البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي

ثم دخلت سنة سبع وتسعين وفيها جهز سليمان بن عبد الملك الجيوش إلى القسطنطينية، وفيها أمر ابنه داود على الصائفة، ففتح حصن المرأة، قال الواقدي: وفيها غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الوضاحية ففتح الحصن الذي [ بناه ] الوضاح صاحب الوضاحية.
وفيها غزا مسلمة أيضا برجمة ففتح حصونا وبرجمة وحصن الحديد وسررا، وشتى بأرض الروم.
وفيها غزا عمر بن هبيرة الفزاري في البحر أرض الروم وشتى بها.
وفيها قتل عبد العزيز بن موسى بن نصير، وقدم برأسه على سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين.
مع حبيب بن أبي عبيد الفهري، وفيها ولى سليمان نيابة خراسان ليزيد بن المهلب مضافا إلى ما بيده من إمرة العراق، وكان سبب ذلك أن وكيع بن أبي سود لما قتل قتيبة بن مسلم وذريته،
بعث برأس قتيبة إلى سليمان فحظي عنده وكتب له بإمرة خراسان، فبعث يزيد بن المهلب عبد الرحمن (1) ابن الاهتم إلى سليمان بن عبد الملك ليحسن عنده أمر يزيد بن المهلب في إمرة
__________
(1) في الطبري 8 / 114: وابن الاثير 5 / 24 وابن الاعثم 7 / 278: عبد الله.
وقال ابن الاعثم 7 / 256: إن سليمان بن عبد الملك كتب إلى يزيد فأشخصه عن البصرة - وكان قد ولاه قبلا = (*)

(9/192)


خراسان، وينتقص عنده وكيع بن [ أبي ] سود، فسار ابن الاهتم - وكان ذا دهاء ومكر - إلى سليمان بن عبد الملك، فلم يزل به حتى عزل وكيعا عن خراسان وولى عليها يزيد مع إمرة العراق، وبعث بعهده مع ابن الاهتم، فسار في سبع حتى جاء يزيد، فأعطاه عهد خراسان مع العراق، وكان يزيد وعده بمائة ألف فلم يف بها، وبعث يزيد ابنه مخلدا بين يديه إلى خراسان، ومعه كتاب أمير المؤمنين مضمونه أن قيسا زعموا أن قتيبة بن مسلم لم يكن خلع الطاعة، فإن كان وكيع قد تعرض له وثار عليه بسبب أنه خلع ولم يكن خلع فقيده وابعث به إلي، فتقدم مخلد فأخذ وكيعا فعاقبه وحبسه قبل أن يجئ أبوه، فكانت إمرة وكيع بن أبي سود الذي قتل قتيبة تسعة أشهر، أو عشرة أشهر، ثم قدم يزيد بن المهلب فتسلم خراسان وأقام بها، واستناب في البلاد نوابا ذكرهم ابن جرير (1).
قال: ثم سار يزيد بن المهلب فغزا جرجان، ولم يكن يومئذ مدينة بأبواب وصور، وإنما هي جبال وأودية، وكان ملكها يقال له صول، فتحول عنها إلى قلعة هناك، وقيل إلى جزيرة في بحيرة هناك، ثم أخذوه من البحيرة وقتلوا من أهلها خلقا كثيرا وأسروا وغنموا.
قال: وفيها حج بالناس سليمان بن عبد الملك، ونواب البلادهم المذكورون في التي قبلها، غير أن خراسان عزل عنها وكيع بن [ أبي ] سود، ووليها يزيد بن المهلب بن أبي صفرة مع العراق.
وممن توفي فيها من الاعيان:
الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب أبو محمد القرشي الهاشمي، روى عن أبيه عن جده مرفوعا: " من عال أهل بيت من
المسلمين يومهم وليلتهم غفر الله له ذنوبه ".
وعن عبد الله بن جعفر عن علي في دعاء الكرب، وعن زوجته فاطمة بنت الحسين، وعنه ابنه عبد الله وجماعة، وفد على عبد الملك بن مروان فأكرمه ونصره على الحجاج، وأقره وحده على ولاية صدقة علي، وقد ترجمه ابن عساكر فأحسن، وذكر عنه آثارا تدل على سيادته، قيل إن الوليد بن عبد الملك كتب إلى عامله بالمدينة: إن الحسن بن الحسن كاتب أهل العراق، فإذا جاءك كتابي هذا فاجلده مائة ضربة، وقفه للناس، ولا تراني إلا قاتله.
فأرسل
__________
خراسان - وكان مقتل قتيبة واستيلاء وكيع على خراسان فأقام بها تسعة أشهر يولي ويجبي ويعزل، وسليمان يحب أن يولي يزيد بن المهلب خراسان..ثم ارتأى توليه عبد الملك بن المهلب.
فكتب يزيد إلى سليمان يطلب ولاية خراسان وأرسل وكيع رسولا إلى سليمان يطلب الولاية لنفسه فدعا سليمان عبد الله بن الاهتم سأله رأيه فيمن يوليه خراسان.
(1) ذكر الطبري 8 / 115 وابن الاثير 5 / 25 نواب يزيد بن المهلب في البلاد: في واسط: الجراح بن عبد الله الحكمي، وعلى البصرة عبد الله بن هلال الكلابي، وفي ابن الاثير: وعلى الكوفة حرملة بن عمير اللخمي ثم عزله ببشير بن حيان النهدي.
(*)

