البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
ثم دخلت سنة سبع وسبعين
فيها أخرج الحجاج مقاتلة أهل الكوفة وكانوا أربعين ألفا، وانضاف عليهم
عشرة آلاف، فصاروا خمسين ألفا، وأمر عليهم عتاب بن ورقاء وأمره أن يقصد
لشبيب أين كان، وأن يصمم على قتاله - وكان قد اجتمع على شبيب ألف رجل
(1) - وأن لا يفعلوا كما كانوا يفعلون قبلها من الفرار والهزيمة ولما
بلغ شبيبا ما بعث به الحجاج إليه من العساكر والجنود، لم يعبأ بهم
شيئا.
بل قام في خطيبا فوعظهم وذكرهم وحثهم على الصبر عند اللقاء ومناجزة
الاعداء، ثم سار شبيب بأصحابه نحو عتاب بن ورقاء، فالتقيا في آخر
النهار عند غروب الشمس، فأمر شبيب مؤذنه سلام بن يسار (2) الشيباني
فأذن المغرب ثم صلى شبيب بأصحابه المغرب صلاة تامة الركوع والسجود، وصف
عتاب أصحابه - وكان قد خندق حوله وحول جيشه من أول النهار - فلما صلى
شبيب بأصحابه المغرب انتظر حتى طلع القمر وأضاء ثم تأمل الميمنة
والميسرة ثم حمل على أصحاب رايات عتاب وهو يقول: أنا شبيب أبوالمدله لا
حكم الا لله، فهزمهم وقتل أميرهم قبيصة بن والق وجماعة من الامراء معه،
ثم كر على الميمنة وعلى الميسرة ففرق شمل كل واحدة منهما، ثم قصد القلب
فما زال حتى قتل الامير عتاب بن ورقاء وزهرة بن حوية (3)، وولى عامة
الجيش مدبرين وداسوا الامير عتاب وزهرة فوطئته الخيل.
وقتل في المعركة عمار بن يزيد الكلبي.
ثم قال شبيب لاصحابه: لا تتبعوا منهزما، وانهزم جيش الحجاج عن بكرة
أبيهم راجعين إلى الكوفة، وكان شبيب لما احتوى على المعسكر أخذ ممن بقي
منهم البيعة له بالامارة وقال لهم إلى أي ساعة تهربون ؟ ثم احتوى على
ما في
المعسكر من الاموال والحواصل، واستدعى بأخيه مصاد من المدائن، ثم قصد
نحو الكوفة، وقد وفد إلى الحجاج سفيان بن الابرد الكلبي وحبيب بن عبد
الرحمن الحكمي من مذحج في ستة آلاف فارس ومعهما خلق من أهل الشام،
فاستغنى الحجاج بهم عن نصرة أهل الكوفة، وقام في الناس خطيبا فحمد الله
وأثنى عليه ثم قال: يا أهل الكوفة لا أعز الله من أراد بكم العز، ولا
نصر من أراد بكم النصر، اخرجوا عنا فلا تشهدوا معنا قتال عدونا، الحقوا
بالحيرة فانزلوا مع اليهود والنصارى، فلا يقاتلن معنا إلا من كان عاملا
لنا، ومن لم يشهد قتال عتاب بن ورقاء، وعزم الحجاج على قتال شبيب بنفسه
وسار شبيب حتى بلغ الصراة، وخرج إليه الحجاج بمن معه من الشاميين
وغيرهم، فلما تواجه الفريقان نظر الحجاج إلى شبيب وهو في ستمائة فخطب
الحجاج أهل الشام وقال: يا أهل الشام أنتم أهل السمع والطاعة والصبر
واليقين لا يغلبن باطل هؤلاء الاراجس حقكم، غضوا الابصار واجثوا على
الركب، واستقبلوا بأطراف الاسنة، ففعلوا ذلك، وأقبل شبيب وقد عبى
أصحابه
__________
(1) في ابن الاثير 4 / 419 الطبري 7 / 243: ثمانمائة رجل.
(2) في الطبري: سيار.
(3) في نسخ البداية المطبوعة: جونة وهو تحريف.
(*)
(9/23)
ثلاث فرق،
واحدة معه، وأخرى مع سويد بن سليم، وأخرى مع المحلل (1) بن وائل.
وأمر شبيب سويدا أن يحمل فحمل على جيش الحجاج فصبروا له حتى إذا دنا
منهم وثبوا إليه وثبة واحدة فانهزم عنهم، فنادى الحجاج: يا أهل السمع
والطاعة هكذا فافعلوا، ثم أمر الحجاج فقدم كرسيه الذي هو جالس عليه إلى
الامام، ثم أمر شبيب المحلل أن يحمل فحمل فثبتوا له وقدم الحجاج كرسيه
إلى أمام، ثم إن شبيبا حمل عليهم في كتيبته فثبتوا له حتى إذا غشى
أطراف الاسنة وثبوا في وجهه فقاتلهم طويلا، ثم إن أهل الشام طاعنوه حتى
ألحقوه بأصحابه، فلما رأى صبرهم نادى: يا سويد احمل في خيلك على أهل
هذه السرية لعلك تزيل أهلها عنها فأت الحجاج من ورائه، ونحمل نحن عليه
من أمامه.
فحمل فلم يفد ذلك شيئا، وذلك أن الحجاج كان قد جعل عروة بن المغيرة بن
شعبة في ثلاثمائة فارس ردا له من ورائه لئلا يؤتوا من خلفهم، وكان
الحجاج بصيرا بالحرب أيضا، فعند ذلك حرض شبيب أصحابه على الحملة وأمرهم
بها ففهم ذلك الحجاج، فقال: يا أهل السمع والطاعة اصبروا لهذه الشدة
الواحدة، ثم ورب السماء والارض ما شئ دون الفتح، فجثوا على الركب وحمل
عليهم شبيب بجميع أصحابه، فلما غشيهم نادى الحجاج بجماعة الناس فوثبوا
في وجهه، فما زالوا يطعنون ويطعنون وهم مستظهرون على شبيب وأصحابه حتى
ردوهم عن مواقفهم إلى ما ورائها، فنادى شبيب في أصحابه يا أولياء الله
الارض الارض، ثم نزل ونزلوا ونادى الحجاج يا أهل الشام يا أهل السمع
والطاعة، هذا أول النصر والذي نفسي بيده، وصعد مسجدا هنالك وجعل ينظر
إلى الفريقين، ومع شبيب نحو عشرين رجلا معهم النبل، واقتتل الناس قتالا
شديدا عامة النهار من أشد قتال في الارض، حتى أقر كل واحد منهم لصاحبه،
والحجاج ينظر إلى الفريقين من مكانه، ثم إن خالد بن عتاب استأذن الحجاج
في أن يركب في جماعة فيأتي الخوارج من خلفهم، فأذن له، فانطلق في جماعة
معه نحو من أربعة آلاف، فدخل عسكر الخوارج من ورائهم فقتل مصادا أخا
شبيب، وغزالة امرأة شبيب، قتلها رجل يقال له فروة بن دقاق الكلبي (2)،
وخرق في جيش شبيب، ففرح بذلك الحجاج وأصحابه وكبروا، وانصرف شبيب
وأصحابه كل منهم على فرس، فأمر الحجاج أن ينطلقوا في طلبهم، فشدوا
عليهم فهزموهم، وتخلف شبيب في حامية الناس، ثم انطلق واتبعه الطلب فجعل
ينعس وهو على فرسه حتى يخفق برأسه، ودنا منه الطلب فجعل بعض أصحابه
ينهاه عن النعاس في هذه الساعة فجعل لا يكترث بهم ويعود فيخفق رأسه،
فلما طال ذلك بعث الحجاج إلى أصحابه يقول دعوه في حرق النار، فتركوه
ورجعوا.
