البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
ثم دخلت سنة سبعين من الهجرة
فيها ثارت الروم واستجاشوا على من بالشام، واستضعفوهم لما يرون من
الاختلاف الواقع بين بني مروان وابن الزبير، فصالح عبد الملك ملك الروم
وهادنه على أن يدفع إليه عبد الملك في كل جمعة ألف دينار خوفا منه على
الشام.
وفيها وقع الوباء بمصر فهرب منه عبد العزيز بن مروان إلى الشرقية، فنزل
حلوان وهي على مرحلة من القاهرة، واتخذها منزلا واشتراها من القبط
بعشرة آلاف دينار، وبنى بها دارا للامارة وجامعا، وأنزلها الجند.
وفيها ركب مصعب بن الزبير من البصرة إلى مكة ومعه أموال جزيلة.
فأعطى وفرق وأطلق لجماعة من رؤوس الناس بالحجاز أموالا كثيرة.
وممن توفي فيها من الاعيان عاصم بن
عمر بن الخطاب الفرشي العدوي، وأمه جميلة بنت ثابت بن أبي الاقلح، ولد
في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يرو إلا عن أبيه حديثا
واحدا " إذا أقبل الليل من ههنا " الحديث، وعنه ابناه حفص وعبد الله،
وعروة بن الزبير، وقد طلق أبوه أمه فأخذته جدته الشموس بنت أبي عامر،
أتى به الصديق وقال شمها ولطفها أحب إليه منك، ثم لما زوجه أبوه في
أيام إمارته أنفق عليه من بيت المال شهرا، ثم كف عن الانفاق عليه
وأعطاه ثمن ماله وأمره أن يتجر وينفق على عياله.
وذكر غير واحد أنه كان بين عاصم وبين الحسن والحسين منازعة في أرض،
فلما تبين عاصم من الحسن الغضب قال: هي
لك، فقال له: بل هي لك، فتركاها ولم يتعرضا لها، ولا أحد من ذريتهما
حتى أخذها الناس من كل جانب، وكان عاصم رئيسا وقورا كريما فاضلا.
قال الواقدي: مات سنة سبعين بالمدينة.
(8/344)
قبيصة بن ذؤيب
الخزاعي الكلبي أبو العلاء من كبار التابعين وهو أخو معاوية من
الرضاعة، كان من فقهاء أهل المدينة وصالحيهم، انتقل إلى الشام وكان
معلم كتاب.
قيس بن ذريج المشهور أنه من بادية الحجاز، وقيل إنه أخو الحسين بن علي
من الرضاعة، وكان قد تزوج لبنى بنت الحباب ثم طلقها، فلما طلقها هام
لما به من الغرام، وسكن البادية، وجعل يقول فيها الاشعار ونحل جسمه،
فلما زاد ما به أتاه ابن أبي عتيق فأخذه ومضى به إلى عبد الله بن جعفر
فقال له: فداك أبي وأمي، اركب معي في حاجة، فركب واستنهض معه أربعة نفر
من وجوه قريش، فذهبوا معه وهم لا يدرون ما يريد، حتى أتى بهم باب زوج
لبنى، فخرج إليهم فإذا وجوه قريش، فقال: جعلني الله فداكم ! ما جاء بكم
؟ قالوا: حاجة لابن أبي عتيق، فقال الرجل: اشهدوا أن حاجته مقضية،
وحكمه جائز، فقالوا: أخبره بحاجتك، فقال ابن أبي عتيق: اشهدوا على أن
زوجته لبنى منه طالق، فقال عبد الله بن جعفر: قبحك الله، ألهذا جئت بنا
؟ فقال: جعلت فداكم يطلق هذا زوجته ويتزوج بغيرها خير من أن يموت رجل
مسلم في هواها صبابة، والله لا أبرح حتى ينتقل متاعها إلى بيت قيس،
ففعلت وأقاموا مدة في أرغد عيش وأطيبه رحمهم الله تعالى.
يزيد بن زياد بن ربيعة الحميري الشاعر كان كثير الشعر والهجو، وقد أراد
عبيد الله بن زياد قتله لكونه هجا أباه زيادا، فمنعه معاوية من قتله،
وقال: أدبه، فسقاه دواء مسهلا وأركبه على حمار وطاف به في الاسواق وهو
يسلح على الحمار فقال في ذلك:
يغسل الماء ما صنعت وشعري * راسخ منك في العظام البوالي بشير بن النضر
قاضي مصر، كان رزقه في العام ألف دينار، توفي بمصر، وولى بعده عبد
الرحمن بن حمزة الخولاني، والله سبحانه أعلم.
مالك بن يخامر السكسكي الالهاني الحمصي تابعي جليل، ويقال له صحبة
فالله أعلم.
روى البخاري من طريق معاوية عنه عن معاذ بن جبل في حديث الطائفة
الظاهرة على الحق أنهم بالشام، وهذا من
(8/345)
باب رواية
الاكابر عن الاصاغر، إلا أن يقال له صحبة، والصحيح أنه تابعي وليس
بصحابي، وكان من أخص أصحاب معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال غير واحد:
مات في هذه السنة، وقيل سنة اثنتين وسبعين والله سبحانه وتعالى أعلم.
