البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
ثم دخلت سنة تسع وعشرين ومائة فيها اجتمعت الخوارج بعد الخيبري على
شيبان بن عبد العزيز بن الحليس اليشكري الخارجي فأشار عليهم سليمان بن
هشام أن يتحصنوا بالموصل ويجعلوها منزلا لهم، فتحولوا إليها وتبعهم
مروان بن محمد أمير المؤمنين، فعسكروا بظاهرها وخندقوا عليهم مما يلي
جيش مروان.
وقد خندق مروان على جيشه أيضا من ناحيتهم، وأقام سنة (1) يحاصرهم
ويقتتلون في كل يوم بكرة وعشية، وظفر مروان بابن أخ لسليمان بن هشام،
وهو أمية بن معاوية بن هشام، أسره بعض جيشه، فأمر به فقطعت يداه ثم ضرب
عنقه، وعمه سليمان والجيش ينظرون إليه.
وكتب مروان إلى نائبه بالعراق يزيد بن عمر بن هبيرة يأمره بقتال
الخوارج الذين في بلاده.
فجرت له معهم وقعات عديدة، فظفر بهم ابن هبيرة.
وأباد خضراءهم ولم يبق لهم بقية بالعراق، واستنقذ الكوفة من أيدي
الخوارج، وكان عليها المثنى بن عمران العائذي - عائذة قريش - في رمضان
من هذه السنة، وكتب مروان إلى ابن هبيرة لما فرغ من الخوارج أن يمده
بعمار بن صبارة (2) - وكان من الشجعان - فبعثه إليه في سبعة آلاف أو
ثمانية آلاف، فأرسلت إليه سرية في أربعة آلاف فاعترضوه في الطريق
فهزمهم ابن ضبارة وقتل أميرهم الجون بن كلاب الشيباني الخارجي، وأقبل
نحو الموصل، ورجع فل الخوارج إليهم.
فأشار سليمان بن هشام عليهم أن يرتحلوا عن الموصل، فإنه لم يكن يمكنهم
الاقامة بها، ومروان من أمامهم وابن ضبارة من ورائهم، قد قطع عنهم
الميرة حتى لم يجدوا شيئا يأكلونه، فارتحلوا عنها وساروا على حلوان إلى
الاهواز، فأرسل مروان ابن ضبارة في آثارهم في ثلاثة آلاف، فاتبعهم يقتل
من تخلف منهم ويلحقهم في مواطن فيقاتلهم، وما زال وراءهم حتى فرق شملهم
شذر مذر، وهلك أميرهم
شيبان بن عبد العزيز اليشكري بالاهواز في السنة القابلة، قتله خالد بن
مسعود بن جعفر بن خليد الازدي (3).
وركب سليمان بن هشام في مواليه وأهل بيته السفن وساروا إلى السند، ورجع
مروان من الموصل فأقام بمنزله بحران وقد وجد سرورا بزوال الخوارح، ولكن
لم يتم سروره، بل أعقبه القدر من هو أقوى شوكة وأعظم أتباعا، وأشد بأسا
من الخوارج، وهو ظهور أبي مسلم الخراساني الداعية إلى دولة بني العباس.
أول ظهور أبي مسلم الخراساني
وفي هذه السنة ورد كتاب من إبراهيم بن محمد الامام العباسي بطلب أبي
مسلم الخراساني من
__________
(1) في الطبري وابن الاثير: ستة أشهر، وقال ابن الاثير 5 / 353: وقيل
تسعة أشهر.
(2) في الطبري 9 / 80 وابن الاثير: عامر بن ضبارة المري، وقد ضبطناه
ضبارة أينما ورد في الخبر.
(3) قتله جلندى بن مسعود بن حيفر بن جلندى الازدي (الطبري - ابن
الاثير).
(*)
(10/32)
خراسان، فسار
إليه في سبعين من النقباء، لا يمرون ببلد إلا سألوهم إلى أين تذهبون ؟
فيقول أبو مسلم: نريد الحج.
