البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي

ثم دخلت سنة ثمان ومائة ففيها افتتح مسلمة بن عبد الملك قيسارية من بلاد الروم، وفتح إبراهيم بن عبد الملك حصنا من حصون الروم أيضا، وفيها غزا أسيد بن عبد الله القسري أمير خراسان فكسر الاتراك كسرة فاضحة.
وفيها زحف خاقان إلى أذربيجان وحاصر مدينة ورثان (1) ورماها بالمناجيق، فسار إليه أمير تلك الناحية الحارث بن عمرو نائب مسلمة بن عبد الملك، فالتقى مع خاقان ملك الترك فهزمه وقتل من جيشه خلق كثير، وهرب الخاقان بعد أن كان قتل في جملة من قتل من جيشه، وقتل الحارث بن عمرو شهيدا، وذلك بعد أن قتلوا من الاتراك خلقا كثيرا.
وفيها غزا معاوية بن هشام بن عبد الملك أرض الروم، وبعث البطال على جيش كثيف فافتتح جنجرة وغنم منها شيئا كثيرا.
وفيها توفي من الاعيان بكر بن عبد الله المزني البصري.
كان عالما عابدا زاهدا متواضعا قليل الكلام، وله روايات كثيرة عن خلق من الصحابة والتابعين.
قال بكر بن عبد الله: إذا رأيت من هو أكبر منك من المسلمين فقل: سبقته إلى المعاصي فهو خير مني، وإذا رأيت إخوانك يكرمونك ويعظمونك فقل: هذا من فضل ربي، وإذا رأيت منهم تقصيرا فقل: هذا بذنب أحدثته.
وقال: من مثلك يابن آدم ؟ خلي بينك وبين الماء والمحراب متى شئت تطهرت ودخلت على ربك عزوجل ليس بينك وبينه ترجمان ولا حاجب.
وقال: لا يكون العبد تقيا حتى يكون تقي الطمع تقي الغضب.
وقل: إذا رأيتم الرجل موكلا بعيوب الناس ناسيا لعيبه فاعلموا أنه قد مكر به.
وقال: كان الرجل من بني إسرائيل إذا بلغ المبلغ الصالح من العمل فمشى في الناس تظلله غمامة، قال: فمر رجل قد أظلته غمامة على رجل فأعظمه لما رآه مما آتاه الله، فاحتقره صاحب الغمامة فأمرها الله أن تتحول عن رأسه إلى رأس الذي احتقره، وهو الذي عظم أمر الله عزوجل.
وقال: ما سبقهم أبو بكر بكثير صلاة ولا صيام، ولكن بشئ قر في صدره.
وله كلام حسن كثير يطول ذكره.
راشد بن سعد المقراني الحمصي عمر دهرا، وروى عن جماعة من الصحابة، وقد كان عابدا صالحا زاهدا.
رحمه الله تعالى، وله ترجمة طويلة.
محمد بن كعب القرظي توفي فيها في قول وهو أبو حمزة، له روايات كثيرة عن جماعة من الصحابة، وكان عالما بتفسير القرآن، صالحا عابدا، قال الاصمعي: حدثنا أبو المقدام - هشام بن زياد - عن محمد بن كعب
__________
(1) ورثان: بلد هو آخر حدود أذربيجان بينه وبين وادي الرس فرسخان.
وقال ابن الكلبي: ورثان هي اذربيجان.
(معجم البلدان.
ج 5).
(*)

(9/284)


القرظي أنه سئل: ما علامة الخذلان ؟ قل: أن يقبح الرجل ما كان يستحسن، ويستحسن، ما كان قبيحا.
وقال عبد الله بن المبارك: حدثنا عبد الله بن عبد الله بن موهب قال: سمعت ابن كعب يقول: لان أقرأ في ليلة حتى أصبح إذا زلزلت والقارعة لا أزيد عليهما وأردد فيهما الفكر، أحب إلي
من أن أهد القرآن هدا - أو قال أنثره نثرا -.
وقال: لو رخص لاحد في ترك الذكر لرخص لزكريا عليه السلام، قال تعالى: (آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والابكار) [ آل عمران: 41 ] فلو رخص لاحد في ترك الذكر لرخص له، ولرخص للذين يقاتلون في سبيل الله، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون) [ الانفال: 46 ] وقال في قوله تعالى: (اصبروا وصابروا ورابطوا) [ آل عمران: 200 ] قال: اصبروا على دينكم وصابروا لوعدكم الذي وعدتم، ورابطوا عدوكم الظاهر والباطن، واتقوا الله فيما بيني وبينكم، لعلكم تفلحون إذا لقيتموني.
وقال في قوله تعالى: (لو لا أن رأى برهان ربه) [ يوسف: 24 ]: علم ما أحل القرآن مما حرم (منها قائم وحصيد) [ هود: 101 ] قال: القائم ما كان من بنائهم قائما، والحصيد ما حصد فهدم.
(إن عذابها كان غراما) [ الفرقان: 65 ] قال: غرموا ما نعموا به من النعم في الدنيا، وفي رواية سألهم ثمن نعمة فلم يقدروا عليها ولم يؤدوها، فأغرمهم ثمنها.
فأدخلهم النار.
وقال قتيبة بن سعيد: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الموالي قال: سمعت محمد بن كعب في هذه الآية (وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله) [ الروم: 39 ] قال: هو الرجل يعطي الآخر من ماله ليكافئه به أو يزداد، فهذا الذي لا يربو عند الله، والمضعفون هم الذين يعطون لوجه الله لا يبتغي مكافأة أحد.
وفي قوله تعالى: (أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق) [ الاسراء: 80 ] قال: اجعل سريرتي وعلانيتي حسنة.
وقيل: أدخلني مدخل صدق في العمل الصالح، أي الاخلاص، وأخرجني مخرج صدق أي سالما.
(أو ألقى السمع وهو شهيد) [ ق: 37 ] أي يسمع القرآن وقلبه معه في مكان آخر.
(فاسعوا إلى ذكر الله) [ الجمعة: 9 ] قال: السعي العمل ليس بالشد.
وقال: الكبائر ثلاثة، أن تأمن مكر الله، وأن تقنط من رحمة الله، وأن تيأس من روح الله.
وقال عبد الله بن المبارك: حدثنا موسى بن عبيدة بن محمد بن كعب قال: إذا أراد الله بعبد خيرا جعل فيه ثلاث خصال، فقها في الدين، وزهادة في الدنيا، وبصرا بعيوب نفسه.
وقال: الدنيا
دار قلق، رغب عنها السعداء، وانتزعت من أيدي الاشقياء، فأشقى الناس بها أرغب الناس فيها، وأزهد الناس فيها أسعد الناس بها، هي الغاوية لمن أضاعها، المهلكة لمن اتبعها، الخائنة لمن انقاد لها، علمها جهل، وغناؤها فقر، وزيادتها نقصان، وأيامها دول.
وروى ابن المبارك عن داود بن قيس قال: سمعت محمد بن كعب يقول: إن الارض لتبكي من رجل، وتبكي على

(9/285)


رجل، تبكي على من كان يعمل على ظهرها بطاعة الله، وتبكي ممن كان يعمل على ظهرها بمعصية الله، قد أثقلها.
ثم قرأ (فما بكت عليهم السماء والارض) [ الدخان: 29 ] وقال في قوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) [ الزلزلة: 7 - 8 ] من يعمل مثقال ذرة خيرا من كافر يرى ثوابها في نفسه وأهله وماله حتى يخرج من الدنيا وليس له خير.
ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره، من مؤمن يرى عقوبتها في نفسه وأهله وماله حتى يخرج من الدنيا وليس له شر.
وقال: ما يؤمنني أن يكون الله قد اطلع علي في بعض (1) ما يكره فمقتني، وقال: اذهب لا أغفر لك، مع أن عجائب القرآن ترد بي على أمور حتى أنه لينقضي الليل ولم أفرغ من حاجتي.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى محمد بن كعب يسأله أن يبيعه غلامه سالما - وكان عابدا خيرا زاهدا - فكتب إليه: إني قد دبرته، قال: فازدد فيه، فأتاه سالم فقال له عمر: إني قد ابتليت بما ترى، وأنا والله أتخوف أن لا أنجو، فقال له سالم: إن كنت كما تقول فهذا نجاته، وإلا فهو الامر الذي يخاف.
قال: يا سالم عظني، قال: آدم عليه السلام أخطأ خطيئة واحدة خرج بها من الجنة، وأنتم مع عمل الخطايا ترجون دخول الجنة، ثم سكت.
قلت: والامر كما قيل في بعض كتب الله: تزرعون السيئات وترجون الحسنات، لا يجتنى من الشوك العنب.
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجى * درج الجنان وطيب عيش العابد ونسيت أن الله أخرج آدما * منها إلى الدنيا بذنب واحد وقال: من قرأ القرآن متع بعقله وإن بلغ من العمر مائتي سنة.
وقال له رجل: ما تقول في التوبة ؟ قال: لا أحسنها، قال: أفرأيت إن أعطيت الله عهدا أن لا تعصيه أبدا ؟ قال: فمن أعظم
جرما منك، تتألى على الله أن لا ينفذ فيك أمره.
وقال الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني: حدثنا ابن عبد العزيز، حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام حدثنا عباد بن عباد، عن هشام بن زياد أبي المقدام.
قالوا كلهم: حدثنا محمد بن كعب القرظي قال: حدثنا ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق مما في يده، ألا أنبئكم بشراركم ؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: من نزل وحده، ومنع رفده، وجلد عبده، أفأنبئكم بشر من هذا ؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: من لا يقيل عثرة ولا يقبل معذرة، ولا يغفر ذنبا، ثم قال: ألا أنبئكم بشر من هذا ؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: من لا يرجى خيره، ولا يؤمن شره، إن عيسى بن مريم قام في بني إسرائيل خطيبا فقال: يا بني إسرائيل لا تكلموا بالحكمة عند الجهال فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموها - وقال مرة فتظلموهم - ولا تظلموا ظالما، ولا تطاولوا ظالما فيبطل فضلكم عند ربكم، يا بني إسرائيل
__________
(1) في صفة الصفوة 2 / 133: بعض ذنوبي فمقتني.
(*)

(9/286)


الامور ثلاثة، أمر تبين رشده فاتبعوه، وأمر تبين غيه فاجتنبوه، وأمر اختلف فيه فردوه إلى الله ".
وهذه الالفاظ لا تحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا السياق إلا من حديث محمد بن كعب عن ابن عباس، وقد روي أول الحديث إلى ذكر عيسى من طريقه، وسيأتي أن هذا الحديث تفرد به الطبراني بطوله والله سبحانه وتعالى أعلم.
وفيها توفي أبو نضرة المنذر بن مالك بن قطعة العبدي، وقد ذكرنا تراجمهم في كتابنا التكميل.
ثم دخلت سنة تسع ومائة
ففيها عزل هشام بن عبد الملك أسد بن عبد الله القسري عن إمرة خراسان (1) وأمره أن يقدم إلى الحج (2) فأقبل منها في رمضان، واستخلف على خراسان الحكم بن عوانة الكلبي، واستناب هشام على خراسان أشرس بن عبد الله السلمي، وأمره أن يكاتب خالد بن عبد الله القسري، وكان أشرس فاضلا خيرا، وكان سمي الكامل لذلك، وكان أول من اتخذ المرابطة بخراسان، واستعمل
المرابطة عبد الملك بن زياد (3) الباهلي، وتولى هو الامور بنفسه كبيرها وصغيرها، ففرح بها أهلها.
وفيها حج بالناس إبراهيم بن هشام أمير الحرمين.
سنة عشر ومائة من الهجرة النبوية
فيها قاتل مسلمة بن عبد الملك ملك الترك الاعظم خاقان، فزحف إلى مسلمة في جموع عظيمة فتواقفوا نحوا من شهر، ثم هزم الله خاقان زمن الشتاء، ورجع مسلمة سالما غانما، فسلك على مسلك ذي القرنين في رجوعه إلى الشام، وتسمى هذه الغزاة غزاة الطين، وذلك أنهم سلكوا على مغارق ومواضع غرق فيها دواب كثيرة، وتوحل فيها خلق كثير، فما نجوا حتى قاسوا شدائد وأهوالا صعابا وشدائد عظاما، وفيها دعا أشرس بن عبد الله السلمي نائب خراسان أهل الذمة بسمرقند ومن وراء النهر إلى الدخول في الاسلام، ويضع عنهم الجزية فأجابوه إلى ذلك، وأسلم غالبهم، ثم طالبهم بالجزية فنصبوا له الحرب وقاتلوه، ثم كانت بينه وبين الترك حروب كثيرة، أطال ابن جرير بسطها وشرحها فوق الحاجة (4).
وفيها أرسل أمير المؤمنين هشام بن عبيدة إلى إفريقية متوليا عليها، فلما وصل جهز ابنه وأخاه في جيش فالتقوا مع المشركين فقتلوا منهم خلقا كثيرا وأسروا بطريقهم وانهزم باقيهم، وغنم المسلمون منهم شيئا كثيرا.
وفيها افتتح معاوية بن هشام حصنين من بلاد الروم،
__________
(1) في سبب عزله أن أسدا بالغ في العصبية فأفسد الناس بها، وضرب نصر بن سيار ونفرا معه بالسياط وحلقهم وسيرهم إلى أخيه خالد.
وخطب الناس في بلخ يوما فقال: قبح الله هذه الوجوه وجوه أهل الشقاق والنفاق والشغب والفساد.
(الطبري 8 / 193 - ابن الاثير 5 / 142 - 143).
(2) في الطبري: استأذن خالد لاخيه فأذن له.
(3) في الطبري 8 / 195: دثار (انظر بن الاثير 5 / 150).
(4) انظر الطبري 8 / 196 وما بعدها وابن الاثري 5 / 151.
(*)

(9/287)


وغنم غنائم جمة.
وفيها حج بالناس إبراهيم بن هشام، وعلى العراق خالد القسري، وعلى خراسان أشرس السلمي.
ذكر من توفي فيها من الاعيان: جرير الشاعر وهو جرير بن الخطفي (1) ويقال ابن عطية بن الخطفي واسم الخطفي حذيفة بن بدر بن سلمة بن عوف بن كليب بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مر (2) بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار، أبو حزرة الشاعر البصري، قدم دمشق مرارا، وامتدح يزيد بن معاوية والخلفاء من بعده ووفد على عمر بن عبد العزيز، وكان في عصره من الشعراء الذين يقارنونه الفرزدق الاخطل، وكان جرير أشعرهم وأخيرهم، قال غير واحد: هو أشعر الثلاثة، قال ابن دريد ثنا الاشنانداني ثنا الثوري عن أبي عبيدة عن عثمان البني قال: رأيت جريرا وما تضم شفتاه من التسبيح، فقلت: وما ينفعك هذا ؟ فقال: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد إن الحسنات يذهبن السيئات، وعد من الله حق.
وقال هشام بن محمد الكلبي عن أبيه قال: دخل رجل من بني عذرة على عبد الملك بن مروان يمتدحه بقصيدة وعنده الشعراء الثلاثة، جرير والفرزدق والاخطل، فلم يعرفهم الاعرابي، فقال عبد الملك للاعرابي: هل تعرف اهجى بيت قالته العرب في الاسلام ؟ قال: نعم ! قول جرير: فغض الطرف إنك من نمير * فلا كعبا بلغت ولا كلابا (3) فقال: أحسنت، فهل تعرف أمدح بيت قيل في الاسلام ؟ قال نعم ! قول جرير: ألستم خير من ركب المطايا * وأندى العالمين بطون راح فقال: أصبت واحسنت، فهل تعرف أرق بيت قيل في الاسلام ؟ قال: نعم ! قول جرير: إن العيون التي في طرفها مرض * قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
__________
(1) في ابن خلكان 1 / 321 والاغاني 8 / 3: الخطفي لقب، قال أبو الفرج لقب به لقوله: يرفعن لليل إذا ما اسدفا * اعناق جنان وهاما رجفا وعنقا بعد الكلال خيطفا (2) في عامود النسب في الاغاني: مر بن أد بن طابخة.
(3) قاله في ابن جندل شيخ مضر وشاعرها.
وهو عبيد بن حصين بن معاوية بن جندل، يلقب براعي الابل وكان يفضل الفرزدق على جرير مما أغضب جرير عليه وقال فيه ما قال.
(*)

(9/288)


يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به * وهن أضعف خلق الله أركانا فقال: أحسنت، فهل تعرف جريرا ؟ قال: لا والله، وإني إلى رؤيته لمشتاق، قال: فهذا جرير وهذا الفرزدق وهذا الاخطل، فأنشأ الاعرابي يقول.
- فحيا إلاله أبا حرزة * وأرغم أنفك يا أخطل وجد الفرزدق أتعس به * ورق خياشيمه الجندل فأنشأ الفرزدق يقول: يا أرغم الله أنفا أنت حامله * يا ذا الخنا ومقال الزور والخطل ما أنت بالحكم الترضى حكومته * ولا الاصيل ولا ذي الرأي والجدل ثم أنشأ الاخطل يقول: - يا شر من حملت ساق على قدم * ما مثل قولك في الاقوام يحتمل إن الحكومة ليست في أبيك ولا * في معشر أنت منهم انهم سفل فقام جرير مغضبا وقال: - أتشتمان سفاها خيركم حسبا (1) * ففيكما - وإلهي - الزور والخطل شتمتاه على رفعي ووضعكما * لا زلتما في سفال أيها السفل ثم وثب جرير فقبل رأس الاعرابي وقال: يا أمير المؤمنين جائزتي له، وكانت خمسة آلاف (2)، فقال عبد الملك: وله مثلها من مالي، فقبض الاعرابي ذلك كله وخرج.
وحكى يعقوب بن السكيت أن جريرا دخل على عبد الملك مع وفد أهل العراق من جهة الحجاج فأنشده مديحه الذي يقول فيه: ألستم خير من ركب المطايا * وأندى العالمين بطون راح
فأطلق له مائة ناقة وثمانية من الرعاء أربعة من النوبة وأربعة من السبي الذين قدم بهم من الصغد قال جرير: وبين يدي عبد الملك جامان من فضة قد أهديت له، وهو لا يعبأ بها شيئا، فهو يقرعها بقضيب في يده، فقلت: يا أمير المؤمنين المحلب، فألقى إلي واحدا من تلك الجامات، ولما رجع إلى الحجاج أعجبه إكرام أمير المؤمنين له فأطلق الحجاج له خمسين ناقة تحمل طعاما لاهله.
__________
(1) كان الاعرابي من بني عذرة، وهم أخوال عبد الملك.
(2) في الاغاني 8 / 42: أربعة آلاف درهم وتوابعها من الحملان والكسوة.
(*)

(9/289)


وحكى نفطويه أن جريرا دخل يوما على بشر بن مروان وعنده الاخطل، فقال بشر لجرير: أتعرف هذا ؟ قال: لا، ومن هذا أيها الامير ؟ فقال: هذا الاخطل، فقال الاخطل، أنا الذي قذفت عرضك، وأسهرت ليلك، وآذيت قومك، فقال جرير: أما قولك شتمت عرضك فما ضر البحر أن يشتمه من غرق فيه، وأما قولك وأسهرت ليلك، فلو تركتني أنام لكان خيرا لك، وأما قولك وآذيت قومك فكيف تؤذي قوما أنت تؤدي الجزية إليهم ؟ وكان الاخطل من نصارى العرب المتنصرة، قبحه الله وأبعد مثواه، وهو الذي أنشد بشر بن مروان قصيدته التي يقول فيها: قد استوى بشر على العراق * من غير سيف ودم مهراق وهذا البيت تستدل به الجهمية على أن الاستواء على العرش بمعني الاستيلاء، وهذا من تحريف الكلم عن مواضعه، وليس في بيت هذا النصراني حجة ولا دليل على ذلك، ولا أراد الله عز وجل باستوائه على عرشه استيلاءه عليه، تعالى الله عن قول الجهمية علوا كبيرا.
فإنه إنما يقال استوى على الشئ إذ كان ذلك الشئ عاصيا عليه قبل استيلائه عليه، كاستيلاء بشر على العراق، واستيلاء الملك على المدينة بعد عصيانها عليه، وعرش الرب لم يكن ممتنعا عليه نفسا واحدا، حتى يقال استوى عليه، أو معنى الاستواء الاستيلاء، ولا تجد أضعف من حجج الجهمية، حتى أداهم الافلاس من الحجج إلى بيت هذا النصراني المقبوح وليس فيه حجة والله أعلم.
وقال الهيثم بن عدي عن عوانة بن الحكم قال: لما استخلف عمر بن عبد العزيز وفد إليه
الشعراء فمكثوا ببابه أياما لا يؤذن لهم ولا يلتفت إليهم، فساءهم ذلك وهموا بالرجوع إلى بلادهم، فمر بهم رجاء بن حيوة فقال له جرير: - يا أيها الرجل المرخي عمامته * هذا زمانك فاستأذن لنا عمرا فدخل ولم يذكر لعمر بن أمرهم شيئا، فمر بهم عدي بن أرطأة فقال له جرير منشدا: يا أيها الراكب المرخي مطيته * هذا زمانك إني قد مضى زمني أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه * أني لدى الباب كالمصفود في قرن لا تنس حاجتنا لا قيت مغفرة * قد طال مكثي عن أهلي وعن وطني فدخل عدي على عمر بن عبد العزيز فقال: يا أمير المؤمنين الشعراء ببابك وسهامهم مسمومة وأقوالهم نافذة، فقال: ويحك يا عدي، مالي وللشعراء، فقال: يا أمير المؤمنين إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد كان يسمع الشعر ويجزي عليه، وقد أنشده العباس بن مرداس مدحه فأعطاه حلة، فقال له عمر: أتروي منها شيئا ؟ قال: نعم فأنشده: - رأيتك يا خير البرية كلها * نشرت كتابا جاء بالحق معلما