ثم دخلت سنة احدى وسبعين
ففيها كان مقتل مصعب بن الزبير،
وذلك أن عبد الملك بن مروان سار في جنود هائلة من الشام قاصدا مصعب بن
الزبير، فالتقيا في هذه السنة، وقد كانا قبلها يركب كل واحد ليلتقي
بالآخر فيحول بينهما الشتاء والبرد والوحل، فيرجع كل واحد منهما إلى
بلده، فلما كان في هذا العام سار إليه عبد الملك وبعث بين يديه
السرايا، ودخل بعض من أرسله إلى البصرة فدعا أهلها إلى عبد الملك في
السر، فاستجاب له بعضهم، وقد كان مصعب سار إلى الحجاز فجاء ودخل البصرة
على إثر ذلك، فأنب الكبراء من الناس وشتمهم ولامهم على دخول أولئك
إليهم، وإقرارهم لهم على ذلك (1)، وهدم دور بعضهم، ثم شخص إلى الكوفة،
ثم بلغه قصد عبد الملك له بجنود الشام فخرج إليه ووصل عبد الملك إلى
مسكن، وكتب إلى المروانية الذين استجابوا لمن بعثه إليهم فأجابوه،
واشترطوا عليه أن يوليهم أصبهان فقال نعم - وهم جماعة كثيرة من الامراء
- وقد جعل عبد الملك على مقدمته أخاه محمد بن مروان، وعلى ميمنته عبد
الله بن يزيد بن معاوية، وعلى
ميسرته خالد بن يزيد بن معاوية، وخرج مصعب وقد اختلف عليه أهل العراق،
وخذلوه وجعل يتأمل من معه فلا يجدهم يقاومون أعداءه، فاستقتل وطمن نفسه
على ذلك، وقال: لي بالحسين بن علي أسوة حين امتنع عن إلقائه يده، ومن
الذلة لعبيد الله بن زياد، وجعل ينشد ويقول مسليا نفسه: وإن الاولى
بالطف من آل هاشم * تأسوا فسنوا للكرام التأسيا وكان عبد الملك قد أشار
عليه بعض أصحابه أن يقيم بالشام وأن يبعث إلى مصعب جيشا، فأبى وقال:
لعلي إن بعثت رجلا شجاعا كان لا رأي له، ومن له رأي ولا شجاعة له، وإني
أجد من نفسي بصيرا بالحرب وشجاعة، وإن مصعبا في بيت شجاعة، أبوه أشجع
قرشي، وأخوه لا تجهل شجاعته، وهو شجاع ومعه من يخالفه ولا علم له
بالحرب، وهو يحب الدعة والصفح، ومعي من ينصح لي ويوافقني على ما أريد،
فسار بنفسه فلما تقارب الجيشان بعث عبد الملك إلى أمراء مصعب يدعوهم
إلى نفسه ويعدهم الولايات، فجاء إبراهيم بن الاشتر إلى مصعب فألقى
__________
(1) في ابن الاعثم 6 / 254: كان أهل البصرة صفين: زبيريون ومروانيون
فتحركت شيعة بني مروان وشيعة آل الزبير فاقتتلوا في موضع يقال له
المربد - وكان مصعب يومئذ بالكوفة - ووقعت الهزيمة على المروانيين.
(*)
(8/346)
إليه كتابا
مختوما (1) وقال: هذا جاءني من عبد الملك، ففتحه فإذا هو يدعوه إلى
الاتيان إليه وله نيابة العراق، وقال لمصعب: أيها الامير ! إنه لم يبق
أحد من أمرائك إلا وقد جاءه كتاب مثل هذا، فإن أطعتني ضربت أعناقهم.
فقال له مصعب: إني لو فعلت ذلك لم ينصحنا عشائرهم بعدهم، فقال: فابعثهم
إلى أبيض كسرى فاسجنهم فيه، فإن كانت لك النصرة ضربت أعناقهم، وإن كانت
عليك خرجوا بعد ذلك.
فقال له: يا أبا النعمان، إني لفي شغل عن هذا، ثم قال مصعب: رحم الله
أبا بحر - يعني الاحنف - أن كان ليحذرني غدر أهل العراق، وكأنه كان
ينظر إلى ما نحن فيه الآن.
ثم تواجه الجيشان بدير الجاثليق من مسكن، فحمل إبراهيم بن الاشتر - وهو
أمير المقدمة العراقية لجيش مصعب - على محمد بن مروان - وهو أمير مقدمة
الشام - فأزالهم
عن موضعهم، فأردفه عبد الملك بعبد الله بن يزيد بن معاوية، فحملوا على
ابن الاشتر ومن معه فطحنوهم، وقتل ابن الاشتر رحمه الله وعفا عنه، وقتل
معه جماعة من الامراء، وكان عتاب بن ورقاء على خيل مصعب فهرب أيضا ولجأ
إلى عبد الملك بن مروان، وجعل مصعب بن الزبير وهو واقف في القلب ينهض
أصحاب الرايات ويحث الشجعان والابطال أن يتقدموا إلى أمام القوم، فلا
يتحرك أحد (2)، فجعل يقول: يا إبراهيم ولا إبراهيم لي اليوم، وتفاقم
الامر واشتد القتال، وتخاذلت الرجال، وضاق الحال، وكثر النزال.
قال المدائني: أرسل عبد الملك أخاه إلى مصعب يعطيه الامان فأبى وقال:
إن مثلي لا ينصرف عن هذا الموضع إلا غالبا أو مغلوبا.