وإذا توسم أبو مسلم من بعضهم ميلا إليهم دعاهم إلى ما هم فيه فيجيبه
إلى ذلك، فلما كان ببعض الطريق (1) جاء كتاب ثان من إبراهيم الامام إلى
أبي مسلم: إني بعثت إليك براية النصر فارجع إلى خراسان وأظهر الدعوة،
وأمر قحطبة بن شبيب أن يسير بما معه من الاموال والتحف إلى إبراهيم
الامام فيوافيه في الموسم، فرجع أبو مسلم بالكتاب فدخل خراسان (2) في
أول يوم من رمضان فرفع الكتاب إلى سليمان بن كثير وفيه: أن أظهر دعوتك
وتتربص.
فقدموا عليهم أبا مسلم الخراساني داعيا إلى بني العباس، فبعث أبو مسلم
دعاته في بلاد خراسان، وأمير خراسان - نصر بن سيار - مشغول بقتال
الكرماني، وشيبان بن سلمة الحروري، وقد بلغ من أمره أنه كان يسلم عليه
أصحابه بالخلافة في طوائف كثيرة من الخوارج، فظهر أمر أبي مسلم وقصده
الناس من كل جانب، فكان ممن قصده في يوم واحد أهل ستين قرية، فأقام
هناك اثنين وأربعين يوما، ففتحت على يديه أقاليم كثيرة.
ولما كان ليلة الخميس لخمس بقين من رمضان في هذه السنة، عقد أبو مسلم
اللواء
الذي بعثه إليه الامام، ويدعى الظل، على رمح طوله أربعة عشر ذراعا،
وعقد الراية التي بعث بها الامام أيضا، وتدعى السحاب، على رمح طوله
ثلاثة عشر ذراعا، وهما سوداوان، وهو يتلو قوله تعالى (أذن للذين
يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير) [ الحج: 39 ] ولبس أبو
مسلم وسليمان بن كثير ومن أجابهم إلى هذه الدعوة، السواد، وصارت
شعارهم، وأوقدوا في هذه الليلة نارا عظيمة يدعون بها أهل تلك النواحي،
وكانت علامة بينهم فتجمعوا.
ومعنى تسمية إحدى الرايتين بالسحاب أن السحاب كما يطبق جميع الارض كذلك
بنو العباس تطبق دعوتهم أهل الارض، ومعنى تسمية الاخرى بالظل أن الارض
كما أنها لا تخلو من الظل فكذلك بنو العباس لا تخلو الارض من قائم
منهم.
وأقبل الناس إلى أبي مسلم من كل جانب، وكثر جيشه.
ولما كان يوم عيد الفطر أمر أبو مسلم سليمان بن كثير ان يصلي بالناس،
ونصب له منبرا، وأن يخالف في ذلك بني أمية، ويعمل بالسنة، فنودي
للصلاة: الصلاة جامعة، ولم يؤذن ولم يقم خلافا لهم، وبدأ بالصلاة قبل
الخطبة، وكبر ستا في الاولى قبل القراءة، لا أربعا.
وخمسا في الثانية لا ثلاثا، خلافا لهم.
وابتدأ الخطبة بالذكر والتكبير وختمها بالقراءة، وانصرف الناس من صلاة
العيد وقد أعد لهم أبو مسلم طعاما فوضعه بين أيدي الناس، وكتب إلى نصر
بن سيار كتابا بدأ فيه بنفسه ثم قال إلى نصر بن سيار.
بسم الله الرحمن الرحيم: أما بعد فإن الله عير أقواما في كتابه فقال
(وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الامم)
إلى قوله (تحويلا) [ فاطر: 42 - 43 ] فعظم على نصر أن قدم اسمه على
اسمه، وأطال الفكر، وقال: هذا كتاب له جواب.
__________
(1) في الطبري 9 / 82: أتاه وهو بقومس.
(انظر ابن الاثير 5 / 357).
(2) الطبري وابن الاثير: مرو.
(*)
(10/33)
قال ابن جرير:
ثم بعث نصر بن سيار خيلا عظيمة لمحاربة أبي مسلم، وذلك بعد ظهوره
بثمانية عشر شهرا، فأرسل أبو مسلم إليهم مالك بن الهيثم الخزاعي،
فالتقوا (1)، فدعاهم مالك إلى الرضا عن آل رسول الله صلى الله عليه
وسلم فأبوا ذلك، فتصافوا من أول النهار إلى العصر، فجاء إلى مالك مدد
فقوي فظفر بهم مالك، وكان هذا أول موقف اقتتل فيه جند بني العباس وجند
بني أمية.
