البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي

ثم دخلت سنة أربع عشرة ومائة فيها غزا معاوية بن هشام الصائفة اليسرى وعلى اليمنى سليمان بن هشام بن عبد الملك، وهما ابنا أمير المؤمنين هشام: وفيها التقى عبد الله البطال وملك الروم المسمى فيهم قسطنطين، وهو ابن
__________
(1) ترجمته في تذكرة الحفاظ 1 / 101 تهذيب التهذيب 10 / 289 حلية الاولياء 5 / 177 تاريخ الاسلام للذهبي 5 / 3 - 6 وفيات الاعيان 2 / 122 ميزان الاعتدال 3 / 198.
(2) في تذكرة الحفاظ 1 / 108 عن الزهري: العلماء ثلاثة وذكر منهم مكحولا.
(3) في وفيات الاعيان 5 / 281: (قال الخطيب كان شاذل من أهل هراة فتزوج ابنة ملك من ملوك كابل ثم هلك عنها وهي حامل، فانصرفت إلى أهلها، فولدت شهراب فلم يزل في أخواله بكابل حتى ولد له مكحول، فلما ترعرع سبي، ثم وقع إلى سعيد بن العاص فوهبه لامرأة من هذيل فأعتقته ".
(انظر ابن ماكولا وهامش صفحة 5 / 1).
(*)

(9/334)


هرقل الاول الذي كتب إليه النبي (صلى الله عليه وسلم) فأسره البطال، فأرسله إلى سليمان بن هشام، فسار به إلى أبيه.
وفيها عزل هشام عن إمرة مكة والمدينة والطائف إبراهيم بن هشام بن إسماعيل، وولى عليها أخاه محمد بن هشام (1) فحج بالناس في هذه السنة في قول، وقال الواقدي وأبو معشر: إنما حج بالناس خالد بن عبد الملك بن مروان والله أعلم.
وممن توفي فيها من الاعيان:
عطاء بن أبي رباح (2) الفهري مولاهم أبو محمد المكي، أحد كبار التابعين الثقات الرفعاء، يقال إنه أدرك مائتي صحابي وقال ابن سعد: سمعت بعض أهل العلم يقول: كان عطاء أسود أعور أفطس (3) أشل أعرج، ثم عمي بعد ذلك، وكان ثقة فقيها عالما كثير الحديث، وقال أبو جعفر الباقر وغير واحد: ما بقي أحد في زمانه أعلم بالمناسك منه، وزاد بعضهم، وكان قد حج سبعين حجة، وعمر مائة سنة، وكان في آخر عمره يفطر في رمضان من الكبر والضعف ويفدي عن إفطاره، ويتأول الآية (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) [ البقرة: 184 ] وكان ينادي منادي بني أمية في أيام منى: لا يفتي الناس في الحج إلا عطاء بن أبي رباح، وقال أبو جعفر الباقر: ما رأيت فيمن لقيت أفقه منه، وقال الاوزاعي: مات عطاء يوم مات وهو أرضى أهل الارض عندهم.
وقال ابن جريج: كان في المسجد فراش عطاء عشرين سنة، وكان من أحسن الناس به صلاة.
وقال قتادة: كان سعيد بن المسيب والحسن وإبراهيم وعطاء هؤلاء أئمة الامصار.
وقال عطاء: إن الرجل ليحدثني بالحديث فأنصت له كأني لم أكن سمعته، وقد سمعته قبل أن يولد، فأريه أني إنما سمعته
الآن منه.
وفي رواية: أنا أحفظ منه له فأريه أني لم أسمعه.
الجمهور على أنه مات في هذه السنة رحمه الله تعالى والله أعلم.
فصل أسند أبو محمد عطاء بن أبي رباح - واسم أبي رباح أسلم - عن عدد كثير من الصحابة، منهم ابن عمر وابن عمرو، وعبد الله بن الزبير، وأبو هريرة، وزيد بن خالد الجهني، وأبو سعيد.
وسمع من ابن عباس التفسير وغيره.
وروى عنه من التابعين عدة، منهم الزهري، وعمرو بن دينار، وأبو الزبير، وقتادة، ويحيى بن كثير، ومالك بن دينار، وحبيب بن أبي ثابت، والاعمش، وأيوب السختياني، وغيرهم من الائمة والاعلام كثير.
قال أبو هزان: سمعت
__________
(1) في الطبري 8 / 217 وابن الاثير 5 / 179: ولى محمد بن هشام على مكة.
وعلى المدينة خالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم.
(2) ترجمته في طبقات ابن سعد 5 / 467 صفة الصفوة 2 / 211 وفيات الاعيان.
(3) في صفة الصفوة 2 / 212 عن ابراهيم بن اسحاق الحربي قال: كان أنفه كأنه باقلاة.
(*)

(9/335)


عطاء بن أبي رباح يقول: من جلس مجلس ذكر كفر الله عنه بذلك المجلس عشر مجالس من مجالس الباطل.
قال أبو هزان قلت لعطاء: ما مجلس الذكر ؟ قال: مجالس الحلال والحرام، كيف تصلي، كيف تصوم، كيف تنكح وتطلق وتبيع وتشتري.
وقال الطبراني: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا عبد الرزاق، عن يحيى بن ربيعة الصنعاني.
قال: سمعت عطاء بن أبي رباح يقول في قوله تعالى: (وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الارض ولا يصلحون) [ النمل: 48 ] قال: كانوا يقرضون الدراهم، قيل كانوا يقصون منها ويقطعونها.
وقال الثوري عن عبد الله بن الوليد - يعني الوصافي - قال: قلت لعطاء: ما ترى في صاحب قلم إن هو كتب به عاش هو وعياله في سعة، وإن هو تركه افتقر ؟ قال: من الرأس ؟ قلت القسري لخالد.
قال عطاء: قال العبد الصالح: (رب بما أنعمت علي فلن أكون
ظهيرا للمجرمين) [ القصص: 17 ].
وقال: أفضل ما أوتي العباد العقل عن الله وهو الدين.
وقال عطاء: ما قال العبد: يا رب، ثلاث مرات إلا نظر الله إليه، قال: فذكرت ذلك للحسن فقال: أما تقرأون القرآن (ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للايمان أن آمنوا بربكم فآمنا، ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا) [ آل عمران: 193 ] إلى قوله: (فاستجاب لهم ربهم) الآيات [ آل عمران: 195 ].
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثنا أبو عبد الله السلمي، حدثنا ضمرة، عن عمر بن الورد قال: قال عطاء: إن استطعت أن تخلو بنفسك عشية عرفة فافعل.
وقال سعيد بن سلام البصري: سمعت أبا حنيفة النعمان يقول: لقيت عطاء بمكة فسألته عن شئ فقال: من أين أنت ؟ فقلت: من أهل الكوفة.
قال: أنت من أهل القرية الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعا ؟ قلت: نعم ! قال: فمن أي الاصناف أنت ؟ قلت: ممن لا يسب السلف ويؤمن بالقدر، ولا يكفر أحدا من أهل القبلة بذنب: فقال عطاء: عرفت فالزم.
وقال عطاء: ما اجتمعت عليه الامة أقوى عندنا من الاسناد.
وقيل لعطاء: إن هاهنا قوما يقولون: الايمان لا يزيد ولا ينقص، فقال: (والذين اهتدوا زادهم هدى) [ محمد: 17 ] فما هذا الهدى الذي زادهم ؟ قلت: ويزعمون أن الصلاة والزكاة ليستا من دين الله، فقال: قال تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة) [ البينة: 5 ] فجعل ذلك دينا.
وقال يعلى بن عبيد: دخلنا على محمد بن سوقة فقال: ألا أحدثكم بحديث لعله أن ينفعكم، فإنه نفعني، قال لي عطاء بن أبي رباح: يابن أخي إن من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكلام، وكانوا يعدون فضول الكلام إثما، ما عدا كتاب الله أن يقرأ، وأمر بمعروف أو نهي عن منكر، أو ينطلق العبد بحاجته في معيشته التي لا بد له منها، أتنكرون: (وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين) [ الانفطار: 11 ] و: (عن اليمين وعن الشمال قعيد، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) [ ق:

