البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين ومائة في المحرم منها وجه قحطبة بن شبيب ولده
الحسن إلى قوميس لقتال نصر بن سيار، وأردفه بالامداد، فخامر بعضهم إلى
نصر وارتحل نصر فنزل الري، فأقام بها يومين ثم مرض فسار منها إلى
همدان.
فلما كان بساوه (1) قريبا من همدان توفي لمضي ثنتي عشرة ليلة خلت من
ربيع الاول من هذه
__________
(1) كذا بالاصل والطبري وابن الاثير والاخبار الطوال ومروج الذهب:
ساوة.
وفي ابن الاعثم 8 / 170: فسطانة موضع على تسعة فراسخ من الري - ولم
نجده - وساوة مدينة حسنة بين الري = (*)
(10/40)
السنة، عن خمس
وثمانين سنة.
فلما مات نصر تمكن أبو مسلم وأصحابه من بلاد خراسان، وقويت شوكتهم جدا،
وسار قحطبة من جرجان، وقدم أمامه زياد بن زرارة القشيري، وكان قد ندم
على اتباع أبي مسلم، فترك الجيش وأخذ جماعة معه وسلك طريق أصبهان ليأتي
ابن ضبارة، فبعث قحطبة وراءه جيشا فقتلوا عامة أصحابه، وأقبل قحطبة
وراءه فقدم قومس وقد افتتحها ابنه الحسن فأقام بها، وبعث ابنه بين يديه
إلى الري ثم ساق وراءه فوجده قد افتتحها فأقام بها وكتب إلى أبي مسلم
بذلك.
وارتحل أبو مسلم من مرو فنزل نيسابور واستفحل أمره، وبعث قحطبة بعد
دخوله الري ابنه الحسن بين يديه إلى همدان، فلما اقترب منها خرج منها
مالك بن أدهم وجماعة من أجناد الشام وخراسان، فنزلوا نهاوند، فافتتح
الحسن همدان ثم سار وارءهم إلى نهاوند، وبعث إليه أبوه بالامداد
فحاصرهم حتى افتتحها.
وفي هذه السنة مات عامر بن ضبارة، وكان سبب ذلك أن ابن هبيرة كتب إليه
أن يسير إلى قحطبة وأمده بالعساكر (1)، فسار ابن ضبارة حتى التقى مع
قطحبة في عشرين ألفا، فلما تواجه الفريقان رفع قحطبة وأصحابه المصاحف
ونادى المنادي: يا أهل الشام، إنا ندعوكم إلى ما في هذا المصحف، فشتموا
المنادي وشتموا قحطبة، فأمر قحطبة أصحابه أن يحملوا عليهم، فلم يكن
بينهم كبير قتال حتى انهزم أصحاب ابن ضبارة، واتبعهم أصحاب قحطبة
فقتلوا منهم خلقا كثيرا، وقتلوا ابن ضبارة في العسكر [ لشجاعته فإنه لم
يول ] وأخذوا من عسكرهم ما لا يحد ولا يوصف.
وفيها حاصر قحطبة نهاوند حصارا شديدا حتى سأله أهل الشام الذين بها أن
يمهل أهلها حتى يفتحوا له الباب، ففتحوا له الباب وأخذوا لهم منه
أمانا، فقال لهم من بها من أهل خراسان: ما فعلتم ؟ فقالوا: أخذنا لنا
ولكم أمانا، فخرجوا ظانين أنهم في أمان، فقال قحطبة للامراء الذين معه:
كل من حصل عنده أسير من الخراسانيين فليضرب عنقه وليأتنا برأسه، ففعلوا
ذلك ولم يبق ممن كان هرب من أبي مسلم أحد، وأطلق الشاميين وأوفى لهم
عهدهم وأخذ عليهم الميثاق أن لا يمالئوا عليه عدوا.
ثم بعث قحطبة أبا عون إلى شهر زور، عن أمر أبي مسلم في ثلاثين ألفا
فافتتحها، وقتل نائبها عثمان بن سفيان.
