البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
ثم دخلت سنة تسعين من الهجرة فيها غزا مسلمة بن عبد الملك والعباس بن
الوليد بلاد الروم، ففتحا حصونا وقتلا خلقا من الروم وغنما وأسرا خلقا
كثيرا.
وفيها أسرت الروم خالد بن كيسان صاحب البحر، وذهبوا به إلى ملكهم
فأهداه ملك الروم إلى الوليد بن عبد الملك.
وفيها عزل الوليد أخاه عبد الله بن عبد الملك عن إمرة مصر وولى عليها
قرة بن شريك.
وفيها قتل محمد بن القاسم ملك السند داهر بن صصة (2)، وكان محمد بن
القاسم هذا على جيش من جهة الحجاج.
وفيها فتح قتيبة بن مسلم مدينة بخارى وهزم جميع العدو من الترك بها،
وجرت بينهم فصول يطول ذكرها، وقد تقصاها ابن جرير (3).
وفيها طلب طرخون ملك الصغد بعد فتح بخارى من قتيبة أن يصالحه على مال
يبذله في كل عام فأجابه قتيبة إلى ذلك وأخذ منه رهنا عليه.
وفيها استنجد وردان خذاه بالترك فأتوه من جميع
__________
(1) في الطبري 8 / 67: مسلمة بن عبد الملك.
وانظر ابن الاثير 4 / 540.
(2) في ابن الاثير 4 / 536: ذاهر بن صعصعة وقد قتله محمد بن القاسم بن
محمد بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي (3) انظر الطبري 8 / 73 وابن الاثير
4 / 542 وابن الاعثم 7 / 225.
(*)
(9/92)
النواحي - وهو
صاحب بخارى بعد أخذ قتيبة لها - وخرج وردان خذاه وحمل على المسلمين
فحطموهم ثم عاد المسلمون عليهم فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وصالح قتيبة
ملك الصغد، وفتح بخارى وحصونها، ورجع قتيبة بالجند إلى بلاده فأذن له
الحجاج، فلما سار إلى بلاده بلغه أن صاحب الصغد قال لملوك الترك: إن
العرب بمنزلة اللصوص فإن أعطوا شيئا ذهبوا، وإن قتيبة هكذا يقصد
الملوك، فإن أعطوه شيئا أخذه ورجع عنهم، وإن قتيبة ليس بملك ولا يطلب
ملكا.
فبلغ قتيبة قوله فرجع إليهم فكاتب نيزك ملك الترك ملوك ما وراء النهر
(1) منهم ملك الطالقان، وكان قد صالح قتيبة فنقض الصلح الذي كان بينه
وبين قتيبة، واستجاش عليه بالملوك كلها، فأتاه ملوك كثيرة كوا قد
عاهدوا قتيبة على الصلح فنقضوا كلهم وصاروا يدا واحدة على قتيبة،
واتعدوا إلى الربيع وتعاهدوا وتعاقدوا على أن يجتمعوا فيقاتلوا كلهم في
فصل الربيع من السنة الآتية، فقتل منهم قتيبة في ذلك الحين مقتلة عظيمة
جدا لم يسمع بمثلها، وصلب منهم سماطين في مسافة أربعة فراسخ في نظام
واحد، وذلك مما كسر جموعهم كلهم.
وفي هذه السنة هرب يزيد بن المهلب وأخواه المفضل وعبد الملك من سجن
الحجاج، فلحقوا بسليمان بن عبد الملك فأمنهم من الحجاج، وذلك أن الحجاج
كان قد احتاط عليهم قبل ذلك وعاقبهم عقوبة عظيمة، وأخذ منهم ستة آلاف
ألف، وكان أصبرهم على العقوبة يزيد بن المهلب، كان لا يسمع له صوت ولو
فعلوا به ما فعلوا نكاية لذلك، وكان ذلك يغيظ الحجاج، قال قائل للحجاج:
إن في ساقه أثر نشابة بقي نصلها فيه، وإنه متى أصابها شئ لا يملك نفسه
أن يصرخ، فأمر الحجاج: أن ينال ذلك الموضع منه بعذاب، فصاح فلما سمعت
أخته هند بنت المهلب - وكانت تحت الحجاج - صوته بكت وناحت عليه فطلقها
الحجاج ثم أودعهم السجن، ثم خرج الحجاج إلى بعض المحال لينفذ جيشا إلى
الاكراد واستصحبهم معه، فخندق حولهم ووكل بهم الحرس، فلما كان
في بعض الليالي أمر يزيد بن المهلب بطعام كثير فصنع للحرس، ثم تنكر في
هيئة بعض الطباخين وجعل لحيته لحية بيضاء وخرج فرآه بعض الحرس فقال: ما
رأيت مشية أشبه بمشية يزيد بن المهلب من هذا، ثم تبعه يتحققه، فلما رأى
بياض لحيته انصرف عنه، ثم لحقه أخواه فركبوا السفن وساروا نحو الشام،
فلما بلغ الحجاج هربهم انزعج لذلك وذهب وهمه أنهم ساروا إلى خراسان،
فكتب إلى قتيبة بن مسلم يحذره قدومهم ويأمره بالاستعداد لهم، وأن
يرصدهم في كل مكان، ويكتب إلى أمراء الثغور والكور بتحصيلهم وكتب إلى
أمير المؤمنين يخبره بهربهم، وأنه لا يراهم هربوا إلا إلى
__________
(1) في الطبري 8 / 70 وكتب إلى أصبهبذ بلخ وإلى سهرك ملك الطالقان وإلى
ترسل ملك الفارياب وإلى الجوزجاني ملك الجوزجان وإلى باذام ملك مروروذ،
وفي ابن الاثير 4 / 544 باذان.
وفي ابن الاعثم 7 / 225 باذان وجه من وجه الترك.
وفيه: فلما سار إليه قتيبة (وقد التجأ إلى قلعة باذيس) سار معه (أي مع
قتيبة) ملوك خراسان وأقبل حتى نزل أسفل القلعة ومعه أهل بخارا وأهل مرو
والطالقان والفارياب وأهل بلخ وسرخس.
(*)
(9/93)
خراسان، وخاف
الحجاج من يزيد أن يصنع كما صنع ابن الاشعث من الخروج عليه وجمع الناس
له، وتحقق عنده قول الراهب.
وأما يزيد بن المهلب فإنه سلك على البطائح وجاءته خيول كان قد أعدها له
أخوه مروان بن المهلب لهذا اليوم، فركبها وسلك بن دليل من بني كلب يقال
له عبد الجبار بن يزيد (1)، فأخذ بهم على السماوة، وجاء الخبر إلى
الحجاج بعد يومين أن يزيد قد سلك نحو الشام، فكتب إلى الوليد يعلمه
بذلك، وسار يزيد حتى نزل الاردن (2) على وهيب بن عبد الرحمن الازدي -
وكان كريما على سليمان بن عبد الملك - فسار وهيب إلى سليمان بن عبد
الملك فقال له: إن يزيد بن المهلب وأخويه في منزلي، قد جاؤوا مستعيذين
بك من الحجاج، قال: فاذهب فأتني بهم فهم آمنون ما دمت حيا، فجاءهم فذهب
بهم حتى أدخلهم على سليمان بن عبد الملك، فأمنهم سليمان وكتب إلى أخيه
الوليد: إن آل المهلب قد أمنتهم، وإنما بقي للحجاج عندهم ثلاثة آلاف
ألف، وهي عندي.
فكتب إليه الوليد: لا والله لا أؤمنه حتى تبعث به إلي.
فكتب إليه: لا والله لا أبعثه حتى أجئ معه، فأنشدك الله يا أمير
المؤمنين أن تفضحني أو تخفرني في جواري.
فكتب
إليه: لا والله لا تجئ معه وابعث به إلي في وثاق.
فقال يزيد: ابعث بي إليه فما أحب أن أوقع بينك وبينه عداوة وحربا،
فابعثني إليه وابعث معي ابنك واكتب إليه بألطف عبارة تقدر عليها فبعثه
وبعث معه ابنه أيوب، وقال لابنه: إذا دخلت في الدهليز فادخل مع يزيد في
السلسلة، وادخلا عليه كذلك.
فلما رأى الوليد ابن أخيه في السلسلة، قال: والله لقد بلغنا من سليمان.
ودفع أيوب كتاب أبيه إلى عمه وقال: يا أمير المؤمنين نفسي فداؤك لا
تخفر ذمة أبي وأنت أحق من منعها، ولا تقطع منا رجاء من رجا السلامة في
جوارنا لمكاننا منك، ولا تذل من رجا العز في الانقطاع إلينا لعزنا بك.
ثم قرأ الوليد كتاب سليمان بن عبد الملك فإذا فيه: أما بعد يا أمير
المؤمنين فوالله إن كنت لاظن لو استجار بي عدو قد نابذك وجاهدك فأنزلته
وأجرته أنك لا تذل جواري ولا تخفره، بل لم أجر إلا سامعا مطيعا، حسن
البلاء والاثر في الاسلام هو وأبوه وأهل بيته، وقد بعثت به إليك فإن
كنت إنما تعد قطيعتي واخفار ذمتي والابلاغ في مساءتي فقد قدرت إن أنت
فعلت، وأنا أعيذك بالله من احتراد قطيعتي وانتهاك حرمتي، وترك بري
وإجابتي إلى ما سألتك، ووصلتي، فوالله يا أمير المؤمنين ما تدري ما
بقائي وبقاؤك، ولا متى يفرق الموت بيني وبينك، فإن استطاع أمير
المؤمنين أدام الله سروره أن لا يأتي أجل الوفاة علينا إلا وهو لي واصل
ولحقي مؤد، وعن مساءتي نازع فليفعل، ووالله يا أمير المؤمنين ما أصبحت
بشئ من أمر الدنيا بعد تقوى الله بأسر مني برضاك وسرورك، وإن رضاك
__________
(1) في الطبري 8 / 72 عبد الجبار بن يزيد بن الربعة، وفي ابن الاعثم 7
/ 211: عبد الرحمن بن عاصم.