(9/290)


شرعت لنا دين الهدى بعد جورنا * عن الحق لما أصبح الحق مظلما ونورت بالبرهان أمرا مدلسا * وأطفأت بالقرآن نارا تضرما فمن مبلغ عني النبي محمدا * وكل امرئ يجزي بما كان قدما أقمت سبيل الحق بعد أعوجاجه * وكان قديما ركنه قد تهدما تعالى علوا فوق عرش إلهنا * وكان مكان الله أعلا وأعظما فقال عمر: من بالباب منهم ؟ فقال: عمر بن أبي ربيعة، فقال أليس هو الذي يقول: ثم نبهتها فهبت كعابا * طفلة ما تبين رجع الكلام ساعة ثم إنها بعد قالت * ويلنا قد عجلت يا بن الكرام أعلى غير موعد جئت تسري * تتخطى إلى رؤوس النيام
ما تجشمت ما تريد من الامر * ولا حيت طارقا لخصام فلو كان عدو الله إذ فجر كتم وستر على نفسه، لا يدخل والله أبدا، فمن بالباب سواه ؟ قال: همام بن غالب - يعني الفرزدق - فقال عمر: أو ليس هو الذي يقول في شعره: هما دلياني من ثمانين قامة * كما انقض باز أقتم الريش كاسره فلما استوت رجلاي بالارض قالتا * أحي يرجي أم قتيل نحاذره لا يطأ والله بساطي وهو كاذب، فمن سواه بالباب ؟ قال: الاخطل، قال: أو ليس هو الذي يقول: ولست بصائم رمضان طوعا * ولست بآكل لحم الاضاحي ولست بزاجر عيسا بكور * إلى بطحاء مكة للنجاح ولست بزائر بيتا بعيدا * بمكة أبتغي فيه صلاحي ولست بقائم كالعير أدعو * قبيل الصبح حي على الفلاح ولكني سأشربها شمولا * وأسجد عند منبلج الصباح والله لا يدخل علي وهو كافر أبدا، فهل بالباب سوى من ذكرت ؟ قال: نعم الاحوص، قال: أليس هو الذي يقول: الله بيني وبين سيدها * يفر مني بها وأتبعه فما هو دون من ذكرت، فمن ههنا غيره ؟ قال جميل بن معمر، قال: الذي يقول: - ألا ليتنا نحيا جميعا وإن نمت * يوافق في الموتى خريجي خريجها فما أنا في طول الحياة براغب * إذا قيل قد سوى عليها صفيحها

(9/291)


فلو كان عدو الله تمنى لقاءها في الدنيا ليعمل بذلك صالحا ويتوب، والله لا يدخل علي أبدا، فهل بالباب أحد سوى ذلك ؟ قلت: جرير، قال أما إنه الذي يقول: طرقتك صائدة القلوب وليس ذا * حين الزيارة فارجعي بسلام
فإن كان لا بد فأذن لجرير، فأذن له فدخل على عمر وهو يقول: إن الذي بعث النبي محمدا * جعل الخلافة للامام العادل وسع الخلائق عدله ووفاؤه * حتى ارعوى وأقام ميل المائل إني لارجو منك خيرا عاجلا * والنفس مولعة بحب العاجل فقال له: ويحك يا جرير، اتق الله فيما تقول، ثم إن جريرا استأذن عمر في الانشاد فلم يأذن له ولم ينهه، فأنشده قصيدة طويلة يمحده بها، فقال له: ويحك يا جرير لا أرى لك فيما ههنا حقا، فقال: إني مسكين وابن سبيل، قال: إنا ولينا هذا الامر ونحن لا نملك إلا ثلاثمائة درهم، أخذت أم عبد الله مائة وابنها مائة وقد بقيت مائة، فأمر له بها، فخرج على الشعراء فقالوا: ما وراءك يا جرير ؟ فقال: ما يسؤوكم، خرجت من عند أمير المؤمنين وهو يعطي الفقراء ويمنع الشعراء وإني عنه لراض، ثم أنشأ يقول: رأيت رقى الشيطان لا تستفزه * وقد كان شيطاني من الجن راقيا وقال بعضهم فيما حكاه المعافى بن زكريا الجريري قالت جارية للحجاج بن يوسف: إنك تدخل هذا علينا، فقال: إنه ما علمت عفيفا، فقالت: أما إنك لو أخليتني وإياه سترى ما يصنع، فأمر باخلائها مع جرير في مكان يراهما الحجاج ولا يريانه، ولا يشعر جرير بشئ من ذلك، فقالت له: يا جرير، فأطرق رأسه، وقال، هأنذا، فقالت: أنشدني من قولك كذا وكذا - لشعر فيه رقة - فقال: لست أحفظه ولكن أحفظ كذا وكذا - ويعرض عن ذاك وينشدها شعرا في مدح الحجاج - فقالت: لست أريد هذا، إنما أريد كذا وكذا - فيعرض عن ذاك وينشدها في الحجاج - حتى انقضى المجلس فقال الحجاج: لله درك، أبيت إلا كرما وتكرما.
وقال عكرمة أنشدت أعرابيا بيتا لجرير الخطفي: أبدل الليل لا تجري كواكبه * أو طال حتى حسبت النجم حيرانا فقال الاعرابي: إن هذا حسن في معناه وأعوذ بالله من مثله، ولكني أنشدك في ضده من قولي:
وليل لم يقصره رقاد * وقصره لنا وصل الحبيب نعيم الحب أورق فيه * حتى تناولنا جناه من قريب

(9/292)


بمجلس لذة لم نقف فيه * على شكوى ولا عيب الذنوب فخشينا أن نقطعه بلفظ * فترجمت العيون عن القلوب قلت له: زدني، قال، أما من هذا فحسبك ولكن أنشدك غيره فأنشدني: وكنت إذا عقدت حبال قوم * صحبتهم وشيمتي الوفاء فأحسن حين يحسن محسنوهم * وأجتنب الاساءة إن أساؤوا أشاء سوى مشيئتهم فآتي * مشيئتهم وأترك ما أشاء قال ابن خلكان: كان جرير أشعر من الفرزدق عند الجمهور، وأفخر بيت قاله جرير: إذا غضبت عليك بنو تميم * حسبت الناس كلهم غضابا قال وقد سأله رجل: من أشعر الناس ؟ فأخذ بيده وأدخله على ابنه، وإذا هو يرتضع من ثدي عنز، فاستدعاه فنهض واللبن يسيل على لحيته، فقال جرير للذي سأله: أتبصر هذا ؟ قال: نعم، قال: أتعرفه ؟ قال: لا، قال: هذا أبي، وإنما يشرب من ضرع العنز لئلا يحلبها فيسمع جيرانه حس الحلب فيطلبوا منه لبنا، فأشعر الناس من فاخر بهذا ثمانين شاعرا فغلبهم، وقد كان بين جرير والفرزدق مقاولات ومهاجاة كثيرة جدا يطول ذكرها، وقد مات في سنة عشر ومائة، قاله خليفة بن خياط وغير واحد، قال خليفة: مات الفرزدق وجرير بعده بأشهر، وقال الصولي: ماتا في سنة إحدى عشرة ومائة، ومات الفرزدق قبل جرير بأربعين يوما، وقال الكريمي عن الاصمعي عن أبيه قال: رأى رجل جريرا في المنام بعد موته فقال له: ما فعل الله بك ؟ فقال: غفر لي، فقيل: بماذا ؟ قال بتكبيرة كبرتها بالبادية، قيل له: فما فعل الفرزدق ؟ قال أيهات أهلكه قذف المحصنات.
قال الاصمعي لم يدعه في الحياة ولا في الممات.
وأما الفرزدق
واسمه همام بن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم (1) بن حنظلة بن زيد بن مناة بن مر بن أد بن طابخة أبو فراس بن أبي خطل التميمي البصري الشاعر المعروف بالفرزدق، وجده صعصعة بن ناجية صحابي، وفد إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وكان يحيي الموؤودة في الجاهلية، حدث الفرزدق عن علي أنه ورد مع أبيه عليه، فقال من هذا ؟ قال ابني وهو شاعر، قال علمه القراءة فهو خير له من الشعر.
وسمع الفرزدق الحسين بن علي ورآه وهو ذاهب إلى العراق وأبا هريرة وأبا سعيد الخدري وعرفجة بن أسعد، وزرارة بن كرب، والطرماح بن عدي الشاعر، وروى عنه خالد الحذاء ومروان الاصغر وحجاج بن حجاج الاحول، وجماعة، وقد وفد على معاوية يطلب ميراث عمه الحباب، وعلى الوليد بن عبد الملك وعلى أخيه، ولم يصح ذلك،
__________
(1) في الاغاني 21 / 276: ابن دارم بن مالك بن حنظلة.
وانظر ابن خلكان 6 / 86.
(*)

(9/293)


وقال أشعث بن عبد الله عن الفرزدق قال نظر أبو هريرة إلى قدمي فقال: يا فرزدق إني أرى قدميك صغيرين فاطلب لهما موضعا في الجنة، فقلت: إن ذنوبي كثيرة، فقال: لا بأس فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: " إن بالمغرب بابا مفتوحا للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها ".
وقال معاوية بن عبد الكريم عن أبيه قال: دخلت على الفرزدق فتحرك فإذا في رجله قيد، فقلت: ما هذا ؟ فقال: حلفت أن لا أنزعه حتى أحفظ القرآن.
وقال أبو عمرو بن العلاء: ما رأيت بدويا أقام بالحضر إلا فسد لسانه إلا رؤبة بن العجاج والفرزدق فإنهما زادا على طول الاقامة جدة وحدة، وقال راويته أبوشفقل طلق الفرزدق امرأته النوار ثلاثا ثم جاء فأشهد على ذلك الحسن البصري، ثم ندم على طلاقها وإشهاده الحسن على ذلك فأنشأ يقول: - فلو أني ملكت يدي وقلبي (1) * لكان علي للقدر الخيار ندمت ندامة الكسعي لما * غدت مني مطلقة نوار (2) وكانت جنتي فخرجت منها * كآدم حين أخرجه الضرار (3) وقال الاصمعي وغير واحد: لما ماتت النوار بنت أعين بن ضبيعة المجاشعي امرأة الفرزدق -
- وكانت قد أوصت أن يصلي عليها الحسن البصري - فشهدها أعيان أهل البصرة مع الحسن والحسن على بغلته، والفرزدق على بعيره، فسار فقال الحسن للفرزدق: ماذا يقول الناس ؟ قال: يقولون شهد هذه الجنازة اليوم خير الناس - يعنونك - وشر الناس - يعنوني - فقال له: يا أبا فراس لست أنا بخير الناس ولست أنت بشر الناس، ثم قال له الحسن: ما أعددت لهذا اليوم ؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ ثمانين سنة، فلما أن صلى عليها الحسن مالوا إلى قبرها فأنشأ الفرزدق يقول (4): أخاف وراء القبر إن لم يعافني * أشد من القبر التهابا وأضيقا إذا جاءني (5) يوم القيامة قائد * عنيف وسواق يسوق الفرزدقا لقد خاب من أولاد دارم (6) من مشى * إلى النار مغلول القلادة أزرقا (7) يساق إلى نار الجحيم مسربلا * سرابيل قطران لباسا مخرقا
__________
(1) في المبرد 1 / 72: نفسي.
(2) الكسعي: رجل يضرب المثل به في الندامة على كسره قوسه، وكان جربها في عدة ظباء، فظن انها لم تصبهن، ثم اتضح أنها أقصدتهن جميعا.
(3) بعده في الاغاني 21 / 290 والكامل للمبرد 1 / 72: وكنت كفاقئ عينيه عمدا * فأصبح ما يضئ له النهار (4) في الكامل للمبرد 1 / 71: وقال الفرزدق في أيام نسكه.
(5) في الكامل للمبرد: قادني.
(6) في الاغاني 21 / 391 والكامل للمبرد: آدم.
(7) في الكامل: موثقا.
ويراد بالقلادة الطوق.
والغل هنا: اطباق القلادة.
وأزرقا: يراد به ما ورد في التنزيل = (*)

(9/294)


إذا شربوا فيها الصديد رأيتهم * يذوبون من حر الصديد (1) تمزقا قال: فبكى الحسن حتى بل الثرى ثم التزم الفرزدق، وقال: لقد كنت من أبغض الناس إلي، وإنك اليوم من أحب الناس إلي.
وقال له بعض الناس: ألا تخاف من الله في قذف
المحصنات، فقال: والله لله أحب إلي من عيني اللتين أبصر بهما، فكيف يعذبني ؟ وقد قدمنا أنه مات سنة عشر ومائة قبل جرير بأربعين يوما (8)، وقيل بأشهر فالله أعلم.
وأما الحسن وابن سيرين فقد ذكرنا ترجمة كل منهما في كتابنا التكميل مبسوطة وحسبنا الله ونعم الوكيل.
فأما الحسن بن أبي الحسن فاسم أبيه يسار وأبرد هو أبو سعيد البصري مولى زيد بن ثابت، ويقال مولى جابر بن عبد الله وقيل غير ذلك، وأمه خيرة مولاة لام سلمة كانت تخدمها، وربما أرسلتها في الحاجة فتشتغل عن ولدها الحسن وهو رضيع، فتشاغله أم سلمة بثدييها فيدران عليه فيرتضع منهما، فكانوا يرون أن تلك الحكمة والعلوم التي أوتيها الحسن من بركة تلك الرضاعة من الثدي المنسوب إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ثم كان وهو صغير تخرجه أمه إلى الصحابة فيدعون له، وكان في جملة من يدعو له عمر بن الخطاب، قال: اللهم فقهه في الدين، وحببه إلى الناس.
وسئل مرة أنس بن مالك عن مسألة فقال: سلوا عنها مولانا الحسن، فإنه سمع وسمعنا، فحفظ ونسينا، وقال أنس مرة: إني لاغبط أهل البصرة بهذين الشيخين - الحسن وابن سيرين - وقال قتادة: ما جالست رجلا فقيها إلا رأيت فضل الحسن عليه، وقال أيضا: ما رأت عيناي أفقه من الحسن، وقال أيوب: كان الرجل يجالس الحسن ثلاث حجج ما يسأله عن مسألة هيبة له، وقال الشعبي لرجل يريد قدوم البصرة: إذا نظرت إلى رجل أجمل أهل البصرة وأهيبهم فهو الحسن، فأقرأه مني السلام.
وقال يونس بن عبيد: كان الرجل إذا نظر إلى الحسن انتفع به وإن لم ير عمله ولم يسمع كلامه، وقال الاعمش: ما زال الحسن
__________
= العزيز من أن المجرمين يحشرون إلى جهنم زرقا.
(1) في الكامل: الحميم بدل الصديد في الموضعين.
(2) قال البلاذري: أسن الفرزدق حتى قارب المئة ومات بالدبيلة (مرض يصيب الجوف).
وعن ابن عائشة ان الفرزدق مات قبل جرير بستة أشهر.
وقال جرير لما بلغه موته: قلما تصاول فحلان فمات أحدهما إلا أسرع لحاق الآخر به.
وقال:
فمات الفرذدق بعد ما جرعته * ليت الفرزدق كان عاش قليلا فقيل له أتهجوه وقد مات، فقال يرثيه: فلا وضعت بعد الفرزدق حامل * ولا ذات بعل من نفاس تعلت هو الوافد الميمون والراتق الثأى * إذا النعل يوما بالعشيرة زلت (*)

(9/295)


يعي الحكمة حتى نطق بها، وكان أبو جعفر إذا ذكره يقول: ذاك الذي يشبه كلامه كلام الانبياء.
وقال محمد بن سعد: قالوا كان الحسن جامعا للعلم والعمل، عالما رفيعا فقيها مأمونا عابدا زاهدا ناسكا كثير العلم والعمل فصيحا جميلا وسيما، وقدم مكة فأجلس على سرير، وجلس العلماء حوله، واجتمع الناس إليه فحدثهم.
قال أهل التاريخ: مات الحسن عن ثمان وثمانين سنة، عام عشر ومائة في رجب منها، بينه وبين محمد بن سيرين مائة يوم.
وأما ابن سيرين فهو محمد بن سيرين أبو بكر بن أبي عمرو الانصاري مولى أنس بن مالك النضري، كان أبو محمد من سبي عين التمر (1)، أسره خالد بن الوليد في جملة السبي، فاشتراه أنس ثم كاتبه، ثم ولد له من الاولاد الاخيار جماعة، محمد هذا، وأنس بن سيرين، ومعبد ويحيى وحفصة وكريمة، وكلهم تابعيون ثقات أجلاء رحمهم الله.
قال البخاري: ولد محمد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان، وقال هشام بن حسان: هو أصدق من أدركت من البشر، وقال محمد بن سعد: كان ثقة مأمونا عالما رفيعا فقيها إماما كثير العلم ورعا.
وكان به صمم، وقال مؤرق العجلي: ما رأيت رجلا أفقه في ورعه، وأورع في فقهه منه، قال ابن عون: كان محمد بن سيرين أرجى الناس لهذه الامة، وأشد الناس إزارا على نفسه، وأشدهم خوفا عليها.
قال ابن عون: ما بكى في الدنيا مثل ثلاثة، محمد بن سيرين في العراق، والقاسم بن محمد في الحجاز، ورجاء بن حيوة بالشام.
وكانوا يأتون بالحديث على حروفه، وكان الشعبي يقول: عليكم بذاك الاصم - يعني محمد بن سيرين - وقال ابن شوذب: ما رأيت أحدا أجرأ على تعبير الرؤيا منه.
وقال عثمان البتي: لم يكن بالبصرة أعلم بالقضاء منه.
قالوا: ومات في تاسع شوال من هذه السنة بعد الحسن بمائة يوم.
فصل كان اللائق، بالمؤلف أن يذكر تراجم هؤلاء العلماء الاخيار قبل تراجم الشعراء المتقدم ذكرهم فيبدأ بهم ثم يأتي بتراجم الشعراء، وأيضا فإنه أطال القول في تراجم الشعراء واختصر تراجم العلماء، ولو كان فيها حسن وحكم جمة ينتفع بها من وقف عليها، ولعلها أفيد من مدحهم والثناء عليهم، ولا سيما كلام الحسن وابن سيرين ووهب بن منبه - كما ذكره بعد وكما سيأتي ذكر ترجمته في هذه الزيادة - فإنه قد اختصرها جدا وإن المؤلف أقدر وأوسع علما، فما ينبغي أن يخل ببعض كلامهم وحكمهم، فإن النفوس مستشرفة إلى معرفة ذلك والنظر فيه، فإن أقوال السلف لها موقع من
__________
(1) في صفة الصفوة 3 / 241 وتذكره الحفاظ 1 / 77: من أهل جرجرايا.
(وهي بلد من أعمال النهروان بين واسط وبغداد من الجانب الشرقي وقد خرج منها جماعة من العلماء والشعراء).
وقد جاء يعمل في عين التمر فسباه خالد بن الوليد.
(*)

(9/296)