قالوا: فنادى محمد بن مروان عيسى بن مصعب فقال: يا بن أخي لا تقتل
نفسك، لك الامان، فقال له مصعب: قد أمنك عمك فامض إليه، فقال: لا يتحدث
نساء قريش أني أسلمتك للقتل، فقال له: يا بني فاركب خيل السبق فالحق
بعمك فأخبره بما صنع أهل العراق فإني مقتول ههنا، فقال: والله إني لا
أخبر عنك أحدا أبدا، ولا أخبر نساء قريش بمصرعك، ولا أقتل إلا معك ولكن
إن شئت ركبت خيلك وسرنا إلى البصرة فإنهم على الجماعة، فقال: والله لا
يتحدث قريش بأني فررت من القتال، فقال لابنه: تقدم بين يدي حتى أحتسبك،
فتقدم ابنه فقاتل حتى قتل، وأثخن مصعب بالرمي فنظر إليه زائدة بن قدامة
وهو كذلك فحمل عليه فطعنه وهو يقول: يا ثارات المختار، ونزل إليه رجل
يقال له عبيد الله بن زياد بن ظبيان التميمي فقتله وحز رأسه وأتى به
عبد الملك بن مروان، فسجد عبد الملك وأطلق له ألف دينار فأبى أن يقبلها
وقال: لم أقتله على
__________
(1) انظر نسخة الكتاب في الاخبار الطوال ص 312، وقد أشار إليه الطبري
وابن الاثير وابن قتيبة وابن الاعثم في الفتوح والمسعودي في مروج
الذهب.
(2) طلب مصعب من أبي عثمان قطن بن عبد الله الحارثي التقدم برايته
فرفض، فطلب مصعب من حجاز بن أبجر - أبو أسيد - التقدم برايته فرفض
أيضا.
فقال لمحمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس مثل ذلك.
فقال له: ما أرى أحدا فعل ذلك فأفعله.
انظر الطبري 7 / 185 وابن الاثير 4 / 326 وابن الاعثم 6 / 266.
(*)
(8/347)
طاعتك ولكن
بثأر كان لي عنده (1)، وكان قد ولي له عملا قبل ذلك فعزله عنه وأهانه.
قالوا: ولما وضع رأس مصعب بين يدي عبد الملك قال عبد الملك: لقد كان
بيني وبين مصعب صحبة قديمة، وكان من أحب الناس إلي، ولكن هذا الملك
عقيم، وقال: لما تفرق عن مصعب جموعه قال له ابنه عيسى: لو اعتصمت ببعض
القلاع وكاتبت من بعد عنك مثل المهلب بن أبي صفرة وغيره فقدموا عليك،
فإذا اجتمع لك ما تريد منهم لقيت القوم، فإنك قد ضعفت جدا.
فلم يرد عليه جوابا، ثم ذكر ما جرى للحسين بن علي وكيف قتل كريما ولم
يلق بيده، ولم يجد من أهل العراق وفاء، وكذلك أبوه وأخوه، ونحن ما
وجدنا لهم وفاء، ثم انهزم أصحابه وبقي في قليل من خواصه، ومال الجميع
إلى عبد الملك، وقد كان عبد الملك يحب مصعبا حبا شديدا، وكان خليلا له
قبل الخلافة، فقال لاخيه محمد: اذهب إليه فأمنه، فجاءه فقال له: يا
مصعب قد أمنك ابن عمك على نفسك وولدك ومالك وأهلك، فاذهب حيث شئت من
البلاد، ولو أراد بك غير ذلك لكان [ أنزله بك، فانشدك الله في نفسك ]
(2)، فقال مصعب: قضي الامر، إن مثلي لا ينصرف عن مثل هذا الموقف إلا
غالبا أو مغلوبا، فتقدم ابنه عيسى فقاتل، فقال محمد بن مروان: يا بن
أخي لا تقتل نفسك.
ثم ذكر من قوله ما تقدم، ثم قاتل حتى قتل رحمه الله، ثم ذكر من قتل
منهم بعده كما تقدم، قال: ولما وضع رأس مصعب بين يدي عبد الملك بكى
وقال: والله ما كنت أقدر أن أصبر عليه ساعة واحدة من حبي له حتى دخل
السيف بيننا، ولكن الملك عقيم.
ولقد كانت المحبة والحرمة بيننا قديمة، متى تلد النساء مثل مصعب ؟ ثم
أمر بمواراته ودفنه هو وابنه وإبراهيم بن الاشتر في قبور بمسكن بالقرب
من الكوفة.
قال المدائني: وكان مقتل مصعب بن الزبير يوم الثلاثاء (3) الثالث عشر
من جمادى الاولى أو الآخرة من سنة إحدى وسبعين في قول الجمهور وقال
المدائني: سنة ثنتين وسبعين والله أعلم.
قالوا: ولما قتل عبد الملك مصعبا ارتحل إلى الكوفة فنزل النخيلة فوفدت
عليه الوفود من رؤساء القبائل وسادات العرب، وجعل يخاطبهم بفصاحة
وبلاغة واستشهاد بأشعار حسنة، وبايعه أهل العراق وفرق العمالات في
الناس، وولى الكوفة قطن بن عبد الله الحري أربعين يوما،
__________
(1) في ابن الاثير 4 / 328: ضربه ابن ظبيان فقتله، وفي ابن الاعثم 6 /
267: حمل عليه عبيد الله بن زياد بن ظبيان التميمي فطعنه طعنة نكسه عن
فرسه ثم نزل رجل من أهل الشام إلى مصعب فاحتز رأسه (وفي الامامة
والسياسة 2 / 29 فجاء غلام لعبيد الله بن ظبيان فضرب مصعبا بالسيف
فقتله).
وفي الطبري 7 / 186: طعنه زائدة ونزل إليه عبيد الله بن زياد بن ظبيان
فاحتز رأسه وقال: إنه قتل أخي النابئ بن زياد.