ثم دخل الحجاج الكوفة فخطب الناس فقال في خطبته.
إن شبيبا لم يهزم قبلها، ثم قصد شبيب الكوفة فخرجت إليه سرية من جيش
الحجاج فالتقوا يوم الاربعاء فلا زالوا يتقاتلون إلى يوم
__________
(1) من الطبري وابن الاثير، وفي الاصول المجلل، وقد صححت في كل
المواضع.
(2) في الطبري 7 / 251 فروة بن الدفان الكلبي.
(*)
(9/24)
الجمعة وكان
على سرية الحجاج الحارث بن معاوية الثقفي في ألف فارس معه، فحمل شبيب
على الحارث بن معاوية فكسره ومن معه، وقتل منهم طائفة، ودخل الناس
الكوفة هاربين، وحصن الناس السكك فخرج إليه أبو الورد مولى الحجاج في
طائفة من الجيش فقاتل حتى قتل، ثم هرب أصحابه ودخلوا الكوفة، ثم خرج
إليه أمير آخر فانكسر أيضا (1)، ثم سار شبيب بأصحابه نحو السواد فمروا
بعامل الحجاج على تلك البلاد فقتلوه، ثم خطب أصحابه وقال: اشتغلتم
بالدنيا عن الآخرة، ثم رمى بالمال في الفرات، ثم سار بها حتى افتتح
بلادا كثيرة ولا يبرز له أحد إلا قتله، ثم خرج إليه بعض الامراء الذين
على بعض المدن فقال له: يا شبيب ابرز إلي وأبرز إليك، - وكان صديقه -
فقال له شبيب: إني لا أحب قتلك، فقال له: لكني أحب قتلك فلا تغرنك نفسك
وما تقدم من الوقائع، ثم حمل عليه فضربه شبيب على رأسه فهمس رأسه حتى
اختلط دماغه بلحمه وعظمه، ثم كفنه ودفنه، ثم إن الحجاج أنفق أموالا
كثيرة على الجيوش والعساكر في طلب شبيب فلم يطيقوه ولم يقدروا عليه،
وإنما سلط الله عليه موتا قدرا من غير صنعهم ولا صنعه في هذه السنة.
مقتل شبيب عند ابن الكلبي
وكان سبب ذلك أن الحجاج كتب إلى نائبه على البصرة - وهو الحكم بن أيوب
بن الحكم بن أبي عقيل وهو زوج ابنة الحجاج - يأمره أن يجهز جيشا أربعة
آلاف في طلب شبيب، ويكونون تبعا لسفيان بن الابرد، ففعل وانطلقوا في
طلبه فالتقوا معه.
وكان ابن الابرد معه خلق من أهل الشام، فلما وصل جيش البصرة إلى ابن
الابرد التقوا معه جيشا واحدا هم وأهل الشام، ثم ساروا إلى شبيب
فالتقوا به فاقتتلوا قتالا شديدا وصبر كل من الفريقين لصاحبه، ثم عزم
أصحاب الحجاج فحملوا على الخوارج حملة منكرة والخوارج قليلون ففروا بين
أيديهم ذاهبين حتى اضطرواهم إلى جسر هناك، فوقف عنده شبيب في مائة من
أصحابه، وعجز سفيان بن الابرد عن مقاومته، ورده شبيب عن موقفه هذا بعد
أن تقاتلوا نهارا طويلا كاملا عند أول الجسر أشد قتال يكون، ثم أمر ابن
الابرد أصحابه فرشقوهم بالنبال رشقا واحدا، ففرت الخوارج ثم كرت على
الرماة فقتلوا نحوا من ثلاثين رجلا من أصحاب ابن الابرد، وجاء الليل
بظلامه فكف الناس بعضهم عن بعض، وبات كل من
الفريقين مصرا على مناهضة الآخر، فلما طلع الفجر عبر شبيب وأصحابه على
الجسر، فبينما شبيب على متن الجسر راكبا على حصان له وبين يديه فرس
أنثى إذ نزا حصانه عليها وهو على الجسر فنزل حافر فرس شبيب على حرف
السفينة فسقط في الماء، فقال: ليقضي الله أمرا كان مفعولا، ثم انغمر
__________
(1) في ابن الاعثم 7 / 86 وجه إليه زياد به عمرو العتكي فهزمه شبيب
وقتل عامة أصحابه ثم وجه إليه محمد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله فقتله
شبيب ثم وجه إليه الطرس مولى بني تميم فقتله شبيب وكذلك أربع سنين
كاملة يهزم عساكر الحجاج ويقتل رجاله (انظر الطبري وابن الاثير)
والملاحظ في ابن الاعثم أن بعوث الحجاج كانت قبل نداءات الحجاج إلى عبد
الملك الغوث الغوث يا أمير المؤمنين.
(*)
(9/25)
في الماء ثم
ارتفع وهو يقول (ذلك تقدير العزيز العليم) [ الانعام: 96 ] فغرق.
فلما تحققت الخوارج سقوطه في الماء كبروا وانصرفوا ذاهبين متفرقين في
البلاد، وجاء أمير جيش الحجاج فاستخرج شبيبا من الماء وعليه درعه، ثم
أمر به فشق صدره (1) فاستخرج قلبه فإذا هو مجتمع صلب كأنه صخرة، وكانوا
يضربون به الارض فيرتفع قامة الانسان.
وقيل إنه كان معه رجال قد أبغضوه لما أصاب من عشائرهم، فلما تخلف في
الساقة اشتوروا وقالوا نقطع الجسر به ففعلوا ذلك فمالت السفن بالجسر
ونفر فرسه فسقط في الماء فغرق، ونادوا غرق أمير المؤمنين، فعرف جيش
الحجاج ذلك فجاؤوا فاستخرجوه، ولما نعي شبيب إلى أمه قالت: صدقتم إني
كنت رأيت في المنام وأنا حامل به أنه قد خرج منها شهاب من نار فعلمت أن
النار لا يطفئها إلا الماء، وأنه لا يطفئه إلا الماء، وكانت أمه جارية
اسمها جهبرة (2)، وكانت جميلة، وكانت من أشجع النساء، تقاتل مع ابنها
في الحروب.
وذكر ابن خلكان: أنها قتلت في هذه الغزوة وكذلك قتلت زوجته غزالة،
وكانت أيضا شديدة البأس تقاتل قتالا شديدا يعجز عنه الابطال من الرجال،
وكان الحجاج يخاف منها أشد خوف حتى قال فيه بعض الشعراء: أسد علي (3)
وفي الحروب نعامة * فتخاء تنفر (4) من صفير الصافر هلا برزت (5) إلى
غزالة في الوغا * بل كان قلبك في جناحي (6) طائر
قال: وقد كان شبيب بن يزيد بن نعيم بن قيس بن عمرو بن الصلت بن قيس بن
شراحيل ابن صبرة بن ذهل بن شيبان الشيباني، يدعي الخلافة ويتسمى بأمير
المؤمنين، ولو لا أن الله تعالى قهره بما قهره به من الغرق لنال
الخلافة إن شاء الله، ولما قدر عليه أحد، وإنما قهره الله على يدي
الحجاج لما أرسل إليه عبد الملك بعسكر الشام لقتاله، ولما ألقاه جواده
على الجسر في نهر دجيل (7)
__________
(1) كذا بالاصل والطبري 7 / 257 وابن الاثير 4 / 433 ومروج الذهب 3 /
169 وفي ابن الاعثم 7 / 92: أمر ابن الابرد بالغواصين فأخرجوه من الماء
واحتزوا رأسه ووجه به سفيان إلى الحجاج.