(9/336)


17 - 18 ] أما يستحي أحدكم لو نشرت عليه صيحفته التي أملاها صدر نهاره فرأى أكثر ما فيها ليس
من أمر دينه ولا دنياه ؟.
وقال: إذا أنت خفت الحر من الليل فاقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
وروى الطبراني وغيره أن الحلقة في المسجد الحرام كانت لابن عباس، فلما مات ابن عباس كانت لعطاء بن أبي رباح.
وروى عثمان بن أبي شيبة، عن أبيه، عن الفضل بن دكين، عن سفيان، أن سلمة بن كهيل قال: ما رأيت أحدا يطلب بعمله ما عند الله تعالى إلا ثلاثة، عطاء، وطاوس، ومجاهد.
وقال الامام أحمد: حدثنا ابن نمير، حدثنا عمر بن ذر قال: ما رأيت مثل عطاء قط، وما رأيت على عطاء قميصا قط، ولا رأيت عليه ثوبا يساوي خمسة دراهم.
وقال أبو بلال الاشعري: حدثنا قيس، عن عبد الملك بن جريج عن عطاء: أن يعلى بن أمية كانت له صحبة، وكان يقعد في المسجد ساعة ينوي فيها الاعتكاف.
وروى الاوزاعي عن عطاء قال: إن كانت فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لتعجن، وأن كانت قصتها لتضرب بالجفنة.
وعن الاوزاعي عنه قال: (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله) [ النور: 2 ] قال: ذلك في إقامة الحد عليهما.
وقال الاوزاعي: كنت باليمامة وعليها رجل وال يمتحن الناس من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إنه منافق وما هو بمؤمن، ويأخذ عليهم بالطلاق والعتاق أن يسمي المسئ منافقا وما يسميه مؤمنا، فأطاعوه على ذلك وجعلوه له، قال: فلقيت عطاء فيما بعد فسألته عن ذلك فقال: ما أرى بذلك بأسا يقول الله تعالى: (إلا أن تتقوا منهم تقاة) [ ال عمران: 28 ].
وقال الامام أحمد: حدثنا سفيان بن عيينة، حدثنا إسماعيل بن أمية قال: كان عطاء يطيل الصمت فإذا تكلم تخيل إلينا أنه يؤيد.
وقال في قوله تعالى: (لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله) [ آل عمران: 28 ] قال: لا يلهيهم بيع ولا شراء عن مواضع حقوق الله تعالى التي افترضها عليهم أن يؤدوها في أوقاتها وأوائلها.
وقال ابن جرير: رأيت عطاء يطوف بالبيت فقال لقائده: امسكوا احفظوا عني خمسا: القدر خيره وشره، حلوه ومره من الله عزوجل، وليس للعباد فيه مشيئة ولا تفويض.
وأهل قبلتنا مؤمنون حرام دماؤهم وأموالهم إلا بحقها.
وقتال الفئة الباغية بالايدي والنعال والسلاح، والشهادة على الخوارج بالضلالة.
وقال ابن عمر: تجمعون لي المسائل وفيكم عطاء بن
أبي رباح.
وقال معاذ بن سعيد (1): كنت جالسا عند عطاء فحدث بحديث، فعرض رجل له في حديثه فغضب عطاء وقال: ما هذه الاخلاق ؟ وما هذه الطبائع ؟ والله إني لاسمع الحديث من الرجل وأنا أعلم به منه فأريه أني لا أحسن شيئا منه (2).
وكان عطاء يقول: لان أرى في بيتي شيطانا خير من أن أرى فيه
__________
(1) من ابن سعد 5 / 469 وصفة الصفوة 2 / 214.
وفي الاصل سعد وهو تحريف.
(2) في ابن سعد: كأني لم أسمعه قبل ذلك.
(5 / 469).
(*)

(9/337)


وسادة، لانها تدعو إلى النوم.
وروى عثمان بن أبي شيبة عن علي بن المديني، عن يحيى بن سعيد، عن ابن جريج (1) قال: كان عطاء بعد ما كبر وضعف يقوم إلى الصلاة فيقرأ مائتي آية من سورة البقرة وهو قائم لا يزول منه شئ ولا يتحرك.
وقال ابن عيينة: قلت لابن جريج (1): ما رأيت مصليا مثلك.
فقال: لو رأيت عطاء ؟.
وقال عطاء: إن الله لا يحب الفتى يلبس الثوب المشهور، فيعرض الله عنه حتى يضع ذلك الثوب.
وكان يقال: ينبغي للعبد أن يكون كالمريض لا بد له من قوت، وليس كل الطعام يوافقه.
وكان يقال: الدعوة تعمي عين الحكيم فكيف بالجاهل ؟ ولا تغبطن ذا نعمة بما هو فيه فإنك لا تدري إلى ماذا يصير بعد الموت.
ثم دخلت سنة خمس عشرة ومائة ففيها وقع طاعون بالشام، وحج بالناس فيها محمد بن هشام بن إسماعيل وهو نائب الحرمين والطائف.
والنواب في سائر البلادهم المذكورون في التي قبلها والله أعلم.
وممن توفي فيها من الاعيان:
أبو جعفر الباقر وهو محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي أبو جعفر الباقر، وأمه ام عبد الله بنت الحسن بن علي، هو تابعي جليل، كبير القدر كثيرا، أحد أعلام هذه الامة علما وعملا وسيادة وشرفا، وهو احد من تدعي فيه طائفة الشيعة أنه أحد الائمة الاثني عشر، ولم يكن الرجل
على طريقهم ولا على منوالهم، ولا يدين بما وقع في أذهانهم وأوهامهم وخيالهم، بل كان ممن يقدم أبا بكر وعمر، وذلك عنده صحيح في الاثر، وقال أيضا: ما أدركت أحدا من أهل بيتي إلا وهو يتولاهما رضي الله عنهما.
وقد روى عن غير واحد من الصحابة (2)، وحدث عنه جماعة من كبار التابعين وغيرهم.
فمن روى عنه ابنه جعفر الصادق، والحكم بن عتيبة، وربيعة، والاعمش، وأبو إسحاق السبيعي، والاوزاعي والاعرج، وهو أسن منه، وابن جريج وعطاء وعمرو بن دينار والزهري.
وقال سفيان بن عيينة عن جعفر الصادق قال: حدثني أبي وكان خير محمدي يومئذ على وجه الارض، وقال العجلي: هو مدني تابعي ثقة، وقال محمد بن سعد: كان ثقة كثير (3) الحديث، وكانت وفاته في هذه السنة في قول وقيل في التي قبلها، وقيل في التي بعدها أو في التي هي بعدها وبعد بعدها والله أعلم.
وقد جاوز السبعين وقيل لم يجاوز الستين فالله أعلم.
__________
(1) من صفة الصفوة 2 / 212 وفي الاصل ابن جرير وهو تحريف.
(2) ومنهم جابر بن عبد الله وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وابن عباس وأنس.
(3) في ابن سعد 5 / 324: كثير العلم والحديث.
(*)