(9/193)


خلفه فعلمه علي بن الحسين (1) كلمات الكرب فقالها حين دخل عليه فنجاه الله منهم، وهي: لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله العلي العظيم، لا إله إلا الله رب السموات السبع ورب الارض رب العرش العظيم.
توفي بالمدينة، وكانت أمه خولة بنت منظور الفزاري.
وقال يوما لرجل من الرافضة: والله إن قتلك لقربة إلى الله عزوجل، فقال له الرجل: إنك تمزح، فقال: الله ما هذا مني بمزح ولكنه الجد.
وقال له آخر منهم: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كنت مولاه فعلي مولاه " ؟.
فقال: بلى، ولو أراد الخلافة لخطب الناس فقال: أيها الناس اعلموا أن هذا ولي أمركم من بعدي، وهو القائم عليكم، فاسمعوا له وأطيعوا، والله لئن كان الله ورسوله اختار عليا لهذا الامر ثم تركه علي لكان أول من ترك أمر الله ورسوله، وقال لهم أيضا: والله لئن ولينا من الامر شيئا لنقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف، ثم لا نقبل لكم توبة، ويلكم غررتمونا من أنفسنا، ويلكم
لو كانت القرابة تنفع بلا عمل لنفعت أباه وأمه، لو كان ما تقولون فينا حقا لكان آباؤنا إذ لم يعلمونا بذلك قد ظلمونا وكتموا عنا أفضل الامور، والله إني لاخشى أن يضاعف العذاب للعاصي منا ضعفين، كما أني لارجو للمحسن منا أن يكون له الاجر مرتين، ويلكم أحبونا إن أطعنا الله على طاعته، وأبغضونا إن عصينا الله على معصيته.
موسى بن نصير (2) أبو عبد الرحمن اللخمي مولاهم، كان مولى لامرأة منهم، وقيل كان مولى لبني أمية، افتتح بلاد المغرب، وغنم منها أموالا لا تعد ولا توصف، وله بها مقامات مشهورة هائلة، ويقال إنه كان أعرج، ويقال إنه ولد في سنة تسع عشرة، وأصله من عين التمر، وقيل إنه من أراشة من بلي، سبي أبوه من جبل الخليل من الشام في أيام الصديق، وكان اسم أبيه نصرا فصغر، روى عن تميم الداري، وروى عنه ابنه عبد العزيز، ويزيد بن مسروق اليحصبي، وولي غزو البحر لمعاوية، فغزا قبرص، وبنى هنالك حصونا كالماغوصة وحصن بانس وغير ذلك من الحصون التي بناها بقبرص، وكان نائب معاوية عليها بعد أن فتحها معاوية في سنة سبع وعشرين، وشهد مرج راهط مع الضحاك بن قيس، فلما قتل الضحاك لجأ موسى بن نصير لعبد العزيز بن مروان، ثم لما دخل مروان بلاد مصر كان معه فتركه عند ابنه عبد العزيز، ثم لما أخذ عبد الملك بلاد العراق جعله وزيرا عند أخيه بشر بن مروان.
وكان موسى بن نصير هذا ذا رأي وتدبير وحزم وخبرة بالحرب، قال البغوي (3): ولي موسى ابن نصير إمرة بلاد إفريقية سنة تسع وسبعين فافتتح بلادا كثيرة جدا مدنا وأقاليم، وقد ذكرنا أنه
__________
(1) كذا بالاصول، وقد تقدم ان وفاته كانت سنة 94، ولعله كان قد علمه دعاء الكرب قبل ذلك.
(2) في البيان المغرب لابن عذارى ص 1 / 39: قيل إنه من لخم وقيل من بكر بن وائل وذكر ابن بشكوال في الصلة: موسى بن نصير بن عبد الرحمن بن زيد.
كان على خراج البصرة قدمه عليها عبد الملك بن مروان.
(انظر الامامة والسياسة 2 / 59).
(*)