القلوب، والمؤلف غالبا في التراجم يحيل على ما ذكره في التكميل الذي صنفه في أسماء الرجال، وهذا الكتاب لم نقف عليه نحن ولا من سألناه عنه من العلماء، فإنا قد سألنا عنه جماعة من أهل الفن فلم يذكر غير واحد أنه اطلع عليه.
فكيف حل غيرهم ؟ وقد ذكرت في غالب التراجم زيادات على ما ذكره المؤلف مما وصلت إليه معرفتي واطلعنا عليه، ولو كان عندي كتب لاشبعت القول في ذلك، إذ الحكمة هي ضالة المؤمن.
ولعل أن يقف على هذا راغب في الآخرة، طالب ما عند الله عزوجل فينتفع به أعظم مما ينتفع به من تراجم الخلف والملوك والامراء، وإن كانت تلك أيضا نافعة لمعتير ومزدجر، فإن ذكر أئمة العدل والجور بعد موتهم فيها فضل أولئك، وغم هؤلاء، ليعلم الظالم أنه وإن مات لم يمت ما كان متلبسا به من الفساد والظلم، بل هو مدون في الكتب عند العلماء.
وكذلك أهل العدل والصلاح والخير، فإن الله قد قص في القرآن أخبار الملوك والفراعنة والكفار والمفسدين، تحذيرا من أحوالهم وما كانوا يعملون، وقص أيضا أخبار الاتقياء والمحسنين والابرار والاخيار
والمؤمنين، للاقتداء والتأسي بهم والله سبحانه أعلم.
فنقول وبالله التوفيق: أما الحسن فهو أبو سعيد البصري الامام الفقيه المشهور، أحد التابعين الكبار الاجلاء علما وعملا وإخلاصا فروى ابن أبي الدنيا عنه قال: كان الرجل يتعبد عشرين سنة لا يشعر به جاره، وأحدهم يصلي ليلة أو بعض ليلة فيصبح وقد استطال على جاره، وإن كان القوم ليجتمعون فيتذاكرون فتجئ الرجل عبرته فيردها ما استطاع، فإن غلب قام عنهم.
وقال الحسن: تنفس رجل عند عمر بن عبد العزيز فلكزه عمر - أو قال: لكمه - وقال: إن في هذا لفتنة.
وقد ذكره ابن أبي الدنيا عن الحسن عن عمر بن الخطاب.
وروى الطبراني عنه أنه قال: إن قوما ألهتهم أماني المغفرة ورجاء الرحمة حتى خرجوا من الدنيا وليست لهم أعمال صالحة، يقول أحدهم: إني لحسن الظن بالله، وأرجو رحمة الله، وكذب، لو أحسن الظن بالله لاحسن العمل لله، ولو رجا رحمة الله لطلبها بالاعمال الصالحة يوشك من دخل المفازة من غير زاد ولا ماء أن يهلك.
وروى ابن أبي الدنيا عنه قال: حادثوا هذه القلوب فإنها سريعة الدثور، واقذعوا هذه الانفس فإنها تنزع إلى شر غاية.
وقال مالك بن دينار: قلت للحسن: ما عقوبة العالم إذا أحب الدنيا ؟ قال: موت القلب، فإذا أحب الدنيا طلبها بعمل الآخرة، فعند ذلك ترحل عنه بركات العلم ويبقى عليه رسمه.
وروى الفتني عن أبيه قال: عاد الحسن عليلا فوجده قد شفي من علته، فقال: أيها الرجل إن الله قد ذكرك فاذكره، وقد أقالك فاشكره، ثم قال الحسن: إنما المرض ضربة سوط من ملك كريم، فأما أن يكون العليل بعد المرض فرسا جوادا، وإما أن يكون عثورا معقورا.
وروى العتبي عن أبيه أيضا قال: كتب الحسن إلى فرقد: أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله، والعمل بما علمك الله، والاستعداد لما وعد الله، مما لا

(9/297)


حيلة لاحد في دفعه، ولا ينفع الندم عند نزوله، فاحسر عن رأسك قناع الغافلين، وانتبه من رقدة الجاهلين، وشمر الساق، فإن الدنيا ميدان مسابقة، والغاية الجنة أو النار، فإن لي ولك من الله
مقاما يسألني وإياك فيه عن الحقير والدقيق، والجليل والخافي، ولا آمن أن يكون فيما يسألني وإياك عنه وساوس الصدور، ولحظ العيون، وإصغاء الاسماع.
وما أعجز عنه.
وروى ابن قتيبة عنه أنه مر على باب ابن هبيرة فرأى القراء - وكانوا هم الفقهاء - جلوسا على باب ابن هبيرة فقال: طفحتم نعالكم، وبيضتم ثيابكم.
ثم أتيتم إلى أبوابهم تسعون ؟ ثم قال لاصحابه: ما ظنكم بهؤلاء الحذاء ؟ ليست مجالسهم من مجالس الاتقياء، وإنما مجالسهم مجالس الشرط.
وروى الخرائطي عن الحسن أنه كان إذا اشترى شيئا وكان في ثمنه كسر جبره لصاحبه.
ومر الحسن بقوم يقولون: نقص دانق أي عن الدرهم الكامل والدينار الكامل - إما أن يكون درهما ينقص نصفا أو ربعا، والعشرة تسعة ونصف، وقس على هذا، فكان الحسن يستحب جبران هذه الاشياء، وإن كان اشترى السلعة بدرهم ينقص دانقا كمله درهما، أو بتسعة ونصف كملها عشرة، مروءة وكرما.
وقال عبد الاعلى السمسار، قال الحسن: يا عبد الاعلى ! أما يبيع أحدكم الثوب لاخيه فينقص درهمين أو ثلاثة ؟ قلت لا والله ولا دانق واحد، فقال الحسن: إن هذه الاخلاق فما بقي من المرؤة إذا ؟.
قال: وكان الحسن يقول: لا دين إلا بمروءة.
وباع بغلة له فقال له المشتري.
أما تحط لي شيئا يا أبا سعيد ؟ قال لك خمسون درهما، أزيدك ؟ قال: لا ! رضيت، قال: بارك الله لك.
وروى ابن أبي الدنيا عن حمزة الاعمى قال: ذهبت بي أمي إلى الحسن فقالت: يا أبا سعيد: ابني هذا قد أحببت أن يلزمك فلعل الله أن ينفعه بك، قال: فكنت أختلف إليه، فقال لي يوما: يا بني أدم الحزن على خير الآخرة لعله أن يوصلك إليه، وابك في ساعات الليل والنهار في الخلوة لعل مولاك أن يطلع عليك فيرحم عبرتك فتكون من الفائزين، قال: وكنت أدخل على الحسن منزلة وهو يبكي، وربما جئت إليه وهو يصلي فأسمع بكاءه ونحيبه، فقلت له يوما: إنك تكثر البكاء فقال يا بني ! ماذا يصنع المؤمن إذا لم يبك ؟ يا بني إن البكاء داع إلى الرحمة، فإن استطعت أن تكون عمرك باكيا فافعل لعله تعالى أن يرحمك، فإذا أنت نجوت من النار، وقال: ما هو إلا حلول الدار إما الجنة وإما النار، ما هناك منزل ثالث.
وقال: بلغنا أن الباكي من خشية الله لا تقطر من دموعه قطرة حتى
تعتق رقبته من النار.
وقال: لو أن باكيا بكى في ملا من خشية الله لرحموا جميعا، وليس شئ من الاعمال إلا له وزن إلا البكاء من خشية الله فإنه لا يقوم الله بالدمعة منه شيئا.
وقال: ما بكى عبد إلا شهد عليه قلبه بالصدق أو الكذب.
وروى ابن أبي الدنيا عنه في كتاب اليقين قال: من علامات المسلم قوة دين، وحزم في لين، وإيمان في يقين، وحكم في علم، وحبس في رفق، وإعطاء في حق، وقصد في غنى، وتحمل في فاقة

(9/298)


وإحسان في قدرة، وطاعة معها نصيحة، وتورع في رغبة، وتعفف وصبر في شدة، لا ترديه رغبته، ولا يبدره لسانه، ولا يسبقه بصره، ولا يغلبه فرجه، ولا يميل به هواه، ولا يفضحه لسانه، ولا يستخفه حرصه، ولا تقصر به نيته.
كذا ذكر هذه الالفاظ عنه (1).
قال: حدثنا عبد الرحمن بن صالح عن الحكم بن ظهير عن يحيى بن المختار عن الحسن فذكره، وقال فيه أيضا عنه: يا بنى آدم إن من ضعف يقينك أن تكون بما في يدك أوثق منك بما في يدي الله عزوجل.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا علي بن إبراهيم اليشكري، حدثنا موسى بن إسماعيل الجيلي، حدثنا حفص بن سليمان أبو مقاتل عن عون بن أبي شداد، عن الحسن قال: قال لقمان لانبه: يا بني ! ! العمل لا يستطاع إلا باليقين، ومن يضعف يقينه يضعف عمله.
وقال: يا بني إذا جاءك الشيطان من قبل الشك والريب فاغلبه باليقين والنصيحة، وإذا جاءك من قبل الكسل والسآمة فاغلبه بذكر القبر والقيامة، وإذا جاءك من قبل الرغبة والرهبة فاخبره أن الدنيا مفارقة متروكة.
وقال الحسن: ما أيقن عبد بالجنة والنار حق يقينهما إلا خشع وذبل واستقام واقتصد حتى يأتيه الموت.
وقال: باليقين طلبت الجنة، وباليقين هربت من النار، وباليقين أديت الفرائض على أكمل وجهها، وباليقين أصبر على الحق وفي معافاة الله خير كثير، قد والله رأيناهم يتعاونون في العافية، فإذا نزل البلاء تفارقوا.
وقال: الناس في العافية سواء، فإذا نزل البلاء تبين عنده الرجال.
وفي رواية: فإذا نزل البلاء تبين من يعبد الله وغيره، وفي رواية فإذا نزل البلاء سكن المؤمن إلى إيمانه، والمنافق إلى نفاقه.
وقال الفريابي في فضائل القرآن: حدثنا عبد الله بن المبارك أخبرنا معمر عن يحيى بن المختار، عن الحسن قال: إن هذا القرآن قد قرأه عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله، لم يأتوا الامر من قبل أوله، قال الله عزوجل: (كتاب أنزلناه مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الالباب) [ ص: 29 ] وما تدبر آياته إلا أتباعه، أما والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى أن أحدهم ليقول: قد قرأت القرآن كله فما أسقط منه حرفا واحدا، وقد والله أسقطه كله، ما يرى له القرآن في خلق ولا عمل، حتى إن أحدهم ليقول: والله إني لاقرأ السورة في نفس، لا والله ما هؤلاء بالقراء ولا بالعلماء ولا الحكماء ولا الورعة، ومتى كانت القراءة هكذا أو يقول مثل هذا، لا أكثر الله في الناس مثل هؤلاء.
ثم روى الحسن عن جندب قال: قال لنا حذيفة: هل تخافون من شئ ؟ قال: قلت والله إنك وأصحابك لاهون الناس عندنا، فقال: أما والذي نفسي بيده لا تؤتون إلا من قبلنا، ومع ذلك نشء آخر يقرأون القرآن يكونون في آخر هذه الامة ينثرونه نثر الدقل، لا يجاوز تراقيهم، تسبق قراءتهم إيمانهم.
__________
(1) كذا بالاصل ولم يعين اسم من ذكر عنه.
(*)

(9/299)


وروى ابن أبي الدنيا عنه في ذم الغيبة له قال: والله للغيبة أسرع في دين المؤمن من الاكلة في جسده.
وكان يقول.
ابن آدم إنك لن تصيب حقيقة الايمان حتى لا تصيب (1) الناس بعيب هو فيك، وحتى تبدأ بصلاح ذلك العيب فتصلحه من نفسك، فإذا فعلت ذلك كان ذلك شغلك في طاعة نفسك، وأحب العباد إلى الله من كان هكذا.
وقال الحسن: ليس بينك وبين الفاسق حرمة.
وقال: ليس لمبتدع غيبة.
وقال أصلت بن طريف: قلت للحسن: الرجل الفاجر المعلن بفجوره، ذكرى له بما فيه غيبة ؟ قال: لا ولا كرامة.
وقال: إذا ظهر فجوره فلا غيبة له.
وقال: ثلاثة لا تحرم عليك غيبتهم: المجاهر بالفسق، والامام الجائر، والمبتدع.
وقال له رجل: إن قوما يجالسونك ليجدوا بذلك إلى الوقيعة فيك سبيلا، فقال: هون عليك يا هذا فإني أطمعت نفسي في الجنان فطمعت، وأطمعتها في النجاة من النار فطمعت، وأطمعتها في السلامة من الناس فلم أجد
إلى ذلك سبيلا، فإن الناس لم يرضوا عن خالقهم ورازقهم فكيف يرضون عن مخلوق مثلهم ؟ وقال: كانوا يقولون: من رمى أخاه بذنب قد تاب منه لم يمت حتى يصيب ذلك الذنب.
وقال الحسن: قال لقمان لابنه: يا بني إياك والكذب فإنه شهي كلحم العصفور عما قليل يقلاه صاحبه.
وقال الحسن: اعتبروا الناس بأعمالهم ودعوا أقوالهم فإن الله عزوجل لم يدع قولا إلا جعل عليه دليلا من عمل يصدقه أو يكذبه، فإن سمعت قولا حسنا فرويدا بصاحبه، فإن وافق قول عملا فنعم ونعمت عين أخته وأخيه، وإذا خالف قول عملا فماذا يشبه عليك منه، أم ماذا يخفى عليك منه ؟ وإياك وإياه لا يخدعنك كما خدع ابن آدم، إن لك قولا وعملا، فعملك أحق بك من قولك، وإن لك سريرة وعلانية، فسريرتك أحق بك من علانيتك، وإن لك عاجلة وعاقبة، فعاقبتك أحق بك من عاجلتك.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا حمزة بن العباس، أنبأ عبدان بن عثمان، أنبأ معمر، عن يحيى بن المختار، عن الحسن قال: إذا شبت لقيت الرجل أبيض حديد اللسان، حديد النظر، ميت القلب والعمل، أنت أبصر به من نفسه، ترى أبدانا ولا قلوبا، وتسمع الصوت ولا أنيس، أخصب ألسنة وأجدب قلوبا، يأكل أحدهم من غير ماله ويبكي على عماله، فإذا كهضته البطنة قال: يا جارية أو يا غلام ايتني بهاضم، وهل هضمت يا مسكين إلا دينك ؟ وقال: من رق ثوبه رق دينه، ومن سمن جسده هزل دينه، ومن طاب طعامه أنتن كسبه.
وقال فيما رواه عنه الآجري: رأس مال المؤمن دين حيث ما زال زال معه، لا يخلفه في الرحال، ولا يأتمن عليه الرجال.
وقال في قوله تعالى: (فلا أقسم بالنفس اللوامة) [ القيامة: 2 ] قال: لا تلقى المؤمن إلا يلوم نفسه، ما أردت بكلمة كذا، ما أردت بأكله كذا، ما أردت بمجلس كذا، وأما الفاجر فيمضي قدما قدما لا يلوم نفسه.
وقال: تصبروا وتشددوا فإنما هي ليال تعد، وإنما أنتم ركب وقوف يوشك أن يدعى
__________
(1) في صفة الصفوة 3 / 234: لا تعيب.
(*)

(9/300)


أحدكم فيجيب ولا يلتفت، فانقلبوا بصالح ما بحضرتكم، إن هذا الحق أجهد الناس وحال بينهم
وبين شهواتهم، وإنما يصبر على هذا الحق من عرف فضله وعاقبته.
وقال: لا يزال العبد بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة من همته.
وقال ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس: حدثنا عبد الله، حدثنا إسماعيل بن زكريا، حدثنا عبد الله ابن المبارك، عن معمر، عن يحيى بن المختار عن الحسن قال: المؤمن قوام على نفسه يحاسب نفسه لله عزوجل، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على أقوام أخذوا هذا الامر من غير محاسبة، إن المؤمن يفجأه الشئ ويعجبه فيقول: والله إنك لمن حاجتي وإني لاشتهيك، ولكن والله ما من صلة إليك، هيهات حيل بيني وبينك، ويفرط منه الشئ فيرجع إلى نفسه فيقول: ما أردت إلى هذا أبدا إن شاء الله: إن المؤمنين قوم قد أوثقهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم، إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئا حتى يلقى الله عزوجل، يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وبصره ولسانه، وفي جوارحه كلها.
وقال: الرضا صعب شديد، وإنما معول المؤمن الصبر.
وقال: ابن آدم عن نفسك فكايس، فإنك إن دخلت النار لم تجبر بعدها أبدا.
وقال ابن أبي الدنيا: أنبأ إسحاق بن إبراهيم قال: سمعت حماد بن زيد يذكر عن الحسن قال: المؤمن في الدنيا كالغريب لا ينافس في غيرها ولا يجزع من ذلها، للناس حال وله حال، الناس منه راحة، ونفسه منه في شغل.
وقال: لولا البلاء ما كان في أيام قلائل ما يهلك المرء نفسه.
وقال: أدركت صدر هذه الامة وخيارها وطال عمري فيهم، فوالله إنهم كانوا فيما أحل الله لهم أزهد منكم فيما حرم الله عليكم، أدركتهم عاملين بكتاب ربهم، متبعين سنة نبيهم، ما طوى أحدهم ثوبا، ولا جعل بينه وبين الارض شيئا، ولا أمر أهله بصنع طعام، كان أحدهم يدخل منزله فإن قرب إليه شئ أكل وإلا سكت فلا يتكلم في ذلك.
وقال: إن المنافق إذا صلى صلى رياء أو حياء من الناس أو خوفا، وإذا صلى صلى فقرأهم الدنيا، وإن فاتته الصلاة لم يندم عليها ولم يحزنه فواتها.
وقال الحسن فيما رواه عنه صاحب كتاب النكت: من جعل الحمد لله على النعم حصنا وحابسا وجعل أداء الزكاة على المال سياجا وحارسا، وجعل العلم له دليلا وسائسا، أمن العطب، وبلغ
أعلى الرتب.
ومن كان للمال قانصا، وله عن الحقوق حابسا، وشغله وألهاه عن طاعة الله كان لنفسه ظالما ولقلبه بما جنت يداه كالما، وسلطه الله على ماله سالبا وخالسا، ولم يأمل العطب في سائر وجوه الطلب وقيل: إن هذا لغيره، والله أعلم.
وقال الحسن: أربع من كن فيه ألقى الله عليه محبته.
ونشر عليه رحمته: من رق لوالديه، ورق لمملوكه، وكفل اليتيم، وأعان الضعيف.
وسئل الحسن عن النفاق فقال: هو اختلاف السر والعلانية والمدخل والمخرج، وقال: ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق - يعني النفاق - وحلف

(9/301)


الحسن: ما مضى مؤمن ولا بقي إلا وهو يخاف النفاق، وفي رواية: إلا وهو من النفاق مشفق، ولا مضى منافق ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الحسن: كيف حبك الدينار والدرهم ؟ قال: لا أحبهما، فكتب إليه: تول فإنك تعدل.
وقال إبراهيم بن عيسى: ما رأيت أطول حزنا من الحسن، وما رأيته قط إلا حسبته حديث عهد بمصيبة، وقال مسمع: لو رأيت الحسن لقلت: قد بث عليه حزن الخلائق.
وقال يزيد بن حوشب: ما رأيت أحزن من الحسن وعمر بن عبد العزيز، كأن النار لم تخلق إلا لهما.
وقال ابن أسباط: مكث الحسن ثلاثين سنة لم يضحك، وأربعين سنة لم يمزح.
وقال: ما سمع الخلائق بعورة بادية، وعين باكية مثل يوم القيامة.
وقال: ابن آدم ! إنك ناظر غدا إلى عملك يوزن خيره وشره (1)، فلا تحقرن شيئا من الشر أن تتقيه، فإنك إذا رأيته غدا في ميزانك سرك مكانه.
وقال: ذهبت الدنيا وبقيت أعمالكم قلائد في أعناقكم وقال: ابن آدم ! بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعا، ولا تبع آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعا، وهذا مأثور عن لقمان أنه قال لولده.
وقال الحسن: تجد الرجل قد لبس الاحمر والابيض وقال: هلموا فانظروا إلي، قال الحسن: قد رأيناك يا أفسق الفاسقين فلا أهلا بك ولا سهلا، فأما أهل الدنيا فقد اكتسبوا بنظرهم إليك مزيد حرص على دنياهم، وجرأة على شهوات الغنى في بطونهم وظهورهم.
وأما أهل الآخرة فقد كرهوك ومقتوك.
وقال: إنهم وإن هملجت بهم البراذين، وزفرت بهم البغال، وطئت أعقابهم الرجال،
إن ذل المعاصي لا يفارق رقابهم، يأبى الله إلا أن يذل من عصاه.
وقال فرقد: دخلنا على الحسن فقلنا: يا أبا سعيد: ألا يعجبك من محمد بن الاهتم ؟ فقال: ماله ؟ فقلنا: دخلنا عليه آنفا وهو يجود بنفسه فقال: انظروا إلى ذاك الصندوق - وأومأ إلى صندوق في جانب بيته - فقال: هذا الصندوق فيه ثمانون ألف دينار - أو قال: درهم - لم أؤد منها زكاة، ولم أصل منها رحما، ولم يأكل منها [ محتاج ].
فقلنا: يا أبا عبد الله، فلمن كنت تجمعها ؟ قال: لروعة الزمان، ومكاثرة الاقران، وجفوة السلطان.
فقال: انظروا من أين أتاه شيطانه فخوفه روعة زمانه، ومكاثرة أقرانه، وجفوة سلطانه ؟ ثم قال: أيها الوارث: لا تخدعن كما خدع صويحبك بالامس، جاءك هذا المال لم تتعب لك فيه يمين، ولم يعرق لك فيه جبين، جاءك ممن كان له جموعا منوعا، من باطل جمعه، من حق منعه، ثم قال الحسن: إن يوم القيامة لذو حسرات، الرجل يجمع المال ثم يموت ويدعه لغيره فيرزقه الله فيه الصلاح والانفاق في وجوه البر، فيجد ماله في ميزان غيره.
وكان الحسن يتمثل بهذا البيت في أول النهار يقول:
__________
(1) كذا بالاصل، والعبارة مشوشة وفيه نقص ظاهر.
والعبارة في صفة الصفوة 3 / 235: فلا تحقرن من الخير شيئا وإن هو صغر فإنك إذا رأيته سرك مكانه ولا تحقرن من الشر شيئا فإنك إذا رأيته ساءك مكانه.
(*)

(9/302)