(2) في ابن الاعثم 7 / 87 وجمهرة أنساب العرب ص 308 وتاريخ اليعقوبي 3
/ 374: الجهيزة.
(3) كذا بالاصل والعقد الفريد وتاريخ الاسلام 3 / 160 وسمط النجوم 3 /
157، وفي ابن الاعثم 7 / 90: ليث الخوان.
(4) في العقد الفريد: ربواء تجعل.
وقبل هذا البيت في العقد: صدعت غزاله جمعه بعساكر * تركت كتائبه كأمس
الدابر (5) في ابن الاعثم: هلا خرجت.
(6) في العقد الفريد: مخالب، وفي ابن الاعثم: جوانح، وبعده فيه وليس في
المراجع: الق السلاح وخذ وشاح معصفر * واعمد بمنزلة الجبان الكافر (7)
دجيل: نهر بالاهواز حفره أرد شير بن بابك أحد ملوك الفرس ومخرجه من أرض
أصبهان ومصبه في بحر فارس قرب عبادان وفيه غرق شبيب الخارجي (معجم
البلدان).
(*)
(9/26)
قال له رجل:
أغرقا يا أمير المؤمنين ؟ قال (ذلك تقدير العزيز العليم) [ الانعام: 96
] قال ثم أخرج وحمل إلى الحجاج فأمر فنزع قلبه من صدره فإذا هو مثل
الحجر، وكان شبيب رجلا طويلا أشمط جعدا، وكان مولده في يوم عيد النحر
سنة ست وعشرين (1)، وقد أمسك رجل (2) من أصحابه فحمل إلى عبد الملك بن
مروان فقال له أنت القائل: فان يك منكم كان مروان وابنه * وعمرو ومنكم
هاشم وحبيب
فمنا حصين (3) والبطين وقعنب * ومنا أمير المؤمنين شبيب فقال: إنما قلت
ومنا يا أمير المؤمنين شبيب.
فأعجبه اعتذاره وأطلقه والله سبحانه أعلم.
وفي هذه السنة كانت حروب كثيرة جدا بين المهلب بن أبي صفرة نائب
الحجاج، وبين الخوارج من الازارقة وأميرهم قطري بن الفجاءة، وكان قطري
أيضا من الفرسان الشجعان المذكورين المشهورين وقد تفرق عنه أصحابه
ونفروا في هذه السنة، وأما هو فلا يدري أحد أين ذهب فإنه شرد في الارض
(4) وقد جرت بينهم مناوشات ومجاولات يطول بسطها، وقد بالغ ابن جرير في
ذكرها في تاريخه.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة ثار بكير بن وشاح الذي كان نائب خراسان
على نائبها أمية بن عبد الله بن خالد وذلك أن بكيرا استجاش عليه الناس
وغدر به وقتله، وقد جرت بينهما حروب طويلة قد استقصاها ابن جرير في
تاريخه.
وفي هذه السنة كانت وفاة شبيب بن يزيد كما قدمنا، وقد كان من الشجاعة
والفروسة على جانب كبير لم ير بعد الصحابة مثله، ومثل الاشتر وابنه
إبراهيم ومصعب بن الزبير وأخيه عبد الله ومن يناط بهؤلاء في الشجاعة
مثل قطري بن الفجاءة من الازارقة والله أعلم.
وفيها توفي من الاعيان: كثير بن
الصلت بن معدي كرب الكندي، كان كبيرا مطاعا في قومه، وله بالمدينة دار
كبيرة بالمصلى، وقيل إنه كان كاتب عبد الملك على الرسائل، توفي بالشام.
محمد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله كانت أخته تحت عبد الملك وولاه
سجستان، فلما سار إليها قيل له إن شبيبا في طريقك وقد أعيا الناس فاعدل
إليه لعلك أن تقتله فيكون ذكر ذلك وشهرته لك إلى الابد، فلما سار لقيه
شبيب فاقتتل معه فقتله شبيب.
وقيل غير ذلك والله أعلم.
__________
(1) في الطبري 7 / 257 وابن الاثير 4 / 433 سنة خمس وعشرين في ذي الحجة
في يوم النحر يوم السبت.
(2) وهو عتبان بن أصيلة - ويقال وصيلة - الشيباني كما في معجم الشعراء
ص 266، وفي تاريخ الاسلام للذهبي 3 / 160 عتبان الحروري.
(3) في ابن الاعثم 7 / 79: سويد.
(4) في الطبري 7 / 274 وابن الاثير 4 / 442 والاخبار الطوال ص (280):
قتل قطري بن الفجاءة في شعب من
شعب طبرستان في مواجهة بعث الحجاج تحت راية سفيان بن الابرد، قتلوه -
وفيمن قتله سورة بن أبجر التميمي وجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف...(*)
(9/27)
عياض بن غنم
الاشعري شهد اليرموك، وحدث عن جماعة من الصحابة وغيرهم توفي بالبصرة
رحمه الله.
مطرف بن عبد الله وقد كانوا إخوة عروة ومطرف وحمزة، وقد كانوا يميلون
إلى بني أمية فاستعملهم الحجاج على أقاليم، فاستعمل عروة على الكوفة،
ومطرف على المدائن، وحمزة على همدان.
ثم دخلت سنة ثمان وسبعين
ففيها كانت غزوة عظيمة للمسلمين ببلاد الروم افتتحوا إرقيلية، فلما
رجعوا أصابهم مطر عظيم وثلج وبرد، فأصيب بسببه ناس كثير.
وفيها ولى عبد الملك موسى بن نصير غزو بلاد المغرب جميعه فسار إلى طنجة
وقد جعل على مقدمته طارقا فقتلوا ملوك تلك البلاد، وبعضهم قطعوا أنفه
ونفوه، وفيها عزل عبد الملك أمية بن عبد الله عن إمرة خراسان وأضافها
إلى الحجاج مع سجستان أيضا، وركب الحجاج بعد فراغه من شأن شبيب من إمرة
الكوفة إلى البصرة، واستخلف على الكوفة المغيرة بن عبد الله بن عامر
الحضرمي (1)، فقدم المهلب على الحجاج وهو بالبصرة وقد فرغ من شأن
الازارقة أيضا، فأجلسه معه على السرية واستدعى بأصحاب البلاد من جيشه،
فمن أثنى عليه المهلب أجزل الحجاج له العطية، ثم ولى الحجاج المهلب
إمرة سجستان، وولى عبد الله بن أبي بكرة إمرة خراسان، ثم ناقل بينهما
قبل خروجهما من عنده، فقيل كان ذلك باشارة المهلب، وقيل إنه استعان
بصاحب الشرطة وهو عبد الرحمن بن عبيد بن طارق العبشمي، حتى أشار على
الحجاج بذلك فأجابه إلى ذلك، وألزم المهلب بألف ألف درهم، لانه اعترض
على ذلك.
قال أبو معشر: وحج بالناس فيها الوليد بن عبد الملك وكان أمير المدينة
أبان بن عثمان، وأمير العراق وخراسان وسجستان وتلك النواحي كلها
الحجاج، ونائبه على خراسان المهلب بن أبي
صفرة، ونائبه على سجستان عبد الله بن أبي بكرة الثقفي، وعلى قضاء
الكوفة شر ؟ يح، وعلى قضاء البصرة موسى بن أنس بن مالك الانصاري.
وقد توفي في هذه السنة من الاعيان: جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام،
أبو عبد الله الانصاري السلمي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وله
روايات كثيرة، وشهد العقبة وأراد أن يشهد بدرا فمنعه أبوه وخلفه على
إخوانه
__________
(1) في الطبري 7 / 280 وابن الاثير 4 / 448: المغيرة بن عبد الله بن
أبي عقيل، وفي رواية الطبري قيل: انه استخلف: عبد الرحمن بن عبد الله
بن عامر الحضرمي ثم عزله وولاها المغيرة.