وفي هذه السنة غلب خازم بن خزيمة على مرو الروذ وقتل عاملها من جهة نصر
بن سيار، وهو بشر بن جعفر السعدي، وكتب بالفتح إلى أبي مسلم، وكان أبو
مسلم إذ ذاك شابا حدثا قد اختاره إبراهيم لدعوتهم.
وذلك لشهامته وصرامته، وقوة فهمه وجودة ذهنه، وأصله من سواد الكوفة،
وكان مولى لادريس بن معقل العجلي، فاشتراه بعض دعاة بني العباس
بأربعمائة درهم، ثم أخذه محمد بن علي ثم آل ولاؤه لآل العباس، وزوجه
إبراهيم الامام بابنة أبي النجم إسماعيل بن عمران، وأصدقها عنه وكتب
إلى دعاتهم بخراسان والعراق أن يسمعوا منه، فامتثلوا أمره، وقد كانوا
في السنة الماضية قبل هذه السنة ردوا عليه أمره لصغره فيهم، فلما كانت
هذه السنة أكد الامام كتابه إليهم في الوصاة به وطاعته، وكان في ذلك
الخير له ولهم (وكان أمر الله قدرا مقدورا) [ الاحزاب: 38 ] ولما فشا
أمر أبي مسلم بخراسان تعاقدت طوائف من العرب الذين بها على حربه
ومقاتلته، ولم يكره الكرماني وشيبان لانهما خرجا على نصر وأبو مسلم
مخالف لنصر كحالهما، وهو مع ذلك يدعو إلى خلع مروان الحمار، وقد طلب
نصر من شيبان أن يكون معه على حرب أبي مسلم، أو يكف عنه حتى يتفرغ
لحربه، فإذا قتل أبا مسلم عادا إلى عداوتهما، فأجابه إلى ذلك، فبلغ ذلك
أبا مسلم فبعث إلى الكرماني يعلمه بذلك فلام الكرماني شيبان على ذلك،
وثناه عن ذلك، وبعث أبو مسلم إلى هراة النضر بن نعيم فأخذها من عاملها
عيسى بن عقيل الليثي، وكتب إلى أبي مسلم بذلك، وجاء عاملها إلى نصر
هاربا، ثم إن شيبان وادع نصر بن سيار سنة على ترك الحرب بينه وبينه،
وذلك عن كره من الكرماني، فبعث ابن الكرماني إلى أبي مسلم إني معك على
قتال نصر، وركب أبو مسلم في خدمة الكرماني فاتفقا على حرب نصر
ومخالفته، وتحول أبو مسلم إلى موضع فسيح وكثر جنده وعظم جيشه، واستعمل
على الحرس والشرط والرسائل والديوان (2) وغير ذلك مما يحتاج إليه الملك
عمالا، وجعل القاسم بن مجاشع التميمي - وكان أحد النقباء - على القضاء
وكان يصلي بأبي مسلم الصلوات، ويقص بعض القصص فيذكر محاسن بني هاشم
ويذم بني أمية.
ثم تحول أبو مسلم إلى قرية يقال لها بالين، وكان في مكان منخفض، فخشي
أن يقطع عنه نصر بن سيار الماء، وذلك في سادس ذي الحجة من هذه السنة،
وصلى بهم يوم النحر القاضي القاسم بن مجاشع، وصار نصر بن سيار في جحافل
كالسحاب قاصدا
__________
(1) التقوا بقرية تدعى آلين.
(2) جعل أبو سلم على الشرط مالك بن الهيثم وعلى الحرس خالد بن عثمان
وعلى ديوان الجند كامل بن مظفر وعلى الرسائل أسلم بن صبيح.
(*)
(10/34)
قتال أبي مسلم،
واستخلف على البلاد نوابا وكان من أمرهما ما سنذكره في السنة الآتية.