(9/194)


افتتح بلاد الاندلس، وهي بلاد ذات مدن وقرى وريف، فسبى منها ومن غيرها خلقا كثيرا، وغنم
أموالا كثيرة جزيلة، ومن الذهب والجواهر النفيسة شيئا لا يحصى ولا يعد، وأما الآلات والمتاع والدواب فشئ لا يدرى ما هو، وسبى من الغلمان الحسان والنساء الحسان شيئا كثيرا، حتى قيل إنه لم يسلب أحد مثله من الاعداء (1)، وأسلم أهل المغرب على يديه، وبث فيهم الدين والقرآن، وكان إذا سار إلى مكان تحمل الاموال معه على العجل لكثرتها وعجز الدواب عنها.
وقد كان موسى بن نصير هذا يفتح في بلاد المغرب، وقتيبة يفتح في بلاد المشرق، فجزاهما الله خيرا، فكلاهما فتح من الاقاليم والبلدان شيئا كثيرا، ولكن موسى بن نصير حظي بأشياء لم يحظ بها قتيبة، حتى قيل إنه لما فتح الاندلس جاءه رجل فقال له: ابعث معي رجالا حتى أدلك على كنز عظيم، فبعث معه رجالا فأتى بهم إلى مكان فقال: احفروا، فحفروا فأفضى بهم الحفر إلى قاعة عظيمة ذات لواوين حسنة، فوجدوا هناك من اليواقيت والجواهر والزبرجد ما أبهتهم، وأما الذهب فشئ لا يعبر عنه، ووجدوا في ذلك الموضع الطنافس، الطنفسة منها منسوجة بقضبان الذهب، منظومة باللؤلؤ الغالي المفتخر، والطنفسة منظومة بالجوهر المثمن، واليواقيت التي ليس لها نظير في شكلها وحسنها وصفاتها، ولقد سمع يومئذ مناد ينادي لا يرون شخصه: أيها الناس، إنه قد فتح عليكم باب من أبواب جهنم فخذوا حذركم.
وقيل إنهم وجدوا في هذا الكنز مائدة سليمان بن داود التي كان يأكل عليها.
وقد جمع أخباره وما جرى له في حروبه وغزواته رجل من ذريته يقال له أبو معاوية معارك بن مروان بن عبد الملك بن مروان بن موسى بن نصير النصيري.
وروى الحافظ ابن عساكر: أن عمر بن عبد العزيز سأل موسى بن نصير حين قدم دمشق أيام الوليد عن أعجب شئ رأيت في البحر، فقال: انتهينا مرة إلى جزيرة فيها ست عشرة جرة مختومة بخاتم سليمان بن داود عليهما السلام، قال: فأمرت بأربعة منها فأخرجت، وأمرت بواحدة منها فنقبت فإذا قد خرج منها شيطان ينفض رأسه ويقول: والذي أكرمك بالنبوة لا أعود بعدها أفسد في الارض، قال: ثم إن ذلك الشيطان نظر فقال: إني لا أرى بهاء سليمان وملكه، فانساخ في الارض فذهب، قال: فأمرت بالثلاث البواقي فرددن إلى مكانهن.
وقد ذكر السمعاني وغيره عنه أنه سار إلى مدينة النحاس التي بقرب البحر المحيط الاخضر، في
أقصى بلاد المغرب، وأنهم لما أشرفوا عليها رأوا بريق شرفاتها وحيطانها من مسافة بعيدة، وأنهم لما أتوها نزلوا عندها، ثم أرسل رجلا من أصحابه ومعه مائة فارس من الابطال، وأمره أن يدور حول سورها لينظر هل لها باب أو منفذ إلى داخلها، فقيل: إنه سار يوما وليلة حول سورها، ثم رجع إليه فأخبره أنه لم يجد بابا ولا منفذا إلى داخلها، فأمرهم فجمعوا ما معهم من المتاع بعضه على بعض،
__________
(1) قال ابن عذارى 1 / 43: لم يسمع قط بمثل سبايا موسى بن نصير في الاسلام.
(*)