وما الدنيا بباقية لحي * ولا حي على الدنيا بباق وبهذا البيت في آخر النهار: يسر الفتى ما كان قدم من تقى * إذا عرف الداء الذي هو قاتله ولد الحسن في خلافة عمر بن الخطاب وأتى به إليه فدعا له وحنكه.
ومات بالبصرة في سنة عشر ومائة والله سبحانه وتعالى أعلم.
محمد بن سيرين أبو بكر بن أبي عمرو الانصاري، مولى أنس بن مالك النضري، كان أبوه من سبي عين التمر أسره في جملة السبي خالد بن الوليد فاشتراه أنس ثم كاتبه.
وقد ولد له من الاخيار جماعة، محمد،
هذا، وأنس بن سيرين، ومعبد، ويحيى، وحفصة، وكريمة، وكلهم تابعيون ثقات أجلاء، رحمهم الله تعالى.
قال البخاري: ولد محمد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان.
وقال هشام بن حسان: هو أصدق من أدركت من البشر.
وقد تقدم هذا كله فيما ذكره المؤلف.
كان ابن سيرين إذا ذكر عنده رجل بسوء ذكره بأحسن ما يعلم.
وقال خلف بن هشام: كان محمد بن سيرين قد أعطى هديا وسمتا وخشوعا، وكان الناس إذا رأوه ذكروا الله.
ولما مات أنس بن مالك أوصى أن يغسله محمد بن سيرين - وكان محمد محبوسا - فقالوا له في ذلك، فقال: أنا محبوس فقالوا: قد استأذنا الامير في إخراجك، قال: إن الامير لم يحبسني، إنما حبسني من له الحق، فأذن له صاحب الحق فغسله.
وقال يونس: ما عرض لمحمد بن سيرين أمران إلا أخذ بأوثقهما في دينه، وقال: إني لاعلم الذنب الذي حملت بسببه، إني قلت يوما لرجل: يا مفلس، فذكر هذا لابي سليمان الداراني فقال: قلت ذنوبهم فعرفوا من أين أتوا.
ومثلنا قد كثرت ذنوبنا فلم ندر من أين نؤتي، ولا بأي ذنب نؤخذ.
وكان إذا دعي إلى وليمة يدخل منزله فيقول: ايتوني بشربة سويق فيشربها ويقول: إني أكره أن أحمل جوعي إلى موائدهم وطعامهم: وكان يدخل السوق نصف النهار فيكبر الله ويسبحه ويذكره ويقول: إنها ساعة غفلة الناس، وقال: إذا أراد الله بعبد خيرا جعل له واعظا من قلبه يأمره وينهاه.
وقال: ظلم لاخيك أن تذكر منه أسوأ ما تعلم منه وتكتم خيره.
وقال: العزلة عبادة، وكان إذا ذكر الموت مات منه كل عضو على حدته.
وفي رواية كان يتغير لونه وينكر حاله، حتى كأنه ليس بالذي كان، وكان إذا سئل عن الرؤيا قال للسائل: اتق الله في اليقظة ولا يغرك ما رأيت في المنام.
وقال له رجل: رأيت كأني أصب الزيت في الزيتون، فقال: فتش على امرأتك فإنها أمك، ففتش فإذا هي أمه.
وذلك أن الرجل أخذ من بلاده صغيرا سبيا ثم

(9/303)


مكث في بلاد الاسلام إلى أن كبر، ثم سبيت أمه فاشتراها جاهلا أنها أمه، فلما رأى هذه الرؤيا وذكرها لابن سيرين فأمره أن يفتش على ذلك، ففتش فوجد الامر على ما ذكره.
وقال له آخر:
رأيت كأني دست - أو قال وطئت - تمرة فخرجت منها فأرة، فقال له: تتزوج امرأة - أو قال: تطأ امرأة - صالحة تلد بنتا فاسقة، فكان كما قال.
وقال له آخر: رأيت كأن على سطح بيتي حبات شعير فجاء ديك فلقطها، فقال له: إن سرق لك شئ في هذه الايام فأتني.
فوضعوا بساطا على سطحهم فسرق، فجاء إليه فأخبره، فقال: اذهب إلى مؤذن محلتك فخذه منه، فجاء إلى المؤذن فأخذ البساط منه.
وقال له رجل: رأيت الحمام تلقط الياسمين.
فقال: مات علماء البصرة.
وأتاه رجل فقال: رأيت رجلا عريانا واقفا على مزبلة وبيده طنبور يضرب به، فقال له ابن سيرين: لا تصلح هذه الرؤيا في زماننا هذا إلا للحسن البصري، فقال: الحسن هو والله الذي رأيت.
فقال: نعم، لان المزبلة الدنيا وقد جعلها تحت رجليه، وعريه تجرده عنها، والطنبور يضرب به هي المواعظ التي يقرع بها آذان الناس.
وقال له آخر: رأيت كأني أستاك والدم يسيل.
فقال له: أنت رجل تقع في أعراض الناس وتأكل لحومهم وتخرج في بابه وتأتيه (1).
وقال له آخر: رأيت كأني أرى اللؤلؤ في الحمأة، فقال له: أنت رجل تضع القرآن والعلم عند غير أهله ومن لا ينتفع به.
وجاءته امرأة فقالت: رأيت كأن سنورا أدخل رأسه في بطن زوجي فأخذ منه قطعة، فقال لها ابن سيرين: سرق لزوجك ثلاثمائة درهم، وستة عشر درهما، فقالت: صدقت من أين أخذته ؟ فقال: من هجاء حروفه وهي حساب الجمل، فالسين ستون، والنون خمسون، والواو ستة والراء مائتان، وذلك ثلاثمائة وستة عشر، وذكرت السنور أسود فقال: هو عبد في جواركم، فالزموا عبدا أسود كان في جوارهم وضرب فأقر بالمال المذكور.
وقال له رجل: رأيت لحيتي قد طالت وأنا أنظر إليها.
فقال له أمؤذن أنت ؟ قال: نعم ! قال له: اتق الله ولا تنظر إلى دور الجيران.
وقال له آخر: رأيت كأن لحيتي قد طالت حتى جززتها ونسجتها كساء وبعته في السوق.
فقال له: اتق الله فإنك شاهد زور.
وقال له آخر: رأيت كأني آكل أصابعي، فقال له تأكل من عمل يدك.
وقال لرجل انظر هل ترى في المسجد أحدا ؟ فذهب فنظر ثم رجع إليه فقال: ليس في المسجد أحد، فقال: أليس أمرتك أن تنظر هل ترى أحدا قد يكون في المسجد من الامراء (2) ؟.
وقال عن رجل ذكر له: ذلك الاسود ؟ ثم قال: أستغفر الله ! ما أراني إلا قد اغتبت الرجل - وكان
الرجل أسود.
وقال: اشترك سبعة في قتل امرأة فقتلهم عمر، فقال لو أن أهل صنعاء اشتركوا في قتلها لابدت خضراءهم.
__________
(1) كذا بالاصل، وفيه تحريف.
(2) كذا بالاصل وفيه تحريف.
(*)

(9/304)


وهيب بن منبه اليماني تابعي جليل، وله معرفة بكتب الاوائل، وهو يشبه كعب الاحبار، وله صلاح وعبادة، ويروى عنه أقوال حسنة وحكم ومواعظ، وقد بسطنا ترجمته في كتابنا التكميل ولله الحمد.
قال الواقدي: توفي بصنعاء سنة عشر ومائة، وقال غيره: بعدها بسنة، وقيل بأكثر، والله أعلم.
ويزعم بعض الناس أن قبره غربي بصرى بقرية يقال لها عصم (1)، ولم أجد لذلك أصلا، والله أعلم انتهى ما ذكره المؤلف.
فصل أدرك وهب بن منبه عدة من الصحابة، وأسند عن ابن عباس وجابر والنعمان بن بشير.
وروى عن معاذ بن جبل وأبي هريرة، وعن طاوس.
وعنه من التابعين عدة (2).
وقال وهب: مثل من تعلم علما لا يعمل به كمثل طبيب معه شفاء لا يتداوى به.
وعن منير مولى الفضل بن أبي عياش قال: كنت جالسا مع وهب بن منبه فأتاه رجل فقال له: إني مررت بفلان وهو يشتمك، فغضب وقال: ما وجد الشيطان رسولا غيرك ؟ فما برحت من عنده حتى جاءه ذلك الشاتم فسلم على وهب فرد عليه السلام، ومد يده إليه وصافحه وأجلسه إلى جنبه.
وقال ابن طاوس: سمعت وهبا يقول: ابن آدم احتل لدينك فإن رزقك سيأتيك.
وقال وهب: كسي أهل النار والعرى كان خيرا لهم، وطعموا والجوع كان خيرا لهم، وأعطوا الحياة والموت كان خيرا لهم.
وقال داود عليه السلام: اللهم أيما فقير سأل غنيا فتصام عنه، فأسألك إذا دعاك فلا تجبه، وإذا سألك فلا تعطه.
وقال: قرأت في بعض كتب الله: ابن آدم، لا خير لك في أن تعلم ما لم تعلم، ولم تعمل بما قد علمت،
فإن مثلك كمثل رجل احتطب حطبا فحزم حزمة فذهب يحملها فعجز عنها فضم إليها أخرى.
وقال: إن لله ثمانية عشر ألف عالم، الدنيا منها عالم واحد، وما العمارة في الخراب إلا كفسطاط في الصحراء.
وروى الطبراني عنه أنه قال: إذا أردت أن تعمل بطاعة الله عزوجل فاجتهد في نصحك وعملك لله، فإن العمل لا يقبل ممن ليس بناصح، والنصح لله لا يكمل إلا بطاعة الله، كمثل الثمرة الطيبة ريحها وطعمها، كذلك مثل طاعة الله، النصح ريحها، والعمل طعمها، ثم زين طاعتك بالحلم والعقل، والفقه والعمل، ثم أكبر نفسك عن أخلاق السفهاء وعبيد الدنيا، وعبدها على أخلاق الانبياء والعلماء العاملين، وعودها فعل الحكماء، وامنعها عمل الاشقياء، وألزمها سيرة
__________
(1) في طبقات ابن سعد 5 / 543: مات بصنعاء.
وانظر صفة الصفوة 2 / 296.
وابن خلكان 6 / 36.
(2) منهم: عمرو بن دينار وأبان بن أبي عياش وموسى بن عقبة ووهب ابن اخيه عبد الصمد واسراءيل أبو موسى والسماك بن فضل وعوف الاعرابي.
(تذكرة الحفاظ 1 / 101.
صفة الصفوة 2 / 296).
(*)

(9/305)


الاتقياء واعزبها عن سبل الخبثاء، وما كان لك من فضل فأعن به من دونك، وما كان فيمن دونك من نقص فأعنه عليه حتى يبلغه، فإن الحكيم من جمع فواضله وعاد بها على من دونه، وينظر في نقائص من دونه فيقويها ويرجيها حتى يبلغه، إن كان فقيها حمل من لا فقه له إذا رأى أنه يريد صحابته ومعونته وإذا كان له مال أعطى منه من لا مال له، وإذا كان مصلحا استغفر للمذنب ورجا توبته، وإذا كان محسنا أحسن إلى من أساء إليه واستوجب بذلك أجره، ولا يعتر بالقول حتى يحسن منه الفعل، فإذا أحسن الفعل نظر إلى فضل الله وإحسانه إليه، ولا يتمنى الفعل حتى يفعله، فإذا بلغ من طاعة الله مبلغا حمد الله على ما بلغ منها ثم طلب ما لم يبلغ منها، وإذا ذكر خطيئة سترها عن الناس واستغفر الله الذي هو قادر على أن يغفرها، وإذا علم من الحكمة شيئا لم يشبعه بل يطلب ما لم يبلغ منها، ثم لا يستعين بشئ من الكذب، فإن الكذب كالاكلة في الجسد تكاد تأكله، أو كالاكلة في الخشب، يرى ظهرها حسنا وجوفها نخر تغر من يراها حتى تنكسر على ما فيها وتهلك من اغتر بها.
وكذلك الكذب في الحديث لا يزال صاحبه يغتر به، يظن أنه معينه على حاجته ورائد له في رغبته، حتى يعرف ذلك منه، ويتبين لذوي العقول غروره، فتستنبط الفقهاء ما كان يستخفي به عنه، فإذا اطلعوا على ذلك من أمره وتبين لهم، كذبوا خبره، وأباروا شهادته، واتهموا صدقه، وحقروا شأنه، وأبغضوا مجلسه، واستخفوا منه بسرائرهم، وكتموه حديثهم، وصرفوا عنه أماناتهم، وغيبوا عنه أمرهم، وحذروه على دينهم ومعيشتهم، ولم يحضروه شيئا من محاضرتهم، ولم يأمنوه على شئ من سرهم، ولم يحكموه فيما شجر بينهم.
وروى عبد المنعم بن إدريس عن أبيه عن وهب قال: قال لقمان لابنه: إن مثل أهل الذكر والغفلة كمثل النور والظلمة.
وقال: قرأت في التوراة أربعة أسطر متواليات: من قرأ كتاب الله فظن أنه لا يغفر له فهو من المستهزئين بآيات الله، ومن شكا مصيبة نزلت به فإنما يشكو ربه عز وجل، ومن أسف على ما فاته من الدنيا سخط قضاء ربه عز وجل، ومن تضعضع لغني ذهب ثلث دينه.
وقال وهب: قرأت في التوراة: أيما دار بنيت بقوة الضعفاء جعلت عاقبتها إلى الخراب، وأيما مال جمع من غير حله أسرع الفقر إلى أهله.
وقال عبد الله بن المبارك: حدثنا معمر، عن محمد بن عمرو قال: سمعت وهب بن منبه يقول: وجدت في بعض الكتب: يقول الله تعالى: إذا أطاعني عبدي استجبت له من قبل أن يدعوني، وأعطيته من قبل أن يسألني، وإن عبدي إذا أطاعني لو أن أهل السموات وأهل الارض أجلبوا عليه جعلت له المخرج من ذلك، وإن عبدي إذا عصاني قطعت يديه من أبواب السماء، وجعلته في الهواء فلا يمتنع من شئ أراده من خلقي.
وقال ابن المبارك أيضا: حدثنا بكار بن عبد الله قال: سمعت وهب بن منبه يقول: قال الله تعالى فيما يعيب به أحبار بنى إسرائيل: تفقهون لغير الدين، وتتعلمون لغير العمل، وتبتاعون الدنيا بعمل الآخرة، وتلبسون جلود الضأن، وتحملون

(9/306)


نفس الذباب، وتتغذون الغداء من شرابكم، وتبتلعون أمثال الجبال من الحرام، وتثقلون الدين على الناس أمثال الجبال، ثم لا تعينوهم برفع الخناصر، وتبتلعون الصلاة وتبيضون الثياب،
تنتقصون بذلك مال اليتيم والارملة، فبعزتي حلفت لاضربنكم بفتنة يضل فيها رأي ذي الرأي وحكمة الحكيم.
وقال الطبراني: حدثنا عبد الله بن محمد الصنعاني، حدثنا همام بن مسلمة، حدثنا غوث بن جابر، حدثنا عقيل بن معقل قال: سمعت وهب بن منبه يقول: إن الله ليس يحمد أحدا على طاعة، ولا ينال أحد من الله خيرا إلا برحمته، وليس يرجو الله خير الناس ولا يخاف شرهم، ولا يعطف الله على الناس إلا برحمته إياهم، إن مكروا به أباد مكرهم، وإن خادعوه رد عليهم خداعهم، وإن كاذبوه كذب بهم، وإن أدبروا قطع دابرهم، وإن أقبلوا قبل منهم ولا يقبل منهم شيئا من حيلة، ولا مكر ولا خداع ولا سخط ولا مشادة، وإنما يأتي بالخير من الله تعالى رحمته، ومن لم يبتغ الخير من قبل رحمته لا يجد بابا غير ذلك يدخل منه، فإن الله تعالى لا ينال الخير منه إلا بطاعته، ولا يعطف الله على الناس شئ إلا تعبدهم له، وتضرعهم إليه حتى يرحمهم، فإذا رحمهم استخرجت رحمته منه حاجتهم، وليس ينال الخير من الله من وجه غير ذلك، وليس إلى رحمة الله سبيل تؤتى من قبله إلا تعبد العباد له وتضرعهم إليه، فإن رحمة الله عزوجل باب كل خير يبتغى من قبله، وإن مفتاح ذلك الباب التضرع إلى الله عزوجل والتعبد له، فمن ترك المفتاح لم يفتح له، ومن جاء بالمفتاح فتح له به، وكيف يفتح الباب بغير مفتاح، ولله خزائن الخير كله، وباب خزائن الله رحمته، ومفتاح رحمة الله التذلل والتضرع والافتقار إلى الله، فمن حفظ ذلك المفتاح فتحت له الخزائن ودخل، فله فيها ما تشتهي الانفس وتلذ الاعين وفيها ما تشاؤون وما تدعون في مقام أمين، لا يحولون عنه ولا يخافون ولا ينصبون ولا يهرمون ولا يفتقرون ولا يموتون، في نعيم مقيم، وأجر عظيم، وثواب كريم، نزلا من غفور رحيم.
وقال سفيان بن عيينة: قال وهب: أعون الاخلاق على الدين الزهادة في الدنيا، وأسرعها ردا اتباع الهوى وحب المال والشرف، ومن حب المال والشرف تنتهك المحارم، ومن انتهاك المحارم بغضب الرب، وغضب الله ليس له دواء.
وقال: يقول الله تعالى في بعض كتبه يعتب به بني إسرائيل: إني إذا أطمعت رضيت، وإذا رضيت باركت، وليس لبركتي نهاية، وإذا عصيت غضبت
وإذا غضبت لعنت، وإن اللعنة متى تبلغ السابع من الولد.
وقال: كان في بني إسرائيل رجل عصى الله عزوجل مائتي سنة، ثم مات فأخذوا برجله فألقوه على مزبلة، فأوحى الله إلى موسى: ان صل عليه، فقال: يا رب إن بني إسرائيل شهدوا أنه قد عصاك مائتي سنة، قال الله له: نعم هكذا كان، إلا أنه كان كلما نشر التوراة ورأى اسم محمد (صلى الله عليه وسلم) قبله ووضعه على عيينه وصلى عليه فشكرت ذلك له فغفرت له ذنوبه وزوجته سبعين حوراء.
كذا روي وفيه علل، ولا يصح مثله

(9/307)


وفي إسناده غرابة وفي متنه نكارة شديدة.
وروى ابن ادريس عن أبيه عن وهب قال: قال موسى: يا رب احبس عني كلام الناس، فقال الله له: يا موسى ما فعلت هذا بنفس: وقال لما دعي يوسف إلى الملك وقف بالباب وقال: حسبي ديني من دنياي، حسبي ربي من خلقه، عز جارك وجل ثناؤك، ولا إله غيرك ثم دخل على الملك، فلما نظر إليه الملك نزل عن سريره وخر له ساجدا ثم أقعده الملك معه على السرير، وقال: (إنك اليوم لدينا مكين أمين) [ يوسف: 54 ] فقال: (اجعلني على خزائن الارض إني حفيظ عليم) [ يوسف: 55 ] حفيظ بهذه السنين وما استودعتني فيها، عليم بلغة من يأتيني.
وقال الامام أحمد: حدثنا منذر بن النعمان الافطس أنه سمع وهبا يقول: لما أمر الله الحوت أن لا يضره ولا يكلمه - يعني يونس - قال: (فلو لا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون) [ الصافات: 143 - 145 ] قال: من العابدين قبل ذلك، فذكره الله بعبادته المتقدمة، فلما خرج من البحر نام فأنبت الله شجرة من يقطين - وهو الدباء - فلما رآها قد أظلته ورأى خضرتها فأعجبته، ثم نام فاستيقظ فإذا هي قد يبست، فجعل يتحزن عليها، فقيل له: أنت لم تخلق ولم تسق ولم تنبت وتحزن عليها، وأنا الذي خلقت مائة ألف من النار أو يزيدون ثم رحمتهم فشق ذلك عليك.
وقال الامام أحمد: حدثنا إبراهيم بن خالد الغساني، حدثنا رباح، حدثني عبد الملك بن عبد المجيد بن خشك، عن وهب قال: لما أمر نوح أن يحمل من كل زوجين اثنين، قال: يا رب
كيف أصنع بالاسد والبقر ؟ وكيف أصنع بالعناق والذئب ؟ وكيف أصنع بالحمام والهر ؟ قال: من ألقى بينهم العداوة ؟ قال: أنت يا رب، قال: فإني أؤلف بينهم حتى لا يتضرون.
وقال وهب لعطاء الخراساني: ويحك يا عطاء، ألم أخبر أنك تحمل علمك إلى أبواب الملوك وأبناء الدنيا، وأبواب الامراء ؟ ويحك يا عطاء، أتأتي من يغلق عنك بابه، ويظهر لك فقره، ويواري عنك غناه، وتترك باب من يقول: (ادعوني أستجب لكم) ؟ [ غافر: 60 ] ويحك يا عطاء، إن كان يغنيك ما يكفيك فأوهى ما في الدنيا يكفيك، وإن كان لا يغنيك ما يكفيك فليس في الدنيا شئ يكفيك، ويحك يا عطاء، إنما بطنك بحر من البحور، وواد من الاودية، لا يملاه شئ إلا التراب.
وسئل وهب عن رجلين يصليان، أحدهما أطول قنوتا وصمتا، والآخر أطول سجودا، فأيهما أفضل ؟ فقال: أنصحهما لله عزوجل.
وقال: من خصال المنافق أن يحب الحمد ويكره الذم، أي يحب أن يحمد على ما لم يفعل، ويكره أن يذم بما فيه.
قال: وقال لقمان لابنه: يا بني اعقل عن الله فإن أعقل الناس من عقل عن الله، وإن الشيطان ليفر من العاقل ما يستطيع أن يكايده.
وقال لرجل من جلسائه: ألا أعلمك طبا لا يتعايا (1) فيه الاطباء، وفقها لا يتعايا فيه
__________
(1) يتعايا: من أعيا عليه الامر أي صعب.
(*)