مقتل ابن الكرماني
ونشبت الحرب بين نصر بن سيار وبين ابن الكرماني - وهو جديع بن علي
الكرماني - فقتل بينهما من الفريقين خلق كثير، وجعل أبو مسلم يكاتب كلا
من الطائفتين ويستميلهم إليه، يكتب إلى نصر وإلى ابن الكرماني: إن
الامام قد أوصاني بكم خيرا ولست أعدوا رأيه فيكم، وكتب إلى الكور يدعو
إلى بني العباس فاستجاب له خلق كثير وجم غفير، وأقبل أبو مسلم فنزل بين
خندق نصر وخندق ابن الكراماني، فهابه الفريقان جميعا، وكتب نصر بن سيار
إلى مروان يعلمه بأمر أبي مسلم، وكثرة من معه، وأنه يدعو إلى إبراهيم
بن محمد، وكتب في جملة كتابه: أرى بين الرماد وميض جمر * وأحرى (1) أن
يكون له ضرام فإن النار بالعيدان تذكى * وإن الحرب مبدؤها (2) الكلام
فقلت من التعجب ليت شعري * أيقاظ أمية أم نيام ؟ فكتب إليه مروان:
الشاهد يرى ما لا يراه الغائب، فقال نصر: إن صاحبكم قد أخبركم أن لا
نصر عنده.
وبعضهم يرويها بلفظ آخر: - أرى خلل الرماد وميض نار * فيوشك أن يكون
لها ضرام فإن النار بالعيدان تذكى * وإن الحرب أولها كلام فإن لم يطفها
عقلاء قوم * يكون وقودها جئث وهام أقول من التعجب لت شعري * أيقاظ أمية
أم نيام ؟
فإن كانوا لحينهم نياما * فقل قوموا فقد حان القيام (3)
__________
(1) في الطبري 9 / 92: فأحج، وفي ابن الاثير 5 / 365: وميض نار وأخشى.
وفي مروج الذهب 3 / 291 و الفخري ص 144 والاخبار الطوال ص 357: ويوشك
وفي ابن الاعثم 8 / 156: أرى خلل الرماد وميض جمر * أحاذر أن يكون لها
اضطرام (2) في الطبري والفخري بالعودين تذكى...أولها.
وفي ابن الاعثم: فإن النار كالزندين تورى * وان الفعل يقدمه الكلام (3)
في مروج الذهب وابن الاعثم.
وليس البيت في الطبري وابن الاثير: فإن يك قومنا أضحوا نياما * فقل:
قوموا فقد حان القيام (*)
(10/35)
قال ابن خلكان:
وهذا كما قال بعض علوية الكوفة حين خرج محمد وإبراهيم ابنا عبد الله بن
الحسين على المنصور أخي السفاح: ارى نارا تشب على بقاع * لها في كل
ناحية شعاع وقد رقدت بنو العباس عنها * وباتت وهي آمنة رتاع كما رقدت
أمية ثم هبت * تدافع حين لا يغني الدفاع وكتب نصر بن سيار أيضا إلى
نائب العراق يزيد بن عمر بن هبيرة يستمده وكتب إليه: أبلغ يزيد وخير
القول أصدقه * وقد تحققت (1) أن لا خير في الكذب بأن أرض خراسان (2)
رأيت بها * بيضا إذا أفرخت حدثت بالعجب فراخ عامين إلا أنها كبرت * ولم
يطرن وقد سربلن بالزغب فإن يطرن ولم يحتل لهن بها * يلهبن نيران حرب
أيما لهب فبعث ابن هبيرة (3) بكتاب نصر إلى مروان، واتفق في وصول
الكتاب إليه أن وجدوا رسولا من جهة إبراهيم الامام ومعه كتاب منه إلى
أبي مسلم، وهو يشتمه فيه ويسبه، ويأمره أن يناهض نصر
ابن سيار وابن الكرماني، ولا يترك هناك من يحسن العربية.
فعند ذلك بعث مروان وهو مقيم بحران كتابا إلى نائبه بدمشق وهو الوليد
بن معاوية بن عبد الملك، يأمره فيه أن يذهب (4) إلى الحميمة، وهي
البلدة التي فيها إبراهيم بن محمد الامام، فيقيدوه ويرسله إليه.
