البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
ثم دخلت سنة احدى عشرة ومائة ففيها غزا معاوية بن هشام الصائفة اليسرى،
وغزا سعيد بن هشام الصائفة اليمنى (1)، حتى بلغ قيسارية من بلاد الروم.
وفيها عزل هشام بن عبد الملك أشرس بن عبد الله السلمي عن إمرة خراسان
وولى عليها الجنيد بن عبد الرحمن، فلما قدم خراسان تلقته خيول الاتراك
منهزمين من المسلمين، وهو في سبعة آلاف فتصافوا واقتتلوا قتالا شديدا،
وطمعوا فيه وفيمن معه لقلتهم بالنسبة إليهم، ومعهم ملكهم خاقان، وكاد
الجنيد أن يهلك، ثم أظفره الله بهم فهزمهم هزيمة منكرة، وأسر ابن أخي
ملكهم، وبعث به إلى الخليفة.
وحج بالناس فيها إبراهيم بن هشام المخزومي، وهو أمير الحرمين والطائف،
وأمير العراق خالد القسري، وأمير خراسان الجنيد بن عبد الرحمن المري
(2).
ثم دخلت سنة ثنتي عشرة ومائة فيها غزا
معاوية بن هشام الصائفة فافتتح حصونا (3) من ناحية ملاطية.
وفيها سارت الترك من اللان فلقيهم الجراح بن عبد الله الحكمي فيمن معه
من أهل الشام وأذربيجان، فاقتتلوا قبل أن يتكامل إليه جيشه، فاستشهد
الجراح رحمه الله وجماعة معه بمرج أردبيل (4)، وأخذ العدو أردبيل.
فلما
بلغ ذلك هشام بن عبد الملك بعث سعيد بن عمرو الحرشي بجيش وأمره
بالاسراع إليهم، فلحق الترك وهم يسيرون بأسارى المسلمين نحو ملكهم
خاقان، فاستنقذ منهم الاسارى ومن كان معهم من
__________
(1) الصائفة اليسرى: أي البلاد الواقعة في ساحل بلاد الاناضول.
والصائفة اليمنى أي بر الاناضول من جهة البلاد الداخلية.
(2) في الطبري 8 / 204: المزني.
وفي ابن الاثير 5 / 156: الجنيد بن عبد الرحمن بن عمرو بن الحارث بن
خارجة بن سنان بن أبي حارثة المري.
(3) افتتح حصن خرشنة كما في ابن الاثير 5 / 171 والطبري 8 / 205 وحرق
فرندية (4) في فتوح ابن الاعثم 8 / 39 في سفح جبل سبلان (وسبلان جبل
عظيم مشرف على مدينة أردبيل من أرض أذربيجان - معجم البلدان).
(*)
(9/331)
نساء المسلمين،
ومن أهل الذمة أيضا، وقتل من الترك مقتلة عظيمة جدا، وأسر منهم خلقا
كثيرا فقتلهم صبرا، وشفى ما كان تغلث من القلوب، ولم يكتف الخليفة بذلك
حتى أرسل أخاه مسلمة بن عبد الملك في أثر الترك، فسار إليهم في برد
شديد وشتاء عظيم، فوصل إلى باب الابواب واستخلف عنه أميرا وسار هو بمن
معه في طلب الاتراك وملكهم خاقان، وكان من أمره معهم ما سنذكره.
ونهض أمير خراسان في طلب الاتراك أيضا في جيش كثيف، فوصل إلى نهر بلخ
ووجه إليهم سرية ثمانية عشر ألفا، وأخرى عشرة آلاف يمنة ويسرة، وجاشت
الترك وجيشت، فأتوا سمرقند فكتب أميرها (1) إليه يعلمه بهم، وأنه لا
يقدر على صون سمرقند منهم، ومعهم ملكهم الاعظم خاقان، فالغوث الغوث.