وقيل لم يقتل بل تحول إلى الموصل والجزيرة وبعث إلى قحطبة بذلك، ولما
بلغ
مروان خبر قحطبة وأبي مسلم وما وقع من أمرهما، تحول مروان من حران فنزل
بمكان يقال له الزاب الاكبر.
__________
= وهمدان في وسط (معجم البلدان) وقيل هي مدنية في بلاد فارس الوسطى،
واقعة على الطريق بين قزوين والقرم.
(1) في ابن الاثير 5 / 398 وابن الاعثم 8 / 172 كان عسكره مائة ألف.
(وفي الطبري 9 / 113) وفي رواية في الطبري وابن الاثير: خمسين ومائة
ألف.
(*)
(10/41)
وفيها قصد
قحطبة في جيش كثيف نائب العراق يزيد بن عمر بن هبيرة.
فلما اقترب منه تقهقر ابن هبيرة إلى ورائه، وما زال يتقهقر إلى أن جاوز
الفرات، وجاء قحطبة فجازها وراءه، وكان من أمرهما ما سنذكره في السنة
الآتية إن شاء الله تعالى.
ثم دخلت سنة ثنتين وثلاثين ومائة في المحرم
منها جاز قحطبة بن شبيب الفرات ومعه الجنود والفرسان، وابن هبيرة مخيم
على فم الفرات مما يلي الفلوجة، في خلق كثير وجم غفير، وقد أمده مروان
بجنود كثيرة (1)، وانضاف إليه كل من انهزم من جيش ابن ضبارة.
ثم إن قحطبة عدل إلى الكوفة ليأخذها، فاتبعه ابن هبيرة.
فلما كانت ليلة الاربعاء لثمان مضين من المحرم اقتتلوا قتالا شديدا
وكثر القتل في الفريقين، ثم ولى أهل الشام منهزمين واتبعهم أهل خراسان،
وفقد قحطبة من الناس فأخبرهم رجل أنه قتل وأوصى أن يكون أمير الناس من
بعده ولده الحسن، ولم يكن الحسن حاضرا، فبايعوا حميد بن قحطبة لاخيه
الحسن وذهب البريد إلى الحسن ليحضر.
وقتل في هذه الليلة جماعة من الامراء.
والذي قتل قحطبة معن بن زائدة، ويحيى بن حصين.
وقيل بل قتله رجل ممن كان معه آخذا بثأر ابني نصر بن سيار فالله أعلم.
ووجد قحطبة في القتلى فدفن هنالك (2)، وجاء الحسن بن قحطبة فسار نحو
الكوفة، وقد خرج بها محمد بن خالد بن عبد الله القسري ودعا إلى بني
العباس وسود، وكان خروجه ليلة عاشوراء المحرم من هذه السنة، وأخرج
عاملها من جهة ابن هبيرة، وهو زياد بن صالح الحارثي، وتحول محمد بن
خالد إلى
قصر الامارة فقصده حوثرة في عشرين ألفا من جهة ابن هبيرة، فلما اقترب
من الكوفة أصحاب حوثرة يذهبون إلى محمد بن خالد فيبايعونه لبني العباس،
فلما رأى حوثرة ذلك ارتحل إلى واسط، ويقال بل دخل الحسن بن قحطبة
الكوفة، وكان قحطبة قد جعل في وصيته أن تكون وزارة الخلافة إلى أبي
سلمة حفص بن سليمان مولى السبيع الكوفي الخلال، وهو بالكوفة، فلما
قدموا عليه أشار أن يذهب الحسن بن قحطبة في جماعة من الامراء إلى قتال
ابن هبيرة بواسط، وأن يذهب أخوه حميد إلى المدائن، وبعث البعوث إلى كل
جانب يفتتحونها، وفتحوا البصرة، افتتحها مسلم بن قتيبة لابن هبيرة،
فلما قتل ابن هبيرة جاء أبو مالك عبد الله بن أسيد الخزاعي فأخذ البصرة
لابي مسلم الخراساني.