فبعث نائب دمشق إلى نائب البلقاء فذهب إلى مسجد البلدة المذكورة فوجد
إبراهيم الامام جالسا فقيده وأرسل به إلى دمشق، فبعثه نائب دمشق من
فوره إلى مروان، فأمر به فسجن ثم قتل كما سيأتي.
وأما أبو مسلم فإنه لما توسط بين جيش نصر وابن الكرماني، كاتب ابن
الكرماني: إني معك فمال إليه، فكتب إليه نصر ويحك لا تغتر فإنه إنما
يريد قتلك وقتل أصحابك، فهلم حتى نكتب كتابا بيننا بالموادعة، فدخل ابن
الكرماني داره ثم خرج إلى الرحبة في مائة فارس، وبعث إلى نصر هلم حتى
__________
(1) في الطبري: وقد تبينت، وفي ابن الاثير: وقد تيقنت.
(2) في الطبري وابن الاثير: أن خراسان أرض...* بيضا لو أفرخ حدثت
بالعجب وفي ابن الاعثم 8 / 158: هذي خراسان...(3) في ابن الاعثم 8 /
159: فلم يلتفت ابن هبيرة إلى كتاب نصر وجعل يقول: وما أصنع وما أبالي
بخراسان إذا سلمت لي العراق.
وفي مروج الذهب 3 / 293: فلم يجبه يزيد بن عمر عن كتابه، وتشاغل بدفع
فتن العراق.
(4) في الطبري 9 / 92 والاخبار الطوال ص 357: كتب إليه يأمره أن يكتب
إلى عامله بالبلقاء أن يسير إلى الحميمة - وهي بلد من أعمال عمان في
أطراف الشام كانت منزل بني العباس - (انظر الامامة والسياسة 2 / 139).
(*)
(10/36)
نتكاتب، فأبصر
نصر غرة من ابن الكرماني فنهض إليه في خلق كثير، فحملوا عليه فقتلوه
وقتلوا من جماعته جماعة، وقتل ابن الكرماني في المعركة، طعنه رجل في
خاصرته فخر عن دابته، ثم أمر نصر بصلبه وصلب معه جماعة، وصلب معه سمكة،
وانضاف ولده إلى أبي مسلم الخراساني ومعه طوائف من الناس من أصحاب ابن
الكرماني، فصاروا كتفا واحدا على نصر.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة تغلب عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن
جعفر على فارس
وكورها، وعلى حلوان وقومس وأصبهان والري، بعد حرب يطول ذكرها، ثم التقى
عامر بن ضبارة معه باصطخر فهزمه ابن ضبارة وأسر من أصحابه أربعين ألفا.
فكان منهم عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس، فنسبه ابن ضبارة وقال
له: ما جاء بك مع ابن معاوية وقد علمت خلافه لامير المؤمنين ؟ فقال:
كان علي دين فأتيته فيه.
فقام إليه [ حرب بن ] قطن بن وهب الهلالي فاستوهبه منه وقال: هو ابن
أختنا فوهبه له، وقال: ما كنت لاقدم على رجل من قريش، ثم استعلم ابن
ضبارة منه أخبار ابن معاوية فذمه ورماه هو وأصحابه باللواط، وجئ من
الاسارى بمائة غلام عليهم الثياب المصبغة، وقد كان يعمل معهم الفاحشة،
وحمل ابن ضبارة عبد الله بن علي على البريد لابن هبيرة ليخبره بما أخبر
بن ابن ضبارة عن ابن معاوية.
وقد كتب الله عز وجل أن زوال ملك بني أمية يكون على يدي هذا الرجل، وهو
عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس، ولا يشعر واحد منهم بذلك.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة ولي الموسم أبو حمزة الخارجي فأظهر التحكم
والمخالفة لمروان، وتبرأ منه.