وانظر تاريخ الاسلام للذهبي 3 / 110 والاخبار الطوال ص 313.
ومروج الذهب 3 / 129.
(2) من مروج الذهب 3 / 128.
(3) في الاخبار الطوال ص 313: يوم الخميس للنصف من جمادى الاولى سنة 72
(وانظر مروج الذهب 3 / 129) (*)
(8/348)
ثم عزله وولى
أخاه بشر بن مروان عليها.
وخطب عبد الملك يوما بالكوفة فقال في خطبته: إن عبد الله بن الزبير لو
كان خليفة كما يزعم لخرج فآسى بنفسه ولم يغرز ذنبه في الحرم، ثم قال
لهم: إني قد استخلفت عليكم أخي بشر بن مروان وأمرته بالاحسان إلى أهل
الطاعة، وبالشدة على أهل المعصية، فاسمعوا له وأطيعوا.
وأما أهل البصرة فانهم لما بلغهم مقتل مصعب تنازع في إمارتها أبان (1)
بن عثمان بن عفان، وعبيد الله بن أبي بكرة، فغلبه أبان عليها، فبايعه
أهلها فكان أشرف الرجلين، قال أعرابي: والله لقد رأيت رداء أبان مال عن
عاتقه يوما فابتدره مروان وسعيد بن العاص أيهما يسويه على منكبيه، وقال
غيره: مد أبان يوما رجله فابتدرها معاوية وعبد الله بن عامر أيهما
يغمزها، قال: فبعث عبد الملك خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد واليا
عليها - يعني على البصرة - فأخذها من أبان واستناب فيها عبيد الله بن
أبي بكرة، وعزل أبانا عنها.
قالوا: وقد أمر عبد الملك بطعام كثير فعمل لاهل الكوفة فأكلوا من سماطه
ومعه يومئذ على السرير عمرو بن حريث، فقال له عبد الملك: ما ألذ عيشنا
لو أن شيئا يدوم ؟ ولكن كما قال الاول: وكل جديد يا أميم إلى البلى *
وكل امرئ يوما يصير إلى كان فلما فرغ الناس من الاكل نهض فدار في القصر
وجعل يسأل عمرو بن حريث عن أحوال
القصر ومن بنى أماكنه وبيوته ثم عاد إلى مجلسه فاستلقى وهو يقول: اعمل
على مهل فانك ميت * واكدح لنفسك أيها الانسان فكأن ما قد كان لم يك إذ
مضى * وكأن ما هو كائن قد كان قال ابن جرير: وفيها رجع عبد الملك كما
زعم الواقدي إلى الشام، وفيها عزل ابن الزبير جابر بن الاسود عن
المدينة وولى عليها طلحة بن عبد الله بن عوف، وكان هو آخر أمرائه
عليها، حتى قدم عليها طارق بن عمرو مولى عثمان من جهة عبد الملك.
وفيها حج بالناس عبد الله بن الزبير ولم يبق له ولاية على العراق.
قال الواقدي: وفيها عقد عبد العزيز بن مروان نائب مصر لحسان العاني على
غزو إفريقية فسار إليها في عدد كثير، فافتتح قرطاجنة وكان أهلها روما
عباد أصنام.
وفيها قتل نجدة الحروري الذي تغلب على اليمامة، وفيها خرج عبد الله بن
ثور في اليمامة.
وهذه ترجمة مصعب بن الزبير
وهو مصعب بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن
كلاب، أبو
__________
(1) في الطبري 7 / 189 وابن الاثير 4 / 336: حمران بن أبان.
(*)
(8/349)
عبد الله
القرشي، ويقال له أبو عيسى أيضا الاسدي، وأمه كرمان بنت أنيف الكلبية،
كان من أحسن الناس وجها، وأشجعهم قلبا.
وأسخاهم كفا، وقد حكى عن عمر بن الخطاب، وروى عن أبيه الزبير وسعد وأبي
سعيد الخدري، وروى عنه الحكم بن عيينة وعمرو بن دينار الجمحي، وإسماعيل
بن أبي خالد، ووفد على معاوية، وكان ممن يجالس أبا هريرة، وكان من أحسن
الناس وجها، حكى الزبير بن بكار: أن جميلا نظر إليه وهو واقف بعرفة
فقال: إن ههنا فتى أكره أن تراه بثينة، وقال الشعبي: ما رأيت أميرا على
منبر قط أحسن منه، وكذا قال إسماعيل بن خالد.
وقال الحسن هو أجمل أهل البصرة، وقال الخطيب البغدادي: ولي إمرة
العراقين لاخيه عبد الله حتى قتله عبد الملك بمسكن بموضع قريب من أوانا
على نهر دجيل عند دير الجاثليق، وقبره إلى الآن
معروف هناك.