(9/195)


فلم يبلغوا أعلى سورها، فأمر فعمل سلالم فصعدوا عليها، وقيل إنه أمر رجلا فصعد على سورها، فلما رأى ما في داخلها لم يملك نفسه أن ألفاها في داخلها فكان آخر العهد به، ثم آخر فكذلك، ثم امتنع الناس من الصعود إليها، فلم يحط أحد منهم بما في داخلها علما، ثم ساروا عنها فقطعوها إلى بحيرة قريبة منها، فقيل: إن تلك الجرار المذكورة وجدها فيها، ووجد عليها رجلا قائما، فقال له: ما أنت ؟ قال: رجل من الجن وأبي محبوس في هذه البحيرة حبسه سليمان، فأنا أجئ إليه في كل سنة مرة أزوره.
فقال له: هل رأيت أحدا خارجا من هذه المدينة أو داخلا إليها ؟ قال: لا، إلا أن رجلا يأتي في كل سنة إلى هذه البحيرة يتعبد عليها أياما ثم يذهب فلا يعود إلى مثلها، والله أعلم ما هو، ثم رجع إلى إفريقية، والله أعلم بصحة ذلك، والعهدة على من ذكر ذلك أولا.
وقد استسقى موسى بن نصير بالناس في سنة ثلاث وتسعين حين أقحطوا بأفريقية، فأمرهم بصيام ثلاثة أيام قبل الاستسقاء، ثم خرج بين الناس وميز أهل الذمة عن المسلمين، وفرق بين البهائم وأولادها، ثم أمر بارتفاع الضجيج والبكاء، وهو يدعو الله تعالى حتى انتصف النهار، ثم نزل فقيل له: ألا دعوت لامير المؤمنين ؟ فقال: هذا موطن لا يذكر فيه إلا الله عزوجل، فسقاهم عزوجل لما قال ذلك.
وقد وفد موسى بن نصير على الوليد بن عبد الملك في آخر أيامه، فدخل دمشق في يوم جمعة والوليد على المنبر، وقد لبس موسى ثيابا حسنة وهيئة حسنة، فدخل ومعه ثلاثون غلاما من أبناء الملوك الذين أسرهم، والاسبان، وقد ألبسهم تيجان الملوك مع ما معهم من الخدم والحشم والابهة العظيمة، فلما نظر إليهم الوليد وهو يخطب الناس على منبر جامع دمشق بهت إليهم لما رأى
عليهم من الحرير والجواهر والزينة البالغة، وجاء موسى بن نصير فسلم على الوليد وهو على المنبر، وأمر أؤلئك فوقفوا عن يمين المنبر وشماله، فحمد الله الوليد وشكره على ما أيده به ووسع ملكه، وأطال الدعاء والتحميد والشكر حتى خرج وقت الجمعة، ثم نزل فصلى بالناس، ثم استدعى بموسى بن نصير فأحسن جائزته وأعطاه شيئا كثيرا، وكذلك موسى بن نصير قدم معه بشئ كثير، من ذلك مائدة سليمان بن داود عليهما السلام، التي كان يأكل عليها، وكانت من خليطين ذهب وفضة، وعليها ثلاثة أطواق لؤلؤ وجوهر لم ير مثله، وجدها في مدينة طليطلة من بلاد الاندلس مع أموال كثيرة.
وقيل إنه بعث ابنه مروان على جيش فأصاب من السبي مائة ألف رأس، وبعث ابن أخيه في جيش فأصاب من السبي مائة ألف رأس أيضا من البرير، فلما جاء كتابه إلى الوليد وذكر فيه أن خمس الغنائم أربعون ألف رأس قال الناس: إن هذا أحمق، من أين له أربعون ألف رأس خمس الغنائم ؟ فبلغه ذلك فأرسل أربعين ألف رأس وهي خمس ما غنم، ولم يسمع في الاسلام بمثل سبايا موسى بن نصير أمير المغرب.
وقد جرت له عجائب في فتحه بلاد الاندلس وقال: ولو انقاد الناس لي لقدتهم حتى أفتح بهم مدينة رومية - وهي المدينة العظمى في بلاد الفرنج - ثم ليفتحها الله على يدي إن شاء الله تعالى، ولما

