البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
البداية
والنهاية - ابن كثير ج 9
البداية والنهاية
ابن كثير ج 9
(9/)
البداية
والنهاية للامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي المتوفى
سنة 774 ه.
حققه ودقق اصوله وعلق حواشيه علي شيري الجزء التاسع دار إحياء التراث
العربي
(9/3)
جميع الحقوق
محفوظة لدار احياء التراث العربي طبعة جديدة محققة الطبعة الاولى 1408
ه 1988 م
(9/4)
بسم الله
الرحمن الرحيم
ثم دخلت سنة اربع وسبعين فيها عزل
عبد الملك طارق بن عمرو عن إمارة المدينة وأضافها إلى الحجاج بن يوسف
الثقفي، فقدمها فأقام بها أشهرا (1) ثم خرج معتمرا ثم عاد إلى المدينة
في صفر فأقام بها ثلاثة أشهر، وبنى في بني سلمة مسجدا، وهو الذي ينسب
إليه اليوم، ويقال إن الحجاج في هذه السنة وهذه المدة شتم جابرا وسهل
بن سعد (2) وقرعهما لم لا نصرا عثمان بن عفان، وخاطبهما خطابا غليظا
قبحه الله وأخزاه، واستقضى أبا إدريس الخولاني أظنه على اليمن والله
أعلم.
قال ابن جرير: وفيها نقض
الحجاج بنيان الكعبة الذي كان ابن الزبير بناه وأعادها على بنيانها
الاول، قلت: الحجاج لم ينقض بنيان الكعبة جميعه: بل إنما هدم الحائط
الشامي حتى أخرج الحجر من البيت ثم سده وأدخل في جوف الكعبة ما فضل من
الاحجار، وبقية الحيطان الثلاثة بحالها، ولهذا بقي البنيان الشرقي
والغربي وهما ملصقان بالارض كما هو المشاهد إلى يومنا هذا، ولكن سد
الغربي بالكلية وردم أسفل الشرقي حتى جعله مرتفعا كما كان في الجاهلية،
ولم يبلغ الحجاج وعبد الملك ما كان بلغ ابن الزبير من العلم النبوي
الذي كانت أخبرته به خالته عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما
تقدم ذلك من قوله: (لو لا أن قومك حديث عهدهم بكفر - وفي رواية -
بجاهلية لنقضت الكعبة وأدخلت فيها الحجر، وجعلت لها بابا شرقيا وبابا
غربيا، ولالصقتهما بالارض، فإن قومك قصرت بهم النفقة فلم يدخلوا فيها
الحجر ولم يتمموها على قواعد إبراهيم ورفعوا بابها ليدخلوا من شاؤوا
يمنعوا من شاؤوا " (3) فلما تمكن
__________
(1) في الطبري 7 / 206 وابن الاثير 4 / 365: شهرا.
(2) زيد في الطبري وابن الاثير: وأنس بن مالك، وقد قام الحجاج بختم
أيديهم وأعناقهم بالرصاص استخفف بهم واذلالا لهم كما يفعل بأهل الذمة.
(3) أخرجه مسلم في صحيحه عن عائشة عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
في الحج.
(69) باب.
ح (398) ص (968).
(*)
(9/5)
ابن الزبير
بناها كذلك، ولما بلغ عبد الملك هذا الحديث بعد ذلك قال: وددنا لو
تركناه وما تولى من ذلك.
وفي هذه السنة ولي المهلب بن أبي صفرة حرب الازارقة عن أمر عبد الملك
لاخيه بشر بن مروان أن يجهز المهلب إلى الخوارج في جيوش من البصرة
والكوفة، ووجد بشر على المهلب في نفسه حيث عينه عبد الملك في كتابه.
فلم يجد بدا من طاعته في تأميره على الناس في هذه الغزوة، وما كان له
من الامر شئ، غير أنه أوصى أمير الكوفيين عبد الله (1) بن مخنف أن
يستبد بالامر دونه، وأن لا يقبل له رأيا ولا مشورة، فسار المهلب بأهل
البصرة وأمراء الارباع معه على منازلهم حتى نزل برامهرمز، فلم يقم
عليها إلا عشرا حتى جاء نعي بشر بن مروان، وأنه مات (2) بالبصرة
واستخلف عليها خالد بن
عبد الله، فأرخى بعض الجيش ورجعوا إلى البصرة فبعثوا في آثارهم من
يردهم، وكتب خالد بن عبد الله إلى الفارين يتوعدهم إن لم يرجعوا إلى
أميرهم، ويتوعدهم بسطوة عبد الملك، فعدلوا يستأذنون عمرو بن حريث في
المصير إلى الكوفة فكتب إليهم: إنكم تركتم أميركم وأقبلتم عاصين
مخالفين، وليس لكم إذن ولا إمام ولا أمان، فلما جاءهم ذلك أقبلوا إلى
رحالهم فركبوها ثم ساروا إلى بعض البلاد فلم يزالوا مختفين بها حتى قدم
الحجاج واليا على العراق مكان بشر بن مروان كما سيأتي بيانه قريبا.
وفي هذه السنة عزل عبد الملك بكير بن وشاح (3) التميمي عن إمرة خراسان
وولاها أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد القرشي ليجتمع عليه الناس
فإنه قد كادت الفتنة تتفاقم بخراسان بعد عبد الله بن خازم، فلما قدم
أمية بن عبد الله خراسان عرض على بكير بن وشاح أن يكون على شرطته فأبى
وطلب منه أن يوليه طخارستان فخوفوه منه أن يخلعه هنالك فتركه مقيما
عنده.
قال ابن جرير: وحج بالناس فيها الحجاج وهو على إمرة المدينة ومكة
واليمن واليمامة.
قال ابن جرير: وقد قيل إن عبد الملك اعتمر في هذه السنة ولا نعلم صحة
ذلك.
ذكر من توفي فيها من الاعيان رافع
بن خديج بن رافع الانصاري، صحابي جليل شهد أحدا وما بعدها، وصفين مع
علي
__________
(1) في الطبري 7 / 207 وابن الاثير 4 / 366 والكامل للمبرد 2 / 263:
عبد الرحمن بن مخنف.
أما في فتوح ابن الاعثم 6 / 314: ورد على بشر كتاب عبد الملك
وفيه...إياك يا بشر ان تعزل المهلب عن حرب الازارقة ! فأعزلك كما عزلت
خالدا..أما بشر فإنه استشار قوما ممن يبغضون المهلب ودعا ثلاثة وندبهم
إلى حرب الازارقة..فقالوا: أيها الامير ليس لهذا الامر إلا المهلب.
(وانظر كتاب عبد الملك في الكامل للمبرد 2 / 262).
(2) اعتل بشر علة شديدة واستسقى بطنه فمات (الفتوح 6 / 319).
(3) في ابن الاثير: وساج.
(*)
(9/6)
وكان يتعانا
المزارع والفلاحة، توفي وهو ابن سنة وثمانين سنة، وأسند ثمانية وسبعين
حديثا
وأحاديثه جيدة.
وقد أصابه يوم أحد سهم في ترقوته فخيره رسول الله صلى الله عليه وسلم
بين أن ينزعه منه وبين أن يترك فيه العطبة ويشهد له يوم القيامة،
فاختار هذه، وانتقض عليه في هذه السنة فمات منه رحمه الله.
أبو سعيد الخدري هو سعد بن مالك بن سنان (1) الانصاري الخزرجي، صحابي
جليل من فقهاء الصحابة استصغر يوم أحد، ثم كان أول مشاهده الخندق، وشهد
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثنتي عشرة غزوة، وروى عنه أحاديث
كثيرة، وعن جماعة من الصحابة، وحدث عنه خلق من التابعين وجماعة من
الصحابة، كان من نجباء الصحابة وفضلائهم وعلمائهم.
قال الواقدي وغيره: ما ت سنة أربع وسبعين وقيل قبلها بعشر سنين فالله
أعلم.
قال الطبراني: حدثنا المقدام بن داود، ثنا خالد بن نزار، ثنا هشام بن
سعيد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري.