(9/308)


الفقهاء، وحلما لا يتعايا فيه الحلماء، قال: بلى يا أبا عبد الله، قال: أما الطب فلا تأكل طعاما إلا سميت الله على أوله وحمدته على آخره، وأما الفقه فإن سئلت عن شئ عندك فيه علم فأخبر بما تعلم وإلا فقل: لا أدري، وأما الحلم فأكثر الصمت إلا أن تسأل عن شئ.
وقال: إذا كان الصبي خلقان، الحياء والرهبة، طمع في رشده.
وقال: لما بلغ ذو القرنين مطلع الشمس قال له ملك هناك: صف لي الناس، فقال محادثتك من لا يعقل كمن يغني الموتى، ومحادثتك من لا يعقل كمن يبل الصخر الاصم كي يلين، وكمن يطبخ الحديد يلتمس أدمه، ومحادثتك من لا يعقل كمن يضع المائدة لاهل القبور، ونقل الحجارة من رؤوس الجبال أيسر من محادثة من لا يعقل.
وقال: قرأت في بعض الكتب أن مناديا ينادي من السماء
الرابعة كل صباح: أبناء الاربعين زرع قد دنا حصاده، أبناء الخمسين ماذا قدمتم ؟ أبناء الستين لا عذر لكم، ليت الخلق لم يخلقوا، وليتهم إذا خلقوا علموا لماذا خلقوا، قد أتتكم الساعة فخذوا حذركم.
وقال: قال دانيال: يا لهفي على زمن يلتمس فيه الصالحون فلا يوجد منهم أحد، إلا كالسنبلة في أثر الحاصد، أو كالخصلة في أثر القاطف، يوشك نوائح أولئك وبواكيهم أن تبكيهم.
وروى عبد الرزاق عن عبد الصمد بن معقل.
قال: سمعت وهبا يقول في قوله تعالى: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة) [ الانبياء: 47 ] قال: إنما يوزن من الاعمال خواتيمها، وإذا أراد الله بعبد خيرا ختم له بخير عمله.
وإذا أراد الله بعبد شرا ختم له بشر عمله.
وقال وهب: إن الله تعالى لما فرغ من الخلق نظر إليهم حين مشوا على وجه الارض فقال: أنا الله لا إله إلا أنا الذي خلقتكم وأفنيكم بحكمي حق قضائي ونافذ أمري، أنا أعيدكم كما خلقتكم، وأفنيكم حتى أبقى وحدي، فإن الملك والخلود لا يحق إلا لي، أدعو خلقي وأجمعهم بقضائي، يوم أحشر أعدائي، وتجل القلوب من هيبتي.
وتتبرأ الآلهة ممن عبدها دوني.
قال: وذكر وهب أن الله لما فرغ من خلقه يوم الجمعة أقبل يوم السبت فمدح نفسه بما هو أهله وذكر عصمته وجبروته وكبرياءه وسلطانه وقدرته وملكه وربوبيته، فأنصت كل شئ وأطرق له، فقال: أنا الملك لا إله إلا أنا ذو الرحمة الواسعة والاسماء الحسنى، أنا الله لا إله إلا أنا ذو العرش المجيد والامثال العلا، أنا الله لا إله إلا أنا ذو الطول والمن والآلاء والكبرياء، أنا الله لا إله إلا أنا بديع السموات والارض، ملات كل شئ عظمتي، وقهر كل شئ ملكي، وأحاطت بكل شئ قدرتي، وأحصى كل شئ علمي، ووسعت كل شئ رحمتي، وبلغ كل شئ لطفي، فأنا الله يا معشر الخلائق فاعرفوا مكاني، فليس شئ في السموات والارضين إلا أنا، وخلقي كلهم لا يقوم ولا يدوم إلا بي، ويتقلب في قبضتي، ويعيش برزقي، وحياته وموته وبقاؤه وفناؤه بيدي، فليس له محيص ولا ملجأ غيري، لو تخليت عنه طرفة عين لدمر كله، وكنت أنا على حالي لا ينقصني ذلك شيئا، ولا ينقص ذلك ملكي شيئا، وأنا مستغن بالعز كله في جبروتي وملكي، وبرهان نوري،

(9/309)


وشديد بطشي، وعلو مكاني وعظمة شأني، فلا شئ مثلي، ولا إله غيري، وليس ينبغي لشئ خلقته أن يعدل بي ولا ينكرني، وكيف ينكرني من خلقته يوم خلقته على معرفتي ؟ أم كيف يكابرني من قهر قهره ملكي ؟ أم كيف يعجزني من ناصيته بيدي ؟ أم كيف يعدل بي من أعمره وأسقم جسمه وأنقص عقله وأتو في نفسه وأخلقه وأهرمه فلا يمتنع مني ؟ أم كيف يستنكف عن عبادتي عبدي وابن عبدي وابن أمتي، ومن لا ينسب إلى خالق ولا وارث غيري ؟ أم كيف يعبد دوني من تخلقه الايام، ويفني أجله اختلاف الليل والنهار ؟ وهما شعبة يسيرة من سلطاني ؟ فإلي إلي يا أهل الموت والفناء، لا إلى غيري، فإني كتبت الرحمة علي نفسي وقضيت العفو والمغفرة لمن استغفرني، أغفر الذنوب جميعا، صغيرها وكبيرها لمن استغفرني، ولا يكبر ذلك علي ولا يتعاظمني، فلا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ولا تقنطوا من رحمتي، فإن رحمتي سبقت غضبي، وخزائن الخير كلها بيدي، ولم أخلق شيئا مما خلقت لحاجة كانت مني إليه، ولكن لابين به قدرتي، ولينظر الناظرون في ملكي، ويتدبروا حكمتي، وليسبحوا بحمدي ويعبدوني لا يشركوا بي شيئا، ولتعنو (1) الوجوه كلها إلي.
وقال أشرس عن وهب قال: قال داود: إلهي أين أجدك ؟ قال عند المنكسرة قلوبهم من مخافتي.
وقال كان رجل من بني إسرائيل صام سبعين أسبوعا يفطر في كل يوما وهو يسأل الله أن يريه كيف يغوي الشيطان الناس، فلما أن طال ذلك عليه ولم يجب، قال في نفسه: لو أقبلت على خطيئتي وعلى ذنوبي وما بيني وبين ربي لكان خيرا من هذا الامر الذي أطلب، ثم أقبل على نفسه فقال: يا نفس من قبلك أتيت، لو علم الله فيك خيرا لقضى حاجتك.
فأرسل الله ملكا إلى نبيهم: أن قل لفلان العابد: إزراؤك على نفسك وكلامك الذي تكلمت به، أعجب إلي مما مضى من عبادتك، وقد أجاب الله سؤالك، وفتح بصرك فانظر الآن، فنظر فإذا أحبولة لابا قد أحاطت بالارض، وإذا ليس أحد من بني آدم إلا وحوله شياطين مثل الذباب، فقال: إي رب.
ومن ينجو من هؤلاء ؟ قال صاحب القلب الوادع اللين.
وقال وهب: كان رجل من السائحين فأتى على أرض فيها قثاء فدعته نفسه إلى أخذ شئ منه، فعاقبها فقام مكانه يصلي ثلاثة أيام، فمر به رجل وقد لوحته الشمس والريح، فلما نظر إليه قال:
سبحان الله ! ! لكأنما أحرق هذا الانسان بالنار، فقال السائح: هكذا بلغ مني ما ترى خوف النار، فكيف بي لو قد دخلتها ؟ ! وقال: كان رجل من الاولين أصاب ذنبا فقال: لله علي أن لا يظلني سقف بيت أبدا حتى تأتيني براءة من النار، فكان بالصحراء في الحر والقر، فمر به رجل فرأى شدة حاله فقال: يا عبد الله ما بلغ بك ما أرى ؟ فقال: بلغ ما ترى ذكر جهنم، فكيف بي إذا أنا وقعت فيها ! ؟.
وقال: لا
__________
(1) ولتعنو: أي لتخضع.
(*)

(9/310)


يكون البطال من الحكماء أبدا، ولا يرث الزناة من ملكوت السماء.
وقال وهب في موعظته: اليوم يعظ السعيد، ويستكثر من منافعه اللبيب، يابن آدم إنما جمعت من منافع هذا اليوم لدفع ضرر الجهالة عنك، وإنما أوقدت فيه مصابيح الهدى لتنبه لحزبك، فلم أر كاليوم ضل مع نوره متحير داع لمداواة سليم، يابن آدم ! إنه لا أقوى من خالق، ولا أضعف من مخلوق، ولا أقدر ممن طلبته في يده، ولا أضعف ممن هو في يد طالبه، يا بن آدم إنه قد ذهب منك ما لا يرجع إليك، وأقام عندك (1) ما سيذهب، فما الجزع مما لا بد منه ؟ وما الطمع فيما لا يرتجى ؟ وما الحيلة في بقاء ما سيذهب ؟ يا بن آدم أقصر عن طلب ما لا تدرك، وعن تناول ما لا تناله، وعن ابتغاء ما لا يوجد.
واقطع الرجاء عنك كما قعدت به (2) عنك الاشياء، واعلم أنه رب مطلوب هو شر لطالبه، يا بن آدم إنما الصبر عند المصيبة، وأعظم من المصيبة سوء الخلق منها، يا بن آدم أي أيام الدهر ترتحبى ؟ يوم يجئ في عتم (3) أو يوم تستأخر عاقبته عن أوان مجيئه ؟ فانظر إلى الدهر تجده ثلاثة أيام: يوم مضى لا ترجوه، ويوم لا بد منه، ويوم يجئ لا تأمنه، فأمس شاهد عليك مقبول، وأمين مؤد، وحكيم مؤدب، قد فجعك بنفسه، وخلف فيك حكمته.
واليوم صديق مودع، كان طويل الغيبة عنك، وهو سريع الظعن إياك (4) ولم يأته، وقد مضى قبله شاهد عدل، فإن كان ما فيه لك فاشفعه بمثله أوثق لك باجتماع شهادتهما عليك.
يا بن آدم إنما أهل الدينا سفر لا يحلون عقد رحالهم إلا في غيرها، وإنما يتبلغون بالعواري فما أحسنه - يعني الشكر - للمنعم والتسليم للمعاد، يا بن آدم إنما الشئ من مثله
وقد مضت قبلنا أصول نحن فروعها، فما بقاء الفرع بعد ذهاب أصله ؟ ! إنما يقر الفرع بعد الاصل، يا بن آدم إنه لا أعظم رزية في عقله ممن ضيع اليقين وأخطأ العمل.
أيها الناس ! إنما البقاء بعد الفناء، وقد خلقنا ولم نكن، وسنبلى ثم نعود، ألا وإنما العواري اليوم والهنات غدا، ألا وإنه قد تقارب منا سلب فاحش، أو عطاء جزيل، فأصلحوا ما تقدمون عليه بما تظعنون عنه.
أيها الناس ! ! إنما أنتم في هذه الدنيا غرض تنتضل فيه المنايا، وإن ما أنتم فيه من دنياكم نهب للمصائب، لا تنالون فيها نعمة إلا بفراق الاخرى، ولا يستقبل منكم معمر يوما من عمره إلا بهدم آخر من أجله، ولا يتخذ له زيادة في ماله إلا بنفاد ما قبله من رزقه، ولا يحيى له أثر إلا مات له أثر.
نسأل الله أن يبارك لنا ولكم فيما مضى من هذه العظة.
وقال قتيبة بن سعيد: حدثنا كثير بن هشام، حدثنا جعفر بن مروان، عن وهب بن منبه.
__________
(1) في صفة الصفوة 2 / 291: معك.
(2) في صفة الصفوة: عما فقدت من الاشياء.
(3) في صفة الصفوة: أيوما يجئ في غرة.
(4) أتاك ولم تأته (صفة الصفوة 2 / 292).
(*)

(9/311)


عن الطريق ولم تستقم (1) لسائقها، وإن فتر سائقها حزنت، ولم تتبع قائدها: فإذا اجتمعا استفامت طوعا أو كرها، ولا تستطيع الدين إلا بالطوع والكره، وإن كان كلما كره الانسان شيئا من دينه تركه، أوشك أن لا يبقى معه من دينه شئ.
وقال وهب: إن من حكمة الله عزوجل أنه خلق الخلق مختلفا خلقه ومقاديره، فمنه خلق يدوم ما دامت الدنيا، لا تنقصه الايام ولا تهرمه وتبليه ويموت، ومنه خلق لا يطعم ولا يرزق، ومنه خلق يطعم ويرزق، خلقه الله وخلق معه رزقه، ثم خلق الله من ذلك خلقا في البر وخلقا في البحر، ثم جعل رزق ما خلق في البحر وفي البر، ولا ينفع رزق دواب البر دواب البحر، ولا رزق دواب البحر داب البر، لو خرج ما في البحر إلا البر هلك، ولو دخل ما في البر إلى البحر هلك، ففي ذلك ممن خلق الله في البر والبحر عبرة لمن أهمته قسمة
الارزاق والمعيشة فليعتبر ابن آدم فيما قسم الله من الارزاق، فإنه لا يكون فيها شئ إلا كما قسمه سبحانه بين خلقه، لا يستطيع أحد أن يغيرها ولا أن يخلطها، كما لا تستطيع دواب البر أن تعيش بأرزاق دواب البحر، ولا دواب البحر بأرزاق دواب البر، ولو اضطرت إليه هلكت كلها، فإذا استقرت كل دابة منها فيما رزقت أصلحها ذلك وأحياها، وكذلك ابن آدم إذا استقر وقنع بما قسم الله له من رزقه أحياه ذلك وأصلحه، فإذا تعاطى رزق غيره نقصه ذلك وضره وفضحه.
وقال لعطاء الخراساني: كان العلماء قبلكم قد استغنوا بعلمهم عن دنيا غيرهم، فكانوا لا يلتفتون إلى أهل الدنيا، ولا إلى ما في أيديهم، فكان أهل الدنيا يبذلون إليهم دنياهم رغبة في علمهم، فأصبح أهل العلم فينا اليوم يبذلون لاهل الدنيا علمهم رغبة في الدنيا، فأصبح أهل الدنيا قد زهدوا في علمهم لما رأوا من سوء موضعه عندهم، فإياك يا عطاء وأبواب السلطان فإن عند أبوابهم فتنا كمبارك الابل، لا تصيب من دنياهم شيئا إلا أصابوا من دينك مثله.
وقال إبراهيم الجنيد: حدثنا عبد الله بن أبي بكر المقدمي، حدثنا جعفر بن سليمان، حدثنا عمر بن عبد الرحمن الصنعاني قال: سمعت وهب بن منبه يقول: لقي عالم عالما هو فوقه في العلم، فقال: كيف صلاتك ؟ فقال: ما أحسب أحدا سمع بذكر الجنة والنار يأتي عليه ساعة لا يصلي فيها، قال: فكيف ذكرك للموت ؟ قال: ما أرفع قدما ولا أضع أخرى إلا رأيت أني ميت.
فقال: فكيف صلاتك أنت أيها الرجل ؟ فقال: إني لاصلي وأبكي حتى ينبت العشب من دموعي، فقال العالم: أما أنك إن تضحك وأنت معترف بخطيئتك خير لك من أن تبكي وأنت مدل بعلمك، فإن المدل لا يرفع له عمل فقال: أوصني فإني أراك حكيما، فقال أزهد في الدنيا ولا تنازع أهلها فيها، وكن فيها كالنخلة، إن أكلت أكلت طيبا، وإن وضعت وضعت طيبا، وإن وقعت على عدو لم تكسره، وانصح لله نصح الكلب لاهله، فإنهم يجيعونه ويطردونه ويضربونه وهو يأبى إلا أن يحوطهم ويحفظهم، وينصح لهم.
فكان وهب إذا ذكر هذا الحديث قال: واسوأتاه إذا كان الكلب أنصح
__________
(1) كذا بالاصل وفيه تحريف ونقص ظاهر.
(*)

(9/312)


لاهله منك يا بن آدم لله عزوجل.
وفي رواية أنه قال: إني لاصلي حتى ترم قدماي، فقال له: إنك إن تبت تائبا، وتصبح نادما، خير لك من أن تبيت قائما وتسبح معجبا، إلى آخره.
وروى سفيان عن رجل من أهل صنعاء عن وهب فذكر الحديث كما تقدم.
وقال عثمان بن أبي شيبة: حدثنا محمد بن عمران بن أبي ليلى حدثنا الصلت بن عاصم المرادي، عن أبيه عن وهب قال: لما أهبط آدم من الجنة استوحش لفقد أصوات الملائكة، فهبط عليه جبريل فقال: يا آدم ألا أعلمك شيئا تنتفع به في الدنيا والآخرة ؟ قال: بلى.
قال قل: اللهم تمم لي النعمة حتى تهنيني المعيشة، اللهم اختم لي بخير حتى لا تضرني ذنوبي، اللهم اكفني مؤنة الدنيا وكل هول في القيامة حتى تدخلني الجنة في عافية.
وقال عبد الرزاق: حدثني بكار بن عبد الله عن وهب قال: قرأت في بعض الكتب فوجدت الله تعالى يقول: يا بن آدم ما أنصفتني، تذكر بي وتنساني، وتدعو إلي وتفر مني، خيري إليك نازل، وشرك إلي صاعد، ولا يزال ملك كريم قد نزل اليك من أجلك، يا بن آدم إن أحب ما تكون إلي وأقرب ما تكون مني إذا رضيت بما قسمت لك.
وأبغض ما تكون إلي، وأبعد ما تكون مني إذا سخطت بما قسمت لك.
يا بن آدم أطعني فيما أمرتك، ولا تعلمني بما يصلحك، إني عالم بخلقي، وأنا أعلم بحاجتك التي ترفعك من نفسك، إني إنما أكرم من أكرمني، وأهين من هان عليه أمري، لست بناظر في حق عبدي حتى ينظر العبد في حقي.
وقال وهب: قرأت نيفا (1) وتسعين كتابا من كتب الله تعالى فوجدت في جميعها: أن من وكل إلى نفسه شيئا من المشيئة فقد كفر.
وقال: لا يسكن ابن آدم، إن الله هو قسم الارزاق متفاضلة ومختلفة، فإن تقلل ابن آدم شيئا من رزقه فليزدد إلى الله رغبة، ولا يقولن: لو اطلع الله على هذا من حالي، أو شعر به غيره ؟ فكيف لا يطلع على شئ الذي خلقه وقدره ؟ أو يعتبر ابن آدم في غير ذلك مما يتفاضل فيه الناس، كأن الله فاضل بينهم في الاجسام والاموال والالوان والعقول والاحلام، فلا يكبر على ابن آدم أن يفضل عليه في الرزق والمعيشة، ولا يكبر عليه أن يفضل عليه في الحلم والعلم والعقل والدين، أو لا يعلم ابن آدم أن الذي رزقه في ثلاثة أزمان من عمره لم يكن له في واحد منها كسب ولا حيلة، أنه سوف يرزقه في
الزمن الرابع.
أول زمان من أزمانه حين كان في بطن أمه، يخلق فيه ويرزق من غير مال كسبه، وهو في قرار مكين، لا يؤذيه فيه حر ولا برد، ولا شئ ولا هم ولا حزن، وليس له هناك يد تبطش، ولا رجل تسعى، ولا لسان ينطق.
فساق الله عزوجل إليه رزقه هناك على أتم الوجوه وأهناها وأمراها، ثم إن الله عزوجل أراد أن يحوله من تلك المنزلة إلى غيرها.
ويحدث له في الزمن الثاني رزقا من أمه يكفيه ويغنيه، من غير حول منه ولا قوة، ولا بطش ولا سعي، بل تفضلا من الله وجودا، ورزقا
__________
(1) في طبقات ابن سعد 5 / 543: اثنين وتسعين.
(*)

(9/313)