وفي ابن الاثير 4 / 546: دليل من كلب.
(2) في الطبري وابن الاثير: وسار يزيد حتى قدم فلسطين.
وفي ابن الاعثم 7 / 211: زهرة بن عبد الرحمن الازدي هو الذي يأخذ لي
الامان من القوم.
(*)
(9/94)
وسرورك أحب إلي
من رضائي وسروري، ومما ألتمس به رضوان الله عزوجل لصلتي ما بيني وبينك،
وإن كنت يا أمير المؤمنين يوما من الدهر تريد صلتي وكرامتي وإعظام حقي
فتجاوز لي عن يزيد، وكل ما طلبته به فهو علي.
فلما قرأ الوليد كتابه قال: لقد أشفقنا على سليمان، ثم دعا ابن أخيه
فأدناه منه، وتكلم يزيد بن المهلب فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله
ثم قال: يا أمير المؤمنين إن بلاءكم عندنا أحسن البلاء، فمن ينس ذلك
فلسنا ننساه، ومن يكفره بكافريه، وقد كان من بلائنا أهل البيت في
طاعتكم والطعن في أعين أعدائكم في المواطن العظام في المشارق والمغارب،
ما أن المنة فيه علينا عظيمة.
فقال له: اجلس فجلس فأمنه وكف عنه ورده إلى سليمان، فكان عنده حسن
الهيئة، ويصف له ألوان الاطعمة الشهية، وكان حظيا عنده لا يهدى إليه
بهدية إلا أرسل له بنصفها، وتقرب يزيد بن المهلب إلى سليمان بأنواع
الهدايا والتحف والتقادم، وكتب الوليد إلى الحجاج إني لم أصل إلى يزيد
بن المهلب وأهل بيته مع أخي سليمان، فاكفف عنهم واله عن الكتاب إلي
فيهم.
فكف الحجاج عن آل المهلب وترك ما كان يطالبهم به من الاموال، حتى ترك
لابي عيينة بن المهلب ألف ألف درهم، ولم يزل يزيد بن المهلب عند سليمان
بن عبد الملك حتى هلك الحجاج في سنة خمس وتسعين، ثم ولي يزيد بلاد
العراق بعد الحجاج كما أخبره الراهب.
وفيها توفي من الاعيان: يتاذوق
الطبيب الحاذق، له مصنفات في فنه وكان حظيا عند الحجاج، مات في حدود
سنة تسعين بواسط.
وفيها توفي (عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة) وأبو العالية الرياحي،
وسنان بن سلمة بن المحبق أحد الشجعان المذكورين، أسلم يوم الفتح، وتولى
غزو الهند، وطال عمره.
وتوفي في هذه السنة محمد بن يوسف الثقفي أخو الحجاج، وكان أميرا على
اليمن، وكان يلعن عليا على المنابر، قيل إنه أمر حجر المنذري أن يلعن
عليا فقال: بل لعن الله من يلعن عليا، ولعنة الله على من لعنه الله.
وقيل إنه وري في لعنه فالله أعلم.
خالد بن يزيد بن معاوية أبو هاشم الاموي الدمشقي، وكانت داره بدمشق تلي
دار الحجارة، وكان عالما شاعرا، وينسب إليه شئ من علم الكيمياء، وكان
يعرف شيئا من علوم الطبيعة، روى عن أبيه ودحية الكلبي وعنه الزهري
وغيره، قال الزهري: كان خالد يصوم الاعياد كلها الجمعة والسبت والاحد -
يعني يوم الجمعة وهو عيد المسلمين، ويوم السبت وهو عيد اليهود، والاحد
للنصارى - وقال أبو زرعة الدمشقي: كان هو وأخوه معاوية من خيار القوم،
وقد ذكر للخلافة بعد أخيه معاوية بن يزيد، وكان ولي العهد من بعد مروان
فلم يلتئم له الامر، وكان مروان زوج أمه، ومن كلامه:
(9/95)
أقرب شئ الاجل،
وأبعد شئ الامل، وأرجى شئ العمل، وقد امتدحه بعض الشعراء فقال: سألت
الندا والجود حران أنتما * فردا وقالا إننا لعبيد فقلت ومن مولاكما
فتطاولا * علي وقالا خالد بن يزيد قال: فأمر له بمائة ألف.
قلت: وقد رأيتهما قد أنشدا في خالد بن الوليد رضي الله عنه.
فقال: وقالا خالد بن وليد.
والله أعلم.
وخالد بن يزيد هذا كان أميرا على حمص، وهو الذي بنى جامع حمص وكان له
فيه أربعمائة عبد يعملون، فلما فرغ منه أعتقهم.
وكان خالد يبغض الحجاج، وهو الذي أشار على عبد الملك لما تزوج الحجاج
بنت جعفر أن يرسل إليه فيطلقها ففعل.
ولما مات مشى الوليد في جنازته وصلى عليه، وكان قد تجدد على خالد
اصفرار وضعف، فسأله عبد الملك عن هذا فلم يخبره فما زال حتى أخبره أنه
من حب رملة أخت مصعب بن الزبير، فأرسل عبد الملك يخطبها لخالد فقالت:
حتى يطلق نساءه فطلقهن وتزوجها وأنشد فيها الشعر.
وكانت وفاته في هذا العام، وقيل في سنة أربع وثمانين وقد ذكر هناك،
والصحيح الاول.
عبد الله بن الزبير ابن سليم الاسدي الشاعر أبو كثير، ويقال أبو سعيد،
وهو مشهور، وفد على عبد الله بن الزبير فامتدحه فلم يعطه شيئا فقال:
لعن الله ناقة حملتني إليك، فقال ابن الزبير: إن وصاحبها، يقال إنه مات
في زمن الحجاج.
ثم دخلت سنة احدى وتسعين فيها غزا الصائفة
مسلمة بن عبد الملك وابن أخيه عبد العزيز بن الوليد، وفيها غزا مسلمة
بلاد الترك حتى بلغ الباب من ناحية أذربيجان، ففتح مدائن وحصونا كثيرة
أيضا، وكان الوليد قد
عزل عمه محمد بن مروان عن الجزيرة وأذربيجان وولاهما أخاه مسلمة بن عبد
الملك.
وفيه غزا موسى بن نصير بلاد المغرب ففتح مدنا كثيرة ودخل في تلك البلاد
وولج فيها حتى دخل أراضي غابرة قاصية فيها آثار قصور وبيوت ليس بها
ساكن، ووجد هناك من آثار نعمة أهل تلك البلاد ما يلوح على سماتها أن
أهلها كانوا أصحاب أموال ونعمة دارة سائغة، فبادوا جميعا فلا مخبر بها.
وفيها مهد قتيبة بن مسلم بلاد الترك الذين كانوا قد نقضوا ما كانوا
عاهدوه عليه من المصالحة، وذلك بعد قتال شديد وحرب يشيب لها الوليد،
وذلك أن ملوكهم كانوا قد اتعدوا في العام الماضي في أول الربيع أن
يجتمعوا ويقاتلوا قتيبة، وأن لا يولوا عن القتال حتى يخرجوا العرب من
بلادهم، فاجتمعوا اجتماعا هائلا لم يجتمعوا مثله في موقف، فكسرهم قتيبة
وقتل منهم أمما كثيرة، ورد الامور إلى ما كانت عليه، حتى ذكر أنه صلب
منهم في بعض المواضع من جملة من أخذه منهم سماطين طولهما أربعة فراسخ
من ههنا وههنا، عن يمينه وشماله، صلب الرجل منهم بجنب الرجل، وهذا شئ
كثير، وقتل في
(9/96)
الكفار قتلا
ذريعا، ثم لا يزال يتتبع نيزك خان ملك الترك الاعظم من إقليم، إلى
إقليم، ومن كورة إلى كورة، ومن رستاق إلى رستاق، ولم يزل ذلك دأبه
ودأبه حتى حصره في قلعة هنالك (1) شهرين متتابعين، حتى نفذ ما عند نيزك
خان من الاطعمة، وأشرف هو ومن معه على الهلاك، فبعث إليه قتيبة من جاء
به مستأمنا مذموما مخذولا، فسجنه عنده ثم كتب إلى الحجاج في أمره فجاء
الكتاب بعد أربعين يوما بقتله، فجمع قتيبة الامراء فاستشارهم فيه
فاختلفوا عليه، فقائل يقول: اقتله.