قال: قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء ؟ فقال: (النبيون قلت: ثم أي
؟ قال: ثم الصالحون، إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا السترة
- وفي رواية - إلا العباءة أو نحوها، وإن أحدهم ليبتلى بالقمل حتى ينبذ
القمل، وكان أحدهم بالبلاء أشد فرحا منه بالرخاء).
وقال قتيبة بن سعيد: ثنا الليث بن سعد، عن ابن عجلان، عن سعيد المقبري،
عن أبي سعيد الخدري: أن أهله شكوا إليه الحاجة فخرج إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم يسأل لهم شيئا، فوافقه على المنبر وهو يقول: (أيها
الناس قد آن لكم أن تستغنوا عن المسألة فإنه من يستعف يعفه الله ومن
يستغن يغنه الله، والذي نفس محمد بيده ما رزق الله عبدا من رزق أوسع له
من الصبر، ولئن أبيتم إلا أن تسألوني لاعطينكم ما وجدت ".
وقد رواه الطبراني عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد نحوه.
عبد الله بن عمر ابن الخطاب القرشي العدوي.
أبو عبد الرحمن المكي ثم المدني أسلم قديما مع أبيه ولم يبلغ الحلم
وهاجرا وعمره عشر سنين، وقد استصغر يوم أحد، فلما كان يوم الخندق أجازه
وهو ابن خمس
عشرة سنة فشهدها وما بعدها، وهو شقيق حفصة بنت عمر أم المؤمنين، أمهما
زينب بنت مظعون أخت عثمان بن مظعون، وكان عبد الله بن عمر ربعة من
الرجال آدم له جمة تضرب إلى منكبيه جسيما يخضب بالصفرة ويحفى شاربه،
وكان يتوضأ لكل صلاة ويدخل الماء في أصول عينيه، وقد أراده
__________
(1) في أسد الغابة 2 / 289: شيبان، وفي الاصابة والاستيعاب والمعارف
فكالاصل.
(سنان) وهو مشهور بكنيته الخدري، منسوب إلى الخدرة وهم من اليمن.
(9/7)
عثمان على
القضاء فأبى ذلك، وكذلك أبوه، وشهد اليرموك والقادسية وجلولاء وما
بينهما من وقائع الفرس، وشهد فتح مصر، واختط بها دارا، وقدم البصرة
وشهد غزو فارس وورد المدائن مرارا وكان عمره يوم مات النبي صلى الله
عليه وسلم ثنتين وعشرين سنة، وكان إذا أعجبه شئ من ماله يقربه إلى الله
عز وجل، وكأن عبيده قد عرفوا ذلك منه، فربما لزم أحدهم المسجد فإذا رآه
ابن عمر على تلك الحال أعتقه، فيقال له: إنهم يخدعونك، فيقول: من خدعنا
لله انخدعنا له، وكان له جارية يحبها كثيرا فأعتقها وزوجها لمولاه
نافع، وقال: إن الله تعالى يقول (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون)
[ آل عمران: 92 ] واشترى مرة بعيرا فأعجبه لما ركبه فقال: يا نافع
أدخله في إبل الصدقة، وأعطاه ابن جعفر في نافع عشرة آلاف فقال: أو خيرا
من ذلك ؟ هو حر لوجه الله، واشترى مرة غلاما بأربعين ألفا وأعتقه فقال
الغلام: يا مولاي قد أعتقتني فهب لي شيئا أعيش به فأعطاه أربعين ألفا،
واشترى مرة خمسة عبيد فقام يصلي فقاموا خلفه يصلون فقال: لمن صليتم هذه
الصلاة ؟ فقالوا: لله ! فقال: أنتم أحرار لمن صليتم له، فأعتقهم.
والمقصود أنه ما مات حتى أعتق ألف رقبة، وربما تصدق في المجلس الواحد
بثلاثين ألفا، وكانت تمضي عليه الايام الكثيرة والشهر لا يذوق فيه لحما
إلا وعلى يديه يتيم، وبعث إليه معاوية بمائة ألف لما أراد أن يبايع
ليزيد، فما حال عليه الحول وعنده منها شئ، وكان يقول: إنى لا أسأل أحدا
شيئا، وما رزقني الله فلا أرده.
وكان في مدة الفتنة لا يأتي أمير إلا صلى خلفه، وأدى إليه زكاة ماله،
وكان أعلم الناس بمناسك الحج، كان يتتبع آثار رسول الله صلى الله عليه
وسلم ويصلي فيها، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل تحت شجرة وكان
ابن عمر يتعاهدها ويصب في
أصلها الماء، وكان إذا فاتته العشاء في جماعة أحيا تلك الليلة، وكان
يقوم أكثر الليل، وقيل إنه مات وهو في الفضل مثل أبيه، وكان يوم مات
خير من بقي، ومكث ستين سنة يفتي الناس من سائر البلاد، وروى عن النبي
صلى الله عليه وسلم، أحاديث كثيرة، وروى عن الصديق وعن عمر وعثمان وسعد
وابن مسعود وحفصة وعائشة وغيرهم.
وعنه خلق منهم بنوه حمزة وبلال وزيد وسالم وعبد الله وعبيد الله وعمر
إن كان محفوظ، وأسلم مولى أبيه وأنس بن سيرين والحسن وسعيد بن جبير
وسعيد بن المسيب وطاووس وعروة وعطاء وعكرمة ومجاهد وابن سيرين والزهري
ومولاه نافع.
وثبت في الصحيح عن حفصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن عبد
الله رجل صالح لو كان يقوم الليل ".
وكان بعد يقوم الليل، وقال ابن مسعود: إن من أملك شباب قريش لنفسه عن
الدنيا ابن عمر.
وقال جابر: ما منا أحد أدرك الدنيا إلا مالت به ومال بها، إلا ابن عمر،
وما أصاب أحد من الدنيا شيئا إلا نقص من درجاته عند الله وإن كان عليه
كريما، وقال سعيد بن المسيب: مات ابن عمر يوم مات وما من الدنيا أحد
أحب أن لقى الله بمثل عمله منه، وقال الزهري لا يعدل برأيه فإنه أقام
بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستين سنة، فلم يخف عليه شئ من أمره
ولا من أمر أصحابه رضي الله عنهم.
وقال مالك: بلغ ابن عمر ستا وثمانين سنة وأفتى في الاسلام ستين سنة،
تقدم عليه وفود الناس من
(9/8)
أقطار الارض،
قال الواقدي وجماعة: توفي ابن عمر سنة أربع وسبعين، وقال الزبير بن
بكار وآخرون: توفي سنة ثلاث وسبعين والاول أثبت والله أعلم.
عبيد بن عمير ابن قتادة بن سعد بن عامر بن خندع (1) بن ليث، الليثي ثم
الخندعي، أبو عاصم المكي قاضي أهل مكة، قال مسلم بن الحجاج.
ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وقال غيره ورآه أيضا، وروى عن
أبيه، وله صحبة، وعن عمر وعلي وأبي هريرة وابن عباس وابن عمر وعبد الله
بن عمر وأم سلمة وغيرهم، وعنه جماعة من التابعين وغيرهم، ووثقة ابن
معين وأبو زرعة وغير واحد.
وكان ابن عمر يجلس في حلقته ويبكي وكان يعجبه تذكيره، وكان بليغا، وكان
يبكي حتى يبل الحصى بدموعه.
قال مهدي بن ميمون عن غيلان بن جرير قال: كان عبيد بن عمير إذا آخى
أحدا في الله استقبل به القبلة فقال: اللهم اجعلنا سعداء بما جاء به
نبيك، واجعل محمدا شهيدا علينا بالايمان، وقد سبقت لنا منك الحسنى غير
متطاول علينا الامد، ولا قاسية قلوبنا ولا قائلين ما ليس لنا بحق، ولا
سائلين ما ليس لنا به علم.
وحكى البخاري عن ابن جريج أن عبيد بن عمير مات قبل ابن عمر رضي الله
عنه.
أبو جحيفة وهب بن عبد الله السوائي، صحابي رأى النبي صلى الله عليه
وسلم، وكان دون البلوغ عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لكن روى عنه
عدة أحاديث، وعن علي والبراء بن عازب، وعنه جماعة من التابعين، منهم
إسماعيل بن أبي خالد، والحكم وسلمة بن كهيل والشعبي وأبو إسحاق
السبيعي، وكان قد نزل الكوفة وابتنى بها دارا وتوفي في هذه السنة، وقيل
في سنة أربع وتسعين فالله أعلم.