أجراه وساقه إليه، ثم أراد الله سبحانه أن ينقله من الزمن الثاني إلى الزمن الثالث من ذلك اللبن إلى رزق يحدثه له من كسب أبويه، بأن يجعل له الرحمة في قلوبهما حتى يؤثراه على نفسهما بكسبهما، ويغنياه ويغذياه بأطيب ما يقدران عليه من الاغذية، وهو لا يعينهما على شئ من ذلك بكسب ولا حيلة، حتى إذا عقل حدث نفسه بأنه إنما يرزق بحيلته ومكسبه وسعيه، ثم يدخل عليه في الزمن الرابع إساءة الظن بربه عزوجل، فيضيع أوامر الله في طلب المعاش وزيادة المال وكثرته، وينظر إلى أبناء الجنس وما عليه من التنافس في طلب الدنيا، فيكسب بذلك ضعف اليقين والايمان، ويمتلئ قلبه فقرا وخوفا منه مع المتاع، ويبتلي بموت القلب وعدم العقل، ولو نظر ابن آدم نظر معرفة وعقل لعلم أنه لن يغنيه في الزمن الرابع إلا من أغناه ورزقه في الازمان الثلاثة قبل، فلا مقال له ولا معذرة مما سلط عليه في الزمان الرابع إلا برحمة الله، فإن ابن آدم كثير الشك يقصر به حكمه وعلمه عن علم الله والتفكر في أمره، ولو تفكر حتى يفهم، وتفهم حتى يعلم، علم أن علامة الله التي بها يعرف، خلقه ثم رزقه لما خلق، وقدره لما قدر.
وقال عطاء الخراساني: لقيت وهبا في الطريق فقلت: حدثني حديثا أحفظه عنك في مقامي هذا وأوجز.
فقال: أوحى الله عزوجل إلى داود عليه السلام: يا داود، أما وعزتي وعظمتي لا ينتصر بي عبد من عبادي دون خلقي أعلم ذلك من نيته، فتكيده السموات السبع ومن فيهن، والارضون السبع ومن فيهن، إلا جعلت له منهن فرجا ومخرجا، أما وعزتي وجلالي لا يعتصم عبد
من عبادي بمخلوق دوني أعلم ذلك من نيته، إلا قطعت أسباب السموات من يده، وأسخت الارض من تحته ولا أبالي في أي واد هلك.
وقال أبو بلال الاشعري عن أبي هشام الصنعاني قال: حدثني عبد الصمد بن معقل قال: سمعت وهب بن منبه يقول: وجدت في بعض الكتب أن الله تعالى يقول: كفاني للعبد مآلا، إذا كان عبدي في طاعتي أعطيته قبل أن يسألني، وأستجيب له من قبل أن يدعوني، فإني أعلم بحاجته التي ترفق به من نفسه.
وقال: قرأت في بعض الكتب أن الشيطان لم يكابد شيئا أشد عليه من مؤمن عاقل لانه إذا كان مؤمنا عاقلا ذا بصيرة فهو أثقل على الشيطان من الجبال الصم، إنه ليزالل المؤمن العاقل فلا يستطيعه، فيتحول عنه إلى الجاهل فيستأمره ويتمكن من قياده.
وقال: قام موسى عليه السلام فلما رأته بنو إسرائيل قاموا، فقال: على مكانكم، ثم ذهب إلى الطور فإذا هو بنهر أبيض فيه مثل رؤوس الكثبان كافور محفوف بالرياحين، فلما رآه أعجبه فدخل عليه فاغتسل وغسل ثوبه، ثم خرج وجفف ثوبه، ثم رجع إلى الماء فاستنضح فيه إلى أن جف ثوبه، فلبسه ثم أخذ نحو الكثيب الآخر الذي فوق الطور، فإذا هو برجلين يحفران قبرا، فقام عليهما فقال: ألا أعينكما ؟ قالا: بلى فنزل فحفر، فقال لهما: لتحدثاني مثل من الرجل ؟ فقالا: على طولك وهيئتك، فاضطجع فيه لينظروا فالتأمت عليه الارض، فلم ينظر إلى قبر موسى عليه السلام إلا الرخم،

(9/314)


فأصمها الله وأبكمها.
وقال: يقول الله عزوجل: لو لا أني كتبت النتن على الميت لحبسه الناس في بيوتهم، ولو لا أني كتبت الفساد على اللحم لحرمه الاغنياء على الفقراء.
وقال: مر عابد براهب فقال له: منذكم أنت في هذه الصومعة ؟ قال: منذ ستين سنة، قال: وكيف صبرت فيها ستين سنة ؟ قال: مر فإن الزمان يمر، وإن الدنيا تمر، ثم قال له: يا راهب كيف ذكرك للموت ؟ قال: ما أحسب عبدا يعرف الله تأتي عليه ساعة إلا يذكر الموت فيها، وما أرفع قدما إلا وأنا أظن أن لا أضعها حتى أموت، وما أضع قدما إلا وأنا أظن أن لا أرفعها حتى أموت، فجعل العابد يبكي، فقال له الراهب: هذا بكاؤك إذا خلوت ؟ - أو قال: كيف أنت إذا
خلوت ؟ - فقال العابد: إني لابكي عند إفطاري فأشرب شرابي بدموعي، ويصرعني النوم فأبل متاعي بدموعي، فقال له الراهب: إنك إن تضحك وأنت معترف بذنبك خير لك من أن تبكي وأنت مدل على الله بعلمك.
فقال: أوصني بوصية، قال: كن في الدنيا بمنزلة النخلة، إن أكلت أكلت طيبا، وإن وضعت وضعت طيبا، وإن سقطت على شئ لم تضره، ولا تكن في الدنيا بمنزلة الحمار إنما همته أن يشبع ثم يرمي بنفسه في التراب، وانصح لله نصح الكلب لاهله، فانهم يجيعونه ويطردونه، وهو يأبى إلا أن يحرسهم ويحفظهم.
قال أبو عبد الرحمن أشرس: وكان طاوس إذا ذكر هذا الحديث بكى وقال: عز علينا أن تكون الكلاب أنصح لاهلها منا لمولانا عزوجل.
وقد تقدم نحو هذا المتن.
وقال وهب: تخلى راهب في صومعته في زمن المسيح: فأراد إبليس أن يكيده فلم يقدر عليه، فأتاه بكل مراد فلم يقدر عليه، فأتاه متشبها بالمسيح فناداه: أيها الراهب اشرف علي أكلمك فأنا المسيح، فقال: إن كنت المسيح فما لي إليك من حاجة، أليس قد أمرتنا بالعبادة ؟ ووعدتنا القيامة ؟ انطلق لشأنك فلا حاجة لي فيك.
قال: فذهب عنه الشيطان خاسئا وهو حسير، فلم يعد إليه.
ومن طريق أخرى عنه قال: أتى إبليس راهبا في صومعته فاستفتح عليه، فقال له: من أنت ؟ قال: أنا المسيح، فقال الراهب: والله لئن كنت إبليس لاخلون بك، ولئن كنت المسيح فما عسى أن أصنع بك اليوم شيئا، لقد بلغتنا رسالة ربك عزوجل فقبلناها عنك، وشرعت لنا الدين فنحن عليه، فاذهب فلست بفاتح لك فقال: صدقت، أنا إبليس ولا أريد إضلالك بعد اليوم أبدا فسلني عما بدا لك أخبرك به.
قال: وأنت صادق ؟ قال لا تسألني عن شئ إلا صدقتك فيه.
قال: فأخبرني أي أخلاق بني آدم أوثق في أنفسكم أن تضلوهم به ؟ قالا ثلاثة أشياء: الجدة، والشح، والشكر.
وقال وهب: قال موسى: يا رب أي عبادك ؟ قال: من لا تنفعه موعظة، ولا يذكرني إذا خلا، قال: إلهي فما جزاء من ذكرك بلسانه وقلبه ؟ قال: يا موسى أظله يوم القيامة بظل عرشي، وأجعله في كنفي.
وقال وهب: لقي عالم عالما هو فوقه في العلم فقال له: رحمك الله ما هذا البناء الذي لا إسراف فيه ؟ قال: ما سترك من الشمس، وأكنك من الغيث.
قال: فما هذا الطعام الذي

(9/315)


لا إسراف فيه ؟ قال: فوق الجوع ودون الشبع من غير تكلف.
قال: فما هذا اللباس الذي لا إسراف فيه ؟ قال: هو ما ستر العورة ومنع الحر والبرد من غير تنوع ولا تلون.
قال: فما هذا الضحك الذي لا إسراف فيه ؟ قال: هو ما أسفر وجهك ولا يسمع صوتك.
قال: فما هذا البكاء الذي لا إسراف فيه ؟ قال: لا تمل من البكاء من خشية الله عزوجل، ولا تبك على شئ من الدنيا.
قال: كم أخفي من عملي ؟ قال: ما أظن بك أنك لم تعمل حسنة.
قال: ما أعلن من عملي ؟ قال: الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما يأتم بك الحريص، واحذر النظر إلى الناس.
وقال لكل شئ طرفان ووسط، فإذا أمسكت بأحد الطرفين مال الآخر، وإذا أمسكت بالوسط اعتدلا، فعليكم بالوسط من الاشياء.
وقال: أربعة أحرف في التوراة: من لم يشاور يندم، ومن استغنى استأثر، والفقر الموت الاحمر، وكما تدين تدان، ومن تجر فجر.
وقال عبد الله بن المبارك: حدثنا بكار بن عبد الله أنه سمع وهب بن منبه يقول: كان رجل من أفضل أهل زمانه، وكان يزار فيعظهم، فاجتمعوا إليه ذات يوم فقال: إنا قد خرجنا عن الدنيا وفارقنا الاهل والاموال مخافة الطغيان، وقد خفنا أن يكون قد دخل علينا في حالنا هذه من الطغيان أعظم وأكثر مما يدخل على أهل الاموال في أموالهم، وعلى الملوك في ملكهم، أرانا يحب أحدنا أن تقضى له الحاجة، وإذا اشترى شيئا أن يحابي لمكان دينه، وأن يعظم إذا لقي الناس لمكان دينه، وجعل يعدد آفات العلماء والعباد الذين يدخل عليهم في دينهم من حب الشرف والتعظيم.
قال: فشاع ذلك الكلام عنه حتى بلغ ملك تلك البلاد، فعجب منه الملك وقال لرؤوس دولته: ينبغي لهذا أن يزار، ثم اتعدوا لزيارته يوما، فركب إليه الملك ليسلم عليه، فأشرف العابد - وكان عالما جيد العلم بآفات العلوم والاعمال ودسائس النفوس - فرأى الارض التي تحت مكانه قد سدت بالخيل والفرسان، فقال ما هذا ؟ فقيل له: هذا الملك قاصد إليك يسلم عليك لما بلغه من حسن كلامك فقال: إنا لله، وما أصنع به ؟ هلكنا والله إن لم نلقن الحجة من عند الله مع هذا الرجل، وينصرف عنا وهو ماقت لنا، ثم سأل خادمه: هل عندك طعام ؟ قال: نعم.
قال: فأت به فضعه بين
أيدينا، قال: هو شئ من ثمر الشجر، وهو شئ من بقل وزيتون، قال: فأت به، فأتى به، ثم أمر بجماعته فاجتمعوا حول ذلك الطعام، فقال: إذا دخل عليكم هذا الرجل فلا يلتفت أحد منكم إليه، ولا يقم له أحد، وأقبلوا على الاكل العنيف، ولا يرفع أحد منكم رأسه، لعل الله يصرفه عنا وهو كاره لنا فإني أخاف الفتنة والشهرة وامتلاء القلب منهما، فلا نخلص إلا بنار جهنم.
قال: فبكى القوم وبكى ذلك الرجل العالم، فلما قترب الملك من جبلهم الذي هم فيه، ترجل الملك ومن معه من أعيان دولته وصعد في الجبل، فلما وصل إلى قرب مكانهم أخذوا في الاكل العنيف، فدخل عليهم الملك وهم يأكلون فلم يرفعوا رؤوسهم إليه، وجعل ذلك العالم الفاضل يلف البقل مع الزيتون مع الكسرة الكبيرة من الخبز ويدخلها في فمه، فسلم عليهم الملك وقال: أيكم العابد ؟

(9/316)


فأشاروا إليه، فقال له الملك: كيف أنت أيها الرجل ؟ فقال له: كالناس - وهو يأكل ذلك الاكل العنيف - فقال الملك: ليس عند هذا خير، ثم أدبر الملك خارجا عنه، وقال: ما عند هذا من علم.
فلما نزل الملك من الجبل نظر إليه العابد من كوة وقال: أيها الملك ! الحمد لله الذي صرفك عني وأنت لي كاره - أو قال: الحمد لله الذي صرفك عني بما صرفك به - وفي رواية ذكر ابن المبارك أنه قال: الحمد لله الذي صرفه عني وهو لي لائم.
وفي رواية أن هذا العابد كان ملكا، وكان قد زهد في الدنيا وتركها، لانه كان قد دخل عليه رجل من بقايا أهل الجنة والعمل الصالح فوعظه، فاتعد معه أن يصحبه، وأنه يخرج عن الملك طلبا لما عنده في الدار الآخرة، وأنه وافقه جماعة من بنيه وأهله ورؤوس دولته، فخرجوا برمتهم، لا يدري أحد أين ذهبوا، وكان هذا الملك من أهل العدل والخير والخوف من الله عزوجل، وكان متسع الملك والمملكة، كثير الاموال والرجال، فساروا حتى أتوا جبلا في أطراف مملكته، كثير الشجر والمياه، فأقاموا به حينا، فقال الملك: إن نحن طال أمرنا ومقامنا في هذا الجبل، سمع بنا الناس من أهل مملكتنا فلا يدعونا، وأني أرى أن نذهب إلى غير مملكتنا فننزل مكانا بعيدا عن الناس، لعل أن نسلم منهم ويسلموا منا، فساروا من ذلك الجبل طالبين بلادا لا يعرفون، فوجدوا بها جبلا
نائيا عن الناس، كثير الاشجار والمياه، قليل الطوارق، وإذا في ذروته عين ماء جارية وأرض متسعة، تزرع لمن أراد الزرع بها، فنزلوا به وبنوا به أماكن للعبادة والسكنى، وزرعوا لهم على ماء تلك العين بعض بقول يأتدمون بها، وأشجار زيتون، وجعلوا يزرعون بأيديهم ويأكلون ثم شاع أمرهم في بعض تلك البلاد القريبة من جبلهم، فجعلوا يأتونهم ويزورونهم، إلى أن شاع ذلك الكلام المتقدم عن ذلك العالم، فبلغ ملك تلك البلاد فقصدهم للزيارة، فذكر القصة كما تقدم، والله أعلم.
وقال وهب: أزهد الناس في الدنيا - وإن كان عليها حريصا - من لم يرض منها إلا بالكسب الحلال الطيب، مع حفظ الامانات، وأرغب الناس فيها وإن كان عنها معرضا، من لم يبال من أين كسبه منها حلالا أو حراما، وإن أجود الناس في الدنيا من جاد بحقوق الله عزوجل، وإن رآه الناس بخيلا فيما سوى ذلك، وإن أبخل الناس في الدنيا من بخل بحقوق الله عزوجل وإن رآه الناس جوادا فيما سوى ذلك.
وقال الطبراني: حدثنا معاذ بن المثنى حدثنا علي بن المديني حدثنا محمد بن عمرو بن مقسم قال: سمعت عطاء بن مسلم يقول: سمعت وهب بن منبه يقول: إن الله تعالى كلم موسى عليه السلام في ألف مقام، وكان إذا كلمه رؤي النور على وجه موسى ثلاثة أيام، ولم يمس موسى امرأة منذ كلمه ربه عزوجل.
وقال عثمان بن أبي شيبة: حدثنا عبد الله بن عامر بن زرارة حدثنا عبد الله بن الاجلح عن محمد بن إسحاق قال: حدثني ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال: سمعت ابن

(9/317)


منبه اليماني يقول: إن للنبوة أثقالا ومؤنة لا يحملها إلا القوي، وإن يونس بن متى كان عبدا صالحا، وكان في خلقه ضيق، فلما حملت عليه النبوة تفسخ تحتها تفسخ الربع تحت الحمل، فرفضها من يده وخرج هاربا، فقال الله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وسلم): (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل) [ الاحقاف: 35 ] وقال: (فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم) الآية [ القلم: 48 ] وقال يونس بن بكير، عن أبي إسحاق بن وهب بن منبه عن أبيه قال: أمر الله
الريح أن لا يتكلم أحد من الخلائق بشئ في الارض إلا ألقته في أذن سليمان، فلذلك سمع كلام النملة.
وروى سفيان عن عمرو بن دينار عن وهب قال: كان الرجل من بني إسرائيل إذا ساح أربعين سنة أري شيئا، كأن يرى علامة القبول، قال: فساح رجل من ولد ربيعة أربعين سنة فلم ير شيئا، فقال: يا رب إذا أحسنت وأساء والداي فما ذنبي ؟ قال: فأري ما كان يرى غيره.
وفي رواية أنه قال: يا رب إذا كان والداي قد أكلا أضرس أنا ؟ وفي رواية عنه أنه قال: يا رب إذا كان والداي قد أساءا أحرم أنا إحسانك وبرك ؟ فأظلته غمامة.
وروى عبد الله بن المبارك عن رباح بن زيد، عن عبد العزيز بن مروان.
قال: سمعت وهب ابن منبه يقول: مثل الدنيا والآخرة مثل ضرتين، إن أرضيت إحداهما أسخطت الاخرى، وقال: إن أعظم الذنوب عند الله بعد الشرك بالله السحر.
وروى عبد الرزاق قال: أخبرني أبي عن وهب قال: إذا صام الانسان زاغ بصره، فإذا أفطر على حلاوة عاد بصره.
وقال ابن المبارك عن بكر بن عبد الله قال سمعت وهبا يقول: مر رجل عابد على رجل عابد فرآه مفكرا، فقال له: مالك ؟ فقال له: أعجب من فلان، إنه كان قد بلغ من عبادته ما بلغ، ثم مالت به الدنيا.
فقال: لا تعجب ممن مال كيف مال، ولكن اعجب ممن استقام كيف استقام.
وقال عبد الله بن الامام أحمد بن حنبل: حدثني أبي، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا بكار بن عبد الله قال: سمعت وهب بن منبه يقول: إن بني إسرائيل أصابتهم عقوبة وشدة، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): وددنا أن نعلم ما الذي يرضى ربنا فنتبعه، فأوحى الله عزوجل إليه: إن قومك يقولون: إذا أرضوهم رضيت، وإذا أسخطوهم أسخطت.
وقال عبد الله بن أحمد أيضا: حدثنا أبي حدثنا إبراهيم بن خالد حدثني عمر بن عبد الرحمن قال: سمعت وهب بن منبه يقول: إن عيسى عليه السلام كان واقفا على قبر ومعه الحواريون - أو نفر من أصحابه - قال: وصاحب القبر يدلى فيه، قال: فذكروا من ظلمة القبر وضيقه، فقال عيسى: قد كنتم فيما هو أضيق من ذلك، في أرحام أمهاتكم، فإذا أحب الله أن يوسع وسع، أو كما قال.
وقال عبد الله بن المبارك: حدثنا بكار بن عبد الله قال: سمعت وهب بن منبه يقول: كان رجل عابد من السياح أراده الشيطان من قبل الشهوة والرغبة والغضب، فلم يستطع منه شيئا من

(9/318)


ذلك، فتمثل له حية وهو يصلي، فمضى ولم يلتفت إليه، فالتوى على قدميه فلم يلتفت إليه، فدخل ثيابه وأخرج رأسه من عند رأسه فلم يلتفت ولم يستأخر، فلما أراد أن يسجد التوى في موضع سجوده، فلما وضع رأسه ليسجد فتح فاه ليلتقم رأسه، فوضع رأسه فجعل يعركه حتى استمكن من السجود على الارض.
ثم جاءه على صورة رجل فقال له: أنا صاحبك الذي أخوفك، أتيتك من قبل الشهوة والغضب والرغبة، وأنا الذي كنت أتمثل لك بالسباع والحيات فلم أستطع منك شيئا، وقد بدا لي أن أصادقك ولا آتيك في صلاتك بعد اليوم.
فقال له العابد: لا يوم خوفتني خفتك، ولا اليوم بي حاجة في مصادقتك.
قال: سلني عما شئت أخبرك.
قال فما عسيت أن أسألك ؟ قال: ألا تسألني عن مالك ما فعل به بعدك ؟ قال: لو أردت ذلك ما فارقته.
قال: أفلا تسألني عن أهلك من مات منهم ومن بقي ؟ قال: أنا مت قبلهم.
قال: أفلا تسألني عما أضل به الناس ؟ قال: أنت أضلهم.
فأخبرني عن أوثق ما في نفسك تضل به بني آدم.
قال: ثلاثة أخلاق، الشح، والحدة، والسكر.
فإن الرجل إذا كان شحيحا قللنا ماله في عينه ورغبناه في أموال الناس، وإذا كان حديدا تداولناه بيننا كما يتداول الصبيان الكرة، ولو كان يحيي الموتى بدعوته لم نيأس منه، وكل ما يبنيه نهدمه، لنا كلمة واحدة.
وإذا سكر قدناه إلى كل شر وفضيحة وخزي وهوان كما تقاد القط إذا أخذ بأذنها كيف شئنا.
وقال وهب: أصاب أيوب البلاء سبع سنين، وترك يوسف في السجن سبع سنين، ومسخ بختنصر في السباع سبع سنين.
وسئل وهب عن الدنانير والدراهم فقال: هي خواتيم رب العالمين، فالارض لمعايش بني آدم لا تؤكل ولا تشرب، فأينما ذهبت بخاتم رب العالمين قضيت حاجتك، وهي أزمة المنافقين بها يقادون إلى الشهوات.
وروى داود بن عمر الضبي، عن ابن المبارك، عن معمر، عن سماك بن المفضل عن وهب قال: مثل الذي يدعو بغير عمل مثل الذي
يرمي بغير وتر.
وقال ابن المبارك: أخبرني عمر بن عبد الرحمن بن مهرب قال: سمعت وهبا يقول: قال حكيم من الحكماء: إني لاستحي من الله عزوجل أن أعبده رجاء ثواب الجنة فقط، فأكون كالاجير السوء، إن أعطي عمل وإن لم يعط لم يعمل، وإني لاستحي من الله أن أعبده مخافة النار فقط، فأكون كالعبد السوء إن رهب عمل وإن ترك لم يعمل، وإني ليستخرج مني حب الله ما لا يستخرج مني غيره.
وقال السري بن يحيى: كتب وهب إلى مكحول: إنك قد أصبت بما ظهر من علم الاسلام عند الناس محبة وشرفا، فاطلب بما بطن من علم الانسان عند الله محبة وزلفى، واعلم أن إحدى المحبتين تمنع الاخرى - أو قال: سوف تمنعك الاخرى - وقال زافر بن سليمان عن أبي سنان الشيباني قال: بلغنا أن وهب بن منبه قال: قال لقمان لابنه: يا بني: اتخذ طاعة الله تجارة تريد بها ربح الدنيا والآخرة والايمان سفينتك التي تحمل عليها، والتوكل على الله شراعها، والدنيا بحرك، والايام