(*)
(9/28)
وأخواته،
وكانوا تسعة، وقيل إنه ذهب بصره قبل موته.
توفي جابر بالمدينة وعمره أربع وتسعون سنة، وأسند إليه ألف وخمسمائة
وأربعين حديثا.
شريح بن الحارث ابن قيس أبو أمية الكندي، وهو قاضي الكوفة، وقد تولى
القضاء لعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، ثم عزله علي،
ثم ولاه معاوية ثم استقل في القضاء إلى أن مات في هذه السنة، وكان رزقه
على القضاء في كل شهر مائة درهم، وقيل خمسمائة درهم، وكان إذا خرج إلى
القضاء يقول: سيعلم الظالم حظ من نقص، وقيل إنه كان إذا جلس للقضاء قرأ
هذه الآية (يا داود إنا جعلناك خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحق
ولا تتبع الهوى) الآية [ ص: 26 ]، وكان يقول: إن الظالم ينتظر العقاب
والمظلوم ينتظر النصر، وقيل إنه مكث قاضيا نحو سبعين سنة (1).
وقيل إنه استعفى من القضاء قبل موته بسنة فالله أعلم.
وأصله من أولاد الفرس الذين كانوا باليمن، وقدم المدينة بعد موت النبي
صلى الله عليه وسلم، توفي بالكوفة وعمره مائة وثمان سنين (2).
وقد روى الطبراني قال: حدثنا علي بن عبد العزيز، ثنا عارم أبو النعمان،
حدثنا حماد بن زيد، عن شعيب بن الحبحاب عن إبراهيم التيمي.
قال: كان شريح يقول: سيعلم الظالمون حق من نقصوا.
إن الظالم ينتظر العقاب، وإن المظلوم ينتظر النصر.
ورواه الامام أحمد عن إسماعيل بن
علية، عن ابن عون، عن إبراهيم به.
وقال الاعمش: اشتكى شريح رجله فطلاها بالعسل وجلس في الشمس فدخل عليه
عواده فقالوا: كيف تجدك ؟ فقال: صالحا.
فقالوا: ألا أريتها الطبيب ؟ قال: قد فعلت، قالوا: فماذا قال لك ؟ قال:
وعد خيرا: وفي رواية أنه خرج بابهمه قرحة فقالوا: ألا أريتها الطبيب ؟
قال: هو الذي أخرجها.
وقال الاوزاعي: حدثني عبدة بن أبي لبابة قال: كانت فتنة ابن الزبير تسع
سنين وكان شريح لا يختبر ولا يستخبر.
ورواه ابن ثوبان عن عبدة عن الشعبي عن شريح قال: لما كانت الفتنة لم
أسأل عنها.
فقال رجل لو كنت مثلك ما باليت متى مت، فقال شريح: فكيف بما في قلبي.
وقد رواه شقيق بن سلمة عن شريح قال: في الفتنة ما استخبرت ولا أخبرت
ولا ظلمت مسلما ولا معاهدا دينارا ولا درهما، فقال أبو وائل: لو كنت
على حالك لاحببت أن أكون قدمت، فأوى إلى قلبه فقال: كيف يهدأ، وفي
رواية: كيف بما في صدري تلتقي الفتيتان وإحداهما أحب إلي من الاخرى.
وقال لقوم رآهم يلعبون: مالي أراكم تلعبون ؟
__________
(1) في الاصابة 2 / 146 والاستيعاب على هامش الاصابة 2 / 149 وأسد
الغابة 2 / 394 ستين سنة وفي ابن خلكان 2 / 460: أقام قاضيا خمسا
وسبعين سنة لم يتعطل فيها إلا ثلاث سنين امتنع فيها من القضاء في فتنه
ابن الزبير.
وانظر شذرات الذهب 1 / 85.
(2) في الاستيعاب وفي ابن خلكان 2 / 461 مائة سنة.
وفي الاصابة: مائة وعشرون سنة.
قاله الواقدي (انظر أسد الغابة 2 / 394) (*)
(9/29)
قالوا: فرغنا !
قال: ما بهذا أمر الفارغ.
وقال سوار بن عبد الله العنبري: حدثنا العلاء بن جرير العنبري، حدثني
سالم أبو عبد الله، أنه قال: شهدت شريحا وتقدم إليه رجل فقال: أين انت
؟ فقال: بينك وبين الحائط، فقال: إني رجل من أهل الشام، فقال: بعيد
سحيق، فقال: إني تزوجت امرأة، فقال: بالرفاء والبنين، قال: إني اشترطت
لها دارها، قال: الشرط أملك، قال: اقض بيننا، قال: قد فعلت.
وقال سفيان: قيل لشريح بأي شئ أصبت هذا العلم ؟ قال: بمعاوضة العلماء،
آخذ منهم وأعطيهم.
وروى عثمان بن أبي شيبة، عن عبد الله بن محمد بن
سالم، عن إبراهيم بن يوسف، عن أبيه، عن ابي إسحاق، عن هبيرة أنه سمع
عليا يقول: يا أيها الناس ! يأتوني فقهاؤكم يسألوني وأسألهم، فلما كان
من الغد غدونا إليه حتى امتلات الرحبة، فجعل يسألهم: ما كذا ما كذا،
ويسألونه ما كذا ما كذا فيخبرهم ويخبرونه حتى إذا ارتفع النهار تصدعوا
غير شريح فإنه جاث على ركبتيه لا يسأله عن شئ إلا أخبره به، قال: سمعت
عليا يقول: قم يا شريح فأنت أقضى العرب.
وأتت شريحا امرأتان جدة صبي وأمه يختصمان فيه كل واحدة تقول: أنا أحق
به.
أبا أمية أتيناك وأنت المستعان به (1) * أتاك (2) جدة ابن وأم وكلتانا
تفديه فلو كنت تأيمت لما نازعتكي فيه * تزوجت فهاتيه ولا يذهب بك القيه
(3) ألا أيها القاضي فهذه قصتي فيه قالت الام: - إلا أيها القاضي قد
قالت لك الجدة * قولا فاستمع مني ولا تطردني (4) رده تعزي النفس عن
ابني * وكبدي حملت كبده فلما صار في حجري * بتيما مفردا (5) وحده تزوجت
رجاء الخير * من يكفيني فقده ومن يظهر لي الود (6) * ومن يحسن لي رفده
فقال شريح:
__________
(1) في ابن سعد 6 / 137: وأنت المرء نأتيه.
(2) في ابن سعد: أتاك ابني وأماه.
(3) في ابن سعد: التيه.
(4) في ابن سعد: تبطرني.
(5) في ابن سعد: فلما كان...ضائعا.
(6) في الطبقات: وده..ومن يكفل...(*)
(9/30)
قد سمع القاضي
ما قلتما ثم قضى * وعلى القاضي جهد إن غفل (1) قال للجدة: بيني بالصبي
* وخذي ابنك من ذات العلل إنها لو صبرت كان لها * قبل دعوى ما تبتغيه
للبدل فقضى به للجده.
وقال عبد الرزاق: حدثنا معمر بن عون، عن إبراهيم، عن شريح أنه قضى على
رجل باعترافه فقال: يا أبا أمية قضيت علي بغير بينة، فقال شريح: أخبرني
ابن أخت خالتك.
وقال علي بن الجعد: أنبأنا المسعودي عن أبي حصين قال: سئل شريح عن شاة
تأكل الذباب فقال: علف مجان ولبن طيب.