(9/338)


فصل
أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، كان أبوه علي زين العابدين، وجده الحسين قتلا شهيدين بالعراق.
وسمي الباقر لبقره العلوم واستنباطه الحكم، كان ذاكرا خاشعا صابرا وكان من سلالة النبوة، رفيع النسب عالي الحسب، وكان عارفا بالخطرات، كثير البكاء والعبرات معرضا عن الجدال والخصومات.
قال أبو بلال الاشعري: حدثنا محمد بن مروان، عن ثابت، عن محمد بن علي بن الحسين في قوله تعالى: (أولئك يجزون الغرفة بما صبروا) [ الفرقان: 75 ] قال: الغرفة الجنة بما صبروا على الفقر في الدنيا.
وقال عبد السلام بن حرب، عن زيد بن خيثمة عن أبي جعف قال: الصواعق تصيب المؤمن وغير المؤمن، ولا تصيب الذاكر.
قلت: وقد روي نحو هذا عن ابن عباس قال: لو
نزل من السماء صواعق عدد النجوم لم تصب الذاكر.
وقال جابر الجعفي: قال لي محمد بن علي: يا جابر إني لمحزون، وإني لمشتغل القلب.
قلت: وما حزنك وشغل قلبك ؟ قال: يا جابر إنه من دخل قلبه صافي دين الله عزوجل شغله عما سواه، يا جابر ما الدنيا ؟ وما عسى أن تكون ؟ هل هي إلا مركبا ركبته ؟ أو ثوبا لبسته ؟ أو امرأة أصبتها ؟ يا جابر ! إن المؤمنين لم يطمئنوا إلى الدنيا لبقاء فيها، ولم يأمنوا قدوم الآخرة عليهم، ولم يصمهم عن ذكر الله ما سمعوا بآذانهم من الفتنة، ولم يعمهم عن نور الله ما رأوا بأعينهم من الزينة ففازوا بثواب الابرار.
إن أهل التقوى أيسر أهل الدنيا مؤنة، وأكثرهم لك معونة، إن نسيت ذكروك، وإن ذكرت أعانوك، قوالين بحق الله، قوامين بأمر الله، قطعوا لمحبة ربهم عزوجل، ونظروا إلى الله وإلى محبته بقلوبهم، وتوحشوا من الدنيا لطاعة محبوبهم، وعلموا أن ذلك من أمر خالقهم، فأنزلوا الدنيا حيث أنزلها مليكهم كمنزل نزلوه ثم ارتحلوا عنه وتركوه، وكماء (1) أصبته في منامك فلما استيقظت إذا ليس في يدك منه شئ، فاحفظ الله فيما استرعاك من دينه وحكمته.
وقال خالد بن يزيد: سمعت محمد بن علي يقول: قال عمر بن الخطاب: إذا رأيتم القارئ يحب الاغنياء فهو صاحب الدنيا، وإذا رأيتموه يلزم السلطان فهو لص، وكان أبو جعفر يصلي كل يوم وليلة بالمكتوبة.
وروى ابن أبي الدنيا عنه قال: سلاح اللئام قبيح الكلام.
وروى أبو الأحوص عن منصور عنه قال: لكل شئ آفة، وآفة العلم النسيان.
وقال لابنه: إياك والكسل والضجر فإنهما مفتاح كل خبيثة، إنك إذا كسلت لم تؤد حقا، وإن ضجرت لم تصبر على حق.
وقال: أشد الاعمال ثلاثة ذكر الله على كل حال، وإنصافك من نفسك، ومواساة الاخ في المال.
وقال خلف بن
__________
(1) في صفة الصفوة 2 / 109: وكمال.
(*)

(9/339)


حوشب: قال أبو جعفر: الايمان ثابت في القلب، واليقين خطرات، فيمر اليقين بالقلب فيصير كأنه زبر الحديد، ويخرج منه فيصير كأنه خرقة بالية، وما دخل قلب عبد شئ من الكبر إلا نقص من عقله بقدره أو أكثر منه.
وقال لجابر الجعفي: ما يقول فقهاء العراق في قوله تعالى: (لو لا أن رأى برهان ربه) [ يوسف: 24 ] ؟ قال: رأى يعقوب عاضا على إبهامه.
فقال: لا ! حدثني أبي عن جدي علي بن أبي طالب أن البرهان الذي رآه أنها حين همت به وهم بها أي طمع فيها، قامت إلى صنم لها مكلل بالدر والياقوت في ناحية البيت فسترته بثوب أبيض خشية أن يراها، أو استحياء منه.
فقال لها يوسف: ما هذا ؟ فقالت إلهي أستحي منه أن يراني على هذه الصورة.
فقال يوسف: تستحين من صنم لا ينفع ولا يضر، ولا يسمع ولا يبصر، أفلا أستحي أنا من إلهي الذي هو قائم على كل نفس بما كسبت ؟ ثم قال: والله لا تنالين مني أبدا.
فهو البرهان.
وقال بشر بن الحارث الحافي: سمعت سفيان الثوري يقول: سمعت منصورا يقول: سمعت محمد بن علي يقول: الغنى والعز يجولان في قلب المؤمن، فإذا وصلا إلى مكان فيه التوكل أوطناه.
وقال: إن الله يلقي في قلوب شيعتنا الرعب، فإذا قام قائمنا، وظهر مديننا كان الرجل منهم أجرأ من ليث وأمضى من سيف.
وقال: شيعتنا من أطاع الله عزوجل واتقاه.
وقال: إياكم والخصومة فإنها تفسد القلب، وتورث النفاق، وقال: (الذين يخوضون في آيات الله) [ الانعام: 68 ] هو أصحاب الخصومات.
وقال عروة بن عبد الله: سألت أبا جعفر محمد بن علي عن حلية السيف فقال: لا بأس به، قد حلى أبو بكر الصديق سيفه.
قال: قلت: وتقول الصديق ؟ قال: فوثب وثبة واستقبل القبلة ثم قال: نعم الصديق، نعم الصديق، فمن لم يقل الصديق فلا صدق الله له قولا في الدنيا والآخرة.
وقال جابر الجعفي: قال لي محمد بن علي: يا جابر ! بلغني أن قوما بالعراق يزعمون أنهم يحبونا ويتناولون أبا بكر وعمر ويزعمون أني أمرتهم بذلك، فأبلغهم عني أني إلى الله منهم برئ، والذي نفس محمد بيده - يعني نفسه - لو وليت لتقربت إلى الله بدمائهم، لا نالتني شفاعة محمد (صلى الله عليه وسلم) إن لم أكن أستغفر لهما، وأترحم عليهما، إن أعداء الله لغافلون عن فضلهما وسابقتهما، فأبلغهم أني برئ منهم وممن تبرأ من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
وقال: من لم يعرف فضل أبي بكر وعمر فقد جهل السنة.
وقال في قوله تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا) الآية [ المائدة: 55 ]، قال: هم أصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم)، قال: قلت يقولون: هو علي قال: علي من أصحاب محمد
(صلى الله عليه وسلم).
وقال عبد الله بن عطاء: ما رأيت العلماء عند أحد أصغر منهم عند أبي جعفر محمد بن علي، قال: رأيت الحكم عنده كأنه متعلم، وقال: كان لي أخ في عيني عظيم، وكان الذي عظمه في عيني صغر الدينا في عينه، وقال جعفر بن محمد: ذهبت بغلة أبي فقال: لئن ردها الله علي لاحمدنه بمحامد