(9/196)


قدم على الوليد قدم معه بثلاثين ألفا من السبي غير ما ذكرناه، وذلك خمس ما كان غنمه في آخر غزاة غزاها ببلاد المغرب، وقدم معه من الاموال والتحف واللآلي والجواهر ما لا يحد ولا يوصف، ولم يزل مقيما بدمشق حتى مات الوليد وتولى سليمان، وكان سليمان عاتبا على موسى فحبسه عنده وطالبه بأموال عظيمة (1).
ولم يزل في يده حتى حج بالناس سليمان في هذه السنة وأخذه معه فمات بالمدينة، وقيل بوادي القرى (2)، وقد قارب الثمانين، وقيل توفي في سنة تسع وتسعين فالله أعلم ورحمه الله وعفا عنه بمنه وفضله آمين.
ثم دخلت سنة ثمان وتسعين ففي هذه السنة جهز سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين أخاه مسلمة بن عبد الملك لغزو
القسطنطينية وراء الجيش الذين هم بها، فسار إليها ومعه جيش عظيم، ثم التف عليه ذلك الجيش الذين هم هناك وقد أمر كل رجل من الجيش أن يحمل معه على ظهر فرسه مدين من طعام، فلما وصل إليها جمعوا ذلك فإذا هو أمثال الجبال، فقال لهم مسلمة: أتركوا هذا الطعام وكلوا مما تجدونه في بلادهم، وازرعوا في أماكن الزرع واستغلوه، وابنوا لكم بيوتا من خشب، فإنا لا نرجع عن هذا البلد إلا أن نفتحها إن شاء الله.
ثم إن مسلمة داخل رجلا من النصارى يقال له إليون (3)، وواطأه في الباطن ليأخذ له بلاد الروم، فظهر منه نصح في بادئ الامر، ثم إنه توفي ملك القسطنطينية، فدخل إليون في رسالة من مسلمة وقد خافته الروم خوفا شديدا، فلما دخل إليهم إليون قالوا له: رده عنا ونحن نملكك علينا فخرج فأعمل الحيلة في الغدر والمكر، ولم يزل قبحه الله حتى أحرق ذلك الطعام الذي للمسلمين، وذلك أنه قال لمسلمة: إنه ما داموا يرون هذا الطعام يظنون أنك تطاولهم في القتال، فلو أحرقته لتحققوا منك العزم، وسلموا إليك البلد سريعا، فأمر مسلمة بالطعام
__________
(1) في الامامة والسياسة 2 / 83 كان سليمان بن عبد الملك بعث إلى موسى من لقيه في الطريق، قبل قدومه على الوليد يأمره بالتثبط في مسيره وألا يعجل وكان قدومه على الوليد في آخره شكايته التي توفي فيها - فآلى سليمان لئن ظفر بموسى ليصلبنه..وقال ابن عذارى في البيان المغرب 1 / 45: وصل إلى الوليد قبل موته بثلاثة أيام.
فقال سليمان: لئن ظفرت به لاصلبنه.
(2) في البيان المغرب 1 / 46: فلما وصلا المدينة مات وعمره تسعا وسبعين سنة وكانت وفاته سنة 98 ه.
وفي ابن خلكان 5 / 329: قيل بمر الظهران.
وفي ابن الاثير 5 / 26: كان موته بطريق مكة.
وفي الامامة والسياسة ص 2 / 102 مات بالمدينة سنة ثمان وتسعين وكان عمره ست وسبعين سنة.
(3) هو إليون المرعشي حاكم عمورية ويبدو أنه من أصل سوري من عناصر الجراجمة الساكنة على حدود الشام قاله المؤرخ الارمني دينيس فجاء إلى سليمان يطلب مساعدته للوصول إلى عرش الروم على أن يحكم باسمه.
ويقول دينيس: إن قصده في الحقيقة كان خداع العرب وإيقاف سفك دماء بني وطنه.
وهذا بالفعل ما وقع منه.
(*)