وقال الامام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، عن أبي حيان التيمي، حدثنا أبي
قال: كان شريح إذا مات لاهله سنور أمر بها فألقيت في جوف داره، ولم يكن
له مشعب (2) (شارع)) إلا في جوف داره يفعل ذلك اتقاء أن تؤذي المسلمين
- يعني أنه يلقي السنور في جوف داره لئلا تؤذي بنتن ريحها المسلمين -،
وكانت مياذيب أسطحة داره في جوف الدار لئلا يؤذي بها المارة من
المسلمين.
وقال الرياشي: قال رجل لشريح: إن شأنك لشوين.
فقال له شريح: أراك تعرف نعمة الله على غيرك وتجهلها في نفسك.
وقال الطبراني: حدثنا أحمد بن يحيى تغلب النحوي، حدثنا عبد الله بن
شبيب قال: حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن زياد بن سمعان.
قال: كتب شريح إلى أخ له هرب من الطاعون: أما بعد فإنك والمكان الذي
أنت فيه والمكان الذي خرجت منه بعين من لا يعجزه من طلب، ولا يفوته من
هرب، والمكان الذي خلفته (3) لم يعد امرا لكمامه ومن تظلمه أيامه.
وإنك وإياهم لعلى بساط واحد، وإن المنتجع من ذي قدرة لقريب.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا علي بن مسهر، عن الشيباني، عن الشعبي،
عن شريح أن عمر كتب إليه: إذا جاءك الشي من كتاب الله فاقض به ولا
يلفتنك عنه رجاء ما ليس في كتاب الله، وانظر في سنة رسول الله صلى الله
عليه وسلم فاقض بها، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله
فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به، وفي رواية: فانظر فيما قضى به
الصالحون، فإن لم يكن فإن شئت فتقدم وإن شئت فتأخر، وما أرى التاخر إلا
خيرا، والسلام.
وقال شريح: كنت مع علي في سوق الكوفة فانتهى إلى قاص يقص فوقف عليه
وقال: أيها القاص ! تقص ونحن قريبو العهد ؟ أما إني سائلك فإن تجب فما
سألتك وإلا أدبتك، فقال القاص: سل يا أمير المؤمنين عما شئت، فقال علي:
ما ثبات الايمان وزواله ؟ قال القاص: ثبات الايمان
__________
(1) مكانه في ابن سعد بيتان: قد فهم القاضي ما قد قلتما * وقضى بينكما
ثم فصل بقضاء بين بينكما * وعلى القاضي جهد أن عقل (2) في صفة الصفوة
وابن سعد: مثعب، والمثعب: مسيل الماء في الحوض أو السطح.
(3) العبارة في ابن خلكان 2 / 463: الذي لم يعجل امرءا جمامه ولم يظلمه
أيامه.
(*)
(9/31)
الورع وزواله
الطمع.
قال علي: فذلك فقص.
قيل إن هذا القاص هو نوف البكالي.
وقال رجل لشريح: إنك لتذكر النعمة في غيرك وتنساها في نفسك، قال: إني
والله لا حسدك على ما أرى بك.
قال: ما نفعك الله بهذا ولا ضرني.
وروى جرير عن الشيباني (1) عن الشعبي قال: اشترى عمر فرسا من رجل على
أن ينظر إليه، فأخذ الفرس فسار به فعطب، فقال لصاحب الفرس: خذ فرسك،
فقال: لا ! فاجعل بيني وبينك حكما، قال الرجل: نعم ! شريح، قال عمر:
ومن شريح ؟ قال: شريح العراقي، قال: فانطلقا إليه فقصا عليه القصة،
فقال: يا أمير المؤمنين رد كما أخذت أو خذ بما ابتعته، فقال عمر: وهل
القضاء إلا هذا ؟ سر إلى الكوفة فقد وليتك قضاءها، فإنه لاول يوم عرفه
يومئذ.
وقال هشام بن محمد الكلبي: حدثني رجل من ولد سعد بن وقاص قال: كان
لشريح ابن يدعو الكلاب (2) ويهارش بين الكلاب، فدعا بدواة وقرطاس فكتب
إلى مؤدبه فقال: - ترك الصلاة لاكلب يسعى بها * طلب الهراش مع الغواة
الرجس (3) فإذا أتاك فعفه (4) بملامة * وعظه من عظة الاديب الاكيس
فإذا هممت بضربه فبدرة * فإذا ضربت بها ثلاثا فاحبس واعلم بأنك ما أتيت
فنفسه * مع ما تجرعني أعز الانفس وروى شريح عن عمر عن عائشة أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال لها: يا عائشة (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا
شيعا) [ الانعام: 159 ] إنهم أصحاب البدع وأصحاب الاهواء وأصحاب
الضلالة من هذه الامة، إن لكل صاحب ذنب توبة إلا أصحاب الاهواء والبدع،
أنا منهم برئ وهم مني براء ".
وهذا حديث ضعيف غريب رواه محمد بن مصفى عن بقية عن شعبة - أو غيره - عن
مجالد عن الشعبي، وإنما تفرد به بقية به الوليد من هذا الوجه وفيه علة
أيضا.
وروى محمد بن كعب القرظي، عن الحسن، عن شريح، عن عمر بن الخطاب.
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم ستغربلون حتى تصيروا في
حثالة من الناس قد مزجت عهودهم وخربت أمانتهم، فقال قائل:
__________
(1) الشيباني هو أبو إسحاق.
(2) في الحلية 4 / 136: يدع الكتاب ويهارش الكلاب: المهارشة بالكلاب
وبينها: تحريش بعضها على بعض والعبارة في صفة الصفوة 3 / 39، افتقد
ابنا له،...كان يهارش بالكلاب، فقال: صليت ؟ قال: لا.
فقال للرسول (الرجل الذي طلبه) اذهب به إلى المؤدب وقال: (3) في صفة
الصفوة: النجس.
(4) في صفة الصفوة: فعضه.
(*)
(9/32)
فكيف بنا يا
رسول الله ؟ فقال: تعملون بما تعرفون وتتركون ما تنكرون، وتقولون: أحد
أحد، انصرنا على من ظلمنا واكفنا من بغانا).
وروى الحسن بن سفيان، عن يحيى بن أيوب، عن عبد الجبار بن وهب، عن عبد
الله السلمي عن شريح، قال: حدثني البدريون منهم عمر بن الخطاب أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما من شباب يدع لذة الدنيا ولهوها
ويستقبل بشبابه طاعة الله تعالى إلا أعطاه الله تعالى أجر اثنين وسبعين
صديقا، ثم قال: يقول الله تعالى: أيها الشاب التارك شهوته من أجلي،
المبتذل شبابه لي، أنت عندي كبعض ملائكتي ".
وهذا حديث غريب.
وقال أبو داود: حدثنا صدقة بن موسى، حدثنا أبوعمران الجوني، عن قيس بن
زيد - وقال أبو داود أو عن زيد بن قيس - عن قاضي المصرين شريح، عن عبد
الرحمن بن أبي بكر الصديق: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله
تعالى يدعو صاحب الدين يوم القيامة فيقول: يابن آدم فيم أضعت حقوق
الناس ؟ فيم أذهبت أموالهم ؟ فيقول: يا رب لم أفسده ولكن أصبت إما غرقا
وإما حرقا، فيقول الله سبحانه أنا أحق من قضى عنك اليوم، فترجح حسناته
على سيئاته فيؤمر به إلى الجنة).