فراسلهم عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك وهو يومئذ أمير مكة
والمدينة والطائف، وإليه أمر الحجيج في هذه السنة، ثم صالحهم على
الامان إلى يوم النفر، فوقفوا على حدة بين الناس بعرفات، ثم تحيزوا
عنهم، فلما كان يوم النفر الاول تعجل عبد الواحد وترك مكة فدخلها
الخارجي بغير قتال، فقال بعض الشعراء في ذلك: - زار الحجيج عصابة قد
خالفوا * دين إلاله ففر عبد الواحد ترك الحلائل والامارة هاربا * ومضى
يخبط كالبعير الشارد لو كان والده تنصل عرقه * لصفت موارده بعرق الوارد
(1) ولما رجع عبد الواحد إلى المدينة شرع في تجهيز السرايا إلى قتال
الخارجي، وبذل النفقات وزاد في أعطية الاجناد، وسيرهم سريعا.
وكان أمير العراق يزيد بن هبيرة، وأمير خراسان نصر بن سيار، وقد استحوذ
على بعض بلاده أبو مسلم الخراساني.
وممن توفي فيها من الاعيان: سالم
أبو النضر، وعلي بن زيد بن جدعان، في قول، ويحيى بن أبي كثير.
وقد ذكرنا تراجمهم في التكميل ولله الحمد.
__________
(1) في الطبري 8 / 96: لصفت مضاربه بعرق الوالد.
(*)
(10/37)
سنة ثلاثين ومائة
في يوم الخميس لتسع خلون من جمادى الاول منها، دخل أبو مسلم الخراساني
مرو، ونزل دار الامارة بها، وانتزعها من يد نصر بن سيار، وذلك بمساعدة
علي بن الكرماني، وهرب نصر بن سيار في شرذمة قليلة من الناس، نحو من
ثلاثة آلاف، ومعه امرأته المرزبانة، حتى لحق سرخس وترك امرأته وراءه،
ونجا بنفسه، واستفحل أمر أبي مسلم جدا، والتفت عليه العساكر.
مقتل شيبان بن سلمة الحروري
ولما هرب نصر بن سيار بقي شيبان وكان ممالئا له على أبي مسلم، فبعث
إليه أبو مسلم رسلا فحبسهم فأرسل أبو مسلم إلى بسام بن إبراهيم مولى
بني ليث يأمره أن يركب إلى شيبان فيقاتله، فسار إليه فاقتتلا فهزمه
بسام فقتله واتبع أصحابه يقتلهم ويأسرهم، ثم قتل أبو مسلم عليا وعثمان
ابني الكرماني، ثم وجه أبو مسلم أبا داود إلى بلخ فأخذها من زياد بن
عبد الرحمن القشيري، وأخذ منهم أموالا جزيلة.
ثم إن أبا مسلم اتفق مع أبي داود على قتل عثمان بن الكرماني في يوم
كذا، وفي ذلك اليوم بعينه يقتل أبو مسلم علي بن جديع الكرماني، فوقع
ذلك كذلك.
وفي هذه السنة وجه أبو مسلم قحطبة بن شبيب إلى نيسابور لقتال نصر بن
سيار، ومع قحطبة جماعة من كبار الامراء، منهم خالد بن برمك.
فالتقوا مع تميم بن نصر بن سيار وقد وجهه أبوه لقتالهم بطوس، فقتل
قحطبة من أصحاب نصر نحوا من سبعة عشر ألفا في المعركة، وقد كان أبو
مسلم بعث إلى قحطبة مددا نحو عشرة آلاف فارس، عليهم علي بن معقل،
فاقتتلوا فقتلوا من أصحاب نصر خلقا كثيرا، وقتلوا تميم بن نصر، وغنموا
أموالا جزيلة جدا، ثم إن يزيد بن عمر بن هبيرة نائب مروان على العراق
بعث سرية مددا لنصر بن سيار، فالتقى معهم قحطبة في مستهل ذي الحجة،
وذلك يوم الجمعة.
فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزم جند بني أمية، وقتل من أهل الشام وغيرهم
عشرة آلاف، منهم نباتة بن حنظلة عامل جرجان، فبعث قحطبة برأسه إلى أبي
مسلم.