(9/197)


فأحرق، ثم انشمر إليون في السفن وأخذ ما أمكنه من أمتعة الجيس في الليل، وأصبح وهو في البلد محاربا للمسلمين، وأظهر العداوة الاكيدة، وتحصن واجتمعت عليه الروم، وضاق الحال على المسلمين حتى أكلوا كل شئ إلا التراب، فلم يزل ذلك دأبهم حتى جاءتهم وفاة سليمان بن عبد الملك وتولية عمر بن عبد العزيز، فكروا راجعين إلى الشام، وقد جهدوا جهدا شديدا، لكن لم يرجع مسلمة حتى بنى مسجدا بالقسطنطينية (1) شديد البناء محكما، رحب الفناء شاهقا في السماء (2).
وقال الواقدي: لما ولي سليمان بن عبد الملك أراد الاقامة ببيت المقدس، ثم يرسل العساكر إلى القسطنطينية، فأشار عليه موسى بن نصير بأن يفتح ما دونها من المدن والرساتيق والحصون، حتى يبلغ المدينة، فلا يأتيها إلا وقد هدمت حصونها ووهنت قوتها، فإذا فعلت ذلك لم يبق بينك وبينها مانع، فيعطوا بأيديهم ويسلموا لك البلد، ثم استشار أخاه مسلمة فأشار عليه بأن يدع ما دونها من البلاد ويفتحها عنوة، فمتى ما فتحت فإن باقي ما دونها من البلاد والحصون بيدك، فقال سليمان: هذا هو الرأي، ثم أخذ في تجهيز الجيوش من الشام والجزيرة فجهز في البرمائة وعشرين ألفا، وفي البحر مائة وعشرين ألفا من المقاتلة، وأخرج لهم الاعطية، وأنفق فيهم الاموال الكثيرة، وأعلمهم بغزو القسطنطينية والاقامة إلى أن يفتحوها، ثم سار سليمان من بيت المقدس فدخل دمشق وقد اجتمعت له العساكر فأمر عليهم أخاه مسلمة، ثم قال: سيروا على بركة الله، وعليكم بتقوى الله والصبر والتناصح والتناصف.
ثم سار سليمان حتى نزل مرج دابق، فاجتمع إليه الناس أيضا من المتطوعة المحتسبين أجورهم على الله، فاجتمع له جند عظيم لم ير مثله، ثم أمر مسلمة أن يرحل بالجيوش وأخذ معه إليون الرومي المرعشي، ثم ساروا حتي نزلوا على القسطنطينية فحاصرها إلى أن برح بهم وعرض أهلها الجزية على مسلمة فأبى إلا أن يفتحها عنوة، قالوا: فابعث إلينا إليون نشاوره، فأرسله إليهم، فقالوا له: رد هذه العساكر عنا ونحن نعطيك ونملك علينا، فرجع إلى مسلمة: فقال: قد أجابوا إلى فتحها غير أنهم لا يفتحونها حتى تتنحى عنهم، فقال مسلمة: إني أخشى غدرك، فحلف له أن يدفع إليه مفاتيحها وما فيها، فلما تنحى عنهم أخذوا في ترميم ما تهدم من أسوارها واستعدوا للحصار.
وغدر إليون بالمسلمين قبحه الله.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة أخذ سليمان بن عبد الملك العهد لولده أيوب أنه الخليفة من بعده، وذلك بعد موت أخيه مروان بن عبد الملك، فعدل عن ولاية أخيه يزيد إلى ولاية ولده أيوب، وتربص بأخيه الدوائر، فمات أيوب في حياة أبيه، فبايع سليمان إلى ابن عمه عمر بن
__________
(1) كان مسلمة قد بنى مدنية القهر حذاء مدينة القسطنطينية وبها بنى مسجدا عظيما.
(2) انظر الكامل ج 5 / 29 والطبري 8 / 118 والعيون والحدائق ص 25 التنبيه والاشراف ص 165 ورواية لابن الاعثم مطولة مختلفة 7 / 298 وما بعدها.
(*)