وكان صاحب شرطة علي، وكان علي إذا خطب يقوم أبو جحيفة تحت منبره.
سلمة بن الاكوع ابن عمرو بن سنان الانصاري وهو أحد من بايع تحت الشجرة،
وكان من فرسان الصحابة ومن علمائهم، كان يفتي بالمدينة، وله مشاهد
معروفة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعده، توفي بالمدينة وقد
جاوز السبعين سنة.
مالك بن أبي عامر الاصبحي المدني وهو جد الامام مالك بن أنس، روى عنه
جماعة من الصحابة وغيرهم وكان فاضلا عالما، توفي بالمدينة.
__________
(1) في أسد الغابة 3 / 353 والاستيعاب على هامش الاصابة 2 / 441: جندع
ثم الجندعي.
(*)
(9/9)
أبو عبد الرحمن
السلمي مقرئ أهل الكوفة بلا مدافعة واسمه عبد الله بن حبيب، قرأ القرآن
على عثمان بن عفان وابن
مسعود، وسبمع من جماعة من الصحابة وغيرهم، وأقرأ الناس القرآن بالكوفة
من خلافة عثمان إلى إمرة الحجاج، قرأ عليه عاصم بن أبي النجود وخلق
غيره، توفي بالكوفة.
أبو معرض الاسدي اسمه مغيرة بن عبد الله الكوفي، ولد في حياة النبي صلى
الله عليه وسلم، ووفد على عبد الملك بن مروان وامتدحه، وله شعر جيد،
ويعرف بالاقطشي، وكان أحمر الوجه كثير الشعر، توفي بالكوفة في هذه
السنة، وقد قارب الثمانين سنة.
بشر بن مروان الاموي أخو عبد الملك بن مروان، ولي إمرة العراقين لاخيه
عبد الملك، وله دار بدمشق عند عقبة اللباب، وكان سمحا جوادا، وإليه
ينسب دير مروان عند حجير، وهو الذي قتل خالد بن حصين الكلابي يوم مرج
راهط، وكان لا يغلق دونه الابواب ويقول: إنما يحتجب النساء، وكان طليق
الوجه، وكان يجيز على الشعر بألوف، وقد امتدحه الفرزدق والاخطل،
والجهمية تستدل على الاستواء على العرش بأنه الاستيلاء ببيت الاخطل: قد
استوى بشر على العراق * من غير سيف ودم مهراق وليس فيه دليل، فإن هذا
استدلال باطل من وجوه كثيرة، وقد كان الاخطل نصرانيا، وكان سبب موت بشر
أنه وقعت القرحة في عينه فقيل له يقطعها من المفصل فجزع فما أحس حتى
خالطت الكتف، ثم أصبح وقد خالطت الجوف ثم مات، ولما احتضر جعل يبكي
ويقول: والله لوددت أني كنت عبدا أرعى الغنم في البادية لبعض الاعراب
ولم أل ما وليت، فذكر قوله لابي حازم - أو لسعيد بن المسيب -، فقال:
الحمد الله الذي جعلهم عند الموت يفرون إلينا ولم يجعلنا نفر إليهم،
إنا لنرى فيهم عبرا، وقال الحسن: دخلت عليه فإذا هو يتململ على سريره
ثم نزل عنه إلى صحن الدار، والاطباء حوله.
مات بالبصرة في هذه السنة وهو أول أمير مات بها، ولما بلغ عبد الملك
موته حزن عليه وأمر الشعراء أن يرثوه والله سبحانه وتعالى أعلم.
ثم دخلت سنة خمس وسبعين
ففيها غزا محمد بن مروان - أخو عبد الملك بن مروان وهو والد مروان
الحمار - صائفة الروم
(9/10)
حين خرجوا من
عند مرعش، وفيها ولى عبد الملك نيابة المدينة ليحيى بن [ الحكم بن ]
(1) أبي العاص، وهو عمه، وعزل عنها الحجاج.
وفيها ولى عبد الملك الحجاج بن يوسف نيابة العراق والبصرة والكوفة وما
يتبع ذلك من الاقاليم الكبار، وذلك بعد موت يخيه بشر، فرأى عبد الملك
أنه لا يسد عنه أهل العراق غير الحجاج لسطوته وقهره وقسوته وشهامته،
فكتب إليه وهو بالمدينة ولاية العراق، فسار من المدينة إلى العراق في
أثنى عشر راكبا، فدخل الكوفة على حين غفلة من أهلها وكان تحتهم
النجائب، فنزل قريب الكوفة فاغتسل واختضب ولبس ثيابه وتقلد سيفه وألقى
عذبة العمامة بين كتفيه، ثم سار فنزل دار الامارة، وذلك يوم الجمعة وقد
أذن المؤذن الاول لصلاة الجمعة، فخرج عليهم وهم لا يعلمون، فصعد المنبر
وجلس عليه وأمسك عن الكلام طويلا، وقد شخصوا إليه بأبصارهم وجثوا على
الركب وتناولوا الحصى ليحذفوه بها، وقد كانوا حصبوا الذي كان قبله،
فلما سكت أبهتهم وأحبوا أن يسمعوا كلامه، فكان أول (2) ما تكلم به أن
قال: يا أهل العراق يا أهل الشقاق والنفاق، ومساوي الاخلاق، والله إن
كان أمركم ليهمني قبل أن آتي إليكم، ولقد كنت أدعو الله أن يبتليكم بي،
ولقد سقط مني البارحة سوطي الذي أؤدبكم به، فاتخذت هذا مكانه - وأشار
إلى سيفه -، ثم قال: والله لآخذن صغيركم بكبيركم، وحركم بعبدكم، ثم
لارصعنكم رصع الحداد الحديدة، والخباز العجينة.
فلما سمعوا كلامه جعل الحصى يتساقط من أيديهم، وقيل إنه دخل الكوفة في
شهر رمضان ظهرا فأتى المسجد وصعد المنبر وهو معتجر بعمامة حمراء متلثم
بطرفها، ثم قال: علي بالناس ! فظنه الناس وأصحابه من الخوارج فهموا به
حتى إذا اجتمع الناس قام وكشف عن وجهه اللثام وقال: أنا ابن جلا وطلاع
الثنايا * متى أضع العمامة تعرفوني (3) ثم قال: أما والله إني لاحمل
الشئ (6) بحمله، وأحذوه بنعله، وأحزمه (5) بفتله، وإني لارى
__________
(1) من الطبري 7 / 210.
(2) في الطبري وابن الاثير: فلما كان اليوم الثالث (قام فخطبهم).
وفي الكامل للمبرد 1 / 158: وخطب الحجاج بن يوسف ذات يوم جمعة.
وفي البيان والتبيين للجاحظ: دخل الكوفة فجأة فبدأ بالمسجد فدخله.
(3) البيت لسحيم بن وثيل الرياحي.
- قوله ابن جلا: هو الصبح لانه يجلو الظلمة.
طلاع الثنايا: العارف بالامور والشديد المجرب والثنايا أيضا: ما صغر من
الجبال ونتأ.
وفي الفتوح 7 / 5 والعقد الفريد 4 / 180 زادا أبياتا: صليب العود من
سلفي نزار * كنصل السيف وضاح الجبين وماذا يبتغي الاقران مني * وقد
جاوزت حد الاربعين أخو الخمسين مجتمع اشدي * وهمي في مداواة الشؤون
وإني لن يعود إلي قرني * غداة الروع إلا بعد حين (4) في البيان
والتبيين 2 / 224 وابن الاثير 4 / 375 والطبري 7 / 210: الشر.
(*)
(9/11)
رؤوسا قد أينعت
وآن (1) اقتطافها، إني لانظر إلى الدماء تترقرق بين العمائم واللحى.