(9/340)


يرضاها، فما كان بأسرع من أن أتي بها بسرجها لم يفقد منها شئ، فقام فركبها، فلما استوى عليها وجمع إليه ثيابه رفع رأسه إلى السماء وقال: الحمد لله، لم يزد على ذلك، فقيل له في ذلك، فقال: فهل تركت أو أبقيت شيئا ؟ جعلت الحمد كله لله عزوجل.
وقال عبد الله بن المبارك: قال محمد بن علي: من أعطي الخلق والرفق فقد أعطي الخير والراحة، وحسن حاله في دنياه وآخرته، ومن حرمهما كان ذلك سبيلا إلى كل شر وبلية، إلا من عصمه الله.
وقال: أيدخل أحدكم يده في كم صاحبه فيأخذ ما يريد تاما إلا قال: فلستم إخوانا كما تزعمون، وقال: اعرف مودة أخيك لك بما له في قلبك من المودة فإن القلوب تتكافأ.
وسمع عصافير يصحن فقال: أتدري ماذا يقلن ؟ قلت: لا ! ! قال: يسبحن الله ويسألنه رزقهن يوما بيوم.
وقال: تدعو الله بما تحب، وإذا وقع الذي تكره لم تخالف الله عزوجل فيما أحب.
وقال: ما من عبادة أفضل من عفة بطن أو فرج، وما من شئ أحب إلى الله عزوجل من أن يسأل.
وما يدفع القضاء إلا الدعاء.
وإن أسرع الخير ثوابا البر، وأسرع الشر عقوبة البغي، وكفى بالمرء عيبا أن يبصر من الناس ما يعمى عليه من نفسه، وأن يأمر الناس بما لا يستطيع أن يفعله، وينهى الناس بما لا يستطيع أن يتحول عنه.
وأن يؤذي جليسه بما لا يعنيه.
هذا كلمات جوامع موانع لا ينبغي لعاقل أن يفعلها.
وقال القرآن كلام الله عزوجل غير مخلوق.
وقال أبو جعفر: صحب عمر بن الخطاب رجل إلى مكة فمات في الطريق، فاحتبس عليه عمر حتى صلى عليه ودفنه، فقل يوم إلا كان عمر يتمثل بهذا البيت: وبالغ أمر كان يأمل دونه * ومختلج من دون ما كان يأمل
وقال أبو جعفر: والله لموت عالم أحب إبليس من موت ألف عابد.
وقال: ما اغرو رقت عين عبد بمائها إلا حرم الله وجه صاحبها على النار، فإن سالت على الخدين لم يرهق وجهه قتر ولا ذلة، وما من شئ إلا وله جزاء إلا الدمعة فإن الله يكفر بها بحور الخطايا، ولو أن باكيا بكى من خشية الله في أمة رحم الله تلك الامة.
وقال: بئس الاخ أخ يرعاك غنيا ويقطعك فقيرا.
قلت: البيت الذي كان يتمثل به قبله بيتان وهو ثالثهما، وهذه الابيات تتضمن حكما وزهدا في الدنيا قال: لقد غرت الدنيا رجالا فأصبحوا * بمنزلة ما بعدها متحول فساخط أمر لا يبدل غيره * وراض بأمر غيره سيبدل وبالغ أمر كان يأمل دونه * ومختلج من دون ما كان يأمل ثم دخلت سنة ست عشرة ومائة ففيها غزا معاوية بن هشام الصائفة، وفيها وقع طاعون عظيم بالشام والعراق، وكان معظم ذلك في واسط.
وفي المحرم منها توفي الجنيد بن عبد الرحمن المري أمير خراسان من مرض أصابه في

(9/341)


بطنه، وكان قد تزوج الفاضلة بنت يزيد بن المهلب فتغضب عليه أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك فعزله وولى مكانه عاصم بن عبد الله على خراسان، وقال له: إن أدركته قبل أن يموت فأزهق روحه.
فما قدم عاصم بن عبد الله خراسان حتى مات الجنيد في المحرم منها بمرو، وقال فيه أبو الجويرية (1) عيسى بن عصمة يرثيه: هلك الجود والجنيد جميعا * فعلى الجود والجنيد السلام أصبحا ثاويين في بطن (2) مرو * ما تغنى على الغصون الحمام كنتما نزهة الكرام فلما * مت مات الندى ومات الكرام ولما قدم عاصم خراسان أخذ نواب الجنيد بالضرب البليغ وأنواع العقوبات، وعسفهم في المصادرات والجنايات، فخرج عن طاعته الحارث بن سريح (3) فبارزه بالحرب، وجرت بينهما أمور يطول ذكرها، ثم آل الامر إلى أن انكسر الحارث بن سريج (3) وظهر عاصم عليه.
قال الواقدي:
وفيها حج بالناس الوليد بن يزيد وهو ولي الامر من بعد عمه هشام بن عبد الملك أمير المؤمنين كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ثم دخلت سنة سبع عشرة ومائة فيها غزا معاوية بن هشام الصائفة اليسرى، وسليمان بن هشام الصائفة اليمنى، وهما ابنا أمير المؤمنين هشام.
وفيها بعث مروان بن محمد - وهو مروان الحمار - وهو على أرمينية بعثين ففتح حصونا من بلاد اللان، ونزل كثير منهم على الايمان: وفيها عزل هشام عاصم بن عبد الله الهلالي الذي ولاه في السنة قبلها خراسان مكان الجنيد، فعزله عنها وضمها إلى عبد الله بن خالد القسري مع العراق معادة إليه جريا على ما سبق له من العادة، وكان ذلك عن كتاب عاصم بن عبد الله الهلالي المعزول عنها، وذلك أنه كتب إلى أمير المؤمنين هشام: إن ولاية خراسان لا تصلح إلا مع ولاية العراق، رجاء أن يضيفها إليه، فانعكس الامر عليه فأجابه هشام إلى ذلك قبولا إلى نصيحته، وأضافها إلى خالد القسري.
وفيها توفي:
__________
(1) من الطبري 8 / 319 وفي الاصل أبو الجرير وهو تحريف.
(2) في الطبري.
أرض.
(3) من الطبري 8 / 221 وابن الاثير 5 / 183 وفي الاصل شريح وهو تحريف.
(*)