(9/198)


عبد العزيز أن يكون الخليفة من بعده، ونعم ما فعل (1).
وفيها فتحت مدينة الصقالبة.
قال الواقدي: وقد أغارت البرجان على جيش مسلمة وهو في قلة من الناس في هذه السنة.
فبعث إليه سليمان جيشا فتقاتل البرجان حتى هزمهم الله عزوجل.
وفيها غزا يزيد بن المهلب قهستان (2) من أرض الصين فحاصرها وقاتل عندها قتالا شديدا، ولم يزل حتى تسلمها، وقتل من الترك الذين بها أربعة آلاف صبرا، وأخذ منها من الاموال والاثاث والامتعة ما لا يحد ولا يوصف كثرة وقيمة وحسنا، ثم سار منها إلى جرجان فاستجاش صاحبها بالديلم، فقدموا لنجدته فقاتلهم يزيد بن المهلب وقاتلوه، فحمل محمد بن عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي - وكان فارسا شجاعا باهرا - على ملك الديلم فقتله وهزمهم الله، ولقد بارز ابن أبي سبرة هذا يوما بعض فرسان الترك، فضربه التركي بالسيف على البيضة فنشب فيها، وضربه ابن أبي سبرة فقتله، ثم أقبل إلى المسلمين وسيفه يقطر دما وسيف التركي ناشب في خوذته، فنظر إليه يزيد بن المهلب فقال: ما رأيت منظرا أحسن من هذا، من هذا الرجل ؟ قالوا: ابن أبي سبرة.
فقال: نعم الرجل لولا انهماكه في الشراب.
ثم صمم يزيد على محاصرة جرجان وما زال يضيق على صاحبها حتى صالحه على سبعمائة ألف درهم وأربعمائة ألف دينار، ومائتي ألف ثوب، وأربعمائة حمار موقرة زعفرانا، وأربعمائة رجل على رأس كل رجل ترس: على الترس طيلسان وجام من فضة وسرقة من حريرة (3)، وهذه المدينة كان سعيد بن العاص فيها فتحها صلحا على أن يحملوا الخراج
في كل سنة مائة ألف، وفي سنة مائتي ألف، وفي بعض السنين ثلاثمائة ألف، ويمنعون ذلك في بعض السنين، ثم امتنعوا جملة وكفروا، فغزاهم يزيد بن المهلب وردها صلحا على ما كانت عليه في زمن سعيد بن العاص.
قالوا: وأصاب يزيد بن المهلب من غيرها أموالا كثيرة جدا، فكان من جملتها تاج فيه جواهر نفيسة، فقال: أترون أحدا يزهد في هذا ؟ قالوا: لا نعلمه، فقال: والله إني لاعلم رجلا لو عرض عليه هذا وأمثاله لزهد فيه، ثم دعا بمحمد بن واسع - وكان في الجيش مغازيا - فعرض عليه أخذ التاج فقال: لا حاجة لي فيه، فقال: أقسمت عليك لتأخذنه، فأخذه وخرج به من عنده، فأمر يزيد رجلا أن يتبعه فينظر ماذا يصنع بالتاج، فمر بسائل فطلب منه شيئا فأعطاه
__________
(1) في الاخبار الطوال ص 329 قال: " لما ثقل كتب كتابا وختمه ثم قال لصاحب شرطه: " اجمع إليه اخوتي وعمومتي وجميع أهل بيتي وعظماء أجناد الشام واحملهم على البيعة لمن سميت في هذا الكتاب، فمن أبى منهم أن يبايع، فاضرب عنقه " وقال: إن اخوي يزيد هشام ويزيد لم يبلغا أن يؤتمنا على الامة فجعلتها للرجل الصالح، عمر بن عبد العزيز، فإذا توفي عمر رجع الامر إليهما.
(انظر مروج الذهب 3 / 224) وفي الامامة والسياسة 2 / 114 نسخة كتاب سليمان بعهده إلى عمر مطولا.
(2) في الطبري 8 / 118 وابن الاعثم 7 / 287: دهستان.
(3) كذا بالاصل وفي رواية للطبري 8 / 120، وفي رواية أخرى للطبري: على ثلاثمائة ألف وهي رواية ابن الاعثم أيضا وزاد وعلى مائتي رأس رقيق وولى عليهم أسد بن عبد الله الازدي 7 / 289.
(*)