قد شمرت عن ساقها فشمري ثم أنشد: - (2) هذا أو ان الشد فاشتدي زيم * قد
لفها الليل بسواق حطم (3) لست براعي إبل ولاغنم * ولا بجزار على ظهر
وضم (4) [ ثم قال ] (5) قد لفها الليل بعصلبي (6) أروع خراج من الدوي
مهاجر ليس بأعرابى ثم قال: إني والله يا أهل العراق ما أغمز بغماز (7)،
ولا يقعقع لي بالشنان، ولقد فررت عن ذكاء (8) وجربت (9) من الغاية
القصوى، وإن أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان نثر كنانته ثم عجم
عيدانها عودا عودا فوجدني أمرها عودا وأصلبها مغمزا (10) فوجهني إليكم،
فأنتم طالما رتعتم (11) في أودية
الفتن، وسلكتم سبيل الغي (12)، واخترتم جدد الضلال (13)، أما والله
لالحونكم لحي العود،
__________
(5) في المراجع السابقة: وأجزيه بمثله.
(1) في المراجع: حان، وزاد في مروج الذهب: 3 / 154: إنى والله لارى
أبصارا طامحة، وأعناقا متطاولة، ورؤوسا...(2) الابيات من الرجز وهي
منسوبة لروشيد بن رميض العنبري.
(3) قوله فاشتدي زيم: هو اسم للحرب.
والحطم: الذي يحطم كل ما مر به.
(4) وضم: ما وقي به اللحم عن الارض.
(5) استدرك من المراجع.
(6) - العصلبى: الشديد.
(7) في المراجع السابقة: لا أغمز كتغماز التين.
(8) فر: كشف عن اسنانه ليعرف عمره.
ذكاء: نهاية الشباب.
(9) في الطبري وابن الاثير: وجريت إلى الغاية القصوى، وفى البيان
والتبيين: وفتشت عن تجربة، وجريت من الغاية.
(10) في البيان والتبيين: وأصلبها عمودا، وفي الكامل للمبرد والطبري
وابن الاثير: وأصلبها مكسرا، وعجم عيدانها: يعني عضها واختبرها.
(11) في الطبري والكامل للمبرد والبيان والتبيين وابن الاثير: أوضعتم.
والايضاع: السير بين القوم.
(12) في الطبري والبيان والتبيين وابن الاثير: وسننتم سنن الغي.
وفي مروج الذهب: طالما سعيتم في الضلالة وسلكتم سبيل الغواية وسننتم
سنن السوء وتماديتم في الجهالة.
(13) في الكامل للمبرد، والبيان والتبيين: واضطجعتم في مراقد الضلال.
(*)
(9/12)
ولاعصبنكم عصب
السلمة، (1) ولاضربنكم ضرب غرائب الابل (2)، إنى والله لا أعد إلا
وفيت، ولا أخلق إلا فريت (3)، فإياى وهذه الجماعات وقيلا وقالا، والله
لتستقيمن على سبيل
الحق أو لادعن لكل رجل منكم شغلا في جسده.
ثم قال: من وجدت بعد ثالثة من بعث المهلب - يعني الذين كانوا قد رجعوا
عنه لما سمعوا بموت بشر بن مروان كما تقدم - سفكت دمه وانتهبت ماله، ثم
نزل فدخل منزله ولم يزد على ذلك، ويقال إنه لما صعد المنبر واجمتمع
الناس تحته أطال السكوت حتى أن محمد بن عمير أخذ كفا من حصى وأراد أن
يحصبه بها، وقال: قبحه الله ما أعياه وأذمه ! فلما نهض الحجاج وتكلم
بما تكلم به جعل الحصى يتناثر من يده وهو لا يشعر به، لما يرى من
فصاحته وبلاغته.
ويقال إنه قال في خطبته هذه (4): شاهت الوجوه إن الله ضرب (مثلا قرية
كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله
فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون) [ النحل: 112 ]
وأنتم أولئك فاستووا واستقيموا، فوالله لاذيقنكم الهوان حتى تذروا،
ولاعصبنكم عصب السلمة حتى تنقادوا، وأقسم بالله لتقبلن على الانصاف
ولتدعن الارجاف وكان وكان، واخبرني فلان عن فلان، وإيش الخبر وما
الخبر، أو لاهبرنكم بالسيف هبرا يدع النساء أيامى والاولاد يتامى، حتى
تمشوا السمهى (5) وتقلعوا عن هاوها.
في كلام طويل بليغ غريب يشتمل على وعيد شديد ليس فيه وعد بخير.
فلما كان في اليوم الثالث سمع تكبيرا في السوق فخرج حتى جلس على المنبر
فقال: يا أهل العراق يا أهل الشقاق والنفاق، ومساوي الاخلاق، إني سمعت
تكبيرا في الاسواق ليس بالتكبير الذي يراد به الترغيب، ولكنه تكبير
يراد به الترهيب.
وقد عصفت عجاجة تحتها قصف، يا بني اللكيعة وعبيد العصا وأبناء الاماء
والايامى، ألا يربع كل رجل منكم على ظلمه، ويحسن حقن دمه، ويبصر موضع
قدمه، فأقسم بالله لا وشك أن أوقع بكم وقعة تكون نكالا لما قبلها وأدبا
لما بعدها.
قال فقام إليه عمير بن ضابئ التميمي ثم الحنظلي فقال: أصلح الله الامير
إنا في هذا البعث
__________
(1) في الكامل للمبرد: لاحزمنكم حزم السلمة، والمعنى واحد.
(2) بعدها في ابن الاثير: حتى تذروا العصيان وتنقادوا، ولاقرعنكم قرع
المروة حتى تلينوا.
(3) أخلق: الخلق التقدير.
ويقال فريت الاديم إذا أصلحته.
(4) انظر الخطبة وبعض زيادة في ابن الاثير 4 / 376 الكامل للمبرد 1 /
224 والبيان والتبيين 2 / 224 مروج المذهب
3 / 155 وفتوح ابن الاعثم 7 / 5 - 9 (5) السهمى: الباطل، وأصله ما
تسميه العامة مخاط الشيطان، وهو لعاب الشمس عند الظهيرة، قال فيه أبو
النجم العجلي: وذاب للشمس لعاب فنزل * وقام ميزان الزمان فاعتدل (*)
(9/13)
وأنا شيخ كبير
وعليل: وهذا ابني هو أشب مني.
قال: ومن أنت ؟ قال عمير بن ضابئ التميمي، قال: أسمعت كلامنا بالامس ؟
قال: نعم ! قال: ألست الذي غزا عثمان بن عفان ؟ قال: بلى قال: وما حملك
على ذلك ؟ قال: كان حبس أبي وكان شيخا كبيرا، قال أو ليس هو الذي يقول:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني * فعلت ووليت البكاء حلائلا (1) ثم قال
الحجاج: إني لاحسب أن في قتلك صلاح المصرين، ثم قال قم إليه يا حرسي
فاضرب عنقه، فقام إليه رجل فضرب عنقه وانتهب ماله، وأمر مناديا فنادى
في الناس ألا إن عمير بن ضابئ تأخر بعد سماع النداء ثلاثا فأمر بقتله،
فخرج الناس حتى ازدحموا على الجسر فعبر عليه في ساعة واحدة أربعة آلاف
من مذحج، وخرجت معهم العرفاء حتى وصلوا بهم إلى المهلب، وأخذوا منه
كتابا بوصولهم إليه، فقال المهلب: قدم العراق والله رجل ذكر، اليوم
قوتل العدو.
ويروى أن الحجاج لم يعرف عمير بن ضابئ حتى قال له عنبسة بن سعيد: أيها
الامير ! إن هذا جاء إلى عثمان بعد ما قتل فلطم وجهه (2)، فأمر الحجاج
عند ذلك بقتله.
وبعث الحجاج الحكم بن أيوب الثقفي نائبا على البصرة من جهته، وأمره أن
يشتد على خالد بن عبد الله، وأقر على قضاء الكوفة شريحا ثم ركب الحجاج
إلى البصرة واستخلف على الكوفة أبا يعفور، وولى قضاء البصرة لزرارة بن
أوفى، ثم عاد إلى الكوفة.
وحج بالناس في هذه السنة عبد الملك بن مروان، وأقر عمه يحيى على نيابة
المدينة، وعلى بلاد خراسان أمية بن عبد الله.