وقائل يقول لا تقتله فقال له بعض الامراء: إنك أعطيت الله عهدا أنك إن
ظفرت به لتقتلنه، وقد أمكنك الله منه، فقال قتيبة: والله إن لم يبق من
عمري إلا ما يسع ثلاث كلمات لقتلته، ثم قال: اقتلوه اقتلوه اقتلوه،
فقتل هو وسبعمائة من أصحابه من أمرائه في غداة واحدة وأخذ قتيبة من
أموالهم وخيولهم وثيابهم وأبنائهم ونسائهم شيئا كثيرا، وفتح في هذا
العام مدنا كثيرة، وقرر ممالك كثيرة، وأخذ حصونا كثيرة مشحونة بالاموال
والنساء، ومن آنية الذهب والفضة شيئا كثيرا، ثم سار قتيبة إلى الطالقان
- وهي مدينة كبيرة وبها حصون وأقاليم - فأخذها واستعمل عليها (2)، ثم
سار إلى الفارياب
وبها مدن ورساتيق، فخرج إليه ملكها سامعا مطيعا، فاستعمل عليها رجلا من
أصحابه، ثم سار إلى الجوزجان فأخذها من ملكها واستعمل عليها (3)، ثم
أتى بلخ فدخلها وأقام بها نهارا واحدا، ثم خرج منها وقصد نيزك خان
ببغلان، وقد نزل نيزك خان معسكرا على فم الشعب الذي منه يدخل إلى
بلاده، وفي فم الشعب قلعة عظيمة تسمى شمسية (4)، لعلوها وارتفاعها
واتساعها.
فقدم على قتيبة الرؤب خان ملك الرؤب وسمنجان، فاستأمنه على أن يدله على
مدخل القلعة، فأمنه وبعث معه رجالا إلى القلعة فأتوها ليلا ففتحوها
وقتلوا خلقا من أهلها وهرب الباقي، ودخل قتيبة الشعب وأتى سمنجان - وهي
مدينة كبيرة - فأقام بها وأرسل أخاه عبد الرحمن خلف ملك تلك المدن
والبلاد نيزك خان في جيش هائل، فسار خلقه إلى بغلان فحصره بها، وأقام
بحصاره شهرين حتى نفد ما عنده من الاقوات، فأرسل قتيبة من عنده ترجمانا
يسمى الناصح (5)، فقال له: اذهب فائتني بنيزك خان ولئن عدت إلي وليس هو
معك ضربت عنقك.
وأرسل قتيبة معه هدايا وأطعمة فاخرة، فسار الترجمان إلى نيزك حتى أتاه
وقدم إليه الاطعمة فوقع عليها أصحابه يتخا طفونها - وكانوا قد أجهدهم
الجوع - ثم أعطاه الناصح الامان وحلف له، فقدم به على قتيبة ومعه
سبعمائة أمير من أصحابه ومن أهل بيته
__________
(1) في ابن الاعثم 7 / 225: اسمها براسكين وهي قلعة حصينة لا ترام ولا
يقدر عليها أحد.
وفي الهامش: كذا بالاصل، ولم نظفر بها.
(2) في الطبري 8 / 75: عمرو بن مسلم وفي ابن الاثير 4 / 549: استعمل
أخاه عمر بن سلم.
(3) في الطبري 8 / 75: استعمل عليها عامر بن مالك الحماني، وفي ابن
الاعثم 7 / 232 الجماني.
وانظر ابن الاثير 4 / 549.
(4) في ابن الاعثم 7 / 227: براسكين.
(5) في الطبري وابن الاثير وابن الاعثم: سليم الناصح.
(*)
(9/97)
جماعة.
وكذلك استأمن قتيبة جماعة من الملوك فأمنهم وولى على بلادهم والله
سبحانه وتعالى أعلم.
قال الواقدي وغيره: وحج بالناس في هذه السنة أمير المؤمنين الوليد بن
عبد الملك، فلما قرب
من المدينة أمر عمر بن عبد العزيز أشراف المدينة فتلقوه فرحب بهم وأحسن
إليهم، ودخل المدينة النبوية فأخلى له المسجد النبوي، فلم يبق به أحد
سوى سعيد بن المسيب لم يتجاسر أحد أن يخرجه، وإنما عليه ثياب لا تساوي
خمسة دراهم، فقالوا له: تنح عن المسجد أيها الشيخ، فإن أمير المؤمنين
قادم، فقال: والله لا أخرج منه، فدخل الوليد المسجد فجعل يدور فيه يصلي
ههنا وههنا ويدعو الله عز وجل، قال عمر بن عبد العزيز: وجعلت أعدل به
عن موضع سعيد خشية أن يراه، فحانت منه التفاتة فقال: من هذا هو سعيد بن
المسيب ؟ فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، ولو علم بأنك قادم لقام إليك
وسلم عليك.
فقال: قد علمت بغضه لنا، فقلت: يا أمير إنه وإنه، وشرعت أثني عليه،
وشرع الوليد يثني عليه بالعلم والدين، فقلت: يا أمير المؤمنين إنه ضعيف
البصر - وإنما قلت ذلك لاعتذر له - فقال: نحن أحق بالسعي إليه، فجاء
فوقف عليه فسلم عليه فلم يقم له سعيد، ثم قال الوليد: كيف الشيخ ؟
فقال: بخير والحمد لله، كيف أمير المؤمنين ؟ فقال الوليد: بخير والحمد
لله وحده، ثم انصرف وهو يقول لعمر بن عبد العزيز: هذا فقيه الناس.
فقال: أجل يا أمير المؤمنين.
قالوا: ثم خطب الوليد على منبر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فجلس في
الخطبة الاولى وانتصب في الثانية، قال وقال: هكذا خطب عثمان، ثم انصرف
فصرف على الناس من أهل المدينة ذهبا كثيرا وفضة كثيرة، ثم كسا المسجد
النبوي كسوة من كسوة الكعبة التي معه، وهي من ديباج غليظ.
وتوفي في هذه السنة السائب بن يزيد بن سعد بن تمامة، وقد حج به أبوه مع
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وكان عمر السائب سبع سنين، رواه
البخاري فلهذا قال الواقدي: إنه ولد سنة ثلاث من الهجرة، وتوفي سنة
إحدى وتسعين.
وقال غيره: سنة ست وقيل ثمان وثمانين، فالله أعلم.
سهل بن سعد الساعدي صحابي مدني جليل، توفي رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) وله من العمر خمس عشرة سنة، وكان ممن ختمه الحجاج في عنقه هو
وأنس بن مالك وجابر بن عبد الله في يده، ليذلهم كيلا يسمع الناس من
رأيهم، قال الواقدي: توفي سنة إحدى وتسعين عن مائة سنة، وهو آخر من مات
في المدينة من الصحابة.
قال محمد بن سعد: ليس في هذا خلاف، وقد قال البخاري وغيره: توفي سنة
ثمان وثمانين فالله
أعلم.
ثم دخلت سنة ثنتين وتسعين فيها غزا مسلمة
وابن أخيه عمر بن الوليد بلاد الروم ففتحا حصونا كثيرة وغنما شيئا
كثيرا وهربت منهم الروم إلى أقصى بلادهم، وفيها غزا طارق بن زياد مولى
موسى بن نصير بلاد الاندلس في
(9/98)
أثني عشر ألفا
(1)، فخرج إليه ملكها أدرينوق (2) في جحافلة وعليه تاجه ومعه سرير
ملكه، فقاتله طارق فهزمه وغنم ما في معسكره، فكان من جملة ذلك السرير،
وتملك بلاد الاندلس بكمالها، قال الذهبي: كان طارق بن زياد أمير طنجة
وهي أقصى بلاد المغرب، وكان نائبا لمولاه موسى بن نصير، فكتب إليه صاحب
الجزيرة الخضراء (3) يستنجد به على عدوه، فدخل طارق إلى جزيرة الاندلس
من زقاق سبتة وانتهز الفرصة لكون الفرنج قد اقتتلوا فيما بينهم، وأمعن
طارق في بلاد الاندلس فافتتح قرطبة وقتل ملكها أدرينوق (4)، وكتب إلى
موسى بن نصير بالفتح، فحسده موسى على الانفراد بهذا الفتح، وكتب إلى
الوليد يبشره بالفتح وينسبه إلى نفسه، وكتب إلى طارق يتوعده لكونه دخل
بغير أمره، ويأمره أن لا يتجاوز مكانه حتى يلحق به، ثم سار إليه مسرعا
بجيوشه فدخل الاندلس ومعه حبيب بن أبي عبيدة الفهري، فأقام سنين يفتح
في بلاد الاندلس ويأخذ المدن والاموال، ويقتل الرجال ويأسر النساء
والاطفال، فغنم شيئا لا يحد ولا يوصف ولا يعد، من الجواهر واليواقيت
والذهب والفضة، ومن آنية الذهب والفضة والاثاث والخيول والبغال وغير
ذلك شيئا كثيرا، وفتح من الاقاليم الكبار والمدن شيئا كثيرا.
وكان مما فتح مسلمة وابن أخيه عمر بن الوليد من حصون بلاد الروم حصن
سوسنة وبلغا إلى خليج القسطنطينية.
وفيها فتح قتيبة بن مسلم شومان وكش ونسف، وامتنع عليه أهل فرياب
فأحرقها، وجهز
__________
(1) في الامامة والسياسة: ص 2 / 73 في ألف رجل وسبعمائة.
(2) في ابن الاثير 4 / 561 رذريق.
وفي العيون والحدائق ص 3: الاذريق، وهو يقول إنه لقب ملوك الاندلس كما
هو لقب الاكاسرة.
وفي الامامة والسياسة 2 / 73 لذريق.
وفي رواية ابن الاثير: ان غيطشة الملك توفي وخلف ولدين فلم يرض بهما
أهل الاندلس وتراضوا برجل يقال له رذريق - ولم يكن رذريق من بيت الملك
بل كان من النبلاء.