فسار الجنيد مسرعا في جيش كثيف هو نحو سمرقند حتى وصل إلى شعب سمرقند
وبقي بينه وبينها أربعة فراسخ، فصحبه خاقان في جمع عظيم، فحمل خاقان
على مقدمة الجنيد فانحازوا إلى العسكر والترك تتبعهم من كل جانب،
فتراءى الجمعان والمسلمون يتغدون ولا يشعرون بانهزام مقدمتهم وانحيازها
إليهم، فنهضوا إلى السلاح واصطفوا على منازلهم، وذلك في مجال واسع،
ومكان بارز، فالتقوا وحملت الترك على ميمنة المسلمين وفيها بنو تميم
والازد، فقتل
منهم ومن غيرهم خلق كثير، ممن أراد الله كرامته بالشهادة، وقد برز بعض
شجعان المسلمين لجماعة من شجعان الترك فقتلهم، فناداه منادي خاقان: إن
صرت إلينا جعلناك ممن يرقص الصنم الاعظم فنعبدك، فقال: ويحكم، إنما
أقاتلكم على أن تعبدوا الله وحده لا شريك له، ثم قاتلهم حتى قتل رحمه
الله.
ثم تناخى المسلمون وتداعت الابطال والشجعان من كل مكان، وصبروا
وصابروا، وحملوا على الترك حملة رجل واحد، فهزمهم الله عزوجل، وقتلوا
منهم خلقا كثيرا، ثم عطفت الترك عليهم فقتلوا من المسلمين خلقا حتى لم
يبق سوى ألفين، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وقتل يومئذ سودة بن الحر
(1) واستأسروا من المسلمين جماعة كثيرة فحملوهم إلى الملك خاقان فأمر
بقتلهم عن آخرهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون وهذه الوقعة يقال لها وقعة
الشعب.
وقد بسطها ابن جرير جدا.
وممن توفي فيها من الاعيان: رجاء بن
حيوة الكندي أبو المقدام، ويقال أبو نصر، وهو تابعي جليل، كبير القدر،
ثقة فاضل عادل، وزير صدق لخلفاء بني أمية، وكان مكحول إذا سئل يقول:
سلوا شيخنا وسيدنا رجاء بن حيوة، وقد أثنى عليه غير واحد من الائمة
ووثقوه في الرواية، وله روايات وكلام حسن رحمه الله.
__________
(1) في الطبري 8 / 206 وابن الاثير 5 / 162: أميرها سورة بن الحر.
(2) من الطبري وابن الاثير، وفي الاصل: أبجر (*)
(9/332)
شهر بن حوشب
الاشعري الحمصي ويقال إنه دمشقي، تابعي جليل، روى عن مولاته أسماء بنت
يزيد بن السكن وغيرها، وحدث عنه جماعة من التابعين وغيرهم، وكان عالما
عابدا ناسكا، لكن تكلم فيه جماعة بسبب أخذه خريطة من بيت المال بغير
إذن ولي الامر، فعابوه وتركوه عرضة، وتركوا حديثه وأنشدوا فيه الشعر،
منهم شعبة وغيره، ويقال إنه سرق غيرها فالله أعلم.
وقد وثقه جماعات آخرون وقبلوا روايته وأثنوا عليه وعلى عبادته ودينه
واجتهاده، وقالوا: لا يقدح في روايته ما أخذه من بيت المال إن صح عنه،
وقد كان واليا عليه متصرفا فيه فالله أعلم.
قال الواقدي: توفي شهر في هذه السنة - أعني سنة اثنتي عشرة ومائة وقيل
قبلها بسنة وقيل سنة مائة فالله أعلم.
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة ومائة ففيها غزا
معاوية بن هشام أرض الروم من ناحية مرعش، وفيها صار جماعة من دعاة بني
العباس إلى خراسان وانتشروا فيها، وقد أخذ أميرهم رجلا منهم فقتله
وتوعد غيره بمثل ذلك.
وفيها وغل مسلمة بن عبد الملك في بلاد الترك فقتل منهم خلقا كثيرا،
ودانت له تلك الممالك من ناحية بلنجر وأعمالها.