وفي هذه السنة وثب الناس بالبصرة على الحجاج، وذلك أنه لما ركب من
الكوفة بعد قتل عمير بن ضابئ قام في أهل البصرة فخطبهم نظير ما خطب أهل
الكوفة من الوعيد والتشديد والتهديد الاكيد، ثم أتي برجل من بني يشكر
(3) فقيل هذا عاص، فقال: إن بي فتقا وقد عذرني الله وعذرني بشر بن
مروان،
وهذا عطائي مردود على بيت المال، فلم يقبل منه وأمر بقتله فقتل، ففزع
أهل البصرة وخرجوا من البصرة حتى اجتمعوا عند قنطرة رامهرمز.
وعليهم عبد الله بن الجارود، وخرج إليهم الحجاج - وذلك في شعبان من هذه
السنة - في أمراء الجيش فاقتتلوا هناك قتالا شديدا، وقتل أميرهم عبد
الله بن الجارود في رؤوس من القبائل معه، وأمر برؤوسهم فقطعت ونصبت عند
الجسر من رامهرمز، ثم بعت بها إلى المهلب فقوي بذلك وضعف أمير الخوارج،
وأرسل الحجاج إلى المهلب وعبد الرحمن بن مخنف فأمرهما بمناهضة
الازارقة، فنهضا بمن معهما إلى الخوارج الازارقة فأجلوهم عن أماكنهم من
رامهرمز بأيسر قتال، فهربوا إلى أرض كازرون من أقليم سابور، وسار الناس
وراءهم
__________
(1) في إبن الاثير: تركت على عثمان تبكي حلائله.
(2) في مروج الذهب 3 / 157: كسر ضلعا من أضلاعه.
(3) في ابن الاثير 4 / 380: هو شريك بن عمرو اليشكري.
ولقب ذا الكرسفة.
(*)
(9/14)
فالتقوا في
العشر الاواخر (1) من رمضان، فلما كان الليل بيت الخوارج المهلب من
الليل فوجدوه قد تحصن بخندق حول معسكره، فجاؤوا إلى عبد الرحمن بن مخنف
فوجوده غير محترز - وكان المهلب قد أمره بالاحتراز بخندق حوله فلم يفعل
- فاقتتلوا في الليل فقتلت الخوارج عبد الرحمن بن مخنف وطائفة من جيشه
وهزموهم هزيمة منكرة، ويقال إن الخوارج لما التقوا مع الناس في هذه
الوقعة كان ذلك في يوم الاربعاء لعشرين بقين من رمضان، فاقتتلوا قتالا
شديدا لم يعهد مثله من الخوارج، وحملت الخوارج على جيش المهلب بن أبي
صفرة فاضطروه إلى معسكره، فجعل عبد الرحمن يمده بالخيل بعد الخيل،
والرجال بعد الرجال، فمالت الخوارج إلى معسكر عبد الرحمن بعد العصر
فاقتتلوا معه إلى الليل، فقتل عبد الرحمن في أثناء الليل، وقتل معه
طائفة كثيرة من أصحابه الذين ثبتوا معه، فلما كان الصباح جاء المهلب
فصلى عليه ودفنه وكتب إلى الحجاج بمهلكه، فكتب الحجاج إلى عبد الملك
يعزيه فيه فنعاه عبد الملك إلى الناس بمنى، وأمر الحجاج مكانه عتاب بن
ورقاء، وكتب إليه أن يطيع المهلب، فكره ذلك ولم يجد بدا من طاعة
الحجاج، وكره أن يخالفه، فسار إلى المهلب فجعل لا
يطيعه إلا ظاهرا ويعصيه كثيرا، ثم تقاولا فهم المهلب أن يوقع بعتاب ثم
حجز بينهما الناس، فكتب عتاب إلى الحجاج يشكوا المهلب فكتب إليه أن
يقدم عليه وأعفاه من ذلك، وجعل المهلب مكانه ابنه حبيب بن المهلب.
وفيها خرج داود بن النعمان المازني بنواحي البصرة، فوجه إليه الحجاج
أمير اعلى سرية فقتله.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة تحرك صالح بن مسرح أحد بني امرئ القيس،
وكان يرى رأي الصفرية (2)، وقيل إنه أول من خرج من الصفرية، وكان سبب
ذلك أنه حج بالناس في هذه السنة ومعه شبيب بن يزيد، والبطين وأشباههم
من رؤوس الخوارج، واتفق حج أمير المؤمنين عبد الملك فهم شبيب بالفتك
به، فبلغ عبد الملك ذلك من خبره بعد انصرافه من الحج، فكتب عبد الملك
إلى الحجاج أن يتطلبهم، وكان صالح بن مسرح هذا يكثر الدخول إلى الكوفة
والاقامة بها، وكان له جماعة يلوذون به ويعتقدونه، من أهل دارا وأرض
الموصل، وكان يعلمهم القرآن ويقص عليهم وكان مصفرا كثير العبادة، وكان
إذا قص يحمد الله ويثني عليه ويصلي على رسوله، ثم يأمر بالزهد في
الدنيا والرغبة في الآخرة، ويحث على ذكر الموت ويترحم على الشيخين أبي
بكر وعمر، ويثني عليهما ثناء حسنا، ولكن بعد ذلك يذكر عثمان فيه وينال
منه وينكر عليه أشياء من جنس ما كان ينكر عليه الذين خرجوا عليه وقتلوه
من فجرة أهل الامصار، ثم يحض أصحابه على الخروج مع الخوارج للامر
__________
(1) في الطبري 7 / 215: في أول رمضان وفي رواية فيه: وفي ابن الاثير
لعشر بقين من رمضان يوم الاربعاء.
(2) قال في الفرق بين الفرق ص 61: هؤلاء أتباع زياد بن الاصفر وقولهم
في الجملة كقول الازارقة في أن أصحاب الذنوب مشركون، وكل ذنب ليس فيه
حد، وان المؤمن المذنب يفقد اسم الايمان في الوجهين جميعا.
والصفرية يقولون بموالاة عبد الله بن وهب الراسبي وحرقوص بن زهير
واتباعهما من المحكمة الاولى.
(*)
(9/15)
بالمعروف
والنهي عن المنكر، وإنكار ما قد شاع في الناس وذاع، ويهون عليهم القتل
في طلب ذلك، ويذم الدنيا ذما بالغا، ويصغر أمرها ويحقره، فالتفت عليه
جماعة من الناس، وكتب إليه شبيب بن يزيد الخارجي يستبطئه في الخروج
ويحثه عليه ويندب إليه، ثم قدم شبيب على صالح وهو بدارا
فتواعدوا وتوافقوا على الخروج في مستهل صفر من هذه السنة الآتية - وهي
سنة ست وسبعين - وقدم على صالح شبيب وأخوه مصاد والمجلل والفضل بن
عامر، فاجتمع عليه من الابطال وهو بدارا نحو مائة وعشرة أنفس، ثم وثبوا
على خيل لمحمد بن مروان فأخذوها ونفروا بها ثم كان من أمرهم بعد ذلك ما
كان، كما سنذكره في هذه السنة التي بعدها إن شاء الله تعالى.
وكان ممن توفي فيها في قول أبي مسهر وأبي عبيد: العرباض بن سارية رضي
الله عنه السلمي أبو نجيح سكن حمص وهو صحابي جليل، أسلم قديما هو عمرو
بن عنبسة ونزل الصفة، وكان من البكائين المذكورين في سورة براءة كما قد
ذكرنا أسماءهم عند قوله (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم) [ التوبة:
92 ] الآية.
وكانوا تسعة (1) وهو راوي حديث (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
خطبة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون) الحديث إلى آخره.
ورواه أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي وغيره، وروى أيضا أن النبي صلى
الله عليه وسلم (كان يصلي على الصف المقدم ثلاثا وعلى الثاني واحدة)
وقد كان العرباض شيخا كبيرا، وكان يحب أن يقبضه الله إليه، وكان يدعو:
اللهم كبرت سني ووهن عظمي فاقبضني إليك، وروى أحاديث.
أبو ثعلبة الخشني صحابي جليل شهد بيعة الرضوان وغزا حنينا وكان ممن نزل
الشام بداريا غربي دمشق إلى جهة القبلة، وقيل ببلاط قرية شرقي دمشق
فالله أعلم.