(9/199)


[ التاج ] بكماله وانصرف، فبعث يزيد إلى ذلك السائل فأخذ منه التاج وعوضه عنه ما لا كثيرا.
وقال علي بن محمد المدائني قال أبو بكر الهذلي: كان شهر بن حوشب على خزائن يزيد بن المهلب فرفعوا إليه أنه أخذ خريطة فيها مائة دينار، فسأله عنها فقال: نعم وأحضرها، فقال له يزيد: هي لك، ثم استدعى الذي وشى به فشتمه، فقال في ذلك القطامي الكلبي، ويقال إنها لسنان بن مكمل النميري: لقد باع شهر دينه بخريطة * فمن يأمن القراء بعدك يا شهر
أخذت به شيئا طفيفا وبعته * من ابن جونبوذان هذا هو الغدر وقال مرة بن النخعي (1): يابن المهلب ما أردت إلى امرئ * لولاك كان كصالح القراء قال ابن جرير: ويقال إن يزيد بن المهلب كان في غزوة جرجان في مائة ألف وعشرين ألفا، منهم ستون ألفا من جيش الشام أثابهم الله، وقد تمهدت تلك البلاد بفتح جرجان وسلكت الطرق، وكانت قبل ذلك مخوفة جدا، ثم عزم يزيد على المسير إلى خوزستان، وقدم بين يديه سرية هي أربعة آلاف من سراة الناس، فلما التقوا اقتتلوا قتالا شديدا، وقتل من المسلمين في المعركة أربعة آلاف وإنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم إن يزيد عزم على فتح البلاد لا محالة، وما زال حتى صالحه صاحبها - وهو الاصبهبذ - بمال كثير، سبعمائة ألف في كل عام، وغير ذلك من المتاع والرقيق.
وممن توفي فيها من الاعيان: عبد الله بن عبد الله بن عتبة كان إماما حجة، وكان مؤدب عمر بن عبد العزيز، وله روايات كثيرة عن جماعات من الصحابة، أبو الحفص النخعي.
عبد الله بن محمد بن الحنفية.
وقد ذكرنا تراجمهم في التكميل والله سبحانه وتعالى أعلم.