لفظ أبي داود ورواه يزيد بن هارون عن صدقة به وقال فيه: " فيدع الله
بشئ فيضعه في ميزانه فيثقل) ورواه الطبراني من طريق أبي نعيم عن صدقة
به، ورواه الطبراني أيضا عن حفص بن عمر وأحمد بن داود المكي قالا:
حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا صدقة به، والله سبحانه وتعالى أعلم.
عبد الله بن غنم الاشعري نزيل فلسطين وقد روى عن جماعة من الصحابة وقيل
إن له صحبة وقد بعثه عمر بن الخطاب إلى الشام ليفقه أهلها في الدين
وكان من العباد الصالحين.
جنادة بن أمية الازدي شهد فتح مصر وكان أميرا على غزو البحر لمعاوية،
وكان موصوفا بالشجاعة والخير، توفي بالشام وقد قارب الثمانين.
العلاء بن زياد البصري كان من العباد الصالحين من أهل البصرة، وكان
كثير الخوف والورع، وكان يعتزل في بيته ولا يخالط الناس، وكان كثير
البكاء، لم يزل يبكي حتى عمي، وله مناقب كثيرة، توفي بالبصرة في هذه
السنة.
قلت: إنما كان معظم بكاء العلاء بن زياد بعد تلك الرؤيا التي رآها له
رجل من أهل الشام أنه من أهل الجنة، فقال له العلاء: أما أنت يا أخي
فجزاك الله عن رؤياك لي خيرا، وأما أنا فقد تركتني رؤياك لا أهدأ بليل
ولا نهار، وكان بعدها يطوي الايام لا يأكل فيها شيئا وبكى حتى كاد
يفارق الدنيا، ويصلي لا يفتر، حتى جاء أخوه إلى الحسن البصري فقال:
أدرك أخي فإنه قاتل نفسه، يصوم لا يفطر، ويقوم لا ينام، ويبكي الليل
والنهار لرؤيا رآها بعض الناس له أنه من أهل
(9/33)
الجنة، فجاء
الحسن فطرق عليه بابه فلم يفتح، فقال له: افتح فإني أنا الحسن، فلما
سمع صوت الحسن فتح له، فقال له الحسن: يا أخي الجنة وما الجنة للمؤمن،
إن للمؤمن عند الله ما هو أفضل من الجنة، فقاتل أنت نفسك ؟ فلم يزل به
حتى أكل وشرب وقصر عما كان فيه قليلا.
وروى ابن أبي الدنيا عنه أنه أتاه آت في مقامه فأخذ بناصيته وقال: يا
غلام قم فاذكر الله يذكرك.
فما زالت تلك الشعرات التي أخذ بها قائمة حتى مات، وقد قيل: إنه كان
يرفع له إلى الله كل يوم من العمل الصالح بقدر أعمال خلق كثير من الناس
كما رأى ذلك بعض أصحابه في المنام.
وقال العلاء: نحن قوم وضعنا أنفسنا في النار فإن شاء الله أن يخرجنا
منها أخرجنا.
وقال: كان رجل يرائي بعمله فجعل يشمر ثيابه ويرفع صوته إذا قرأ، فجعل
لا يأتي على أحد إلا سبه، ثم رزقه الله الاخلاص واليقين فخفض من صوته
وجعل صلاحه بينه وبين الله، فجعل لا يأتي على أحد بعد ذلك إلا دعا له
بخير.
سراقة بن مرادس الاذدي كان شاعرا مطبقا، هجا الحجاج فنفاه إلى الشام
فتوفي بها.
النابغة الجعدي الشاعر.
السائب بن يزيد الكندي، توفي في هذه السنة.
سفيان بن سلمة الاسدي.
معاوية بن قرة البصري.
زر بن حبيش.
ثم دخلت سنة تسع وسبعين
ففيها وقع طاعون عظيم بالشام حتى كادوا يفنون من شدته، ولم يغز فيها
أحد من أهل الشام لضعفهم وقلتهم، ووصلت الروم فيها أنطاكية فأصابوا
خلقا من أهلها لعلمهم بضعف الجنود والمقاتلة.
وفيها غزا عبيد الله بن أبي بكرة رتبيل ملك الترك حتى أوغل في بلاده.
ثم صالحه على مال يحمله إليه في كل سنة، وفيها قتل عبد الملك بن مروان
الحارث بن سعيد المتنبئ الكذاب، ويقال له الحارث بن عبد الرحمن بن سعيد
الدمشقي، مولى أبي الجلاس العبدري، ويقال مولى الحكم بن مروان، كان
أصله من الجولة فنزل دمشق وتعبد بها وتنسك وتزهد ثم مكربه ورجع القهقرى
على عقبيه، وانسلخ من آيات الله تعالى، وفارق حزب الله المفلحين، واتبع
الشيطان فكان من الغاوين ولم يزل الشيطان يزج في قفاه حتى أخسره دينه
ودنياه، وأخزاه وأشقاه.
فإنا لله وحسبنا الله ولا حول
ولا قوة إلا بالله.
قال أبو بكر بن ابي خيثمة: ثنا عبد الوهاب نجدة الجولي، حدثنا محمد بن
مبارك، ثنا الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن حسان قال: كان الحارث
الكذاب من أهل دمشق، وكان مولى لابي الجلاس، وكان له أب بالجولة، فعرض
له إبليس، وكان رجلا متعبدا زاهدا لو لبس جبة من ذهب لرؤيت عليه
الزهادة والعبادة، وكان إذا أخذ بالتحميد لم يسمع السامعون مثل تحميده
ولا أحسن من كلامه، فكتب إلى أبيه وكان بالجولة: يا أبتاه أعجل علي
فإني قد رأيت أشياء أتخوف أن يكون الشيطان قد عرض لي، قال فزاده أبوه
غيا على غيه، فكتب إليه أبوه: يا بني أقبل على ما أمرت
(9/34)
به فإن الله
تعالى يقول (هل أنبئكم على ما تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم) [
الشعراء: 221 - 222 ] ولست بأفاك ولا أثيم، فامض لما أمرت به، وكان يجئ
إلى أهل المسجد رجلا رجلا فيذاكرهم أمره ويأخذ عليهم العهد والميثاق إن
هو يرى ما يرضى وإلا كتم عليه.
قال: وكان يريهم الاعاجيب.
كان يأتي إلى رخامة في المسجد فينقرها بيده فتسبح تسبيحا بليغا حتى يضج
من ذلك الحاضرون.
قلت: وقد سمعت شيخنا العلامة أبا العباس بن تيمية رحمه الله يقول: كان
ينقر هذه الرخامة الحمراء التي في المقصورة فتسبح، وكان زنديقا.
قال ابن ابي خيثمة في روايته وكان الحارث يطعمهم فاكهة الشتاء في
الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، وكان يقول لهم: اخرجوا أريكم الملائكة،
فيخرج بهم إلى دير المران (1) فيريهم رجلا على خيل فيتبعه على ذلك بشر
كثير، وفشا أمره في المسجد وكثر أصحابه وأتباعه، حتى وصل الامر إلى
القاسم بن مخيمرة، قال فعرض على القاسم أمره وأخذ عليه العهد إن هو رضي
أمرا قبله، وإن كرهه كتم عليه، قال فقال له: إني نبي، فقال القاسم:
كذبت يا عدو الله، ما أنت نبي، وفي رواية ولكنك أحد الكذابين الدجالين
الذين أخبر عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الساعة لا تقوم
حتى يخرج ثلاثون دجالون كذابون كلهم يزعم أنه نبي) (2) وأنت أحدهم ولا
عهد لك.