وقد اختلف في اسمه واسم أبيه على أقوال كثيرة، والاشهر منها جرثوم بن
ناشر، وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث وعن جماعة من
الصحابة، وعنه جماعة من التابعين، منهم سعيد بن المسيب ومكحول الشامي
وأبو إدريس الخولاني، وأبو قلابة الجرمي، وكان ممن يجالس كعب الاحبار،
وكان في كل ليلة يخرج فينظر إلى السماء فيتفكر ثم يرجع إلى المنزل
فيسجد لله عزوجل، وكان يقول: إنى لارجو أن لا يخنقني الله عند الموت
كما أراكم تختنقون، فبينما هو ليلة يصلي من الليل إذا قبضت روحه وهو
ساجد.
ورأت ابنته في
__________
(1) قالوا: نزلت في عرباض بن سارية، وقيل نزلت في عائذ بن عمرو، وقيل
نزلت في بني مقرن وكانوا سبعة أخوة وعلى هذا جمهور المفسرين (تفسير
القرطبي 8 / 228).
وقال ابن عبد البر في كتاب الدرر: نزلت في سبعة نفر من بطون شتى وهم
البكاؤون أتوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في غزوة تبوك ليحملهم
فلم يجد ما يحملهم عليه...فمسوا البكائين وهم: سالم بن عمير من بني
عمرو بن عوف، وعلبة بن زيد أخو حارثة، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب من
بني مازن بن النجار، وعمرو بن الحمام، وعبد الله بن مغفل المزني، وهرمي
بن عبد الله أخو بني واقف، وعرياض بن سارية الفزاري.
(*)
(9/16)
المنام كأن
أباها قد مات فانتبهت مذعورة فقالت لامها أين أبي ؟ قالت: هو في مصلاه،
فنادته فلم يجبها، فجاءته فحركته فسقط لجنبه فإذا هو ميت رحمه الله،
قال أبو عبيدة ومحمد بن سعد وخليفة وغير واحد: كانت وفاته سنة خمس
وسبعين، وقال غيرهم: كانت وفاته في أول إمرة معاوية فالله أعلم.
وقد توفي في هذه السنة.
الاسود بن يزيد صاحب ابن مسعود، وهو الاسود بن يزيد النخعي من كبار
التابعين، ومن أعيان أصحاب ابن مسعود، ومن كبار أهل الكوفة، وكان يصوم
الدهر، وقد ذهبت عينه من كثرة الصوم، وقد حج البيت ثمانين حجة وعمرة.
وكان يهل من الكوفة، توفي في هذه السنة، وكان يصوم حتى يخضر ويصفر،
فلما احتضر بكى فقيل له: ما هذا الجزع ؟ فقال: مالي لا أجزع ؟ ومن أحق
بذلك مني ؟ والله لو أنبئت بالمغفرة من الله لاهابن الحياء منه مما قد
صنعت، إن الرجل ليكون بينه وبين الرجل الذنب الصغير فيعفو فلا يزال
مستحييا منه.
حمران بن أبان مولى عثمان بن عفان كان من سبي عين النمر اشتراه عثمان،
وهو الذي كان يأذن الناس على عثمان توفي في هذه السنة والله سبحانه
أعلم.
ثم دخلت سنة ست وسبعين
كان في أولها في مستهل صفر منها ليلة الاربعاء اجتماع صالح بن مسرح
أمير الصفرية، وشبيب بن يزيد أحد شجعان الخوارج، فقام فيهم صالح بن
مسرح فأمرهم بتقوى الله وحثهم على
الجهاد، وأن لا يقاتلوا أحدا حتى يدعوه إلى الدخول معهم، ثم مالوا إلى
دواب محمد بن مروان نائب الجزيرة فأخذوها فنفروا بها، وأقاموا بأرض
دارا ثلاثة عشر ليلة، وتحصن منهم أهل دارا ونصيبين وسنجار، فبعث إليهم
محمد بن مروان نائب الجزيرة خمسمائة فارس عليهم عدي بن عدي بن عميرة،
ثم زاده خمسمائة أخرى فسار في ألف من حران إليهم، وكأنما يساقون إلى
الموت وهم ينظرون، لما يعلموا من جلد الخوارج وقوتهم وشدة بأسهم، فلما
التقوا مع الخوارج هزمتهم الخوارج هزيمة شنيعة بالغة، واحتووا على ما
في معسكرهم، ورجع فلهم إلى محمد بن مروان، فغضب وبعث إليهم ألفا
وخمسمائة مع الحارث بن جعونة، وألفا وخمسمائة مع خالد بن الحر (1)،
وقال لهما: أيكما سبق إليهم فهو الامير على الناس، فساروا إليهم في
ثلاثة آلاف مقاتل، والخوارج في نحو من مائة نفس وعشرة أنفس، فلما
انتهوا إلى آمد توجه صالح في شطر الناس إلى خالد بن الحر (1)،
__________
(1) في الطبري 7 / 221 وابن الاثير 4 / 395: خالد بن جزء السلمي.
(*)
(9/17)
ووجه شبيبا في
الباقي إلى الحارث بن جعونة، فاقتتل الناس قتالا شديدا إلى الليل، فلما
كان المساء انكشف كل من الفريقين عن الآخر، وقد قتل من الخوارج نحو
السبعين وقتل من أصحاب ابن مروان نحو الثلاثين، وهربت الخوارج في الليل
فخرجوا من الجزيرة وأخذوا في أرض الموصل ومضوا حتى قطعوا الدسكرة، فبعث
إليهم الحجاج ثلاثة آلاف مع الحارث بن عميرة، فسار نحوهم حتى لحقهم
بأرض الموصل (1) وليس مع صالح سوى تسعين رجلا، فالتقى معهم وقد جعل
صالح أصحابه ثلاثة كراديس، فهو في كردوس، وشبيب عن يمينه في كردوس،
وسويد بن سليمان عن يساره في كردوس، وحمل عليهم الحارث بن عميرة، وعلى
ميمنته أبو الرواع الشاكري، وعلى ميسرته الزبير بن الا روح التميمي،
فصبرت الخوارج على قلتهم صبرا شديدا، ثم انكشف سويد بن سليمان (2)، ثم
قتل صالح بن مسرح أميرهم، وصرع شبيب عن فرسه فالتف عليه بقية الخوارج
حتى احتملوه فدخلوا به حصنا هنالك، وقد بقي معهم سبعون رجلا، فأحاط بهم
الحارث بن عميرة وأمر أصحابه أن يحرقوا الباب ففعلوا، ورجع الناس إلى
معسكرهم ينتظرون
حريق الباب فيأخذون الخوارج قهرا، فما رجع الناس واطمأنوا خرجت عليهم
الخوارج على الصعب والذلول من الباب فبيتوا جيش الحارث بن عميرة فقتلوا
منهم مقتلة عظيمة، وهرب الناس سراعا إلى المدائن، واحتاز شبيب وأصحابه
ما في معسكرهم، وكان جيش الحارث بن عميرة أول جيش هزمه شبيب، وكان مقتل
صالح بن مسرح في يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة
(3) من هذه السنة.
وفيها دخل شبيب الكوفة ومعه زوجته غزالة، وذلك أن شبيبا جرت له فصول
يطول تفصيلها بعد مقتل صالح بن مسرح، واجتمعت عليه الخوارج وبايعوه،
وبعث إليه الحجاج جيشا آخر فقاتلوه فهزموه ثم هزمهم بعد ذلك، ثم سار
فجاز المدائن فلم ينل منهم شيئا، فسار فأخذ دوابا للحجاج من كلوذا، وفي
عزمه أن يبيت أهل المدائن فهرب من فيها من الجند إلى الكوفة، فلما وصل
فلهم إلى الحجاج جهز جيشا أربعة آلاف مقاتل إلى شبيب، فمروا على
المدائن ثم ساروا في طلب شبيب فجعل يسير بين ايديهم قليلا قليلا وهو
يريهم أنه خائف منهم، ثم يكر في كل وقت على المقدمة فيكسرها وينهب ما
فيها، ولا يواجه أحدا إلا هزمه، والحجاج يلح في طلبه ويجهز إليه
السرايا والبعوث والمدد وشبيب لا يبالي بأحد وإن ما معه وستون فارسا،
وهذا من أعجب العجب، ثم
__________
(1) في قرية المدبج، على تخوم ما بين الموصل وجوخى (انظر الطبري - وابن
الاثير).