(9/319)


موجك، والاعمال الصالحة تجارتك التي ترجو ربحها، والنافلة هي هديتك التي ترجو بها كرامتك، والحرص عليها يسيرها ويزجيها، ورد النفس عن هواها مراسيها، والموت ساحلها، والله ملكها وإليه مصيرها.
وأحب التجار إلى الله وأفضلهم وأقربهم منه أكثرهم بضاعة وأصفاهم نية، وأخلصهم هدية.
وأبغضهم إليه أقلهم بضاعة، وأردأهم هدية، وأخبثهم طوية، فكلما حسنت تجارتك ازداد ربحك، وكلما خلصت هديتك، تكرم.
وفي رواية عنه أنه قال: قال لقمان لابنه: يا بني اتخذ طاعة الله بضاعة تأتك الارباح من كل مكان، واجعل سفينتك تقوى الله، وحشوها التوكل على الله، وشراعها الايمان بالله، وبحرك العلم النافع والعمل الصالح لعلك أن تنجو، وما أراك بناج.
وقال عبد الله بن المبارك عن رباح بن زيد عن رجل قال: إن للعلم طغيانا كطغيان المال.
وقال الطبراني: حدثنا عبيد بن محمد الصنعاني، حدثنا أبو قدامة همام بن مسلمة بن عقبة، حدثنا غوث بن جابر، حدثنا عقيل بن منبه قال: سمعت عمي وهب بن منبه يقول: الاجر من الله عزوجل معروض، ولكن لا يستوجبه من لا يعمل، ولا يجده من لا يبتغيه، ولا يبصره من لا ينظر
إليه، وطاعة الله قريبة ممن يرغب فيها، بعيدة ممن زهد فيها، ومن يحرص عليها يصل إليها، ومن لا يحبها لا يجدها، لا تسبق من سعى إليها، ولا يدركها من أبطأ عنها، وطاعة الله تشرف من أكرمها، وتهين من أضاعها، وكتاب الله يدل عليها، والايمان بالله يحض عليها.
وقال الامام أحمد: حدثنا إبراهيم بن خالد، حدثنا عمر بن عبد الرحمن، سمعت وهب بن منبه يقول قال داود عليه السلام: يا رب أي عبادك أحب إليك ؟ قال: مؤمن حسن الصورة حسن العمل.
قال: يا رب أي عبادك أبغض إليك ؟ قال: كافر حسن الصورة كفر أو شكر، هذان.
وفي رواية ذكرها أحمد بن حنبل: أي عبادك أبغض إليك ؟ قال: عبد استخارني في أمر فخرت له فلم يرض به.
وقال إبراهيم بن الجنيد: حدثني إبراهيم بن سعيد، عن عبد المنعم بن إدريس، حدثنا عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه قال: كان سائح يعبد الله تعالى، فجاءه إبليس أو شيطان فتمثل بانسان فجعل يريه أنه يعبد الله تعالى، وجعل يزيد عليه في العبادة، فأحبه ذلك السائح لما رأى من اجتهاده وعبادته، فقال له الشيطان - والسائح في مصلاه -: لو دخلنا إلى المدينة فخالطنا الناس وصبرنا على أذاهم وأمرنا ونهينا، كان أعظم لاجرنا، فأجابه السائح إلى ذلك، فلما أخرج السائح إحدى رجليه من باب مكانه لينطلق معه، هتف به هاتف فقال: إن هذا شيطان أراد أن يفتنك.
فقال السائح.
رجل خرجت في معصية الله وطاعة الشيطان لا تدخل معي، فما حولها من موضعها ذلك حتى فارق الدنيا، فأنزل الله تعالى ذكره في بعض كتبه فقال: وذو الرجل.
وقال وهب: أتى رجل من أفضل أهل زمانه إلى ملك كان يفتن الناس على أكل لحم الخنزير،

(9/320)


فأعظم الناس مكانه، وهالهم أمره، فقال له صاحب شرطة الملك - سرا بينه وبينه -: أيها العالم، أذبح جديا مما يحل لك أكله ثم ادفعه إلي حتى أصنعه لك على حدته، فإذا دعا الملك بلحم الخنزير أمرت به فوضع بين يديك، فتأكل منه حلالا ويرى الملك والناس أنك إنما أكلت لحم الخنزير، فذبح ذلك العالم جديا، ثم دفعه إلى صاحب الشرطة فصنعه له، وأمر الطباخين إذا أمر الملك بأن يقدم إلى
هذا العالم لحم الخنزير، أن يضعوا بين يديه لحم هذا الجدي واجتمع الناس، لينظروا أمر هذا العالم فيه أيأكل أم لا، وقالوا إن أكل أكلنا وإن امتنع امتنعنا.
فجاء الملك فدعا لهم بلحوم الخنازير فوضعت بين أيديهم، ووضع بين يدي ذلك العالم لحم ذلك الجدي الحلال المذكي، فألهم الله ذلك العالم فألقى في روعه وفكره، فقال: هب أني أكلت لحم الجدي الذي أعلم حله أنا، فماذا أصنع بمن لا يعلم ؟ والناس إنما ينتظرون أكلي ليقتدوا بي، وهم لا يعلمون إلا أني إنما أكلت لحم الخنزير فيأكلون اقتداء بي، فأكون ممن يحمل أوزارهم يوم القيامة، لا أفعل والله وإن قتلت وحرقت بالنار، وأبى أن يأكل، فجعل صاحب الشرطة يغمز إليه ويومي إليه ويأمره بأكله، أي إنما هو لحم الجدي، فأبى أن يأكل، ثم أمره الملك أن يأكل فأبى، فألحوا عليه فأبى، فأمر الملك صاحب الشرطة بقتله، فلما ذهبوا به ليقتلوه.
قال له صاحب الشرطة: ما منعك أن تأكل من اللحم الذي ذكيته أنت ودفعته ألي ؟ أظننت أني أتيتك بغيره وخنتك فيما أئتمنتني عليه ؟ ما كنت لافعل والله.
فقال له العالم قد علمت أنه هو، ولكن خفت أن يتأسى الناس بي، وهم إنما ينتظرون أكلي منه، ولا يعلمون إلا أني إنما أكلت لحم الخنزير، وكذلك كل من أريد على أكله فيما يأتي من الزمان يقول: قد أكله فلان، فأكون فتنة لهم.
فقتل رحمه الله.
فينبغي للعالم أن يحذر المعايب، ويجتنب المحذورات، فإن زلته وناقصته منظورة يقتدي بها الجاهل.
وقال معاذ بن جبل: اتقوا زيغة الحكيم، وقال غيره: اتقوا زلة العالم، فإنه إذا زل زل بزلته عالم كبير.
ولا ينبغي له أن يستهين بالزلة وإن صغرت، ولا يفعل الرخص التي اختلف فيها العلماء، فإن العالم هو عصاة كل أعمى من العوام، بها يصول على الحق ليدحضه، ويقول: رأيت فلانا العالم، وفلانا وفلانا يفعلون ويفعلون.
وليجتنب العوائد النفسية، فإنه قد يفعل أشياء على حكم العادة فيظنها الجاهل جائزة أو سنة أو واجبة، كما قيل: سل العالم يصدقك ولا تقتد بفعله الغريب، ولكن سله عنه يصدقك إن كان ذا دين، وكم أفسد النظر إلى غالب علماء زمانك هذا من خلق، فما الظن بمخالطتهم ومجالستهم ولكن (من يهدي الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا) [ الكهف: 17 ].
وقال محمد بن عبد الملك بن زنجويه: حدثنا عبد الرزاق عن أبيه قال: قلت لوهب بن
منيه: كنت ترى الرؤيا فتخبرنا بها، فلا نلبث أن نراها كما رأيتها، قال: ذهب ذلك عني منذ وليت القضاء.
قال عبد الرزاق: فحدثت به معمرا فقال: والحسن بعد ما ولي القضاء لم يحمدوا فهمه، فمن يأمن القراء بعدك يا شهر ؟ فكيف حال من قد غرق في قاذورات الدنيا من علماء زمانك هذا،

(9/321)


ولا سيما من بعد فتنة تمرلنك ؟ فإن القلوب قد امتلات بحب الدنيا، فلا يجد العلم فيها موضعا، فجالس من شئت منهم لتنظر مبادئ مجالستهم وغاياتها، ولا تستخفك البدوات، فإنما الامور بعواقبها وخواتيمها ونتائجها، وغاياتها.
(ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب) [ الطلاق: 2 - 3 ] وقال وهب: البلاء للمؤمن كالشكال للدابة.
وقال أبو بلال الاشعري: عن أبي شهاب الصنعاني، عند عبد الصمد، عن وهب قال: من أصيب بشئ من البلاء فقد سلك به طريق الانبياء.
وقال عبد الله بن الامام أحمد بن حنبل: حدثنا عبد الرزاق قال: أنبأنا منذر قال: سمعت وهبا يقول: قرأت في كتاب رجل من الحواريين: إذا سلك بك طريق - أو قال سبيل - أهل البلاء فطب نفسا، فقد سلك بك طريق الانبياء والصالحين.
وقال الامام أحمد: حدثنا أحمد بن جعفر، حدثنا إبراهيم بن خالد، حدثني أمية بن شبل، عن عثمان بن بزدويه قال: كنت مع وهب وسعيد بن جبير يوم عرفة تحت نخيل ابن عامر، فقال وهب لسعيد: يا أبا عبد الله ! كم لك منذ خفت من الحجاج ؟ قال: خرجت عن امرأتي وهي حامل فجاءني الذي في بطنها وقد خرج [ شعر ] وجهه، فقال له وهب: إن من كان قبلكم كان إذا أصابه بلاء عده رجاء، وإذا أصابه رجاء عده بلاء.
وروى عبد الله بن أحمد بسنده عن وهب قال: قرأت في بعض الكتب: ليس من عبادي من سحر أو سحر له، أو تكهن أو تكهن له، أو تطير أو تطير له، فمن كان كذلك فليدع غيري، فإنما هو أنا وخلقي كلهم لي.
وقال الامام احمد: حدثنا إبراهيم بن خالد، حدثنا رباح، عن جعفر بن محمد، عن التيمي، عن وهب أنه قال: دخول الجمل في سم الخياط أيسر من دخول الاغنياء الجنة.
قلت: هذا إنما هو لشدة الحساب وطول وقوف الاغنياء في الكرب، كما قد ضربت الامثال للشدائد.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق: حدثنا بكار قال سمعت وهبا يقول: ترك المكافأة من التطفيف.
وقال الامام أحمد: حدثنا الحجاج وأبو النصر: قالا: حدثنا محمد بن طلحة، عن محمد بن جحادة عن وهب قال: من يتعبد يزدد قوة، ومن يتكسل يزدد فترة.
وقد قال غيره: إن حوراء جاءته في المنام في ليلة باردة فقالت له: قم إلى صلاتك فهي خير لك من نومة توهن بدنك.
ورأيت في ذلك حديثا لم يحضرني الآن.
وهذا أمر مجرب أن العبادة تنشط البدن وتلينه، وأن النوم يكسل البدن فيقسيه، وقد قال بعض السلف لما تبع ضلة ابن أشيم حين دخل تلك الغيضة، وأنه قام ليلته إلى أن أصبح، قال فأصبح كأنه بات على الحشايا، وأصبحت ولي من الكسل والفتور ما لا يعلمه إلا الله عزوجل.
وقد قيل للحسن: ما بال المتعبدين أحسن الناس وجوها ؟ قال: لانهم خلوا بالجليل فألبسهم نورا من نوره وقال يحيى بن أبي كثير: والله ما رجل يخلو بأهله عروسا أقر ما كانت نفسه وآنس، بأشد سرورا منهم بمناجاة ربهم تعالى إذا خلوا به.
وقال عطاء الخراساني: قيام الليل محياة للبدن،

(9/322)


ونور في القلب، وضياء في الوجه، وقوة في البصر والاعضاء كلها، وإن الرجل إذا قام بالليل أصبح فرحا مسرورا، وإذا نام عن حزبه أصبح حزينا مكسور القلب كأنه قد فقد شيئا، وقد فقد أعظم الامور له نفعا.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا أبو جعفر: أحمد بن منيع، حدثنا هاشم بن القاسم أبو النصر، حدثنا بكر بن حبيش عن محمد القرشي، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن بلال قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): " عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وإن قيام الليل قربة إلى الله تعالى، ومنهاة عن الاثم، وتكفير عن السيئات، ومطردة للشيطان عن الجسد " وقد رواه غيره من طرق: " عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم) ويكفي في هذا الباب ما رواه أهل الصحيح والمسانيد عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " يعقد الشيطان على قافية أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب مكان كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد.
فإذا استيقظ وذكر الله
انحلت عقدة، وإذا توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة فأصبح نشيطا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان " وهذا باب واسع.
وقد قال هود فيما أخبر الله عنه: (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) [ المؤمنون: 32 ] ثم قال: (ويزدكم قوة إلى قوتكم) [ هود: 52 ] وهذه القوة تشمل جميع القوى، فيزيد الله عابديه قوة في إيمانهم ويقينهم ودينهم وتوكلهم، وغير ذلك مما هو من جنس ذلك، ويزدهم قوة في أسماعهم وأبصارهم وأجسادهم وأموالهم وأولادهم وغير ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، حدثني عبد الصمد أنه سمع وهبا يقول: تصدق صدقة رجل يعلم أنه إنما قدم بين يديه ماله وما خلف ومال غيره.
قلت: وهذا كما في الحديث " أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله ؟ فقالوا: كلنا ماله أحب إليه من مال وارثه، فقال: إن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخر ".
قال: وسمعت وهبا على المنبر يقول: احفظوا عني ثلاثا، إياكم وهوى متبعا، وقرين سوء، وإعجاب المرء بنفسه.
وقد رويت هذه الالفاظ في حديث.
وقال الامام أحمد: حدثنا يونس بن عبد الصمد بن معقل، حدثنا إبراهيم بن الحجاج، قال: سمعت وهبا يقول: أحب بني آدم إلى الشيطان النؤوم الاكول.
وقال الامام أحمد: حدثنا غوث بن جابر، حدثنا عمران بن عبد الرحمن أبو الهذيل أنه سمع وهبا يقول: إن الله عزوجل يحفظ بالعبد الصالح القيل من الناس.
وقال أحمد أيضا: حدثنا إبراهيم بن عقيل، حدثنا عمران أبو الهذيل من الانباء عن وهب بن منبه قال: ليس من الآدميين أحد إلا ومعه شيطان موكل به، فأما الكافر فيأكل معه ويشرب معه، وينام معه على فراشه.
وأما المؤمن فهو مجانب له ينتظر متى يصيب منه غفلة أو غرة.
وأحب الآدميين إلى الشيطان الاكول النؤوم.
وقال محمد بن غالب: حدثنا أبو المعتمر ابن أخي بشر بن منصور، عن داود بن أبي هند

(9/323)


عن وهب.
قال: قرأت في بعص الكتب الذي أنزلت من السماء على بعض الانبياء: أن الله تعالى قال لابراهيم عليه الصلاة والسلام: أتدري لم اتخذتك خليلا ؟ قال: لا يا رب، قال: لذل
مقامك بين يدي في الصلاة.
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثنا محمد بن أيوب، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن إدريس بن وهب بن منبه قال: حدثني أبي قال: كان لسليمان بن داود ألف بيت أعلاه قوارير وأسلفه حديد فركب الريح يوما فمر بحراث فنظر إليه الحراث فاستعظم ما أوتي سليمان من الملك، فقال: لقد أوتي آل داود ملكا عظيما، فحملت الريح كلام الحراث فألقته في أذن سليمان، قال: فأمر الريح فوقفت، ثم نزل يمشي حتى أتى الحراث فقال له: إني قد سمعت قولك، وإنما مشيت إليك لئلا تتمنى مالا تقدر عليه مما أقدرني الله عليه تفضلا وإحسانا منه علي، لانه هو الذي أقامني لهذا وأعانني.
ثم قال: والله لتسبيحة واحدة يقبلها الله عزوجل منك أو من مؤمن خير مما أوتي آل داود من الملك، لان ما أوتي آل داود من ملك الدنيا يفنى، والتسبيحة تبقى، وما يبقى خير مما يفنى.
فقال الحراث: أذهب الله همك كما أذهبت همي.
وقال الامام أحمد: حدثنا إبراهيم بن عقيل بن معقل، حدثني أبي، عن وهب بن منبه.
قال: إن الله عزوجل أعطى موسى عليه السلام نورا، فقال له هارون: هبه لي يا أخي، فوهبه له، فأعطاه هارون ابنه، وكان في بيت المقدس آنية تعظمها الانبياء والملوك، فكان ابنا هارون يسقيان في تلك الآنية الخمر، فنزلت نار من السماء فاختطفت ابني هارون فصعدت بهما، ففزع هارون لذلك فقام مستغيثا متوجها بوجهه إلى السماء بالدعاء والتضرع، فأوحى الله إليه: يا هارون هكذا أفعل بمن عصاني من أهل طاعتي، فكيف فعلي بمن عصاني من أهل معصيتي ؟.
وقال الحكم بن أبان: نزل بي ضيف من أهل صنعاء فقال: سمعت وهب بن منبه يقول: إن الله عزوجل في السماء السابعة دارا يقال لها البيضاء يجمع فيها أرواح المؤمنين، فإذا مات الميت من أهل الدنيا تلقته الارواح فيسألونه عن أخبار الدنيا كما يسأل الغائب أهله إذا قدم عليهم.
وقال: من جعل شهوته تحت قدمه فزع الشيطان من ظلمه، فمن غلب علمه هواه فذلك العالم الغلاب.
وقال فضيل بن عياض: أوحى الله تعالى إلى بعض أنبيائه: بعيني ما يتحمل المتحملون من أجلي، وما يكابدون في طلب مرضاتي، فكيف بهم إذا صاروا إلى داري، وتبحبحوا في رياض نعمتي ؟ هنالك فليبشر
المضعفون لله أعمالهم بالنظر العجيب من الحبيب القريب، أتراني أنسى لهم عملا ؟ وكيف وأنا ذو الفضل العظيم أجود على المولين المعرضين عني، فكيف بالمقبلين علي ؟ وما غضبت على شئ كغضبي على من أخطأ خطيئة فاستعظمها في جنب عفوي، ولو تعاجلت بالعقوبة أحدا، أو كانت العجلة من شأني، لعاجلت القانطين من رحمتي.
ولو رآني عبادي المؤمنون كيف استوهبهم ممن

(9/324)