ذكر دخول أبي حمزة الخارجي المدينة النبوية واستيلائه عليها قال ابن
جرير: وفي هذه السنة كانت وقعة بقديد بين أبي حمزة الخارجي الذي كان
عام أول في أيام الموسم، فقتل من أهل المدينة من قريش خلقا كثيرا، ثم
دخل المدينة وهرب نائبها عبد الواحد بن سليمان، فقتل الخارجي من أهلها
خلقا، وذلك لتسع عشرة ليلة خلت من صفر من هذه السنة، ثم خطب على منبر
رسول الله صلى الله عليه وسلم فوبخ أهل المدينة، فقال: يا أهل المدينة
إني مررت بكم أيام الاحول - يعني هشام بن عبد الملك - وقد أصابتكم عاهة
في ثماركم فكتبتم إليه تسألونه أن يضع الخرص
(10/38)
عنكم فوضعه،
فزاد غنيكم غنى وزاد فقيركم فقرا، فكتبتم إليه جزاك الله خيرا، فلا
جزاه الله خيرا.
في كلام طويل.
فأقام عندهم ثلاثة أشهر بقية صفر وشهري ربيع وبعض جمادى الاول فيما قال
الواقدي وغيره.
وقد روى المدائني أن أبا حمزة رقي يوما منبر رسول الله صلى الله عليه
وسلم ثم قال: تعلمون يا أهل المدينة أنا لم نخرج من بلادنا بطرا ولا
أشرا، ولا لدولة نريد أن نخوض فيها النار، وإنما أخرجنا من ديارنا أنا
رأينا مصابيح الحق طمست، وضعف القائل بالحق، وقتل القائم بالقسط، فلما
رأينا ذلك ضاقت علينا الارض بما رحبت، وسمعنا داعيا يدعو إلى طاعة
الرحمن، وحكم القرآن، فأجبنا داعي الله (ومن لا يجب داعي الله فليس
بمعجز في الارض) [ الاحقاف: 32 ] أقبلنا من قبائل شتى، النفر منا على
بعير واحد عليه زادهم وأنفسهم، يتعاورون لحافا واحدا قليلون مستضعفون
في الارض، فآوانا الله وأيدنا بنصره، فأصبحنا والله بنعمة الله إخوانا،
ثم لقينا رجالكم بقديد فدعوناهم إلى طاعة الرحمن وحكم القرآن، ودعونا
إلى طاعة الشيطان وحكم بني مروان، فشتان لعمر الله بين الغي والرشد، ثم
أقبلوا نحونا يهرعون قد ضرب الشيطان فيهم بجرانه وغلت بدمائهم مراجله،
وصدق عليه ظنه فاتبعوه، وأقبل أنصار الله عصائب وكتائب، بكل مهند ذي
رونق، فدارت رحانا واستدارت رحاهم، بضرب يرتاب منه المبطلون، وأنتم يا
أهل المدينة إن تنصروا مروان يسحتكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا
(ويشف صدور قوم مؤمنين) [ التوبة: 14 ] يا أهل المدينة أولكم خير أول،
وآخركم شر آخر، يا أهل المدينة الناس منا ونحن منهم، إلا مشركا عابد
وثن أو كافرا أهل كتاب، أو إماما
جائرا.
يا أهل المدينة من زعم أن الله يكلف نفسا فوق طاقتها، أو يسألها ما لم
يؤتها، فهو لله عدو، وأنا له حرب.
يا أهل المدينة أخبروني عن ثمانية أسهم فرضها الله في كتابه على القوي
والضعيف، فجاء تاسع ليس له منها ولا سهم واحد، فأخذها لنفسه، مكابرا
محاربا لربه، يا أهل المدينة بلغني أنكم تنتقصون أصحابي قلتم شباب
أحداث، وأعراب جفاة أجلاف، ويحكم فهل كان أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلا شبابا أحداثا، شبابا والله مكتهلون في شبابهم، غضة عن
الشر أعينهم، ثقيلة عن السعي في الباطل أقدامهم، قد باعوا لله أنفسا
تموت بأنفس لا تموت، قد خالطوا كلالهم بكلالهم، وقيام ليلهم بصيام
نهارهم، منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن، كلما مروا بآية خوف شهقوا
خوفا من النار، وإذا مروا بآية شوق شهقوا شوقا إلى الجنة.