(3) الجزيرة الخضراء: مدينة مشهورة بالاندلس، قبالتها من البر بلاد
البربر سبتة، وهي على نهر برباط وأقربها من البحر الاعظم بينهما ثمانية
عشر ميلا (معجم البلدان).
وفي ابن الاثير ان صاحبها يوليان، وهو أيضا صاحب سبتة.
وفي السبب الذي جعله يستنجد بطارق بن زياد أقوال - المشهور منها - أن
يليان كان يريد الثأر لشرف ابنته فلورندا - والمشهورة باسم
cava
والتي كانت تخدم في بلاط روذريق كما هي عادة ملوك الاندلس - فاعتدى
روذريق على شرفها فكتبت إلى أبيها فأغضبه ذلك فكتب إلى موسى بن نصير
يطلب مساعدته ويحرضه على غزو الاندلس.
(ابن الاثير 4 / 561 أخبار مجموعة ص 5 - 6).
ولا يمكن اعتباره سببا مباشرا للغزو لتناقض نصوص الرواية.
فابن القوطية يروي ان يليان تاجرا من الروم كان يدخل قصر الملك للتجارة
(ص 7 - 8) ويشك قولتير في أن الملك انتهك عرضها واعتدى على عفافها.
أما السبب الارجح فهو من جهة وضع الاندلس وتردي الحالة السياسية
والاضطراب والفوضى الداخلية وتردي الاوضاع الاجتماعية (المجاعة -
الطاعون) ومن جهة ثانية شعور العرب بضعفها وتوثبهم لمزيد من الفتح،
يضاف إليه أمر هام وهو العلاقة المتوترة التي كانت تسود بين العرب
والقوط.
(4) في ابن الاثير 4 / 563: غرق في النهر.
(*)
(9/99)
أخاه عبد
الرحمن إلى الصغد إلى طرخون خان ملك تلك البلاد، فصالحه عبد الرحمن
وأعطاه طرخون خان أموالا كثيرة، وقدم على أخيه وهو ببخارى فرجع إلى
مرو، ولما صالح طرخون عبد الرحمن ورجل عنه اجتمعت الصغد وقالوا لطرخون:
إنك قد بؤت بالذل، وأديت الجزية، وأنت شيخ كبير، فلا حاجة لنا فيك، ثم
عزلوه وولوا عليهم غورك خان - أخا طرخون خان - ثم إنهم عصوا ونقضوا
العهد، وكان من أمرهم ما سيأتي.
وفيها غزا قتيبة سجستان يريد رتبيل ملك الترك الاعظم، فلما انتهى إلى
أول مملكة رتبيل تلقته رسله يريدون منه الصلح على أموال عظيمة، خيول
ورقيق ونساء من بنات الملوك، يحمل ذلك إليه،
فصالحه.
وحج بالناس فيها عمر بن عبد العزيز نائب المدينة.
وتوفي فيها من الاعيان مالك بن أوس بن
الحدثان النضري، أبو سعيد المدني، مختلف في صحبته، قال بعضهم:
ركب الخيل في الجاهلية ورأى أبا بكر، وقال محمد بن سعد: رأى رسول الله
(صلى الله عليه وسلم) ولم يحفظ منه شيئا، وأنكر ذلك ابن معين والبخاري
وأبو حاتم، وقالوا: لا تصح له صحبة والله أعلم مات في هذه السنة وقيل
في التي قبلها فالله أعلم.
طويس المغني اسمه عيسى بن عبد الله أبو عبد المنعم المدني مولى بني
مخزوم، كان بارعا في صناعته، وكان طويلا مضطربا أحول العين، وكان
مشؤوما، لانه ولد يوم مات رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وفطم يوم
توفي الصديق، واحتلم يوم قتل عمر، وتزوج يوم قتل عثمان، وولد له يوم
قتل الحسين بن علي، وقيل ولد له يوم قتل علي.
حكاه ابن خلكان وغيره.
وكانت وفاته في هذه السنة عن ثنتين وثمانين سنة بالسويد - وهي على
مرحلتين من المدينة - الاخطل كان شاعرا مطبقا، فاق أقرانه في الشعر.
ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وفيها افتتح مسلمة بن عبد الملك حصونا كثيرة
من بلاد الروم، منها حصن الحديد وغزالة وماسة وغير ذلك.
وفيها غزا العباس بن الوليد ففتح سمسطية.
وفيها غزا مروان بن الوليد الروم حتى بلغ حنجرة.
وفيها كتب خوارزم شاه (1) إلى قتيبة يدعوه إلى الصلح وأن يعطيه من
بلاده مدائن، وأن يدفع إليه أموالا ورقيقا كثيرا على أن يقاتل أخاه (2)
ويسلمه إليه، فإنه قد أفسد في الارض وبغى على الناس وعسفهم، وكان أخوه
هذا لا يسمع بشئ حسن عند أحد إلا بعث إليه فأخذه منه، سواء كان مالا أو
نساء أو صبيانا أو دواب أو غيره، فأقبل قتيبة نصره الله في الجيوش
__________
(1) في ابن الاعثم 7 / 235: جنغان.
(2) في الطبري 8 / 83 وابن الاثير 4 / 570: اسمه خرزاد وكان اصغر منه.
(*)
(9/100)
فسلم إليه
خوارزم شاه ما صالحه عليه، وبعث قتيبة إلى بلاد أخي خوارزم شاه جيشا
فقتلوا منهم
خلقا كثيرا وأسروا أخاه ومعه أربعة آلاف أسير من كبارهم، فدفع أخاه
إليه، وأمر قتيبة بالاسارى فضربت أعناقهم بحضرته، قيل ألفا بين يديه
وألفا عن يمينه وألفا عن شماله وألفا من وراء ظهره، ليرهب بذلك الاعداء
من الاتراك وغيرهم.
فتح سمرقند وذلك أن قتيبة لما فرغ
من هذا كله وعزم على الرجوع إلى بلاده، قال له بعض الامراء (1): إن أهل
الصغد قد أمنوك عامك هذا، فإن رأيت أن تعدل إليهم وهم لا يشعرون، فانك
متى فعلت ذلك أخذتها إن كنت تريدها يوما من الدهر فقال قتيبة لذلك
الامير: هل قلت هذا لاحد ؟ قال: لا ! قال فلان يسمعه منك أحد أضرب
عنقك.
ثم بعث قتيبة أخاه عبد الرحمن بن مسلم بين يديه في عشرين ألفا فسبقه
إلى سمرقند، ولحقه قتيبة في بقية الجيش، فلما سمعت الاتراك بقدومهم
إليهم انتخبوا من بينهم كل شديد السطوة من أبناء الملوك والامراء،
وأمروهم أن يسيروا إلى قتيبة في الليل فيكبسوا جيش المسلمين، وجاءت
الاخبار إلى قتيبة بذلك فجرد أخاه صالحا في ستمائة (2) فارس من الابطال
الذين لا يطاقون، وقال: خذوا عليهم الطريق، فساروا فوقفوا لهم في أثناء
الطريق وتفرقوا ثلاث فرق، فلما اجتازوا بهم بالليل - وهم لا يشعرون بهم
- نادوا عليهم فاقتتل المسلمون هم وإياهم، فلم يفلت من أولئك الاتراك
إلا النفر اليسير واحتزوا رؤوسهم وغنموا ما كان معهم من الاسلحة
المحلاة بالذهب، والامتعة، وقال لهم بعض أولئك: تعلمون أنكم لم تقتلوا
في مقامكم هذا إلا ابن ملك أو بطل من الابطال المعدودين بمائة فارس أو
بألف فارس، فنفلهم قتيبة جميع ما غنموه منهم من ذهب وسلاح، واقترب من
المدينة العظمى التي بالصغد - وهي سمرقند - فنصب عليها المجانيق فرماها
بها - وهو مع ذلك يقاتلهم لا يقلع عنهم، وناصحه من معه عليها من بخارى
وخوارزم، فقاتلوا أهل الصغد قتالا شديدا، فأرسل إليه غورك (3) ملك
الصغد: إنما تقاتلني باخواني وأهل بيتي، فاخرج إلي في العرب.
فغضب عند ذلك قتيبة وميز العرب من العجم وأمر العجم باعتزالهم، وقدم
الشجعان من العرب وأعطاهم جيد السلاح، وانتزعه من أيدي الجبناء، وزحف
بالابطال على المدينة ورماها بالمجانيق، فثلم
فيها ثلمة فسدها الترك بغرار الدخن، وقام رجل منهم فوقها فجعل يشتم
قتيبة فرماه رجل من
__________
(1) في الطبري 8 / 85: المجسر بن مزاحم السلمي، وفي ابن الاثير 4 /
571: المجشر وفي ابن الاعثم 7 / 238 المحسن، وصححه محققه كما في
الطبري.
(2) في ابن الاعثم: سبعمائة.
وفي ابن الاثير: أربعمائة، وفي الطبري، ثلاثمائة أو ستمائة.
وانظر في فتحها رواية الاخبار الطوال ص 327.
(3) في ابن الاعثم: غوزك بن أخشيد - وانظر الطبري 8 / 86.
(*)
(9/101)
المسلمين بسهم
فقلع عينه ؟ حتى خرجت من قفاه.