اعتدوا عليه، ثم أحكم لمن وهبهم بالخلد المقيم، اتهموا فضلي وكرمي، أنا الديان الذي لا تحل معصيتي، والذي أطاعني أطاعني برحمتي، ولا حاجة لي بهوان من خاف مقامي.
ولو رآني عبادي يوم القيامة كيف أرفع قصورا تحار فيها الابصار فيسألوني: لمن ذا ؟ فأقول: لمن وهب لي ذنبا ما لم يوجب على نفسه معصيتي والقنوط من رحمتي، وإني مكافئ على المدح فامدحوني.
وقال سلمة بن شبيب: حدثنا سلمة بن عاصم، حدثنا عبد الله بن محمد بن عقبة، حدثنا عبد الرحمن أبو طالوت حدثني مهاجر الاسدي عن وهب.
قال: مر عيسى بن مريم ومعه الحواريون بقرية قد مات أهلها، إنسها وجنها، وهو امها وأنعامها وطيورها، فقام عليها ينظر إليها ساعة ثم أقبل على أصحابه فقال: إنما مات هؤلاء بعذاب من عند الله، ولو لا ذلك لماتوا متفرقين.
ثم ناداهم عيسى: يا أهل القرية، فأجابه مجيب: لبيك يا روح الله، فقال: ما كانت جنايتكم وسبب هلاككم ؟ قال عبادة الطاغوت وحب الدنيا، قال: وما كانت عبادتكم للطاغوت ؟ قال: طاعة أهل المعاصي هي عبادة الطاغوت.
قال: وما كان حبكم للدنيا ؟ قال: كحب الصبي لامه، كنا إذا أقبلت فرحنا، وإذا أدبرت حزنا، مع أمل بعيد، وإدبار عن طاعة الله، وإقبال على مساخطه.
قال: فكيف كان هلاككم ؟ قال: بتنا ليلة في عافية وأصبحنا في هاوية، قال: وما الهاوية ؟ قال: سجين، قال: وما السجين ؟ قال: جمرة من نار مثل أطباق الدنيا كلها دفنت أرواحنا فيها، قال: فما بال أصحابك لا يتكلمون ؟ قال: لا يستطيعون أن يتكلموا.
قال: وكيف ذلك ؟ قال: هم ملجمون بلجم من نار.
قال: وكيف كلمتني أنت من بينهم ؟ قال: كنت فيهم لما أصابهم العذاب ولم أكن منهم ولا على أعمالهم، فلما جاء البلاء عمني معهم، وأنا معلق بشعرة في الهاوية لا أدري
أكردس (1) فيها أم أنجو.
فقال عيسى عليه السلام عند ذلك لاصحابه: بحق أقول لكم: لخبز الشعير وشرب الماء القراح والنوم على المزابل كثير مع عافية الدنيا والآخرة.
وروى الطبراني عنه أنه قال: لا يكون المرء حكيما حتى يطيع الله عز وجل، وما عصى الله حكيم، ولا يعصى الله إلا أحمق، وكما لا يكمل النهار إلا بالشمس، ولا يعرف الليل إلا بالظلام، كذلك لا تكمل الحكمة إلا بطاعة الله عز وجل، ولا يعصى الله حكيم، كما لا يطير الطير إلا بجناحين، ولا يستطيع من لا جناح له أن يطير، كذلك لا يطيع الله من لا يعمل له، ولا يطيق عمل الله من لا يطيعه.
وكما لا مكث للنار في الماء حتى تطفأ، كذلك لا مكث لعمل الرياء حتى يبور.
وكما يبدي سر الزانية وفضيحتها فعلها، كذلك يفتضح بالفعل السئ من كان يقرأ لجليسه بالقول الحسن ولم يعمل به.
وكما تكذب معذرة السارق بالسرقة إذا ظهر عليها عنده، كذلك تكذب معصية القارئ لله قراءته إذا كان يقرأها لغير الله تعالى.
__________
(1) أكردس فيها: أمشي وأنا مقارب الخطو كالمقيد.
(*)

(9/325)


وقال الطبراني: حدثنا محمد بن النضر، حدثنا علي بن بحر بن بري، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، حدثنا عبد الصمد بن معقل.
قال سمعت وهبا يقول: في مزامير آل داود: طوبى لمن يسلك سبيل الحطابين ولا يجالس البطالين، وطوبى لمن يسك طريق الائمة ويستقيم على عبادة ربه، فمثله كمثل شجرة نابتة على ساقية لا تزال فيها الحياة، ولا تزال خضراء.
وروى الطبراني أيضا عنه قال: إذا قامت الساعة صرخت الحجارة صراخ النساء، وقطرت العضاه دما.
وروي عنه أنه قال: ما من شئ إلا يبدو صغيرا ثم يكبر، إلا المصيبة فإنها تبدو كبيرة ثم تصغر وروي عنه أيضا أنه قال: وقف سائل على باب داود عليه السلام، فقال: يا أهل بيت النبوة تصدقوا علينا بشئ رزقكم الله رزق التاجر المقيم في أهله.
فقال داود: أعطوه، فوالذي نفسي بيده إنها لفي الزبور.
وقال: من عرف بالكذب لم يجز صدقه، ومن عرف بالصدق ائتمن على حديثه، ومن أكثر الغيبة والبغضاء لم يوثق منه بالنصيحة، ومن عرف بالفجور والخديعة لم يؤمن إليه في المحنة، ومن انتحل فوق قدره
جحد قدره، ولا تستحسن فيك ما تستقبح في غيرك.
هذه الآثار رواها الطبراني عنه من طرق.
وروى داود بن عمرو عن إسماعيل بن عياش عن عبد الله بن عثمان بن خيثم.
قال: قدم علينا وهب مكة فطفق لا يشرب ولا يتوضأ إلا من زمزم، فقيل له: مالك في الماء العذب ؟ فقال: ما أنا بالذي أشرب وأتوضأ إلا من زمزم حتى أخرج منها، إنكم لا تدرون ما ماء زمزم، والذي نفسي بيده إنها لفي كتاب الله طعام طعم، وشفاء سقم، ولا يعمد أحد إليها يتضلع منها ريا، ابتغاء بركتها، إلا نزعت منه داء وأحدثت له شفاء.
وقال: النظر في زمزم عبادة.
وقال: النظر فيها يحط الخطايا حطا.
وقال وهب: مسخ بختنصر أسدا فكان ملك السباع، ثم مسخ نسرا فكان ملك الطيور، ثم مسخ ثورا فكان ملك الدواب، وهو في كل ذلك يعقل عقل الانسان، وكان ملكه قائما يدبر، ثم رد الله عليه روحه إلى حالة الانسان، فدعا إلى توحيد الله وقال: كل إله باطل إلا إله السماء.
فقيل له: أمات مؤمنا ؟ فقال: وجدت أهل الكتاب قد اختلفوا فيه، فقال بعضهم: آمن قبل أن يموت، وقال بعضهم: قتل الانبياء، وحرق الكتب، وحرق بيت المقدس، فلم يقبل منه التوبة.
هكذا رواه الطبراني عن محمد بن أحمد بن الفرج، عن عباس بن يزيد، عن عبد الرزاق، عن بكار بن عبد الله، قال: سمعت وهب بن منبه يقول، فذكره.
وقال وهب: كان رجل بمصر فسألهم ثلاثة أيام أن يطعموه فلم يطعموه، فمات في اليوم الرابع فكفنوه ودفنوه، فأصبحوا فوجدوا الكفن في محرابهم مكتوب عليه: قتلتموه حيا وبررتموه ميتا ؟ قال يحيى: فأنا رأيت القرية التي مات فيها ذلك الرجل، وما بها أحد إلا وله بيت ضيافة، لا غني ولا فقير هكذا رواه يحيى بن عبد الباقي عن علي بن الحسن، عن عبد الله بن أخي وهب، قال: حدثني عمي وهب بن منبه فذكره.
قال: وأهل القرية يعترفون بذلك.
فمن ثم اتخذوا بيوتا للضيفان والفقراء خوفا من ذلك.
وقال عبد الرزاق عن بكار عن وهب.
قال: إذا دخلت الهدية من الباب

(9/326)


خرج الحق من الكوة.
وقال إبراهيم بن الجنيد: حدثنا إبراهيم بن سعيد، عن عبد المنعم بن إدريس، عن عبد الصمد، عن وهب بن منبه قال: مر نبي من الانبياء على عابد في كهف جبل،
فمال إليه فسلم عليه وقال له: يا عبد الله منذكم أنت هاهنا ؟ قال: منذ ثلثمائة سنة.
قال: من أين معيشتك ؟ قال: من ووق الشجر، قال: فمن أين شرابك ؟ قال: من ماء العيون، قال: فأين تكون في الشتاء ؟ قال: تحت هذا الجبل، قال: فكيف صبرك على العبادة ؟ قال: وكيف لا أصبر وإنما هو يومي إلى الليل، وأما أمس فقد مضى بما فيه، وأما غد فلم يأت بعد.
قال فعجب النبي من قوله: إنما هو يومي إلى الليل.
وبهذا الاسناد أن رجلا من العباد قال لمعلمه: قطعت الهوى فلست أهوى من الدنيا شيئا.
فقال له معلمه: أتفرق بين النساء والدواب إذا رأيتهن معا ؟ قال: نعم، قال أتفرق بين الدنانير والدراهم والحصا ؟ قال: نعم، قال: يا بني إنك لم تقطع الهوى عنك ولكنك قد أوثقته فاحذر انفلاته وانقلابه.
وقال غوث بن جابر بن غيلان بن منبه: حدثني عقيل بن معقل، عن وهب قال: اعمل في نواحي الدين الثلاث، فإن للدين نواحي ثلاثا، هن جماع الاعمال الصالحة لمن أراد جمع الصالحات " أولاهن " تعمل شكر الله على الانعم الكثيرات الغاديات الرائحات (1)، الظاهرات الباطنات، الحادثات القديمات، يعمل المؤمن شكرا لهن ورجاء تمامهن " والناحية الثانية من الدين " رغبة في الجنة التي ليس لها ثمن وليس لها مثل، ولا يزهد فيها وفي العمل لها إلا سفيه فاجر، أو منافق كافر " والناحية الثالثة من الدين " أن يعمل المؤمن فرارا من النار التي ليس لاحد عليها صبر، ولا لاحد بها طاقة ولا يدان، وليست مصيبتها كالمصيبات، ولا حزن أهلها كالاحزان، نبأها عظيم، وشأنها شديد، والآخرة وحزنها فظيع، ولا يغفل عن الفرار والتعوذ بالله منها إلا سفيه أحمق خاسر، (قد خسر الدنيا ذلك هو الخسران المبين) [ الحج: 11 ].
وقال إسحاق بن راهويه: حدثنا عبد الملك بن محمد الدمادي، قال: أخبرني محمد بن سعيد بن رمانة قال: أخبرني أبي قال: قيل لوهب: أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله ؟ قال: بلى، ولكن ليس من مفتاح إلا وله أسنان، فمن أتى الباب بمفتاح بأسنانه فتح له، ومن لم يأت الباب بمفتاح بأسنانه لم يفتح له.
وقال محمد: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، حدثنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهبا يقول: ركب ابن ملك في جند من قومه وهو شاب، فصرع عن فرسه فدق عنقه فمات في
أرض قريبة من القرى، فغضب أبوه وحلف أن يقتل أهل تلك القرية عن آخرهم، وأن يطأهم بالافيال، فما أبقت الافيال وطئته الخيل، فما أبقت الخيل وطئته الرجال، فتوجه إليهم بعد أن سقى
__________
(1) الغاديات: مفردها الغادية وهي السحابة تنشأ غدوة.
والرائحات: الامطار أو السحب التي تجئ رواحا أي عند العشي.
(*)

(9/327)


الافيال والخيل الخمر وقال: طأوهم بالافيال، وإلا فما أبقت الافيال فلتطأه الخيل، فما أخطأنه الخيل فلتطأه الرجال فلما سمع بذلك أهل تلك القرية وعرفوا أنه قد قصدهم لذلك، خرجوا بأجمعهم فجأروا إلى الله سبحانه وعجوا إليه وابتهلوا يدعونه تعالى ليكشف عنهم شر هذا الملك الظالم، وما قصده هلاكهم.
فبينما الملك وجيشه سائرون على ذلك، وأهل القرية في الابتهال والدعاء والتضرع إلى الله تعالى، إذ نزل فارس من السماء فوقع بينهم، فنفرت الافيال فطغت على الخيل وطغت الخيل على الرجال، فقتل الملك ومن معه وطأ بالافيال والخيل، ونجى الله أهل تلك القرية من بأسهم وشرهم.
وروى عبد الرزاق عن المنذر بن النعمان أنه سمع وهبا يقول: قال الله تعالى لصخرة بيت المقدس: لاضعن عليك عرشي، ولاحشرن عليك خلقي، وليأتينك داود يومئذ راكبا.
وروى سماك بن المفضل عن وهب قال: إني لا تفقد أخلاقي وما فيها شئ يعجبني.
وروى عبد الرزاق عن أبيه قال قال وهب: ربما صليت الصبح بوضوء العتمة.
وقال بقية بن الوليد: حدثنا زيد بن خالد عن خالد بن معدان عن وهب قال: كان نوح عليه السلام من أجمل أهل زمانه، وكان يلبس البرقع فأصابهم مجاعة في السفينة، فكان نوح إذا تجلى لهم شبعوا.
وقال: قال عيسى: الحق أقول لكم: إن أشدكم جزعا على المصيبة أشدكم حبا للدنيا.
وقال جعفر بن برقان: بلغنا أن وهبا كان يقول: طوبى لمن نظر في عيبه عن عيب غيره، وطوبى لمن تواضع لله من غير مسكنة، ورحم أهل الذل والمسكنة، وتصدق من مال جمعه من غير معصية، وجالس أهل العلم والحلم والحكمة، ووسعته السنة ولم يتعدها إلى البدعة.
وروى سيار عن جعفر، عن عبد الصمد بن معقل عن وهب قال:
وجدت في زبور داود: يا داود هل تدري من أسرع الناس مرا على الصراط ؟ الذين يرضون بحكمي، وألسنتهم رطبة بذكري.
وقيل إن عابدا عبد الله تعالى خمسين سنة فأوحى الله إلى نبيهم: إني قد غفرت له، فأخبره ذلك النبي، فقال: أي رب، وأي ذنب تغفر لي ؟ فأمر عرقا في عنقه فضرب عليه، فلم ينم ولم يهدأ ولم يصل ليلته، ثم سكن العرق، فشكا ذلك إلى النبي، فقال: ما لاقيت من عرق ضرب علي في عنقي ثم سكن.
فقال له النبي: إن الله يقول: إن عبادتك خمسين سنة ما تعدل سكون هذا العرق.
وقال وهب: رؤوس النعم ثلاثة " إحداها " نعمة الاسلام التي لا تتم نعمة إلا بها.
" والثانية " نعمة العافية التي لا تطيب الحياة إلا بها.
" والثالثة " نعمة الغنى التي لا يتم العيش إلا بها.
ومر وهب بمبتلى أعمى مجذوم مقعد عريان به وضح وهو يقول: الحمد لله على نعمه، فقال له رجل كان مع وهب: أي شئ بقي عليك من النعمة تحمد الله عليه ؟ فقال المبتلى: أدم بصرك إلى أهل المدينة وانظر إلى كثرة أهلها، أولا أحمد الله أنه ليس فيها أحد يعرفه غيري ؟.
وقال وهب: المؤمن يخالط ليعلم، ويسكت ليسلم، ويتكلم ليفقههم، ويخلو ليقيم.
وقال: المؤمن مفكر مذكر مدخر، تذكر فغلبته السكينة، سكن فتواضع فلم يتهم، رفض الشهوات فصار حرا، ألقى عنه الحسد فظهرت له المحبة، زهد في كل فإن فاستكمل العقل، رغب في كل باق

(9/328)


فعقل المعرفة، قلبه متعلق بهمه، وهمه موكل بمعاده، لا يفرح إذا فرح أهل الدنيا، بل حزنه عليه سرمد، وفرحه إذا نامت العيون يتلو كتاب الله ويردده على قلبه، فمرة يفزع قلبه ومرة تدمع عينه، يقطع عنه الليل بالتلاوة، ويقطع عنه النهار بالخلوة والعزلة، مفكرا في ذنوبه، مستصغرا لاعماله.
وقال وهب: فهذا ينادي يوم القيامة في ذلك الجمع العظيم على رؤوس الخلائق: قم أيها الكريم فادخل الجنة.
وقال إبراهيم بن سعيد، عن عبد الرحمن بن مسعود، عن ثور بن يزيد.
قال: قال وهب بن منبه: الويل لكم إذا سماكم الناس صالحين، وأكرموكم على ذلك.
وقال الطبراني: حدثنا عبيد بن محمد الكشوري، حدثنا همام بن سلمة بن عقبة، حدثنا غوث بن جابر، حدثنا عقيل بن
معقل بن منبه قال: سمعت عمي وهب بن منبه يقول: يا بني ! اخلص طاعة الله بسريرة ناصحة يصدق بها فعلك في العلانية، فإن من فعل خيرا ثم أسره إلى الله فقد أصاب مواضعه، وأبلغه قراره، ووضعه عند حافظه وإن من أسر عملا صالحا لم يطلع عليه إلا الله، فقد أطلع عليه من هو حسبه، واستحفظه واستودعه حفيظا لا يضيع أجره، فلا تخافن يا بني على من عمل صالحا أسره إلى الله عزوجل ضياعا، ولا تخافن ظلمة ولا هضمة، ولا تظنن أن العلانية هي أنجح من السريرة، فإن مثل العلانية مع السريرة كمثل ورق الشجرة مع عرقها، العلانية ورقها والسريرة أصلها، إن يحرق العرق هلكت الشجرة كلها، وإن صلح الاصل صلحت الشجرة، ثمرها وورقها، والورق يأتي عليه حين يجف ويصير هباء تذروه الرياح، بخلاف العرق، فإنه لا يزال ما ظهر من الشجرة في خير وعافية ما كان عرقها مستخفيا لا يرى منه شئ، كذلك الدين والعلم والعمل، لا يزال صالحا ما كان له سريرة صالحة يصدق الله بها علانية العبد، فإن العلانية تنفع مع السريرة الصالحة، ولا تنفع العلانية مع السريرة الفاسدة، كما ينفع عرق الشجرة صلاح فرعها، وإن كان حياته من قبل عرقها، فإن فرعها زينتها وجمالها، وإن كانت السريرة هي ملاك الدين، فإن العلانية معها تزين الدين وتجمله إذا عملها مؤمن لا يريد بها إلا رضاء ربه عزوجل.
وقال الهيثم بن جميل: حدثنا صالح المري عن أبان عن وهب قال: قرأت في الحكمة: الكفر أربعة أركان، ركن منه الغضبة، وركن منه الشهوة، وركن منه الطمع، وركن منه الخوف.
وقال: أوحى الله تعالى إلى موسى: إذا دعوتني فكن خائفا مشفقا وجلا، وعفر خدك بالتراب، واسجد لي بمكارم وجهك ويديك، وسلني حين تسألني بخشية من قلبك ووجل، واخشني أيام الحياة، وعلم الجهال آلائي، وقل لعبادي لا يتمادوا في غي ما هم فيه فإن أخذي أليم شديد.
وقال وهب: إذا هم الوالي بالجور أو عمل به دخل النقص على أهل مملكته، وقلت البركات في التجارات والزراعات والضروع والمواشي، ودخل المحق في ذلك، وأدخل الله عليه الذل في ذاته وفي ملكه.
وإذا هم بالعدل والخير كان عكس ذلك، من كثرة الخير ونمو البركات.
وقال وهب: كان في مصحف

(9/329)


إبراهيم عليه السلام أيها الملك المبتلى، إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، ولا لتبني البنيان، وإنما بعثتك لترفع لي دعوة المظلوم فإني لا أردها ولو كانت من كافر.
وروى ابن أبي الدنيا عن محمد بن إسحاق، عن وهب بن منبه: أن ذا القرنين قال لبعض الملوك: ما بال ملتكم واحدة، وطريقتكم مستقيمة ؟ قال: من قبل أنا لا نخادع ولا يغتاب بعضنا بعضا.
وروى ابن أبي الدنيا عنه أنه قال: ثلاث من كن فيه أصاب البر، سخاوة النفس، والصبر على الاذى، وطيب الكلام.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثني سلمة بن شبيب حدثنا سهل بن عاصم عن سلمة بن ميمون عن المعافى بن عمران عن إدريس قال: سمعت وهبا يقول: كان في بني اسرائيل رجلان بلغت بهما عبادتهما أنهما مشيا على الماء، فبينما هم يمشيان على البحر إذا هما برجل يمشي في الهواء، فقالا له: يا عبد الله بأي شئ أدركت هذه المنزلة ؟ قال: بيسير من البر فعلته، ويسير من الشر تركته، فطمت نفسي عن الشهوات، وكففت لساني عما لا يعنيني، ورغبت فيما دعاني إليه خالقي، ولزمت الصمت فإن أقسمت على الله عزوجل أبر قسمي، وإن سألته أعطاني.
وقال: حدثني أبو العباس البصري الازدي عن شيخ من الازد.
قال: جاء رجل إلى وهب بن منبه فقال: علمني شيئا ينفعني الله به، قال: أكثر من ذكر الموت، واقصر أملك، وخصلة ثالثة إن أنت أصبتها بلغت الغاية القصوى، وظفرت بالعبادة الكبرى قال: وما هي ؟ قال: التوكل.
وممن توفي فيها من الاعيان: سليمان بن سعد كان جميلا فصيحا عالما بالعربية، وكان يعلمها الناس هو وصالح بن عبد الرحمن الكاتب، وتوفي صالح بعده بقليل، وكان صالح فصيحا جميلا عارفا بكتابة الديوان، وبه يخرج أهل العراق من كتابة الديوان وقد ولاه سليمان بن عبد الملك خراج العراق.
أم الهذيل لها روايات كثيرة، وقد قرأت القرآن وعمرها اثنتي عشرة سنة، وكانت فقيه عالمة، من خيار النساء، عاشت سبعين سنة.
عائشة بنت طلحة بن عبد الله التميمي أمها أم كلثوم بنت أبي بكر، تزوجت بابن خالها عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، ثم تزوجت بعده بمصعب بن الزبير، وأصدقها مائة ألف دينار، وكانت بارعة الجمال، عظيمة الحسن لم يكن في زمانها أجمل منها.
توفيت بالمدينة.

(9/330)


عبد الله بن سعيد بن جبير له روايات كثيرة، وكان من أفضل أهل زمانه.
عبد الرحمن بن أبان ابن عثمان بن عفان.
له روايات كثيرة عن جماعة من الصحابة.