل بمكة عبد الله بن مسعدة الفزاري، له صحبة، نزل دمشق وقيل إنه من سبي فزارة.