(9/342)


قتادة بن دعامة السدوسي (1) أبو الخطاب البصري الاعمى، أحد علماء التابعين، والائمة العاملين، روى عن أنس بن مالك وجماعة من التابعين، منهم سعيد بن المسيب، والبصري، وأبو العالية، وزرارة بن أوفي، وعطاء ومجاهد، ومحمد بن سيرين، ومسروق، وأبو مجلز وغيرهم، وحدث عنه جماعات من الكبار كأيوب وحماد بن مسلمة، وحميد الطويل، وسعيد بن أبي عروبة، والاعمش، وشعبة، والاوزاعي، ومسعر، ومعمر، وهمام.
قال ابن المسيب: ما جاءني عراقي أفضل (2) منه.
وقال بكر المزني: ما رأيت أحفظ منه.
وقال محمد بن سيرين: هو من أحفظ الناس، وقال مطر: كان
قتادة إذا سمع الحديث يأخذه العويل والزويل حتى يحفظه، وقال الزهري: هو أعلم من مكحول.
وقال معمر: ما رأيت أفقه من الزهري وحماد وقتادة.
وقال قتادة: ما سمعت شيئا إلا وعاه قلبي.
وقال أحمد بن حنبل: هو أحفظ أهل البصرة، لا يسمع شيئا إلا حفظه.
وقرئ عليه صحيفة جابر مرة واحدة فحفظها.
وذكر يوما فأثنى على علمه وفقهه ومعرفته بالاختلاف والتفسير وغير ذلك، وقال أبو حاتم: كانت وفاته بواسط في الطاعون - يعني في هذه السنة - وعمره ست أو سبع وخمسون سنة.
قال قتادة: من وثق (3) بالله كان الله معه، ومن يكن الله معه تكن معه الفئة التي لا تغلب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل، والعالم الذي لا ينسى.
وقال: في الجنة كوة إلى النار، فيقولون (4): ما بال الاشقياء دخلوا النار، وإنما دخلنا الجنة بفضل تأديبكم، فقالوا: إنا كنا نأمركم ولا نأتمر، وننهاكم ولا ننتهي.
وقال: باب من العلم يحفظه الرجل يطلب به صلاح نفسه وصلاح دينه وصلاح الناس، أفضل من عبادة حول كامل.
وقال قتادة: لو كان يكتفي من العلم بشئ لاكتفى موسى عليه السلام بما عنده، ولكنه طلب الزيادة.
وفيها توفي: أبو الحباب سعيد بن يسار والاعرج، وابن أبي مليكة، وعبد الله بن أبي زكريا الخزاعي، وميمون بن مهران بن موسى بن وردان.
فصل فأما سعيد بن يسار فكان من العباد الزهاد، روى عن جماعة من الصحابة، وكذلك الاعرج وابن أبي مليكة وأما ميمون بن مهران فهو من أجلاء علماء التابعين وزهادهم وعبادهم وأئمتهم.
كان
__________
(1) ترجمته في تذكرة الحفاظ 1 / 122 وفيات الاعيان 4 / 85 طبقات ابن سعد 7 / 229 شذرات الذهب 1 / 153 تهذيب التهذيب 8 / 351 ميزان الاعتدال 3 / 385 صفة الصفوة 3 / 259.
(2) في تذكرة الحفاظ 1 / 123: أحفظ من قتادة.
(3) في صفة الصفوة 3 / 259: من يتق الله...(4) في صفة الصفوة: فيطلع أهل الجنة من تلك الكوى إلى النار فيقولون: (*)

(9/343)


ميمون إمام أهل الجزيرة.
روى الطبراني عنه أنه قيل له: مالك لا يفارقك أخ لك عن قلى ؟ قال: لاني لا أماريه ولا أشايه.
قال عمر بن ميمون: ما كان أبي يكثر الصلاة ولا الصيام، ولكن كان يكره أن يعصى الله عزوجل.
وروى ابن أبي عدي عن يونس عنه قال: لا تمارين عالما ولا جاهلا، فإنك إن ماريت عالما حزن عنك علمه، وإن ماريت جاهلا خشن بصدرك.
وقال عمر بن ميمون: خرجت بأبي أقوده في بعض سكك البصرة، فمررنا بجدول فلم يستطع الشيخ أن يتخطاه، فاضطجعت له فمر على ظهري، ثم قمت فأخذت بيده.
ثم دفعنا إلى منزل الحسن فطرقت الباب فخرجت إلينا جارية سداسية، فقالت: من هذا ؟ فقلت: هذا ميمون بن مهران أراد لقاء الحسن، فقالت: كاتب عمر بن عبد العزيز ؟ قلت لها: نعم ! قالت: يا شقي ما بقاؤك إلى هذا الزمان السوء ؟: قال: فبكى الشيخ فسمع الحسن بكاءه فخرج إليه فاعتنقا ثم دخلا، فقال ميمون: يا أبا سعيد ! إني قد أنست من قلبي غلظة فاستكن لي منه، فقرأ الحسن: (أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون.
ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون) [ الشعراء: (205 - 207) ] فسقط الشيخ مغشيا عليه، فرأيته يفحص برجليه كما تفحص الشاة إذا ذبحت، فأقام طويلا ثم جاءت الجارية فقالت: قد أتعبتم الشيخ، قوموا تفرقوا، فأخذت بيد أبي فخرجت فقلت: يا أبت أهذا هو الحسن ؟ قال: نعم.
قلت: قد كنت أحسب في نفسي أنه أكبر من هذا، قال: فوكز في صدري وكزة ثم قال: يا بني لقد قرأ علينا آية لو فهمتها بقلبك لالفيت لها فيه كلوما.
وروى الطبراني عنه أنه قال: ما أحب أني أعطيت درهما في لهو وأن لي مكانه مائة ألف، أخشى أن تصيبني هذه الآية: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله) الآية: [ لقمان: 6 ] وقال جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران قال: كنت عند عمر بن عبد العزيز فلما قمت قال عمر: إذا ذهب هذا وأضرابه لم يبق من الناس إلا مجاجة (1).
وروى الامام أحمد عن معمر بن سليمان الرقي، عن فرات بن سليمان، عن ميمون بن مهران قال: ثلاث لا تبلون نفسك بهن: لا تدخل على سلطان وإن قلت آمره بطاعة الله، ولا تدخل على امرأة وإن قلت أعلمها كتاب الله، ولا تصغين بسمعك إلى ذي هوى فإنك لا تدري ما يعلق بقلبك
من هواه.
وروى عبد الله بن أحمد عنه في قوله تعالى: (إن جهنم كانت مرصادا) [ النبأ: 21 ] و (إن ربك لبالمرصاد) [ الفجر: 14 ] فقال: التمسوا هذين المرصادين جوازا.
وفي قوله تعالى: (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون) [ ابراهيم: 42 ] فيها وعيد شديد للظالم، وتعزية للمظلوم.
وقال: لو أن أهل القرآن صلحوا لصلح الناس.
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثنا عيسى بن سالم الشاشي، حدثنا أبو المليح قال: سمعت ميمون بن مهران يقول: لا خير في
__________
(1) في رواية تذكرة الحفاظ عن جعفر 1 / 99: صار الناس رجراجة.
(*)