وقد ذكرنا صفة مقتله المختار بن أبي عبيد، وأنه قتل في غداة واحدة من
أصحاب المختار سبعة آلاف، قال الواقدي: لما قتل مصعب المختار طلب أهل
القصر من أصحاب المختار من مصعب الامان فأمنهم، ثم بعث إليهم عباد بن
الحصين فجعل يخرجهم ملتفين، فقال له الرجل: الحمد لله الذي نصركم علينا
وابتلانا بالاسر، يا بن الزبير من عفا عفا الله عنه، ومن عاقب لا يأمن
القصاص، نحن أهل قبلتكم وعلى ملتكم وقد قدرت فاسمح واعف عنا، قال: فرق
لهم مصعب وأراد أن يخلي سبيلهم، فقام عبد الرحمن بن محمد بن الاشعث
وغيره من كل قبيلة فقالوا: قد قتلوا أولادنا وعشائرنا وجرحوا منا خلقا،
اخترنا أو اخترهم، فأمر حينئذ بقتلهم، فنادوا بأجمعهم: لا تقتلنا
واجعلنا مقدمتك في قتال عبد الملك بن مروان، فإن ظفرنا فلكم، وإن قتلنا
لا نقتل حتى نقتل منهم طائفة، وكان الذي تريد، فأبى ذلك مصعب، فقال له
مسافر: اتق الله يا مصعب، فإن الله عز وجل أمرك أن لا تقتل نفسا مسلمة
بغير نفس، وإن: * (من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب
الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما) * [ النساء: 93 ] فلم يسمع له بل
أمر بضرب رقابهم جميعهم وكانوا سبعة آلاف نفس، ثم كتب مصعب إلى ابن
الاشتر أن أجبني فلك الشام وأعنة الخيل، فسار ابن الاشتر إلى مصعب.
وقيل إن مصعبا لما قدم مكة أتى عبد الله بن عمر فقال: أي عم: إني أسألك
عن قوم خلعوا الطاعة وقاتلوا حتى غلبوا تحصنوا وسألوا الامان فأعطوه ثم
قتلوا بعد ذلك.
فقال: وكم هم ؟ فقال: خمسة آلاف، فسبح ابن عمر واسترجع وقال: لو أن
رجلا أتى ماشية الزبير فذبح منها خمسة آلاف ماشية في غداة واحدة ألست
تعده مسرفا ؟ قال: نعم: قال: أفتراه إسرافا في البهائم ولا تراه إسرافا
في من ترجو توبته ؟ يا بن أخي أصب من الماء البارد ما استطعت في دنياك.
ثم إن مصعبا بعث برأس المختار إلى أخيه بمكة وتمكن مصعب في العراق
تمكنا زائدا، فقرر بها الويالات والعمال، وحظي عنده ابن الاشتر فجعله
على الوفادة، ثم رحل مصعب إلى أخيه بمكة فأعلمه بما فعل فأقره على ما
صنع، إلا ابن الاشتر لم يمض له ما جعله عليه، وقال له: أتراني أحب
الاشتر وهو الذي جرحني هذه الجراحة، ثم استدعى بمن قدم مع مصعب من أهل
العراق فقال لهم: والله لوددت
(8/350)
أن لي بكل
رجلين منكم رجلا من أهل الشام.
فقال له أبو حاجز الاسدي - وكان قاضي الجماعة بالبصرة - إن لنا ولكم
مثلا قد مضى يا أمير المؤمنين وهو ما قال الاعشى: علقتها عرضا وعلقت
رجلا * غيري وعلق أخرى غيرها الرجل قلت كما قيل أيضا: جننا بليلى وهي
جنت بغيرنا * وأخرى بنا مجنونة لا نريدها علقناك يا أمير المؤمنين
وعلقت أهل الشام وعلق أهل الشام إلى مروان، فما عسينا أن نصنع ؟ قال
الشعبي: ما سمعت جوابا أحسن منه، وقال غيره: وكان مصعب من أشد الناس
محبة للنساء وقد أمضى من ذلك شيئا كثيرا كما روى أنه اجتمع عند الحجر
الاسود جماعة منهم ابن عمر ومصعب بن الزبير، فقالوا: ليقم كل واحد منكم
وليسأل من الله حاجته، فسأل ابن عمر المغفرة، وسأل مصعب أن يزوجه الله
سكينة بنت الحسين، وعائشة بنت طلحة، وكانتا من أحسن النساء في ذلك
الزمان، وأن يعطيه الله إمرة العراقين، فأعطاه الله ذلك، تزوج بعائشة
بنت طلحة، وكان صداقها عليه مائة ألف دينار، وكانت باهرة الجمال جدا،
وكان مصعب أيضا جميلا جدا، وكذلك بقية زوجاته، قال الاصمعي: عن عبد
الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه قال: اجتمع في الحجر مصعب وعروة وابن
الزبير وابن عمر، فقال عبد الله بن الزبير: أما أنا فأتمنى الخلافة،
وقال عروة: أما أنا فأتمنى أن يؤخذ عني العلم: وقال مصعب، أما أنا
فأتمنى إمرة العراق والجمع بين عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين.
وقال عبد الله بن عمر: أما أنا فأتمنى المغفرة.
قال: فنالوا كلهم ما تمنوا، ولعل ابن عمر قد غفر الله له.
وقال عامر الشعبي: بينما أنا جالس إذ دعاني الامير مصعب بن الزبير
فأدخلني دار الامارة ثم كشف فإذا وراءه عائشة بنت طلحة، فلم أر منظرا
أبهى ولا أحسن منها، فقال: أتدري من هذه ؟ فقلت: لا فقال: هذه عائشة
بنت طلحة، ثم خرجت فقالت: من هذا الذي أظهرتني عليه ؟ قال: هذا عامر
الشعبي، قالت: فأطلق له شيئا، فأطلق لي عشرة آلاف درهم.
قال
الشعبي: فكان أول مال ملكته، وحكى الحافظ ابن عساكر: أن عائشة بنت طلحة
تغضبت مرة على مصعب فترضاها بأربعمائة ألف درهم، فأطلقتها هي للمرأة
التي أصلحت بينهما، وقيل إنه أهديت له نخلة من ذهب ثمارها من صنوف
الجواهر المثمنة، فقومت بألفي ألف دينار، وكانت من متاع الفرس فأعطاها
لعائشة بنت طلحة.