فلم يلبث أن مات قبحه الله، فأعطى قتيبة الذي رماه عشرة آلاف، ثم دخل
الليل، فلما أصبحوا رماهم بالمجانيق فثلم أيضا ثلمة وصعد المسلمون
فوقها وتراموا هم واهل البلد بالنشاب، فقالت الترك لقتيبة: ارجع عنا
يومك هذا ونحن نصالحك غدا، فرجع عنهم وصالحوه من الغد على: ألفي ألف
ومائة ألف يحملونها إليه في كل عام، وعلى أن يعطوه في هذه السنة ثلاثين
ألف رأس من الرقيق (1)، ليس فيهم صغير ولا شيخ ولا عيب، وفي رواية مائة
ألف من رقيق، وعلى أن يأخذ حلية الاصنام وما في بيوت النيران، وعلى أن
يخلوا المدينة من المقاتلة حتى يبني فيها قتيبه مسجدا، ويوضع له فيه
منبر يخطب عليه، ويتغدى ويخرج.
فأجابوه إلى ذلك، فلما دخلها قتيبة دخلها ومعه أربعة آلاف من الابطال -
وذلك بعد أن بنى المسجد ووضع فيه المنبر - فصلى في المسجد وخطب وتغدى
وأتي بالاصنام التي لهم فسلبت بين يديه، وألقيت بعضها فوق بعض، حتى
صارت كالقصر العظيم، ثم أمر بتحريقها، فتصارخوا وتباكوا وقال المجوس:
إن فيها أصناما قديمة من أحرقها هلك، وجاء الملك غورك فنهى عن ذلك،
وقال لقتيبة: إني لك ناصح، فقام قتيبة وأخذ في يده شعلة نار وقال: أنا
أحرقها بيدي فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون، ثم قام إليها وهو يكبر الله
عزوجل، وألقى فيها النار فاحترقت، فوجد من بقايا ما كان فيها من الذهب
خمسون ألف مثقال من ذهب.
وكان من جملة ما أصاب قتيبة في السبي جارية من ولد يزدجرد، فأهداها إلى
الوليد فولدت له يزيد بن
الوليد، ثم استدعى قتيبة بأهل سمرقند فقال لهم: إني لا أريد منكم أكثر
مما صالحتكم عليه، ولكن لا بد من جند يقيمون عندكم من جهتنا.
فانتقل عنها ملكها غورك خان فتلا قتيبة (وأنه أهلك عادا الاولى وثمود
فما أبقى) الآية [ النجم: 50 - 51 ] ثم ارتحل عنها قتيبة إلى بلاد مرو،
واستخلف على سمرقند أخاه عبد الله بن مسلم، وقال له: لا تدع مشركا يدخل
باب سمرقند إلا مختوم اليد، ثم لا تدعه بها إلا مقدار ما تجف طينة
ختمه، فإن جفت وهو بها فاقتله، ومن رأيت منهم ومعه حديدة أو سكينة
فاقتله بها وإذا أغلقت الباب فوجدت بها أحدا فاقتله، فقال في ذلك كعب
الاشقري (2) - ويقال هي لرجل من جعفي: - كل يوم يحوي قتيبة نهبا *
ويزيد الاموال مالا جديدا
__________
(1) كذا بالاصل والطبري.
وفي ابن الاثير 4 / 573: فصالحهم من الغد على ألفي ألف ومائتي ألف
مثقال في كل عام، وان يعطوه تلك السنة ثلاثين ألف فارس.
وفي ابن الاعثم 7 / 243.
فصالحهم قتيبة على ألفي ألف درهم عاجلة ومائتي ألف درهم في كل سنة وعلى
ثلاثة آلاف رأس من الرقيق.
وانظر فيه نسخة كتاب العهد الذي كتبه قتيبة لغوزك 7 / 244 وفيه ان
الكتاب كتب سنة 94.
(2) كذا بالاصل والطبري وابن الاثير، وفي ابن الاعثم 7 / 244 وفيه، كعب
بن معدان الاشقري وقال أبياتا مطلعها: وذكر بيتا واحدا: ألا أيها قتيبة
غيبة * أبى الله إلا أن يكون مؤيدا (*)
(9/102)
باهلي قد ألبس
التاج حتى * شاب منه مفارق كن سودا دوخ الصغد بالكتائب حتى * ترك الصغد
بالعراء قعودا فوليد يبكي لفقد أبيه * وأب موجع يبكي الوليدا كلما حل
بلدة أو أتاها * تركت خيله بها أخدودا وفي هذه السنة عزل موسى بن نصير
نائب بلاد المغرب مولاه طارقا عن الاندلس، وكان قد بعثه إلى مدينة
طليطلة ففتحها فوجد فيها مائدة سليمان بن داود عليهما السلام، وفيها من
الذهب
والجواهر شئ كثير جدا، فبعثوا بها إلى الوليد بن عبد الملك، فما وصلت
إليه حتى مات وتولى أخوه سليمان بن عبد الملك، فوصلت مائدة سليمان عليه
السلام إلى سليمان على ما سيأتي بيانه في موضعه، وكان فيها ما يبهر
العقول، لم ير منظر أحسن منها.
واستعمل موسى بن نصير مكان مولاه ولده عبد العزيز بن موسى بن نصير.
وفيها بعث موسى بن نصير العساكر وبثها في بلاد المغرب، فافتتحوا مدنا
كثيرة من جزيرة الاندلس منها قرطبة وطنجة، ثم سار موسى بنفسه إلى غرب
الاندلس فافتتح مدينة باجة والمدينة البيضاء وغيرهما من المدن الكبار
والاقاليم، ومن القرى والرساتيق شئ كثير، وكان لا يأتي مدينة فيبرح
عنها حتى يفتحها أو ينزلوا على حكمه، وجهز البعوث والسرايا غربا وشرقا
وشمالا، فجعلوا يفتتحون المغرب بلدا بلدا، وإقليما إقليما، ويغنمون
الاموال ويسبون الذراري والنساء، ورجع موسى بن نصير بغنائم وأموال وتحف
لا تحصى ولا تعد كثرة.
وفيها قحط أهل إفريقية وأجدبوا جدبا شديدا، فخرج بهم موسى بن نصير
يستسقي بهم، فما زال يدعو حتى انتصف النهار، فلما أراد أن ينزل عن
المنبر قيل له: ألا تدعو لامير المؤمنين ؟ قال: ليس هذا الموضع موضع
ذاك، فلما قال هذه المقالة أرسل الله عليهم الغيث فأمطروا مطرا غزيرا
وحسن حالهم، وأخصبت بلادهم.
وفيها ضرب عمر بن عبد العزيز خبيب بن عبد الله بن الزبير خمسين سوطا
بأمر الوليد له في ذلك، وصب فوق رأسه قربة من ماء بارد، في يوم شتاء
بارد، وأقامه على باب المسجد يوم ذلك فمات رحمه الله.
وكان عمر بن عبد العزيز بعد موت خبيب شديد الخوف لا يأمن، وكان إذا بشر
بشئ من أمر الآخرة يقول: وكيف وخبيب لي بالطريق ؟ وفي رواية يقول هذا
إذا لم يكن خبيب في الطريق، ثم يصيح صياح المرأة الثكلى، وكان إذا أثنى
عليه يقول: خبيب وما خبيب إن نجوت منه فأنا بخير.
وما زال على المدينة إلى أن ضرب خبيبا فمات فاستقال وركبه الحزن والخوف
من حينئذ، وأخذ في الاجتهاد في العبادة والبكاء، وكانت تلك هفوة منه
وزلة، ولكن حصل له بسببها خير كثير، من عبادة وبكاء وحزن وخوف وإحسان
وعدل وصدقة وبر وعتق وغير ذلك.
(9/103)
وفيها افتتح
محمد بن القاسم - وهو ابن عم الحجاج بن يوسف (1).
مدينة الدبيل وغيرها من بلاد الهند وكان قد ولاه الحجاج غزو الهند
وعمره سبع عشرة سنة، فسار في الجيوش فلقوا الملك داهر - وهو ملك الهند
- في جمع عظيم ومعه سبع وعشرون فيلا منتخبة، فاقتتلوا فهزمهم الله وهرب
الملك داهر، فلما كان الليل أقبل الملك ومعه خلق كثير جدا فاقتتلوا
قتالا شديدا فقتل الملك داهر وغالب من معه، وتبع المسلمون من انهزم من
الهنود فقتلوه.
ثم سار محمد بن القاسم فافتتح مدينة الكبرج وبرها ورجع بغنائم كثيرة
وأموال لا تحصى كثرة، من الجواهر والذهب وغير ذلك.
فكانت سوق الجهاد قائمة في بني أمية ليس لهم شغل إلا ذلك، قد علت كلمة
الاسلام في مشارق الارض ومغاربها، وبرها وبحرها، وقد أذلوا الكفر
وأهله، وامتلات قلوب المشركين من المسلمين رعبا، لا يتوجه المسلمون إلى
قطر من الاقطار إلا أخذوه، وكان في عساكرهم وجيوشهم في الغزو الصالحون
والاوليا والعلماء من كبار التابعين، في كل جيش منهم شرذمة عظيمة ينصر
الله بهم دينه.
فقتيبة بن مسلم يفتح في بلاد الترك، يقتل ويسبي ويغنم، حتى وصل إلى
تخوم الصين، وأرسل إلى ملكه يدعوه، فخاف منه وأرسل له هدايا وتحفا
وأموالا كثيرة هدية، وبعث يستعطفه مع قوته وكثرة جنده، بحيث أن ملوك
تلك النواحي كلها تؤدي إليه الخراج خوفا منه.