ثم قام فخرج إلى أبي إدريس - وكان على القضاء بدمشق - فأعلمه بما سمع
من الحارث فقال أبو إدريس نعرفه، ثم أعلم أبو
إدريس عبد الملك بذلك، وفي رواية أخرى أن مكحولا وعبد الله بن زائدة
دخلا على الحارث فدعاهما إلى نبوته فكذباه وردا عليه ما قال، ودخلا على
عبد الملك فأعلماه بأمره، فتطلبه عبد الملك طلبا حثيثا، واختفى الحارث
وصار إلى دار بيت المقدس يدعو إلى نفسه سرا واهتم عبد الملك بشأنه حتى
ركب إلى النصرية (3) فنزلها فورد عليه هناك رجل من أهل النصرية ممن كان
يدخل على الحارث وهو ببيت المقدس فأعلمه بأمره وأين هو، وسأل من عبد
الملك أن يبعث معه بطائفة من الجند الاتراك ليحتاط عليه، فأرسل معه
طائفة وكتب إلى نائب القدس ليكون في طاعة هذا الرجل ويفعل ما يأمره به،
فلما وصل الرجل إلى النصرية ببيت المقدس بمن معه انتدب نائب القدس
لخدمته، فأمره أن يجمع ما يقدر عليه من الشموع ويجعل مع كل رجل شمعته،
فإذا أمرهم بإشعالها في الليل أشعلوها كلهم في سائر الطرق والازقة حتى
لا يخفى أمره، وذهب الرجل بنفسه فدخل الدار التي فيها الحارث فقال
لبوابه استأذن على نبي الله، فقال: في هذه الساعة لا يؤذن عليه حتى
يصبح، فصاح النصري
__________
(1) من معجم البلدان، وفي الاصل المراق، هذا الدير بالقرب من دمشق على
تل مشرف على مزارع الزعفران، وهو دير كبير وفيه رهبان كثيرة وفي هيكله
صورة عجيبة دقيقة المعاني.
(2) أخرجه مسلم في الفتن (18) باب.
ح 83 عن محمد بن المثنى ومحمد بن بشار ص 4 / 2239 وفيه أن بين يدي
الساعة ثلاثين كذابا دجالا كلهم يزعم أنه نبي، زاد جابر بن سمرة:
فاحذروهم.
واخرجه البخاري في المناقب (25) باب عن أبي هريرة وأخرجه مسلم أيضا عنه
ح (84) في الموضع السابق.
(3) النصرية: وهي محلة في الجانب من بغداد في طرف البرية (معجم
البلدان).
(*)
(9/35)
أسرجوا، فأشعل
الناس شموعهم حتى صار الليل كأنه النهار، وهم النصري على الحارث فاختفى
منه في سرب هناك فقال أصحابه هيهات يريدون أن يصلوا إلى نبي الله، إنه
قد رفع إلى السماء، قال فأدخل النصري يده في ذلك السرب فإذا بثوبه
فاجتره فأخرجه، ثم قال للفرعانين من أتراك الخليفة قال: فأخذوه فقيدوه،
فيقال: إن القيود والجامعة سقطت من عنقه مرارا ويعيدونها، وجعل يقول:
(قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي، وإن اهتديت فيما يوحى إلى ربي إنه
سميع قريب)
[ سبأ: 50 ] وقال لاولئك الاتراك (أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله) [
المؤمن: 28 ] ؟ فقالوا له بلسانهم ولغتهم: هذا كراننا فهات كرانك، أي
هذا قرآننا فهات قرآنك، فلما انتهوا به إلى عبد الملك أمر بصلبه على
خشبة وأمر رجلا فطعنه بحربة فانثنت في ضلع من أضلاعه، فقال له عبد
الملك: ويحك أذكرت اسم الله حين طعنته ؟ فقال: نسيت، فقال: ويحك سم
الله ثم اطعنه، قال فذكر اسم الله ثم طعنه فأنفذه، وقد كان عبد الملك
حبسه قبل صلبه وأمر رجالا من أهل الفقه والعلم أن يعظوه ويعلموه أن هذا
الذي به من الشيطان، فأبى أن يقبل منهم فصلبه بعد ذلك، وهذا من تمام
العدل والدين.
وقد قال الوليد بن مسلم عن ابن جابر فحدثني من سمع الاعور يقول: سمعت
العلاء بن زياد العدوي.
يقول: ما غبطت عبد الملك بشئ من ولايته إلا بقتله حارثا حيث إن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالون
كذابون كلهم يزعم أنه نبي، فمن قاله فاقتلوه، ومن قتل منهم أحدا فله
الجنة ".
وقال الوليد بن مسلم: بلغني أن خالد بن يزيد بن معاوية قال لعبد الملك
لو حضرتك ما أمرتك بقتله، قال: ولم ؟ قال: إنه إنما كان به المذهب فلو
جوعته لذهب ذلك عنه، وقال الوليد عن المنذر بن نافع، سمعت خالد بن
الجلاخ يقول لغيلان: ويحك يا غيلان، ألم تأخذك في شبيبتك ترا من النساء
في شهر رمضان بالتفاح، ثم صرت حارثيا تحجب امرأته وتزعم أنها أم
المؤمنين ثم تحولت فصرت قدريا زنديقا.
وفيها غزا عبيد الله بن أبي بكرة رتبيل وملك الترك الاعظم فيهم، وقد
كان يصانع المسلمين تارة ويتمرد أخرى، فكتب الحجاج إلى ابن أبي بكرة
تأخذه بمن معك من المسلمين حتى تستبيح أرضه وتهدم قلاعه وتقتل مقاتلته،
فخرج في جمع من الجنود من بلاده وخلق من أهل البصرة والكوفة ثم التقى
مع رتبيل ملك الترك فكسره وهدم أركانه بسطوة بتارة، وجاس ابن ابي بكرة
وجنده خلال ديارهم، واستحوذ على كثير من أقاليمه ومدنه وأمصاره، وتبر
ما هنالك تتبيرا، ثم إن رتبيل تقهقر منه وما زال يتبعه حتى اقترب من
مدينته العظمى، حتى كانوا منها على ثمانية عشر فرسخا وخافت الاتراك
منهم خوفا شديدا، ثم إن الترك أخذت عليهم الطرق والشعاب وضيقوا عليهم
المسالك حتى
ظن كل من المسلمين أنه لا محالة هالك، فعند ذلك طلب عبيد الله أن يصالح
رتبيل على أن يأخذ منه
(9/36)
سبعمائة ألف
(1)، ويفتحوا للمسلمين طريقا يخرجون عنه ويرجعون عنهم إلى بلادهم،
فانتدب شريح بن هانئ - وكان صحابيا، وكان من أكبر أصحاب علي وهو المقدم
على أهل الكوفة - فندب الناس إلى القتال والمصابرة والنزال والجلاد
بالسيوف والرماح والنبال، فنهاه عبيد الله بن أبي بكرة فلم ينته،
وأجابه شرذمة (2) من الناس من الشجعان وأهل الحفائظ، فما زال يقاتل بهم
الترك حتى فني أكثر المسلمين رضي الله عنهم، قالوا وجعل شريح بن هانئ
يرتجز، ويقول: أصبحت ذا بث أقاسي الكبرا * قد عشت بين المشركين أعصرا
ثم (3) أدركت النبي المنذرا * وبعده صديقه وعمرا ويوم مهران ويوم تسترا
* والجمع في صفينهم والنهرا (4) هيهات من أطول هذا عمرا ثم قاتل حتى
قتل رضي الله عنه، وقتل معه خلق (5) من أصحابه، ثم خرج من خرج من الناس
صحبة عبيد الله بن أبي بكرة من أرض رتبيل، وهم قليل، وبلغ ذلك الحجاج
فأخذ ما تقدم وما تأخر، وكتب إلى عبد الملك يعلمه بذلك ويستشيره في بعث
جيش كثيف إلى بلاد رتبيل لينتقموا منه بسبب ما حل بالمسلمين في بلاده،
فحين وصل البريد إلى عبد الملك كتب إلى الحجاج بالموافقة على ذلك، وأن
يعجل ذلك سريعا، فحين وصل البريد إلى الحجاج بذلك أخذ في جمع الجيوش
فجهز جيشا كثيفا لذلك على ما سيأتي تفصيله في السنة الآتية بعدها.