وقد كان مصعب من أجود الناس وأكثرهم عطاء، لا يستكثر ما يعطي ولو كان
ما عساه أن يكون فكانت عطاياه للقوي والضعيف، والوضيع والشريف متقاربة،
وكان أخوه عبد الله يبخل.
وروى الخطيب البغدادي في تاريخه أن مصعبا غضب مرة على رجل فأمر بضرب
عنقه، فقال له
(8/351)
الرجل: أعز
الله الامير ! ما أقبح بمثلي أن يقوم يوم القيامة فيتعلق بأطرافك هذه
الحسنة، وبوجهك هذا الذي يستضاء به، فأقول: يا رب سل مصعبا فيم قتلني.
فعفا عنه، فقال الرجل: أعز الله الامير إن رأيت ما وهبتني من حياتي في
عيش رضي، فأطلق له مائة ألف، فقال الرجل إني أشهدك أن نصفها لابن قيس
الرقيات حيث يقول فيك: إن مصعبا شهاب من الله * تجلت عن وجهه الظلماء
ملكه ملك رحمة (1) ليس فيه * جبروت منه ولا كبرياء يتقي الله في الامور
وقد * أفلح من كان همه الاتقاء وفي رواية أنه قال له: أيها الامير قد
وهبتني حياة، فإن استطعت أن تجعل ما قد وهبتني من الحياة في عيش رضي
وسعة فافعل، فأمر له بمائة ألف.
وقال الامام أحمد: حدثنا حماد بن سلمة، ثنا علي بن يزيد قال: بلغ
مصعبا، عن عريف الانصاري شئ فهم به، فدخل عليه أنس بن مالك فقال له:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " استوصوا بالانصار خيرا - أو
قال معروفا - اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم " (1).
فألقى مصعب نفسه عن سريره وألصق خده بالبساط وقال: " أمر رسول الله صلى
الله عليه وسلم على الرأس والعين " فتركه.
ومن كلام مصعب في التواضع أنه قال: العجب من ابن آدم كيف يتكبر وقد جرى
في
مجرى البول مرتين.
وقال محمد بن يزيد المبرد: سئل القاسم بن محمد عن مصعب فقال: كان نبيلا
رئيسا تقيا أنيسا.
وقد تقدم أنه لما ظهر على المختار قتل من أصحابه في غداة واحدة خمسة
آلاف، وقيل سبعة آلاف، فلما كان بعد ذلك لقي ابن عمر فسلم عليه فلم
يعرفه ابن عمر، لانه كان قد انضر في عينيه، فتعرف له فعرفه، قال: أنت
الذي قتلت في غداة واحدة خمسة آلاف ممن يوحد الله ؟ فاعتذر إليه بأنهم
بايعوا المختار، فقال: أما كان فيهم من هو مستكره أو جاهل فينظر حتى
يتوب ؟ أرأيت لو أن رجلا جاء إلى غنم الزبير فنحر منها خمسة آلاف في
غداة واحدة، أما كان مسرفا ؟ قال: بلى ! قال: وهي لا تعبد الله ولا
تعرفه كما يعرفه الآدمي، فكيف بمن هو موحد ؟ ثم قال له: يا بني تمتع من
الماء البارد ما استطعت، وفي رواية أنه قال له: عش ما استطعت.
وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الحسن، عن زفر بن قتيبة، عن الكبي
قال: قال عبد الملك بن مروان يوما لجلسائه: من أشجع العرب والروم ؟
قالوا شبيب: وقال آخر: قطري بن الفجاءة وفلان وفلان.
فقال عبد الملك: إن أشجع الناس لرجل جمع بين سكينة بنت
__________
(1) في الكامل للمبرد 1 / 399: قوة.
(2) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 3 / 241.
(*)
(8/352)
الحسين وعائشة
بنت طلحة وأمه الحميد بنت عبد الله بن عامر بن كريز، وابنه ريان بن
أنيف الكلبي، سيد ضاحية العرب وولي العراقين خمس سنين فأصاب ألف ألف،
وألف ألف، وألف ألف، مع ما لنفسه من الاموال وملك غير ذلك من الاثاث
والدواب والاموال ما لا يحصى، وأعطى مع هذا الامان وأن يسلم هذا له
جميعه مع الحياة فزهد في هذا كله وأبى واختار القتل على مقام ذل،
ومفارقة هذا كله ومشى بسيفه فقاتل حتى مات، وذلك بعد خذلان أصحابه له،
فذلك مصعب بن الزبير رحمه الله، وليس هو كمن قطع الجسور مرة ههنا ومرة
ههنا.
فهذا هو الرجل وهذا هو الزهد.
قالوا: وكان مقتله يوم الخميس للنصف من جمادى الاولى سنة ثنتين وسبعين.
وقال الزبير بن بكار: حدثني فليح بن إسماعيل وجعفر بن أبي بشير عن
أبيه.
قال: لما وضع رأس مصعب بين يدي عبد الملك قال: لقد أردى الفوارس يوم
عبس * غلام غير مناع المتاع ولا فرح بخير إن أتاه * ولا هلع من الحدثان
لاع ولا رقابة والخيل تعدو * ولا خال كانبوب اليراع فقال الرجل الذي
جاء برأسه: والله يا أمير المؤمنين لو رأيته والرمح في يده تارة والسيف
تارة يفري بهذا ويطعن بهذا، لرأيت رجلا يملا القلب والعين شجاعة، لكنه
لما تفرقت عنه رجاله وكثر من قصده وبقي وحده ما زال ينشد: وإني على
المكروه عند حضوره * أكذب نفسي والجفون فلم تغض وما ذاك من ذل ولكن
حفيظة * أذب بها عند المكارم عن عرضي وإني لاهل الشر بالشر مرصد * وإني
لذي سلم أذل من الارض فقال عبد الملك: كان والله كما وصف به نفسه وصدق،
ولقد كان من أحب الناس إلي، وأشدهم لي ألفة ومودة، ولكن الملك عقيم.