(9/344)


الدينا إلا رجلين، رجل تائب - أو قال: يتوب - من الخطيئات، ورجل يعمل في الدرجات، فلا خير في العيش والبقاء في الدنيا إلا لهذين الرجلين، رجل يعمل في الكفارات ورجل يعمل في الدرجات، وبقاء ما سواهما وبال عليه.
وقال جعفر بن برقان: سمعت ميمون بن مهران يقول: إن هذا القرآن قد خلق في صدور كثير من الناس فالتمسوا ما سواه من الاحاديث، وإن فيمن يتبع هذا العلم قوما يتخذونه بضاعة يلتمس بها الدنيا، ومنهم من يريد أن يمارى به، وخيرهم من يتعلمه ويطيع الله عزوجل به.
وقال: من اتبع القرآن قاده القرآن حتى يحل به الجنة، ومن ترك القرآن لم يدعه القرآن يتبعه حتى يقذفه في النار.
وقال الامام أحمد: حدثنا خالد بن حيان، حدثنا جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران قال: لا يسلم للرجل الحلال حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزا من الحلال.
وقال ميمون: من كان يريد أن يعلم ما منزلته عند الله فلينظر في عمله فإنه قادم عليه كائنا ما كان.
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثنا يحيى بن عثمان الحربي، حدثنا أبو المليح، عن ميمون بن مهران.
قال: نظر رجل من المهاجرين إلى رجل يصلي فأخفى الصلاة فعاتبه، فقال: إني ذكرت ضيعة لي.
فقال: أكبر الضيعة أضعته.
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثنا جعفر بن محمد الدسعني، حثنا أبو جعفر النفيلي، حدثنا عثمان بن عبد الرحمن عن طلحة بن زيد قال: قال ميمون: لا تعرف الامير ولا تعرف من يعرفه.
وروى عبد الله بن أحمد عنه أيضا قال: لان أوتمن على بيت مال أحب إلي من أن
أؤتمن على امرأة.
وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا هاشم بن الحارث، حدثنا أبو المليح الرقي، عن حبيب بن أبي مرزوق، قال قال ميمون: وددت أن إحدى عيني (1) ذهبت وبقيت الاخرى أتمتع بها، وإني لم أل عملا قط.
قلت: ولا لعمر بن عبد العزيز ؟ قال: ولا لعمر بن عبد العزيز، لا خير في العمل لا لعمر ولا لغيره.
وقال أحمد: حدثنا زيد بن الحباب حدثنا سفيان حدثنا جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران قال: ما عرضت قولي على عملي إلا وجدت من نفسي اعتراضا.
وقال الطبراني: حدثنا المقدام بن داود، حدثنا علي بن معبد، حدثنا خالد بن حيان، حدثنا جعفر عن ميمون قال: قال لي ميمون: قال لي في وجهي ما أكره، فإن الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له في وجهه ما يكره.
وروى عبد الله ابن أحمد عنه في قوله تعالى: (خافضة رافعة) [ الواقعة: 3 ] قال: تخفض أقواما وترفع
__________
(1) في ابن سعد 7 / 478: حدقتي سقطت وفي رواية صفة الصفوة 4 / 192 وتذكرة الحفاظ 1 / 99: قال: " وددت أن أصبعي قطعت من ها هنا وأني لم أل لا لعمر بن عبد العزيز ولا لغيرة " والمشهور أن عمرا قد ولاه خراج الجزيرة وقضائها.
وكان ابنه عمر بن ميمون على الديوان.
(*)

(9/345)


آخرين.
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثني عيسى بن سالم، حدثنا أبو المليح، حدثنا بعض أصحابي قال: كنت أمشي مع ميمون فنظر فرأى علي ثوب كتان فقال: أما بلغك أنه لا يلبس الكتان إلا غني أو غاو ؟ وبهذا الاسناد سمعت ميمون بن مهران يقول: أول من مشت الرجال معه وهو راكب الاشعث بن قيس الكندي، ولقد أدركت السلف وهم إذا نظروا إلى رجل راكب ورجل يحضر معه، قالوا: قاتله جبار.
وقال عبد الله بن أحمد: بلغني عن عبد الله بن كريم بن حبان - وقد رأيته - حدثنا أبو المليح قال قال ميمون: ما أحب أن لي ما بين باب الرها إلى حوران بخمسة دراهمه.
وقال ميمون: يقول أحدهم: اجلس في بيتك واغلق عليك بابك وانظر هل يأتيك رزقك ؟ نعم والله لو كان له مثل يقين مريم وإبراهيم عليهما السلام، وأغلق عليه بابه، وأرخى عليه ستره، لجاءه رزقه.
وقال: لو أن
كل إنسان منا يتعاهد كسبه فلم يكسب إلا طيبا، فأخرج ما عليه، ما احتيج إلى الاغنياء، ولا احتاج الفقراء.
وقال أبو المليح عن ميمون قال: ما بلغني عن أخ لي مكروه قط إلا كان إسقاط المكروه عنه أحب إلي من تخفيفه عليه، فإن قال: لم أقل، كان قوله لم أقل أحب إلي من ثمانية يشهدون عليه، فإن قال: قلت ولم يعتذر، أبغضته من حيث أحببته.
وقال: سمعت ابن عباس يقول: ما بلغني عن أخ لي مكروه قط إلا أنزلته إحدى ثلاث منازل، إن كان فوقي عرفت له قدره، وإن كان نظيري تفضلت عليه، وإن كان دوني لم أحفل به.
هذه سيرتي في نفسي، فمن رغب عنها فإن أرض الله واسعة.
وقال أبان بن أبي راشد القشيري: كنت إذا أردت الصائفة أتيت ميمون بن مهران أودعه، فما يزيدني على كلمتين.
اتق الله ولا يغرنك طمع ولا غضب.
وقال أبو المليح عن ميمون قال: العلماء هم ضالتي في كل بلدة، وهم أحبتي في كل مصر، ووجدت صلاح قلبي في مجالسة العلماء.
وقال في قوله تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) [ الزمر: 10 ] قال: عزقا.
وقال: لان أتصدق بدرهم في حياتي أحب إلي من أن أتصدق بمائة درهم بعد موتي.
وقال: كان يقال: الذكر ذكران، ذكر الله باللسان (1)، وأفضل من ذلك أن تذكره عندما أحل وحرم، وعند المعصية فتكف عنها وقد أشرفت.
وقال: ثلاث الكافر والمؤمن فيهن سواء، الامانة تؤديها إلى من أئتمنك عليها من مسلم وكافر، وبر الوالدين وإن كانا كافرين، والعهد تفي به للمؤمن والكافر.
وقال صفوان عن خلف بن حوشب عن ميمون قال: أدركت من لم يكن يملا عينيه من السماء فوقا من ربه عزوجل.
وقال أحمد بن بزيغ: حدثنا يعلى بن عبيد، حدثنا هارون أبو محمد البريري، أن عمر بن
__________
(1) زيد في صفة الصفوة 4 / 194: حسن.
(*)