(2) في الطبري وابن الاثير: سويد بن سليم.
(3) في الطبري، جمادى الاول، وفي ابن الاثير جمادى.
وفي الملل للشهرستاني ص 55: خرج (صالح) على بشر بن مروان، فبعث إليه
بشر بن الحارث بن عميرة أو الاشعث بن عميرة الهمداني انفذه الحجاج
لقتاله، فأصابت صالحا جراحة في قصر جلولاء فاستخلف مكانه شبيب بن يزيد
بن نعيم الشيباني المكنى بأبي الصحاري (*)
(9/18)
سار من طريق
أخرى حتى واجه الكوفة وهو يريد أن يحاصرها، فخرج الجيش بكماله إلى
السبخة لقتاله (1)، وبلغه ذلك فلم يبال بهم بل انزعج الناس له وخاف منه
وفرقوا منه، وهم الجيش أن يدخل الكوفة خوفا منه ويتحصنوا بها منه، حتى
قيل لهم إن سويد بن عبد الرحمن في آثارهم (2) وقد
اقترب منهم، وشبيب نازل بالمدائن بالدير ليس عنده حبر منهم ولا خوف،
وقد أمر بطعام وشواء أن يصنع له فقيل له: قد جاءك الجند فأدرك نفسك،
فجعل لا يلتفت إلى ذلك ولا يكترث بهم ويقول للدهقان الذي يصنع له
الطعام: أجده وأنضجه وعجل به، فلما استوى أكله ثم توضأ وضوءا تاما ثم
صلى بأصحابه صلاة تامة بتطويل وطمأنينة، ثم لبس درعه وتقلد سيفين وأخذ
عمود حديد ثم قال: أسرجوا لي البغلة، فركبها فقال له أخوه مصاد: اركب
فرسا، فقال: لا ! حارس كل أمر أجله، فركبها ثم فتح باب الدير الذي هو
فيه وهو يقول: أنا أبوالمدله لا حكم إلا لله، وتقدم إلى أمير الجيش
الذي يليه بالعمود الحديد فقتله، وهو سعيد بن المجالد، وحمل على الجيش
الآخر الكثيف فصرع أميره وهرب الناس من بين يديه ولجأوا إلى الكوفة،
ومضى شبيب إلى الكوفة من أسفل الفرات، وقتل جماعة هناك، وخرج الحجاج من
الكوفة هاربا إلى البصرة، واستخلف على الكوفة عروة بن المغيرة بن شعبة،
ثم اقترب شبيب من الكوفة يريد دخولها، فأعلم الدهاقين عروة بن المغيرة
بذلك فكتب إلى الحجاج يعلمه بذلك فأسرع الحجاج الخروج من البصرة وقصد
الكوفة فأسرع السير، وبادره شبيب إلى الكوفة فسبقه الحجاج إليها فدخلها
العصر، ووصل شبيب إلى المربد عند الغروب، فلما كان آخر الليل دخل شبيب
الكوفة وقصد قصر الامارة فضرب بابه بعموده الحديد فأثرت ضربته في
الباب، فكانت تعرف بعد ذلك، يقال هذه ضربة شبيب، وسلك في طرق المدينة
وتقصد محال القتال، وقتل رجالا من رؤساء أهل الكوفة وأشرافهم، منهم أبو
سليم والدليث بن أبي سليم، وعدي بن عمرو، وأزهر بن عبد الله العامري،
في طائفة كثيرة من أهل الكوفة، وكان مع شبيب امرأته غزالة (3)، وكانت
معروفة بالشجاعة، فدخلت مسجد الكوفة وجلست على منبره وجعلت تذم بني
مروان.
ونادى الحجاج في الناس: يا خيل الله اركبي، فخرج شبيب من الكوفة إلى
مجال الطعن والضرب، فجهز الحجاج في أثره سته آلاف مقاتل، فساروا وراءه
وهو بين أيديهم ينعس ويهز رأسه، وفي أوقات كثيرة يكر عليهم فيقتل منهم
جماعة، حتى قتل من جيش الحجاج خلقا كثيرا،
__________
(1) في ابن الاعثم 7 / 86 خرج الحجاج من الكوفة في عسكر لجب حتى نزل
بموضع يقال له السبخة.
وبلغ ذلك شبيبا
فسار إليه في جيشه ذلك ولم يشعر الحجاج إلا وخيل شبيب قد وافته.
(2) كان الحجاج قد بعث سويد بن عبد الرحمن السعدي في ألفي رجل (الطبري
- ابن الاثير).
(3) في الفتوح 7 / 87 ثم ركب شبيب وركب معه أصحابه وأقبل نحو الكوفة
ومعه أمه ومعه امراته: غزالة من سبي أصفهان، فأقبلت ومعها خمسون امرأة
من نساء الخوارج.
(*)
(9/19)
وقتل جماعة من
الامراء منهم زائدة بن قدامة، قتله شبيب، وهو ابن عم المختار، فوجه
الحجاج مكانه لحربه عبد الرحمن بن الاشعث، فلم يقابل شبيبا ورجع، فوجه
مكانه عثمان بن قطن الحارثي، فالتقوا في أواخر السنة فقتل عثمان بن قطن
وانهزمت جموعه بعد أن قتل من أصحابه ستمائة نفس، فمن أعيانهم عقيل بن
شداد السلولي، وخالد بن نهيك الكندي، والاسود بن ربيعة، واستفحل أمر
شبيب وتزلزل له عبد الملك بن مروان والحجاج وسائر الامراء وخاف عبد
الملك منه خوفا شديدا، فبعث له جيشا من أهل الشام فقدموا في السنة
الآتية، وإن ما مع شبيب شر ذمة قليلة (1)، وقد ملا قلوب الناس رعبا
ووجرت خطوب كثيرة له معهم، ولم يزل ذلك دأبه ودأبهم حتى استهلت هذه
السنة.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة نقش عبد الملك بن مروان على الدراهم
والدنانير وهو أول من نقشها.
وقال الماوردي في كتاب الاحكام السلطانية: اختلف في أول من ضربها
بالعربية في الاسلام فقال سعيد بن المسيب: أول من ضرب الدراهم المنقوشة
عبد الملك بن مروان، وكانت الدنانير والدراهم رومية وكسروية، قال أبو
الزناد: وكان نقشه لها في سنة أربع وسبعين، وقال المدائني: خمس وسبعين،
وضربت في الآفاق سنة ستة وسبعين (2)، وذكر أنه ضرب على الجانب الواحد
منها الله أحد، وعلى الوجه الآخر الله الصمد، قال: وحكى يحيى بن
النعمان الغفاري عن أبيه أن أول من ضرب الدراهم مصعب بن الزبير عن أمر
أخيه عبد الله بن الزبير، سنة سبعين على ضرب الاكاسرة، عليها الملك من
جانب، والله من جانب، ثم غيرها الحجاج وكتب اسمه عليها من جانب (3)، ثم
خلصها بعده يوسف (4) بن هبيرة في أيام يزيد بن عبد الملك، ثم خلصها
أجود منها
خالد بن عبد الله القسري في أيام هشام، ثم يوسف بن عمر أجود منهم كلهم،
ولذلك كان المنصور لا يقبل منها إلا الهبيرية، والخالدية واليوسفية
وذكر أنه قد كان للناس نقود مختلفة منها الدراهم
__________
(1) لم يكن معه إلا مائة وأحد ثمانين رجلا (ابن الاثير 4 / 415 الطبري
7 / 240).
(2) في الاخبار الطوال ص 316: أمر عبد الملك بضرب الدراهم سنة ست
وسبعين ثم أمر بعد ذلك بضرب الدنانير، وإنما كانت الدراهم والدنانير
قبل ذلك مما ضربت العجم وفي أسباب اتخاذ عبد الملك خطوة ضرب النقود ذكر
بعض المؤرخين أن السبب الاهم يرجع إلى تهديد قيصر الروم له بأن ينقش
على الدنانير التي يتداولها أهالي الاسلام ما يكره عن النبي.