ولو عاش الحجاج لما أقلع عن بلاد الصين، ولم يبق إلا أن يلتقي مع
ملكها، فلما مات الحجاج رجع الجيش كما مر.
ثم إن قتيبة قتل بعد ذلك، قتله بعض المسلمين.
ومسلمة بن عبد الملك بن مروان وابن أمير المؤمنين الوليد وأخوه الآخر
يفتحون في بلاد الروم ويجاهدون بعساكر الشام حتى وصلوا إلى
القسطنطينية، وبنى بها مسلمة جامعا يعبد الله فيه، وامتلات قلوب الفرنج
منهم رعبا.
ومحمد بن القاسم ابن أخي الحجاج يجاهد في بلاد الهند ويفتح مدنها في
طائفة من جيش العراق وغيرهم.
وموسى بن نصير يجاهد في بلاد المغرب ويفتح مدنها وأقاليمها في جيوش
الديار المصرية وغيرهم.
وكل هذه النواحي إنما دخل أهلها في الاسلام وتركوا عبادة الاوثان.
وقبل ذلك قد كان الصحابة في زمن عمر وعثمان فتحوا غالب هذه النواحي
ودخلوا في مبانيها، بعد هذه الاقاليم الكبار، مثل الشام ومصر والعراق
واليمن وأوائل بلاد
الترك، ودخلوا إلى ما وراء النهر وأوائل بلاد المغرب، وأوائل بلاد
الهند.
فكان سوق الجهاد قائما في القرن الاول من بعد الهجرة إلى انقضاء دولة
بني أمية وفي أثناء خلافة بني العباس مثل أيام المنصور وأولاده،
والرشيد وأولاده، في بلاد الروم والترك والهند.
وقد فتح محمود سبكتكين وولده في أيام ملكهم بلادا كثيرة من بلاد الهند،
ولما دخل طائفة ممن هرب من بني أمية إلى بلاد المغرب وتملكوها أقاموا
سوق الجهاد في الفرنج بها.
ثم لما بطل الجهاد من هذه المواضع رجع العدو إليها فأخذ منها بلادا
كثيرة، وضعف الاسلام فيها، ثم لما استولت دولة الفاطميين على الديار
المصرية والشامية، وضعف الاسلام وقل ناصروه، وجاء الفرنج فأخذوا غالب
بلاد الشام حتى أخذوا بيت المقدس وغيره من
__________
(1) هو محمد بن القاسم بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي يجتمع هو والحجاج
في الحكم (ابن الاثير 4 / 534).
(*)
(9/104)
البلاد
الشامية، فأقام الله سبحانه بني أيوب مع نور الدين، فاستلبوها من
أيديهم وطردوهم عنه، فلله الحمد والمنة، وسيأتي ذلك كله في مواضعه إن
شاء الله تعالى.
وفيها عزل الوليد عمر بن عبد العزيز عن إمرة المدينة، وكان سبب ذلك، أن
عمر بن عبد العزيز كتب إلى الوليد يخبره عن أهل العراق أنهم في ضيم
وضيق مع الحجاج من ظلمه وغشمه، فسمع بذلك الحجاج فكتب إلى الوليد: إن
عمر ضعيف عن إمرة المدينة ومكة، وهذا وهن وضعف في الولاية، فاجعل على
الحرمين من يضبط أمرهما.
فولى على المدينة عثمان بن حيان، وعلى مكة خالد بن عبد الله القسري،
وفعل ما أمره به الحجاج.
فخرج عمر بن عبد العزيز من المدينة في شوال فنزل السويداء، وقدم عثمان
بن حيان المدينة لليلتين بقيتا من شوال من هذه السنة.
وحج بالناس فيها عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك.
وممن توفي في هذه السنة من الاعيان
أنس بن مالك ابن النضر بن ضمضم بن
زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، أبو حمزة ويقال
أبو ثمامة الانصاري النجاري، خادم رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
وصاحبه، وأمه أم حرام (1) مليكة بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام،
زوجة أبي طلحة زيد بن سهل الانصاري.
روى عن
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أحاديث جمة، وأخبر بعلوم مهمة، وروى عن
أبي بكر وعمر وعثمان وابن مسعود وغيرهم.
وحدث عنه خلق من التابعين.
قال أنس: قدم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المدينة وأنا ابن عشر
سنين (2).
وتوفي وأنا ابن عشرين سنة.
وقال محمد بن عبد الله الانصاري عن أبيه عن ثمامة قال قيل لانس: أشهدت
بدرا ؟ فقال: وأين أغيب من بدر لا أم لك ؟ قال الانصاري: شهدها يخدم
رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي: لم يذكر ذلك أحد من أصحاب المغازي،
قلت: الظاهر أنه إنما شهد ما بعد ذلك من المغازي والله أعلم.
وقد ثبت أن أمه أتت به - وفي رواية عمه زوج أمه أبو طلحة - إلى رسول
الله (صلى الله عليه وسلم) فقالت: يا رسول الله هذا أنس خادم لبيب
يخدمك، فوهبته منه فقبله، وسألته أن يدعو له فقال، " الهم أكثر ماله
وولده وأدخله الجنة " (3).
وثبت عنه أنه قال: كناني رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بنخلة كنت
__________
(1) في ابن سعد 7 / 17 وصفة الصفوة 1 / 710 والاصابة 1 / 71 والاستيعاب
على هامش الاصابة.
أم سليم.
(2) في طبقات ابن سعد: ثمان، وفي صفة الصفوة: تسع سنين ويقال ثمان
ويقال عشر.
وفي المعارف ص 134: ثمان.
(3) الحديث أخرجه البخاري في الدعوات، ومسلم في فضائل أنس بن مالك.
(9/105)
أجتنيها (1).
وقد استعمله أبو بكر ثم عمر على عمالة البحرين وشكراه في ذلك، وقد
انتقل بعد النبي (صلى الله عليه وسلم) فسكن البصرة، وكان له بها أربع
دور، وقد ناله أذى من جهة الحجاج، وذلك في فتنة ابن الاشعث، توهم
الحجاج منه أنه له مداخلة في الامر، وأنه أفتى فيه، فختمه الحجاج في
عنقه، هذا عنق الحجاج، وقد شكاه أنس كما قدمنا إلى عبد الملك، فكتب إلى
الحجاج يعنفه، ففزع الحجاج من ذلك وصالح أنسا.
وقد وفد أنس على الوليد بن عبد الملك في أيام ولايته، قيل في سنة ثنتين
وتسعين، وهو يبني جامع دمشق، قال مكحول: رأيت أنسا يمشي في مسجد دمشق
فقمت إليه فسألته عن الوضوء من الجنازة فقال: لا وضوء.
وقال الاوزاعي: حدثني إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر قال: قدم أنس
على الوليد فقال له الوليد: ماذا سمعت من رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) يذكر به
الساعة ؟ فقال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: " أنتم
والساعة كهاتين ".
ورواه عبد الرزاق بن عمر عن إسماعيل قال: قدم أنس على الوليد في سنة
ثنتين وتسعين فذكره.
وقال الزهري: دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي فقلت: ما يبكيك ؟
قال: لا أعرف مما كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه إلا هذه
الصلاة، وقد صنعتم فيها ما صنعتم.
وفي رواية وهذه الصلاة قد ضيعت - يعني ما كان يفعله خلفاء بني أمية من
تأخير الصلاة إلى آخر وقتها الموسع - كانوا يواظبون على التأخير إلا
عمر بن عبد العزيز أيام خلافته كما سيأتي، وقال عبد بن حميد، عن عبد
الرزاق، عن جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس.
قال: جاءت بي أمي إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأنا غلام فقالت:
يا رسول الله خويدمك أنيس فادع الله له.
فقال، " اللهم أكثر ماله وولده وأدخله الجنة ".
قال: فقد رأيت اثنتين وأنا أرجو الثالثة، وفي رواية قال أنس: فوالله إن
مالي لكثير حتى نخلي وكرمي ليثمر في السنة مرتين، وإن ولدي وولد ولدي
ليتعادون على نحو المائة، وفي رواية وإن ولدي لصلبي مائة وستة.
ولهذا الحديث طرق كثيرة وألفاظ منتشرة جدا، وفي رواية قال أنس:
وأخبرتني بنتي آمنة أنه دفن لصلبي إلى حين مقدم الحجاج عشرون ومائة.
وقد تقصى ذلك بطرقه وأسانيده وأورد ألفاظه الحافظ ابن عساكر في ترجمة
أنس، وقد أوردنا طرفا من ذلك في كتاب دلائل النبوة في أواخر السيرة
ولله الحمد.
وقال ثابت لانس: هل مست يدك كف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ؟ قال:
نعم ! قال فأعطنيها أقبلها، وقال محمد بن سعد عن مسلم بن إبراهيم عن
المثنى بن سعيد الذراع (2) قال: سمعت أنس بن مالك يقول: ما من ليلة إلا
وأنا أرى فيها حبيبي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ثم يبكي.
وقال محمد بن سعد عن أبي نعيم (3) عن يونس بن أبي إسحاق عن المنهال بن
عمرو
__________
(1) قال في النهاية: أي كناه أبا حمزة.
وقال الازهري: البقلة التي جناها أنس كان في طعمها لذع فسميت حمزة،
والحمزة التي في طعمها حموضة.
وفي القاموس: الحمزة الاسد وبقلة.