وروى يعقوب بن سفيان: عن سليمان بن حرب، عن غسان بن مضر، عن سعيد بن
يزيد: أن عبيد الله بن زياد بن ظبيان قتل مصعبا عند دير الجاثليق على
شاطئ نهر يقال له دجيل، من أرض مسكن، واحتز رأسه فذهب به إلى عبد الملك
فسجد شكرا لله، وكان ابن ظبيان فاتكا رديئا وكان يقول: ليتني قتلت عبد
الملك حين سجد يومئذ فأكون قد قتلت ملكي العرب، قال يعقوب: وكان ذلك
سنة ثنتين وسبعين فالله أعلم.
وحكى الزبير بن بكار في عمره يوم قتل ثلاثة أقوال، أحدهما خمس وثلاثون
سنة والثاني أربعون سنة، والثالث خمس وأربعون سنة فالله أعلم.
وروى الخطيب البغدادي أن امرأته سكينة بنت الحسن كانت معه في هذه
الوقعة فلما قتل
(8/353)
طلبته في
القتلى حتى عرفته بشامة في خده فقالت: نعم بعل المرأة المسلمة، كنت
أدركك والله ما
قال عنتر: وخليل غانية تركت مجندلا * بالقاع لم يعهد ولم يتثلم فهتكت
بالرمح الطويل إهابه * ليس الكريم على القنا بمحرم قال الزبير: وقال
عبد الله بن قيس الرقيات يرثي مصعب بن الزبير رحمه الله تعالى: لقد
أورث (1) المصرين حزنا (2) وذلة * قتيل بدير الجاثليق مقيم فما نصحت
(3) لله بكر بن وائل * ولا صدقت (4) يوم اللقاء تميم ولو كان بكريا
يعطف حوله * كتائب يبقى حرها (5) ويدوم ولكنه ضاع الذمام (6) ولم يكن *
بها مضري يوم ذاك كريم جزى الله كوفيا (7) هناك ملامة * وبصريهم إن
الملوم ملوم وإن بني العلات أخلوا ظهورنا * ونحن صريح بينهم وصميم فإن
نفن لا يبقي أولئك بعدنا * لذي حرمة في المسلمين حريم وقد قال أبو حاتم
الرازي: ثنا يحيى بن مصعب الكلبي، ثنا أبو بكر بن عياش، عن عبد الملك
بن عمير قال: دخلت القصر بالكوفة فإذا رأس الحسين بن علي على ؟ رس بين
يدي عبيد الله بن زياد وعبيد الله على السرير، ثم دخلت القصر بعد ذلك
بحين فرأيت رأس عبيد الله بن زياد على ترس بين يدي المختار، والمختار
على السرير، ثم دخلت القصر بعد ذلك بحين فرأيت رأس المختار على ترس بين
يدي مصعب بن الزبير، ومصعب على السرير، ثم دخلت القصر بعد حين فرأيت
رأس مصعب بن الزبير على ترس بين عبد الملك، وعبد الملك على السرير.
وقد حكى ذلك الامام أحمد وغير واحد عن عبد الملك بن عمير.
وقال عبد الله بن قيس الرقيات يرثي مصعبا أيضا: نعت السحائب والغمام
بأسرها * جسدا بمسكن عاري الاوصال
__________
(1) في الاخبار الطوال ص 313: ورد.
(2) في الطبري 7 / 187: خزيا، وفي مروج الذهب 3 / 130: عارا وفي
الاخبار الطوال ص 313: خزي.
(3) في الاخبار الطوال: فما صبرت، وفي ابن الاعثم 6 / 268: فما جد هدت.
(4) في الطبري ومروج الذهب وابن الاعثم: ولا صبرت.
وفي الاخبار الطوال: ولا ثبتت.
(5) في الطبري: يغلي حميمها.
(6) في مروج الذهب والاخبار الطوال: ضاع الذمار، وفي ابن الاعثم: ضاع
الزمان.
(7) في مروج الذهب: بصريا وفي ابن الاعثم: كوفانا.
وليس البيت في الاخبار الطوال وتاريخ الاسلام.
(*)
(8/354)
تمسي عوائذه
السباع وداره * بمنازل أطلالهن بوالي رحل الرفاق وغادروه ثاويا * للريح
بين صبا وبين شمالي فصل وكان لمصعب من الولد عكاشة وعيسى الذي قتل معه
وسكينة وأمهم فاطمة بنت عبد الله بن السائب، وعبد الله ومحمد، وأمهما
عائشة بنت طلحة، وأمها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق، وجعفر ومصعب وسعيد
وعيسى الاصغر والمنذر لامهات شتى، والرباب وأمها سكينة بنت الحسين بن
علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعنهم.
قال ابن جرير.