وفي هذه السنة ليلة الجمعة لثلاث عشرة خلت من ربيع الآخر منها، أخذت
البيعة لابي العباس
__________
(1) أمده مروان بعشرين ألفا عليهم حوثرة بن سهيل الباهلي (الطبري).
(2) في ابن الاثير 5 / 404: وجدوه في جدول وحرب بن سالم بن احوز قتيلين
فظنوا أن كل واحد منهما قتل صاحبه..وفي الاخبار الطوال ص 369: وفقد
قحطبة بن شبيب فلم يدر أين ذهب.
وفي ابن الاعثم 8 / 176: انهار الجرف من تحت قوائم الفرس فسقط به في
الفرات فغرق ولم يعلم به أحد من أصحابه.
(*)
(10/42)
السفاح، وهو
عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب.
قاله أبو معشر وهشام بن الكلبي.
وقال الواقدي: في جمادى الاولى من هذه السنة فالله أعلم.
ذكر مقتل إبراهيم بن محمد الامام
قد ذكرنا في سنة تسع وعشرين ومائة أن مروان اطلع على كتاب من إبراهيم
الامام إلى أبي مسلم الخراساني، يأمره فيه بأن لا يبقي أحدا بأرض
خراسان ممن يتكلم بالعربية إلا أباده، فلما وقف مروان على ذلك سأل عن
إبراهيم فقيل له هو بالبلقاء، فكتب إلى نائب دمشق أن يحضره فبعث نائب
دمشق بريدا ومعه صفته ونعته (1)، فذهب الرسول فوجد أخاه أبا العباس
السفاح، فاعتقد أنه هو فأخذه فقيل له: إنه ليس به، وإنما هو أخوه، فدل
على إبراهيم فأخذه وذهب معه بأم ولد له كان يحبها، وأوصى إلى أهله أن
يكون الخليفة من بعده أخوه أبو العباس السفاح، وأمرهم بالمسير إلى
الكوفة،
فارتحلوا من يومهم إليها، منهم أعمامه الستة وهم: عبد الله، وداود،
وعيسى، وصالح، وإسماعيل، وعبد الصمد، بنو علي، وأخواه أبو العباس
السفاح، ومحمد ابنا محمد بن علي، وابناه محمد وعبد الوهاب ابنا إبراهيم
الامام الممسوك، وخلق سواهم.
فلما دخلوا الكوفة أنزلهم أبو سلمة الخلال دار الوليد بن سعد، مولى بني
هاشم، وكتم أمرهم نحوا من أربعين ليلة من القواد والامراء، ثم ارتحل
بهم إلى موضع آخر، ثم لم يزل ينقلهم من مكان إلى مكان حتى فتحت البلاد.
ثم بويع للسفاح.
وأما إبراهيم بن محمد الامام فإنه سير به إلى أمير المؤمنين في ذلك
الزمان مروان بن محمد وهو بحران فحبسه، وما زال في السجن إلى هذه
السنة، فمات في صفر منها في السجن، عن ثمان وأربعين سنة.
وقيل إنه غم بمرققة وضعت على وجهه حتى مات عن إحدى وخمسين سنة، وصلى
عليه رجل يقال له بهلول (2) ابن صفوان، وقيل إنه هدم عليه بيت حتى مات،
وقيل بل سقي لبنا مسموما فمات (3)، وقيل إن إبراهيم الامام شهد الموسم
عام إحدى وثلاثين، واشتهر أمره هنالك لانه وقف في أبهة عظيمة، ونجائب
كثيرة، وحرمة وافرة، فأنهى أمره إلى مروان وقيل له: إن أبا مسلم يدعو
الناس إلى هذا ويسمونه الخليفة، فعبث إليه في المحرم من سنة ثنتين
وثلاثين وقتله في صفر من هذه السنة، وهذا أصح مما تقدم: وقيل إنه إنما
أخذه من الكوفة لا من حميمة البلقاء فالله أعلم.
وقد كان إبراهيم هذا كريما جوادا له فضائل وفواضل، وروى الحديث عن أبيه
عن جده، وأبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، وعنه أخواه عبد الله
السفاح، أبو جعفر عبد الله المنصور، وأبو
__________
(1) انظر حاشية 4 صفحة 36.