(2) في ابن سعد 7 / 22: الذارع.
(3) في ابن سعد 1 / 482: الفضل بن دكين، والمعروف بأبي نعيم الملائي
وهو من كبار شيوخ البخاري.
(*)
(9/106)
قال: كان أنس
صاحب نعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وإداوته، وقال أبو داود: ثنا
الحكم بن عطية عن ثابت عن أنس.
قال: إني لارجو أن ألقى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأقول: يا رسول
الله خويدمك.
وقال الامام أحمد: حدثنا يونس، ثنا حرب بن ميمون، عن النضر بن أنس، عن
أنس.
قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يشفع لي يوم القيامة: "
قال أنا فاعل، قلت فأين أطلبك يوم القيامة يا نبي الله ؟ قال: اطلبني
أول ما تطلبني على الصراط، قلت، فإذا لم ألقك ؟ قال: فأنا عند الميزان،
قلت: فإن لم ألقك عند الميزان ؟ قال: فأنا عند الحوض لا أخطئ هذه
الثلاثة المواطن يوم القيامة " (1).
ورواه الترمذي وغيره من حديث حرب بن ميمون أبي الخطاب صاحب الاعمش
الانصاري به وقال: حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وقال شعبة: عن ثابت قال: قال أبو هريرة: ما رأيت أحدا أشبه صلاة برسول
الله (صلى الله عليه وسلم) من ابن أم سليم - يعني أنس بن مالك - وقال
ابن سيرين: كان أحسن الناس صلاة في الحضر والسفر.
وقال أنس: خذ مني فأنا أخذت من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن الله
عزوجل، ولست تجد أوثق مني.
وقال معتمر بن سليمان.
عن أبيه (2) سمعت أنسا يقول: ما بقي أحد صلى إلى القبلتين غيري.
وقال محمد بن سعد: حدثنا عفان، حدثني شيخ لنا يكنى أبا جناب سمعت
الحريري (3) يقول: أحرم أنس من ذات عرق فما سمعناه متكلما إلا بذكر
الله عزوجل حتى أحل، فقال لي: يابن أخي هكذا الاحرام.
وقال صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف: دخل علينا أنس يوم الجمعة
ونحن في بعض أبيات أزواج النبي (صلى الله عليه وسلم) نتحدث فقال: مه،
فلما أقيمت الصلاة قال: إني لاخاف أن أكون قد أبطلت جمعتي بقولي لكم:
مه.
وقال ابن أبي الدنيا: ثنا بشار بن موسى الخفاف، ثنا جعفر بن سليمان، عن
ثابت قال: كنت مع أنس فجاءت قهرمانة فقالت: يا أبا حمزة عطشت أرضنا،
قال فقام أنس فتوضأ وخرج إلى البرية فصلى ركعتين ثم دعا فرأيت السحاب
يلتئم ثم أمطرت حتى خيل إلينا أنها ملات كل شئ، فلما سكن المطر بعث أنس
بعض أهله فقال: انظر أين بلغت السماء، فنظر فلم تعد أرضه إلا يسيرا.
وقال الامام أحمد: حدثنا معاذ بن معاذ، ثنا ابن عون، عن محمد قال: كان
أنس إذا حدث
عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حديثا ففرغ منه قال: أو كما قال
رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
وقال الانصاري عن ابن عوف عن محمد قال: بعث أمير من الامراء إلى أنس
شيئا من الفئ فقال أخمس ؟ قال: لا، فلم
__________
(1) مسند أحمد 3 / 178.
(2) في صفة الصفوة 1 / 712 عن معتمر بن سليمان قال: سمعت أنس
يقول...(3) في طبقات ابن سعد 7 / 22: اخبرنا محمد بن عبد الله الانصاري
قال: حدثنا شيخ لنا يكنى أبا الحباب قال: سمعت الجريري يقول...(*)
(9/107)
يقبله: وقال
النضر بن شداد عن أبيه: مرض أنس فقيل له ألا ندعو لك الطبيب ؟ فقال:
الطبيب أمرضني.
وقال حنبل بن إسحاق: ثنا أبو عبد الله الرقاشي، ثنا جعفر بن سليمان،
ثنا علي بن يزيد قال: كنت في القصر مع الحجاج وهو يعرض الناس ليالي ابن
الاشعث، فجاء أنس بن مالك فقال الحجاج: هي يا خبيث، جوال في الفتن، مرة
مع علي، ومرة مع ابن الزبير، ومرة مع ابن الاشعث، أما والذي نفس الحجاج
بيده لاستأصلنك كما تستأصل الصمغة، ولاجردنك كما تجرد الضب.
قال: يقول أنس: إياي يعني الامير ؟ قال إياك أعني، أصم الله سمعك، قال:
فاسترجع أنس، وشغل الحجاج فخرج أنس فتبعناه إلى الرحبة، فقال: لولا أني
ذكرت ولدي - وفي رواية لولا أني ذكرت أولادي الصغار - وخفته عليهم ما
باليت أي قتل أقتل، ولكلمته بكلام في مقامي هذا لا يستخفني بعده أبدا.
وقد ذكر أبو بكر بن عياش: أن أنسا بعث إلى عبد الملك يشكو إليه الحجاج
ويقول: والله لو أن اليهود والنصارى رأوا من خدم نبيهم لاكرموه، وأنا
قد خدمت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عشر سنين.
فكتب عبد الملك إلى الحجاج كتابا فيه كلام جد وفيه: إذا جاءك كتابي هذا
فقم إلى أبي حمزة فترضاه وقبل يده ورجله، وإلا حل بك مني ما تستحقه.
فلما جاء كتاب عبد الملك إلى الحجاج بالغلظة والشدة، هم أن ينهض إليه
فأشار عليه إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر، الذي قدم بالكتاب أن
لا يذهب إلى أنس، وأشار على أنس أن يبادر إلى الحجاج بالمصالحة (1) -
وكان إسماعيل صديق الحجاج - فجاء أنس فقام إليه الحجاج يتلقاه، وقال:
إنما مثلي
ومثلك إياك أعني واسمعي يا جارة.
أردت أن لا يبقى لاحد علي منطق.
وقال ابن قتيبة (2): كتب عبد الملك إلى الحجاج - لما قال لانس ما قال
-: بابن المستقرمة بعجم (3) الزبيب لقد هممت أن أركلك ركلة تهوي بها
إلى نار جهنم، قاتلك الله أخيفش العينين، أفيتل الرجلين، أسود العاجزين
- ومعنى قوله المستقرمة عجم (3) الزبيب - أي تضيق فرجها عند الجماع به،
ومعنى أركلك أي أرفسك برجلي، وسيأتي بسط ذلك في ترجمة الحجاج في سنة
خمس وتسعين.
وقال أحمد بن صالح العجلي: لم يبتل أحد من الصحابة إلا رجلين، معيقيب
كان به الجذام، وأنس بن مالك كان به وضح.
وقال الحميدي عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي جعفر قال:
رأيت أنسا يأكل فرأيته يلقم لقما عظاما، ورأيت به وضحا شديدا.
وقال أبو يعلى: ثنا عبد الله بن معاذ بن يزيد عن أيوب قال: ضعف أنس عن
الصوم فصنع طعاما ودعا ثلاثين
__________
(1) تقدم ذكر كتاب أنس إلى عبد الملك، وكتاب عبد الملك إلى الحجاج، وأن
الحجاج صار إلى أنس واعتذر منه - انظر ذلك في فتنة ابن الاشعث.
(2) انظر الاخبار الطوال ص 324.
(3) من الاخبار الطوال.
والعجم كل ما كان في جوف مأكول كالزبيب.
واستقرمت المرأة بعجم الزبيب يعني أنها عالجت به فرجها ليضيق.
(*)
(9/108)
مسكينا
فأطعمهم.
وذكره البخاري تعليقا.
وقال شعبه عن موسى السنبلاوي قلت لانس: أنت آخر من بقي من أصحاب رسول
الله (صلى الله عليه وسلم) ؟ قال: قد بقي قوم من الاعراب، فأما من
أصحابه فأنا آخر من بقي، وقيل له في مرضه: ألا ندعوا لك طبيبا ؟ فقال:
الطبيب أمرضني، وجعل يقول: لقنوني لا إله إلا الله وهو محتضر، فلم يزل
يقولها حتى قبض.
وكانت عنده عصية من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأمر بها فدفنت
معه.
قال عمر بن شبة وغير واحد: مات وله مائة وسبع سنين، وقال الامام أحمد
في مسنده: ثنا معتمر بن سليمان عن حميد: أن أنسا عمر مائة سنة غير سنة،
قال الواقدي: وهو آخر من مات من
الصحابة بالبصرة، وكذا قال علي بن المديني والفلاس وغير واحد.
وقد اختلف المؤرخون في سنة وفاته، فقيل سنة تسعين، وقيل إحدى وتسعين،
وقيل ثنتين وتسعين وقيل ثلاث وتسعين، وهذا هو المشهور وعليه الجمهور
والله أعلم.
وقال الامام أحمد: حدثني أبو نعيم قال: توفي أنس بن مالك وجابر بن زيد
في جمعة واحدة سنة ثلاث وتسعين.
وقال قتادة: لما مات أنس قال مؤرق العجلي: ذهب اليوم نصف العلم، قيل له
وكيف ذاك يا أبا المعتمر ؟ قال: كان الرجل من أهل الاهواء إذا خالفونا
في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قلنا لهم: تعالوا إلى من
سمعه منه.
عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة ابن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن
مخزوم، الشاعر المشهور، يقال إنه ولد يوم توفي عمر بن الخطاب، وختن يوم
مقتل عثمان، وتزوج يوم مقتل علي، فالله أعلم، وكان مشهورا بالتغزل
المليح البليغ، كان يتغزل في امرأة يقال لها الثريا (1) بنت علي بن عبد
الله الاموية، وقد تزوجها سهل (2) بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، فقال
في ذلك عمر بن أبي ربيعة: - أيها المنكح الثريا سهيلا * عمرك الله كيف
يلتقيان هي شامية (3) إذا ما استقلت * وسهيل إذا استقل يمان ومن مستجاد
شعره ما أورده ابن خلكان: حي طيفا من الاحبة زارا * بعد ما برح (4)
الكرى السمارا
__________
(1) قال السهيلي في الروض الانف: هي الثريا بنت عبد الله، ولم يذكر
عليا، ثم قال: وقتيلة بنت النضر جدتها لانها كانت تحت الحارث بن أمية
وعبد الله ولدها وهو والد الثريا (انظر ابن خلكان 1 / 436).
(2) في ابن خلكان: سهيل.
(3) في الاغاني 1 / 122 ويروى: هي غورية، نسبة إلى غور الاردن بالشام
بين بيت المقدس ودمشق.
(4) في الديوان ص 224 وابن خلكان 1 / 439: صرع.
(*)
(9/109)
طارقا في
المنام بعد دجى * الليل خفيا (1) بأن يزور نهارا
قلت ما بالنا جفينا وكنا * قبل ذاك الاسماع والابصارا قال: إنا كما
عهدت ولكن * شغل الحلي أهله أن يعارا بلال بن أبي الدرداء ولي إمرة
دمشق ثم ولي القضاء بها، ثم عزله عبد الملك بأبي إدريس الخولاني.
كان بلال حسن السيرة، كثير العبادة، والظاهر أن هذا القبر الذي بباب
الصغير الذي يقال له قبر بلال، إنما هو قبر بلال بن أبي الدرداء، لا
قبر بلال بن حمامة مؤذن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فإن بلالا
المؤذن دفن بداريا والله أعلم.
بشر بن سعيد المزني السيد العابد الفقيه، كان من العباد المنقطعين،
الزهاد المعروفين، توفي بالمدينة.
زرارة بن أوفى ابن حاجب العامري، قاضي البصرة، كان من كبار علماء أهل
البصرة وصلحائها، له روايات كثيرة، قرأ مرة في صلاة الصبح سورة المدثر
فلما بلغ (فإذا نقر في الناقور) [ الآية: 8 ] خر ميتا.
توفي بالبصرة وعمره نحو سبعين سنة.
خبيب بن عبد الله ابن عبد الله بن الزبير، ضربه عمر بن عبد العزيز بأمر
الوليد له في ذلك فمات، ثم عزل عمر بعده بأيام قليلة، فكان يتأسف على
ضربه له ويبكي.
مات بالمدينة.
حفص بن عاصم ابن عمر بن الخطاب المدني، له روايات كثيرة، وكان من
الصالحين.
توفي بالمدينة.
سعيد بن عبد الرحمن ابن عتاب بن أسيد الاموي، أحد الاشراف بالبصرة، كان
جوادا ممدحا، وهو أحد الموصوفين بالكرم، قيل إنه أعطى بعض الشعراء
ثلاثين.
__________
(1) في الديوان وابن خلكان: ضنينا.
(*)
(9/110)
فروة بن مجاهد
قيل إنه كان من الابدال، أسر مرة وهو في غزوة هو وجماعة معه فأتوا بهم
الملك فأمر بتقييدهم وحبسهم في المكان والاحتراز عليهم إلى أن يصبح
فيرى فيهم رأيه، فقال لهم فروة: هل لكم في المضي إلى بلادنا ؟ فقالوا:
وما ترى ما نحن فيه من الضيق ؟ فلمس قيودهم بيده فزالت عنهم، ثم أتى
باب السجن فلمسه بيده فانفتح، فخرجوا منه ومضوا، فأدركوا جيش المسلمين
قبل وصولهم إلى البلد.
أبو الشعثاء جابر بن زيد كان لا يماكس في ثلاث، في الكرى إلى مكة، وفي
الرقبة يشتريها لتعتق، وفي الاضحية.
وقال: لا تماكس في شئ يتقرب به إلى الله.
وقال ابن سيرين: كان أبو الشعثاء مسلما عبد الدينار والدرهم، قلت، كما
قيل: - إني رأيت فلا تظنوا غيره * أن التورع عند هذا الدرهم فإذا قدرت
عليه ثم تركه * فاعلم بأن تقاك تقوى المسلم وقال أبو الشعثاء: لان
أتصدق بدرهم على يتيم ومسكين أحب إلي من حجة بعد حجة الاسلام.
كان أبو الشعثاء من الذين أوتوا العلم، وكان يفتي في البصرة، وكان
الصحابة مثل جابر بن عبد الله إذا سأله أهل البصرة عن مسألة يقول: كيف
تسألونا وفيكم أبو الشعثاء ؟ وقال له جابر بن عبد الله: يا بن زيد إنك
من فقهاء البصرة وإنك ستستفتي فلا تفتين إلا بقرآن ناطق أو سنة ماضية،
فانك إن فعلت غير ذلك فقد هلكت وأهلكت.
وقال عمرو بن دينار: ما رأيت أحدا أعلم بفتيا من جابر بن زيد.
وقال إياس بن معاوية: أدركت أهل البصرة ومفتيهم جابر بن زيد من أهل
عمان.
وقال قتادة لما دفن جابر بن زيد: اليوم دفن أعلم أهل الارض.
وقال سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار قال أبو الشعثاء: كتب الحكم بن
أيوب نفرا للقضاء أنا أحدهم - أي عمرو - فلو أني ابتليت بشئ منه لركبت
راحلتي وهربت من الارض.
وقال أبو الشعثاء: نظرت في أعمال البر فإذا
الصلاه تجهد البدن ولا تجهد المال، والصيام مثل ذلك، والحج يجهد المال
والبدن، فرأيت أن الحج أفضل من ذلك.
وأخذ مرة قبضة تراب من حائط، فلما أصبح رماها في الحائط، وكان الحائط
لقوم قالوا: لو كان كلما مر به أخذ منه قبضة لم يبق منه شئ.
وقال أبو الشعثاء: إذا جئت يوم الجمعة إلى المسجد فقف على الباب وقل:
اللهم اجعلني اليوم أوجه من توجه إليك، وأقرب من تقرب إليك، وأنجح من
دعاك ورغب إليك.
وقال سيار: حدثنا حماد بن زيد ثنا الحجاج بن أبي عيينة.
قال: كان جابر بن زيد يأتينا في مصلانا، قال: فأتانا ذات يوم وعليه
نعلان خلقان، فقال: مضى من
(9/111)
عمري ستون سنة نعلاي هاتان أحب إلي مما مضى منه إلا أن يكون خير قدمته.
وقال صالح الدهان: كان جابر بن زيد إذا وقع في يده ستوق كسره ورمى به
لئلا يغر به مسلم.
الستوق الدرهم المغاير أو الدغل وقيل: هو المغشوش.
وروى الامام أحمد: حدثنا أبو عبد الصمد العمي، حدثنا مالك بن دينار
قال: دخل علي جابر بن زيد وأنا أكتب المصحف فقلت له: كيف ترى صنعتي هذه
يا أبا الشعثاء ؟ قال: نعم الصنعة صنعتك، تنقل كتاب الله ورقة إلى
ورقة، وآية إلى آية، وكلمة إلى كلمة، هذا الحلال لا بأس به وقال مالك
بن دينار: سألته عن قوله تعالى (إذا لاذقناك ضعف الحياة وضعف الممات) [
الاسراء: 75 ] قال ضعف عذاب الدنيا وضعف عذاب الآخرة (ثم لا تجد لك
نصيرا) [ الاسراء: 75 ] وقال سفيان: حدثني أبو عمير الحارث بن عمير
قال: قالوا لجابر بن زيد عند الموت: ما تشتهي وما تريد ؟ قال: نظرة إلى
الحسن.
وفي رواية عن ثابت قال: لما ثقل على جابر بن زيد قيل له: ما تشتهي ؟
قال نظرة إلى الحسن.
قال ثابت: فأتيت الحسن فأخبرته فركب إليه، فلما دخل عليه قال لاهله:
أقعدوني، فجلس فما زال يقول: أعوذ بالله من النار وسوء الحساب.
وقال حماد بن زيد: حدثنا حجاج بن أبي عيينة قال: سمعت هندا بنت المهلب
بن أبي صفرة - وكانت من أحسن النساء - وذكروا عندها جابر بن زيد
فقالوا: إنه كان إباضيا، فقالت: كان
جابر بن زيد أشد الناس انقطاعا إلي وإلى أمي، فما أعلم عنه شيئا، وكان
لا يعلم شيئا يقربني إلى الله عزوجل إلا أمرني به، ولا شيئا يباعدني عن
الله إلا نهاني عنه، وما دعاني إلى الاباضية (1) قط ولا أمرني بها،
وكان ليأمرني أين أضع الخمار - ووضعت يدها على الجبهة - أسند عن جماعة
من الصحابة، ومعظم روايته عن ابن عمر وابن عباس. |