(9/346)


عبد العزيز استعمل ميمون بن مهران على الجزيرة وعلى قضائها وخراجها، فمكث حينا ثم كتب إلى عمر يستعفيه عن ذلك، وقال: كلفتني ما لا أطيق، أقضي بين الناس وأنا شيخ كبير ضعيف رقيق
فكتب إليه عمر: أجب من الخراج الطيب (1)، واقض بما استبان لك، فإذا التبس عليك أمر فارفعه إلى، فإن الناس لو كان إذا كبر عليهم أمر تركوه ما قام لهم دين ولا دنيا.
وقال قتيبة بن سعيد: حدثنا كثير بن هشام، حدثنا جعفر بن برقان قال: سمعت ميمون بن مهران يقول: إن العبد إذا أنب ذنبا نكت في قلبه نكتة سوداء، فإذا تاب محيت من قلبه فترى قلب المؤمن مجليا مثل المرآة، ما يأتيه الشيطان من ناحية إلا أبصره، وأما الذي يتتابع في الذنوب فإنه كلما أذنب نكتت في قلبه نكته سوداء حتى يسود قلبه فلا يبصر الشيطان من أين يأتيه.
وقال الامام أحمد: حدثنا علي بن ثابت، حدثنا جعفر عن ميمون قال: ما أقل أكياس الناس: ألا يبصر الرجل أمره حتى ينظر إلى الناس وإلى أدوابه، وإلى ما قد أكبوا عليه من الدنيا، فيقول: ما هؤلاء إلا أمثال الاباعر، لا هم لها إلا ما تجعل في أجوافها، حتى إذا أبصر غفلتهم نظر إلى نفسه فقال: والله إني لاراني من شرهم بعيرا واحدا.
وبهذا الاسناد عنه: ما من صدقة أفضل من كلمة حق عند إمام جائر.
وقال: لا تعذب المملوك ولا تضر به على كل ذنب، ولكن احفظ ذلك له، فإذا عصى الله عز وجل فعاقبه على معصية الله وذكره الذنوب التي أذنب بينك وبينه.
وقال قتيبة: حدثنا جعفر بن برقان، سمعت ميمون بن مهران يقول: لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك شريكه، حتى يعلم من أين مطعمه، ومن أين مشربه (2)، أمن حلال ذلك أم من حرام ؟.
وقال أبو زرعة الدارمي: حدثنا سعيد بن حفص النفيلي، حدثنا أبو المليح، عن ميمون قال: الفاسق بمنزلة السبع فإذا كلمت فيه فخليت سبيله فقد خليت سبعا على المسلمين.
وقال جعفر بن برقان: قلت لميمون بن مهران: إن فلانا يستبطئ نفسه في زيارتك، قال: إذا ثبتت المودة في القلوب فلا بأس وإن طال المكث.
وقال أحمد: حدثنا ميمون الرقي حدثنا الحسن أبو المليح عن ميمون قال: لا تجد غريما أهون عليك من بطنك أو ظهرك.
وقال الامام أحمد أيضا: حدثنا عبد الله بن الميمون، حدثنا الحسن، عن حبيب بن أبي مرزوق قال: رأيت على ميمون جبة صوف تحت ثيابه فقلت له: ما هذا ؟ قال: نعم ! فلا تخبر به أحدا.
وقال عبد الله بن أحمد: حدثني
يحيى بن عثمان، حدثنا أبو المليح، عن ميمون قال: من أساء سرا فليتب سرا، ومن أساء علانية فليتب علانية، فإن الله يغفر ولا يعير، وإن الناس يعيرون ولا يغفرون.
__________
(1) في طبقات ابن سعد 7 / 478: إنما هو درهم تأحذه من حقه وتضعه في حقه فما استعفاؤك من هذا ؟ (2) زيد في صفة الصفوة 4 / 194: ومن أين ملبسه.
(*)

(9/347)


وقال جعفر قال ميمون: في المال ثلاث آفات، إن نجا صاحبه من واحدة لم ينج من اثنتين، وإن نجا من اثنتين كان قمينا أن لا ينجو من الثالثة، ينبغي أن يكون حلالا طيبا، فأيكم الذي يسلم كسبه فلم يدخله إلا طيبا ؟ فإن سلم من هذه فينبغي أن يؤدي الحقوق التي تلزمه في ماله، فإن سلم من هذه فينبغي أن يكون في نفقته ليس بمسرف ولا مقتر.
وقال: سمعت ميمونا يقول: أهون الصوم ترك الطعام والشراب.
وقال عبد الله بن أحمد: حدثنا يحيى بن عثمان الحربي، حدثنا أبو المليح، عن ميمون بن مهران قال: ما نال رجل من جسيم الخير نبي أو غيره إلا بالصبر.
وبهذا الاسناد قال: الدنيا حلوة خضرة قد حفت بالشهوات، والشيطان عدو حاضر، فيظن أن أمر الآخرة آجل، وأمر الدنيا عاجل.
وقال يونس بن عبيدة: كان طاعون قبل بلاد ميمون بن مهران، فكتبت إليه أسأله عن أهله، فكتب إلي: بلغني كتابك تسألني عن أهلي، وأنه مات من أهلي وخاصتي سبعة عشر إنسانا، وإني أكره البلاء إذا أقبل، فإذا أدبر لم يسرني أنه لم يكن، وأما أنت فعليك بكتاب الله، فإن الناس قد بهتوا عنه - يعني أيسوا - واختاروا الاحاديث، أحادث الرجال، وإياك والمرائي في الدين.
قال أبو عبيد في الغريب بهئوا به مهموزا، ومعناه: أنسوا به.
وقال عمر بن ميمون: كنت مع أبي ونحن نطوف بالكعبة فلقي أبي شيخ فعانقه، ومع الشيخ فتى نحو مني، فقال له أبي: من هذا ؟ قال: ابني.
فقال: كيف رضاك عنه ؟ فقال: ما بقيت خصلة يا أبا أيوب من خصال الخير إلا وقد رأيتها فيه، إلا واحدة.
قال: وما هي ؟ قال: أن يموت فأوجر فيه - أو قال فأحتسبه - ثم فارقه أبي، فقلت: من هذا الشيخ ؟ فقال: مكحول.
وقال: شر الناس العيابون، ولا يلبس الكتان إلا غني أو غوي.
وروى الامام أحمد عنه قال: يا بن آدم خفف عن ظهرك فإن ظهرك لا يطيق كل هذا الذي يحمل، من ظلم هذا، وأكل مال هذا، وغشم هذا، وكل هذا على ظهرك تحمله، فخفف عن ظهرك.
وقال: إن أعمالكم قليلة فأخلصوا هذا القليل.
وقال: ما أتي قوم في ناديهم المنكر إلا حق هلاكهم.
وروى عبد الله بن أحمد عنه أنه قرأ (وامتازوا اليوم أيها المجرمون) [ يس: 59 ] ثم فارق حتى بكى، ثم قال: ما سمع الخلائق بنعت قط أشد منه.
وقال أبو عوانة: حدثنا إبراهيم بن عبد الله، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا خالد، عن حصين بن عبد الرحمن عن ميمون قال: أربع لا تكلم فيهم: علي، وعثمان، والقدر، والنجوم.
وقال: احذروا كل هوى يسمى بغير الاسلام.
وروى شبابة عن فرات بن السائب قال: سألت ميمون أعلي أفضل عندك أم أبو بكر وعمر ؟ فارتعد حتى سقطت عصاه من يده ثم قال: ما كنت أظن أن أبقى إلى زمان يعدل بهما غيرهما، إنهما كانا رداءي الاسلام، ورأس الاسلام، ورأس الجماعة.
فقلت: فأبو بكر كان أول إسلاما أم علي ؟ فقال: والله لقد آمن من أبو بكر بالنبي (صلى الله عليه وسلم) زمن بحيرا الراهب حين مر به، وكان أبو بكر هو