وفيها حج بالناس إبراهيم بن هاشم المخزومي، فالله أعلم.
ونواب البلادهم المذكورون في التي قبلها.
وممن توفي فيها من الاعيان قال ابن
جرير: فيها كان مهلك.
الامير عبد الوهاب بن بخت وهو مع البطال عبد الله بأرض الروم قتل شهيدا
وهذه ترجمته: هو عبد الوهاب بن بخت أبو عبيدة ويقال أبو بكر، مولى آل
مروان مكي، سكن الشام ثم تحول إلى المدينة، روى عن ابن عمر وأنس وأبي
هريرة وجماعة من التابعين.
وعنه خلق منهم أيوب ومالك بن أنس ويحيى بن سعيد الانصاري وعبيد الله
العمري، حديثه عن أنس مرفوعا " نضر الله امرأ سمع مقالتي هذه فوعاها ثم
بلغها غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن صدر
مؤمن، إخلاص العمل لله، ومناصحة أولي الامر، ولزوم جماعة المسلمين، كأن
دعوتهم تحيط من ورائهم ".
وروى عن أبي الزناد عن الاعرج عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلى
الله عليه وسلم).
" إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه فإن حالت بينهما شجرة ثم لقيه فليسلم
عليه ".
وقد وثق عبد الوهاب هذا جماعات من أئمة العلماء.
وقال مالك: كان كثير الحج والعمرة والغزو، حتى استشهد ولم يكن أحق بما
في رحله من رفقائه، وكان سمحا جوادا، استشهد ببلاد الروم مع الامير أبي
محمد عبد الله البطال، ودفن هناك رحمه الله.
توفي في هذه السنة قاله خليفة وغيره، وذلك أنه لقي العدو ففر بعض
المسلمين، فجعل ينادي ويركض فرسه نحو العدو: أن هلموا إلى الجنة ويحكم
(9/333)
أفرارا من الجنة ؟ أتفرون من الجنة ؟ إلى أين ويحكم لا مقام لكم في
الدنيا ولا بقاء ؟ ثم قاتل حتى قتل رحمه الله.
مكحول الشامي (1) تابعي جليل القدر، إمام أهل الشام في زمانه، وكان
مولى لامرأة من هذيل، وقيل مولى امرأة من آل سعيد بن العاص، وكان نوبيا
وقيل من سبي كابل، وقيل كان من الابناء من سلالة الاكاسرة وقد ذكرنا
نسبه في كتابنا التكميل.
وقال محمد بن إسحاق: سمعته يقول: طفت الارض كلها في طلب العلم: وقال
الزهري: العلماء أربعة (2)، سعيد بن المسيب بالحجاز، والحسن البصري
بالبصرة، والشعبي بالكوفة، ومكحول بالشام.
وقال بعضهم: كان لا يستطيع أن يقول: قل، وإنما يقول: كل وكان له وجاهة
عند الناس، مهما أمر به من شئ يفعل.
وقال سعيد بن عبد العزيز: كان أفقه أهل الشام، وكان أفقه من الزهري.
وقال غير واحد: توفي في هذه السنة، وقيل بعدها فالله أعلم: مكحول
الشامي هو ابن أبي مسلم، واسم أبي مسلم شهزاب بن شاذل (3).
كذا نقلته من خط عبد الهادي، وروى ابن أبي الدنيا عنه أنه قال: من نظف
ثوبه قل همه، ومن طاب ريحه زيد في عقله.
وقال مكحول في قوله تعالى (ثم لتسألن يومئذ عن النعيم) [ التكاثر: 8 ]
قال: بارد الشراب، وضلال المساكن وشبع البطون، واعتدال الخلق، ولذاذة
النوم، وقال: إذا وضع المجاهدون أثقالهم عن دوابهم أتتها الملائكة،
فمسحت ظهورها ودعت لها بالبركة، إلا دابة في عنقها جرس. |