وقيل إنه قتل من المسلمين مع شريح بن هانئ ثلاثون ألفا وابتيع الرغيف
مع المسلمين بدينار وقاسوا شدائد، ومات بسبب الجوع منهم خلق كثير أيضا،
فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقد قتل المسلمون من الترك خلقا كثيرا أيضا قتلوا أضعافهم.
ويقال إنه في هذه السنة استعفى شريح من القضاء فأعفاه الحجاج من ذلك
وولى مكانه أبا بردة ابن أبي موسى الاشعري، وقد تقدمت ترجمة شريح عند
وفاته في السنة الماضية والله أعلم.
__________
(1) ذكر ابن الاعثم في فتوحه 7 / 112 شروط رتبيل وهي: أن يضع عنه
الخراج عشر سنين، وأن يعطى نصف سلاح وكراع عبيد الله، وان يعطيه أيضا
ألف ألف درهم، وان يعطيه ولده وأشراف قومه رهائن.
(2) في الطبري 7 / 282 وابن الاثير 4 / 451: فاتبعه ناس من المقطوعة
غير كثير وفرسان الناس وأهل الحفاظ، وفي ابن الاعثم: فتقدم (شريح)
يومئذ عشرة الآف رجل من أهل الكوفة.
(3) في الطبري ثمت، وفي ابن الاثير: ثمة وهو أصوب.
(4) في ابن الاعثم، والجمل المعروف يدعى عسكرا.
وبعده في الطبري وابن الاثير: ويا جميرات مع المشقرا...* وليس المصراع
في ابن الاعثم (5) في ابن الاعثم: قتل جميع من كان معه من أهل الكوفة،
أما ابن ابي بكرة فإنه صالح رتبيل على الشروط التي ذكرت سابقا - انظر
حاشية 1 ص 29.
وفي ذلك يقول أعشى همدان أبياتا مطلعها: ما بال حزن في الفؤاد يولج *
ودمعك المنحدر المنهج
(9/37)
قال الواقدي
وأبو معشر وغير واحد من أهل السير: وحج بالناس في هذه السنة أبان بن
عثمان أمير المدينة النبوية، وفيها قتل قطري بن الفجاءة التميمي أبو
نعامة الخارجي، وكان من الشجعان المشاهير، ويقال إنه مكث عشرين سنة
يسلم عليه أصحابه بالخلافة، وقد جرت له خطوب وحروب مع جيش المهلب بن
ابي صفرة من جهة الحجاج وغيره، وقد قدمنا منها طرفا صالحا في أماكنه،
وكان خروجه في زمن مصعب بن الزبير، وتغلب على قلاع كثيرة وأقاليم
وغيرها، ووقائعه مشهورة وقد أرسل إليه الحجاج جيوشا كبيرة فهزمها، وقيل
إنه برز إليه رجل من بعض الحرورية وهو على فرس أعجف وبيده عمود حديد،
فلما قرب منه كشب قطري عن وجهه فولى الرجل هاربا فقال له قطري إلى أين
؟ أما تستحي أن تفر ولم تر طعنا ولا ضربا ؟ فقال إن الانسان لا يستحي
أن يفر من مثلك، ثم إنه في آخر أمره توجه إليه سفيان بن الابرد الكلبي
في جيش فاقتتلوا بطبرستان، فعثر بقطري فرسه فوقع إلى الارض فتكاثروا
عليه فقتلوه وحملوا رأسه إلى الحجاج، وقيل إن الذي قتله سودة بن الحر
الدارمي (1)، وكان قطري بن الفجاءة مع شجاعته المفرطة وإقدامه من خطباء
العرب المشهورين
بالفصاحة والبلاغة وجودة الكلام والشعر الحسن، فمن مستجاد شعره قوله
يشجع نفسه وغيره ومن سمعها انتفع بها: أقول لها وقد طارت شعاعا (2) *
من الابطال ويحك لن تراعي فإنك لو طلبت بقاء يوم (3) * على الاجل الذي
لك لم تطاعي فصبرا في مجال الموت صبرا * فما نيل الخلود بمستطاعي ولا
ثوب الحياة (4) بثوب عز * فيطوى عن أخي الخنع اليراعي سبيل الموت غاية
كل حي (5) * وداعيه لاهل الارض داع فمن لا يغتبط يسأم ويهرم * وتسلمه
المنون إلى انقطاعي (6)
__________
(1) في ابن الاثير 4 / 442 سورة بن الحر التميمي، وفي الطبري 7 / 275:
سورة بن أبجر التميمي، وذكرا أنه وآخرين معه قتلوه وكل منهم ادعى قتله.
وفي ابن الاعثم 7 / 80: قتله باذام واحتز رأسه (وفي ابن الاثير باذان
مولاهم - كان في الجماعة التي قدمت عليه وقتلوه).
(2) في امالي المرتضى 1 / 636 إذا جاشت حياء.
وفي نهاية الارب: وقولي كلما جشأت وجاشت، وفي عيون الاخبار والحيوان:
وقولي كلما جشأت لنفسي طارت شعاعا: أي تفرقت وانتشرت من الخوف.
(3) في امالي المرتضى والتبريزي ولباب الآداب: والحيوان: حياة يوم.
(4) في امالي المرتضى: وما طول الحياة بثوب مجد، وفي لباب الآداب، وما
ثوب أخو الخنع.
الخنع: الذليل، واليراع: الجبان.
(5) في امالي المرتضى ولباب الآداب: منهج كل حي.
(6) في بهجة المجالس: يهرم ويسقم، وفي امالي المرتضى: وتفض به المنون.
وفي اللباب: ويفض به الامان.
يعتبط: يموت من غير علة.
(*)
(9/38)
وما للمرء خير في حياة * إذا ما سد من سقط المتاعي (1) ذكرها صاحب
الحماسة واستحسنها ابن خلكان كثيرا.
وفيها توفي عبيد الله بن ابي بكرة
رحمه الله وهو أمير الجيش الذي دخل بلاد الترك وقاتلوا رتبيل ملك
الترك، وقد قتل من جيشه خلق كثير مع شريح بن هانئ كما تقدم ذلك، وقد
دخل عبيد الله بن أبي بكرة على الحجاج مرة وفي يده خاتم فقال له
الحجاج: وكم ختمت بخاتمك هذا ؟ قال على أربعين ألف ألف دينار، قال ففيم
أنفقتها ؟ قال: في اصطناع المعروف، ورد الملهوف والمكافأة بالصناع
وتزويج العقائل.
وقيل إن عبيد الله عطش يوما فأخرجت له امرأة كوز ماء بارد فأعطاها
ثلاثين ألفا، وقيل إنه أهدي إليه وصيف ووصيفة وهو جالس بين أصحابه فقال
لبعض أصحابه خذهما لك، ثم فكر وقال: والله إن إيثار بعض الجلساء على
بعض لشح قبيح ودناءة رديئة، ثم قال يا غلام ادفع إلى كل واحد من جلسائي
وصيفا ووصيفة، فأحصى ذلك فكانوا ثمانين وصيفا ووصيفة توفي عبيد الله بن
أبي بكرة ببست (2) وقيل بذرخ والله سبحانه وتعالى أعلم وأحلم، والحمد
لله رب العالمين. |