وذكر أبو زيد عن أبي غسان محمد بن يحيى حدثني مصعب بن عثمان قال: لما
انتهى إلى عبد الله بن الزبير قتل أخيه مصعب قام في الناس خطيبا فقال:
الحمد لله الذي له الخلق والامر يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن
يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شئ قدير، ألا
وإنه لم يذل الله من كان الحق معه وإن كان فردا وحده، ولن يفلح من كان
وليه الشيطان وحزبه ولو كان معه الانام طرا، ألا وإنه أتانا من العراق
خبر أحزننا وأفرحنا، أتانا قتل مصعب فأحزننا فأما الذي أفرحنا فعلمنا
أن قتله له شهادة، وأما الذي أحزننا فإن الحميم لفراقه لوعة يجدها
حميمه عند المصيبة ثم يرعوي من بعدها، وذو الرأي جميل الصبر كريم
العزاء، ولئن أصبت بمصعب فلقد أصبت بالزبير قبله، وما أنا من عثمان
بخلو مصيبة، وما مصعب إلا عبد من عبيد الله، وعون من أعواني، ألا وإن
أهل العراق أهل الغدر والنفاق
أسلموه وباعوه بأقل الثمن، فإن يقتل فإنا والله ما نموت على مضاجعنا
كما تموت بنو أبي العاص، والله ما قتل منهم رجل في زحف في الجاهلية ولا
في الاسلام، وما نموت إلا بأطراف الرماح أو تحت ظل السيوف، فإن بني أبي
العاص يجمعون الناس بالرغبات والرهبات، ثم يقاتلون بهم أعداءهم ممن هو
خير منهم وأكرم ولا يقاتلون تابعيهم زحفا، ألا وإن الدنيا عارية من
الملك الاعلى الذي لا يزول سلطانه ولا يبيد ملكه، فإن تقبل الدنيا
لآخذها أخذ الاشر البطر، وإن تدبر لا أبكي عليها بكاء الحزين الاسف
المهين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وممن توفي فيها من الاعيان إبراهيم
بن الاشتر كان أبوه ممن قام على عثمان وقتله، وكان إبراهيم هذا من
المعروفين بالشجاعة وله شرف، وهو الذي قتل عبيد الله بن زياد كما
ذكرنا.
(8/355)
عبد الرحمن بن
غسيلة أبو عبد الله المرادي الصنابحي، كان من الصلحاء، وكان عبد الملك
يجلسه معه على السرير، وكان عالما فاضلا، توفي بدمشق.
عمر بن سلمة المخزومي المدني ربيب النبي صلى الله عليه وسلم ولد بأرض
الحبشة.
سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو عبد الرحمن (1) كان عبدا
لام سلمة فأعتقته وشرطت عليه أن يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقال: أنا لا أزال أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم لو لم تعتقيني ما
عشت، وقد كانت سفينة بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم أليفا، وبهم
خليطا، وروى الطبراني أن سفينة سئل عن اسمه لم سمي سفينة ؟ قال: سماني
رسول الله صلى الله عليه وسلم سفينة، خرج مرة ومعه أصحابه فثقل عليهم
متاعهم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ابسط كساءك فبسطته
فجعل فيه متاعهم، ثم قال لي: احمل ما أنت إلا سفينة، قال فلو حملت
يومئذ وقر بعير أو بعيرين أو خمسة أو ستة ما ثقل علي " (2).
وروى محمد بن المنكدر عن سفينة قال: ركبت مرة سفينة في البحر فانكسرت
بنا فركبت لوحا منها فطرحني البحر إلى غيضة فيها الاسد فجاءني فقلت: يا
أبا الحارث أنا سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطأطأ رأسه
وجعل يدفعني بجنبه أو بكفه حتى وضعني على الطريق، ثم همهم همهمة فظننت
أنه يودعني.
وقال حماد بن سلمة: ثنا سعيد بن جهمان عن سفينة أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم " دخل بيت فاطمة فرأى في ناحية البيت قرما مضروبا فرجع ولم
يدخل، فقالت فاطمة لعلي: سل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الذي رده
؟ فسأله فقال: ليس لي ولا لنبي أن يدخل بيتا مزوقا ".
عمر بن أخطب أبو زيد الانصاري الاعرج غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم
ثلاث عشرة غزوة.
يزيد بن الاسود الجرشي السكوني كان عابدا زاهدا صالحا، سكن الشام بقرية
زيدين، وقيل بقرية جرين، وكانت له دار داخل باب شرقي، وهو مختلف في
صحبته، وله روايات عن الصحابة، وكان أهل الشام يستسقون به إذا قحطوا،
وقد استسقى به معاوية والضحاك بن قيس، وكان يجلسه معه على
__________
(1) في صفة الصفوة 1 / 671: واسمه مهران.
(وانظر الاصابة 2 / 58).
(2) أخرجه الامام أحمد في المسند 5 / 220.
(*)
(8/356)
المنبر، قال معاوية: قم يزيد اللهم إنا نتوسل إليك بخيارنا وصلحائنا،
فيستسقي الله فيسقون، وكان يصلي الصلوات في الجامع بدمشق، وكان إذا خرج
من القرية يريد الصلاة بالجامع في الليلة المظلمة يضئ له إبهام قدمه،
وقيل أصابع رجليه كلها حتى يدخل الجامع، فإذا رجع أضاءت له حتى يدخل
القرية.
وذكروا أنه لم يدع شجرة في قرية زيدين إلا صلى عندها ركعتين، وكان يمشي
في ضوء إبهامه في الليلة المظلمة ذاهبا إلى صلاة العشاء بالجامع بدمشق
وآتيا إلى قريته، وكان يشهد الصلوات بالجامع بدمشق لا تفوته به صلاة.
مات بقرية زيدين أو جرين من غوطة دمشق رحمه
الله. |