فلما نظروا إلى السيوف قد انتضيت، وإلى الرماح قد شرعت، وإلى السهام قد
فوقت، وأرعدت الكتيبة بصواعق الموت، استخفوا والله وعيد الكتيبة لوعيد
الله في القرآن، ولم يستخفوا وعيد الله لوعيد الكتيبة، فطوبى لهم وحسن
مآب، فكم من عين في مناقير الطير طال ما فاضت في جوف الليل من خشية
الله، وطال ما بكت خالية من خوف الله، وكم من يد زالت عن مفصلها طال ما
ضربت في سبيل الله وجاهدت أعداء الله.
وطال ما اعتمد بها صاحبها في طاعة الله.
أقول قولي هذا وأستغفر الله من تقصيري، وما توفيقي إلا بالله.
ثم روى المدائني عن العباس عن هارون عن جده قال: كان أبو حمزة الخارجي
قد أحسن السيرة في أهل المدينة فمالوا إليه حتى سمعوه [ يقول ]: برح
الخفا أين عن بابك نذهب [ ثم قال ]: من زنا فهو
(10/39)
كافر، ومن سرق فهو كافر، فعند ذلك أبضغوه ورجعوا عن محبته.
وأقام بالمدينة حتى بعث مروان الحمار عبد الملك بن محمد بن عطية أحد
بني سعد في خيل أهل الشام أربعة آلاف، قد انتخبها مروان من جيشه، وأعطى
كل رجل منهم مائة دينار وفرسا عربية، وبغلا لثقله، وأمره أن يقاتله ولا
يرجع عنه، ولو لم يلحقه إلا باليمن فليتبعه إليها، وليقاتل نائب صنعاء
عبد الله بن يحيى.
فسار ابن عطية حتى بلغ وادي القرى فتلقاه أبو حمزة الخارجي قاصدا قتال
مروان بالشام، فاقتتلوا هنالك إلى الليل، فقال له: ويحك يا بن عطية !
إن الله قد جعل الليل سكنا فأخر إلى غد، فأبى عليه أن يقلع عن قتاله،
فما زال يقاتلهم حتى كسرهم فولوا ورجع فلهم إلى المدينة، فنهض إليهم
أهل المدينة فقتلوا منهم خلقا كثيرا، ودخل ابن عطية المدينة، وقد انهزم
جيش أبي حمزة عنها، فيقال إنه أقام بها شهرا ثم استخلف عليها، ثم
استخلف على مكة وسار إلى اليمن فخرج إليه عبد الله بن يحيى نائب صنعاء،
فاقتتلا فقتله ابن عطية وبعث برأسه إلى مروان وجاء كتاب مروان إليه
يأمره بإقامة الحج للناس في هذه السنة، ويستعجله في المسير إلى مكة.
فخرج من صنعاء في اثني عشر راكبا، وترك جيشه بصنعاء، ومعه خرج فيه
أربعون ألف دينار، فلما كان ببعض الطريق نزل منزلا إذ أقبل إليه أميران
يقال لهما ابنا جمانة من سادات تلك الناحية، فقالوا ويحكم أنتم لصوص.
فقال: أنا ابن عطية وهذا كتاب أمير المؤمنين إلي بأمرة الحج، فنحن نعجل
السير لندرك الموسم، فقالوا: هذا باطل، ثم حملوا عليهم فقتلوا ابن عطية
وأصحابه ولم يفلت منهم إلا رجل واحد، وأخذوا ما معهم من المال.
قال أبو معشر: وحج بالناس في هذه السنة محمد بن عبد الملك بن مروان،
وقد جعلت إليه إمرة المدينة ومكة والطائف، ونائب العراق ابن هبيرة،
وإمرة خراسان إلى نصر بن سيار، غير أن أبا مسلم قد استحوذ على مدن وقرى
كثيرة من خراسان، وقد أرسل نصر إلى ابن هبيرة يستمده بعشرة آلاف قبل أن
لا يكفيه مائة ألف، وكتب أيضا إلى مروان يستمده، فكتب مروان إلى ابن
هبيرة يمده بما أراد.
وممن توفي فيها من الاعيان شعيب بن
الحبحاب، وعبد العزيز بن صهيب، وعبد العزيز بن رفيع، وكعب بن علقمة،
ومحمد بن المنكدر.
والله سبحانه أعلم. |