إلا اننا نعتقد أن اتخاذ هذه الخطوة يعود إلى أسباب ومصالح اقتصادية
وسياسية إذ أصبحت من لوازم السيادة الاسلامية.
(3) قال في فتوح البلدان ص 454: عن أبي الزبير الناقد قال: ضرب الحجاج
الدراهم البغلية وكتب عليها: بسم الله الحجاج، ثم كتب عليها بعد سنة
الله أحد الله الصمد.
فسميت: مكروهة ويقال سميت السميرية بأول من ضربها واسمه سمير.
(4) في فتوح البلدان: عمر.
(*)
(9/20)
البغلية (1)،
وكان الدرهم منها ثمانية دوانق، والطبرية وكان الدرهم منها اربعة
دوانيق (2)، واليمني دانق، فجمع عمر بن الخطاب بين البغلي والطبري ثم
أخذ بنصفها فجعل الدرهم الشرعي وهو نصف مثقال وخمس مثقال، وذكروا أن
المثقال لم يغيروا وزنه في جاهلية ولا إسلام، وفي هذا نظر.
والله أعلم.
وفيها ولد مروان بن محمد بن مروان بن الحكم وهو مروان الحمار آخر من
تولى الخلافة من بني أمية، ومنه أخذها بنو العباس.
وفيها حج بالناس أبان بن عثمان بن عفان نائب المدينة، وعلى إمرة العراق
الحجاج وعلى خراسان أمية بن عبد الله والله أعلم.
وممن توفي فيها من الاعيان: أبو
عثمان النهدي القضاعي اسمه عبد الرحمن بن مل أسلم على عهد النبي صلى
الله عليه وسلم وغزا جلولاء والقادسية وتستر، ونهاوند، وأذربيجان
وغيرهما، وكان كثير العبادة
زاهدا عالما يصوم النهار ويقوم الليل، توفي وعمره مائة وثلاثين سنة
بالكوفة.
صلة بن أشيم العدوي من كبار التابعين من أهل البصرة، وكان ذا فضل وورع
وعبادة وزهد، كنيته أبو الصهباء كان يصلي حتى ما يستطيع أن يأتي الفراش
إلا حبوا، وله مناقب كثيرة جدا، منها أنه كان يمر عليه شباب يلهون
ويلعبون فيقول: أخبروني عن قوم أرادوا سفرا فحادوا في النهار عن الطريق
وناموا الليل فمتى يقطعون سفرهم ؟ فقال لهم يوما هذه المقالة، فقال شاب
منهم: والله يا قوم إنه ما يعني بهذا غيرنا، نحن بالنهار نلهو، وبالليل
ننام.
ثم تبع صلة فلم يزل يتعبد معه حتى مات.
ومر عليه فتى يجر ثوبه فهم أصحابه أن يأخذوه بألسنتهم فقال: دعوني
أكفكم أمره، ثم دعاه فقال: يا بن أخي لي إليك حاجة، قال: وما حاجتك ؟
قال أن ترفع إزارك، قال: نعم، ونعمت عين، فرفع إزاره، فقال صلة: هذا
أمثل مما أردتم لو شتمتموه لشتمكم.
ومنها ما حكاه جعفر بن زيد قال: خرجنا في غزاة وفي الجيش صلة بن أشيم
فنزل الناس عند العتمة فقلت لارمقن عمله الليلة، فدخل غيضة ودخلت في
أثره فقام يصلي وجاء الاسد حتى دنا منه وصعدت أنا في شجرة، قال فتراه
التفت أو عده جروا حتى
__________
(1) البغلية: يبدو أنها دراهم أعجمية عرفت من العصر الجاهلي كانت ترد
على أهل مكة من الفرس (فتوح البلدان ص 452 ومقدمة ابن خلدون ص 263).
والطبرية: نسبة إلى مدينة طبرية، فلعلها عملها رومية كانت ترد أيام
الجاهلية أيضا...(2) الدوانيق: جمع دانق بفتح النون، وهو سدس الدرهم
والكلمة فارسية وقد استعمله العرب في الجاهلية للدلالة على وزن أو نقد.
أما المثقال فهو نقد للدلالة على درهم أو دينار أو وزن.
والدينار أصله لاتيني Denarius
استخدم في عملة روما فنقل إلى العرب بتحريف بسيط.
أما الدرهم لفظة فارسية معربة (انظر النقود العربية انستاس ماري كرملي
ص 23 - 25: ط القاهرة).
(*)
(9/21)
سجد فقلت: الآن
يفترسه، فجلس ثم سلم فقال: أيها السبع إن كنت أمرت بشئ فافعل وإلا
فاطلب الرزق من مكان آخر، فولى الاسد وإن له لزئيرا تصدع منه الجبال،
فلما كان عند الصباح جلس فحمد الله بمحامد لم أسمع بمثلها ثم قال:
اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار، أو مثلي يجترئ أن يسألك الجنة.
ثم رجع إلى الجيش فأصبح كأنه بات على الحشا، وأصبحت وبي من الفترة شئ
الله به عليم.
قال: وذهبت بغلته بثقلها فقال: اللهم إني أسألك أن ترد علي بغلتي
بثقلها، فجاءت حتى قامت بين يديه، قال: فلما التقينا العدو حمل هو
وهشام بن عامر فصنعنا بهم طعنا وضربا، فقال العدو: رجلان من العرب صنعا
بنا هذا فكيف لو قاتلونا كلهم ؟ اعطوا المسلمين حاجتهم - يعني انزلوا
على حكمهم - وقال صلة: جعت مرة في غزاة جوعا شديدا فبينما أنا أسير
أدعو ربي وأستطعمه، إذ سمعت وجبة من خلفي فالتفت فإذا أنا بمنديل أبيض
فإذا فيه دوخلة ملآنة رطبا فأكلت منه حتى شبعت، وأدركني المساء فملت
إلى دير راهب فحدثته الحديث فاستطعمني من الرطب فأطعمته، ثم إني مررت
على ذلك الراهب بعد زمان فإذا نخلات حسان فقال: إنهن لمن الرطبات التي
أطعمتني، وجاء بذلك المنديل إلى امرأته فكانت تريه للناس، ولما أهديت
معاذة إلى صلة أدخله ابن أخيه الحمام ثم أدخله بيت العروس بيتا مطيبا
فقام يصلي فقامت تصلي معه، فلم يزالان يصليان حتى برق الصبح، قال:
فأتيته فقلت له: أي عم اهديت إليك ابنة عمك الليلة فقمت تصلي وتركتها ؟
قال: إنك أدخلتني بيتا أول النهار أذكرتني به النار، وأدخلتني بيتا آخر
النهار أذكرتني به الجنة، فلم تزل فكرتي فيهما حتى أصبحت، البيت الذي
أذكره به النار هو الحمام، والبيت الذي أذكره به الجنة هو بيت العروس.
وقال له رجل: أدعو الله لي: فقال رغبك الله فيما يبقى، وزهدك فيما
يفنى، ورزقك اليقين الذي لا يركن إلا إليه، ولا يعول في الدين إلا
عليه.
وكان صلة في غزاة ومعه ابنه فقال له: أي بني تقدم فقاتل حتى أحتسبك،
فحمل فقاتل حتى قتل، ثم تقدم صلة فقاتل حتى قتل، فاجتمع النساء عند
امرأته معاذة العدوية فقالت: إن كنتن جئتن لتهنينني فمرحبا بكن، وإن
كنتن جئتن لتعزينني فارجعن، توفي صلة في غزاة هو وابنه نحو بلاد فارس
في هذه السنة.
زهير بن قيس البلوى
شهد فتح مصر وسكنها، له صحبة، قتلته الروم ببرقة من بلاد المغرب، وذلك
أن الصريخ أتى الحاكم بمصر وهو عبد العزيز بن مروان أن الروم نزلوا
برقة، فأمره بالنهوض إليهم، فساق زهير ومعه أربعون نفسا فوجد الروم
فأراد أن يكف عن القتال حتى يلحقه العسكر، فقالوا: يا أبا شداد احمل
بنا عليهم، فحملوا فقتلوا جميعا.
المنذر بن الجارود: مات في هذه السنة.
تولى بيت المال ووفد على معاوية والله أعلم.
(9/22)
|