(9/348)


الذي يختلف بينه وبين خديجة حتى أنكحها إياه.
وذلك كله قبل أن يولد علي، وكان صاحبه وصديقه قبل ذلك.
وروى ميمون بن مهران عن ابن عمر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): " قل ما يوجد في آخر الزمان درهم من حلال، أو أخ يوثق به ".
وروى عن ابن عمر أيضا عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " شر المال في آخر الزمان المماليك ".
وروى ابن أبي الدنيا عنه قال: من طلب مرضاة الاخوان بلا شئ فليصادق أهل القبور.
وقال: من ظلم أحدا ففاته أن يخرج من مظلمته فاستغفر له دبر كل صلاة خرج من مظلمته.
وهذا إن شاء الله يدخل فيه الاعراض والاموال وسائر المظالم.
وقال ميمون: القاتل والآمر والمأمور والظالم والراضي بالظلم، كلهم في الوزر سواء.
وقال: أفضل الصبر الصبر على ما تكره نفسك.
من طاعة الله عزوجل.
روى ميمون عن جماعة من الصحابة (1)، وكان يسكن الرقة، رحمه الله تعالى.
نافع مولى ابن عمر أبو عبد الله المدني أصله من بلاد المغرب، وقيل من نيسابور، وقيل من كابل، وقيل غير ذلك.
روى عن مولاه عبد الله بن عمر وجماعة من الصحابة، مثل رافع بن خديج، وأبي سعيد وأبي هريرة وعائشة وأم سلمة وغيرهم.
وروى عنه خلق من التابعين وغيرهم، وكان من الثقات النبلاء، والائمة الاجلاء، قال البخاري: أصح الاسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر، وقال غيره كان عمر بن عبد العزيز قد بعثه إلى مصر يعلم الناس السنن، وقد أثنى عليه غير واحد من الائمة ووثقوه ومات في هذه السنة على المشهور.
ذو الرمة الشاعر (2) واسمه غيلان بن عقبة (3) بن بهيس (4)، من بني عبد مناة بن أد بن طابخة بن الياس بن مضر، أبو الحارث أحد فحول الشعراء، وله ديوان مشهور، وكان يتغزل في مي (5) بنت مقاتل بن طلبة بن قيس بن عاصم المنقري، وكانت جميلة، وكان هو دميم الخلق أسود اللون، ولم يكن بينهما
__________
(1) ومنهم: عائشة وابن عمر، وابن عباس وابي هريرة.
(انظر تذكرة الحفاظ 1 / 99 صفة الصفوة 4 / 195).
(2) انظر ترجمته في: طبقات ابن سلام: 465 شرح شواهد المغني 52 الخزانة 1 / 50 وفيات الاعيان 4 / 11 الشعر والشعراء ص 437 الاغاني 18 / 1 الموشح ص 170 سمط اللآلي: 81 الشريشي 2 / 53 تزيين الاسواق 1 / 88.
(3) من المرجع السابقة، وفي الاصل عتبة.
(4) في ابن خلكان والمشتبه والقاموس واللآلي: بهيش، وفي الشريشي: غيلان بن عقبة بن بيهس، وفي الاغاني وتزيين الاسواق: غيلان بن عقبة بن مسعود.
(5) في الاغاني وابن خلكان: مية.
(*)

(9/349)


فحش ولا خنا ولم يكن رآها قط ولا رأته، وإنما كانت تسمع به ويسمع بها، ويقال: إنها كانت تنذر إن هي رأته أن تذبح جزورا، فلما رأته قالت: واسوأتاه واسوأتاه، ولم تبلد له وجهها قط إلا مرة
واحدة، فأنشأ يقول: على وجه مي لمحة من حلاوة * وتحت الثياب العار لو كان باديا (1) قال فانسلخت من ثيابها فقال: ألم تر أن الماء يخبث طعمه * وإن كان لون الماء أبيض (2) صافيا فقالت: تريد أن تذوق طعمه ؟ فقال: إي والله، فقالت: تذوق الموت قبل أن تذوقه.
فأنشأ يقول: فواضيعة الشعر الذي راح وانقضى * بمي ولم أملك ضلال فؤاديا قال ابن خلكان: ومن شعره السائر بين الناس ما أنشده: إذا هبت الارياح من نحو جانب * به أهل مي هاج شوقي (3) هبوبها هوى تذرف العينان منه وإنما * هوى كل نفس أين حل (4) حبيبها وأنشد عند الموت: يا قابض الارواح في جسمي إذا احتضرت * وغافر الذنب زحزحني عن النار (5)
__________
(1) البيت في الاغاني 18 / 26: على وجه مي مسحة من ملاحة * وتحت الثياب الخزي...وفي الخزانة 1 / 109: الشين.
(2) في الاغاني: في العين صافيا.
والشعر في ابن سلام 476 وأمالي الزجاجي والحماسة 4 / 53 والشعر والشعراء 519.
وأكثر المصادر على ان البيتين موضوعة على لسان ذي الرمة، وقد أنشدتهما كثيرة ابنة عم لمية من ولد قيس وهي أم سهم بن بردة، وكان ذو الرمة يمتعض من ذلك وحلف بجهد أيمانه أنه ما قالهما.
(3) في ابن خلكان 4 / 13 وديوانه 66 قلبي.
(4) في ابن خلكان: حيث كان.
(5) البيت في الاغاني: 18 / 44 وديوانه ص 667.
يا مخرج الروح من جسمي إذا احتضرت * وفارج الكرب...(*)

(9/350)