(2) في الطبري 9 / 133: المهلهل.
(3) في مروج الذهب 3 / 296: جعلوا رأسه في جراب كان معهم فيه نورة
مسحوقة (خليط من الكلس والزرنيخ) فاضطرب ساعة ثم خمد.
وفي رواية في الطبري 9 / 132: قال بعضهم لم يقتل مات بالطاعون.
(*)
(10/43)
سلمة عبد
الرحمن بن مسلم الخراساني، ومالك بن هاشم.
ومن كلامه الحسن: الكامل المروءة من أحرز دينه ووصل رحمه، واجتنب ما
يلام عليه.
خلافة أبي العباس السفاح
لما بلغ أهل الكوفة مقتل إبراهيم بن محمد، أراد أبو سلمة الخلال أن
يحول الخلافة إلى آل علي بن أبي طالب، فغلبه بقية النقباء والامراء،
وأحضروا أبا العباس السفاح وسلموا عليه بالخلافة، وذلك بالكوفة، وكان
عمره إذ ذاك ستا وعشرين سنة.
وكان أول من سلم عليه بالخلافة أبو سلمة الخلال، وذلك ليلة الجمعة
لثلاث عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر من هذه السنة، فلما كان وقت صلاة
الجمعة خرج السفاح على برذون أبلق، والجنود ملبسة معه، حتى دخل دار
الامارة، ثم خرج إلى المسجد الجامع وصلى بالناس، ثم صعد المنبر وبايعه
الناس وهو على المنبر في أعلاه، وعمه داود بن علي واقف دونه بثلاث درج،
وتكلم السفاح، وكان أول ما نطق به أن قال: الحمد لله الذي اصطفى
الاسلام لنفسه دينا، وكرمه وشرفه وعظمه، واختاره لنا، وأيده بنا،
وجعلنا أهله وكهفه والقوام به والذابين عنه والناصرين له، وألزمنا كلمة
التقوى وجعلنا أحق بها وأهلها، خصنا برحم رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقرابته، ووضعنا بالاسلام وأهله في الموضع الرفيع، وأنزل بذلك على أهل
الاسلام كتابا يتلى عليهم.
فقال تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم
تطهيرا) [ الاحزاب: 33 ] وقال: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في
القربى) [ الشورى: 23 ] وقال: (وأنذر عشيرتك الاقربين) [ الشعراء: 214
] وقال: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي
القربى واليتامى والمساكين) [ الحشر: 7 ] الآية.
فأعلمهم عزوجل فصلنا وأوجب عليهم حقنا ومودتنا، وأجزل من الفئ والغنيمة
نصيبنا تكرمة لنا، وتفضلة علينا، والله ذو الفضل العظيم.
وزعمت السبائية (1) الضلال أن غيرنا أحق بالرياسة والسياسة والخلافة
منا، فشاهت وجوههم.
أيها الناس بنا هدى الله الناس بعد ضلالتهم، وبصرهم (2) بعد جهالتهم،
وأنقذهم بعد هلكتهم وأظهر بنا الحق وأدحض بنا الباطل، وأصلح بنا منهم
ما كان فاسدا، ورفع بنا الخسيسة، وأتم النقيصة وجمع الفرقة، حتى عاد
الناس بعد العداوة أهل تعاطف وبر ومواساة في دنياهم، وإخوانا على سرر
متقابلين في أخراهم، فتح الله علينا ذلك منة ومنحة بمحمد صلى الله عليه
وسلم، فلما قبضه إليه قام بذلك الامر بعده أصحابه، وأمرهم شورى بينهم،
فحووا مواريث الامم فعدلوا فيها،
__________
(1) عن الطبري وابن الاثير.
وفي الاصل السبابية تحريف.
والسبئية زعمت بأن عليا صار إلها بحلول روح الاله فيه، وهي من جملة
الفرق الحلولية وغرضها القصد إلى افساد القول بتوحيد الصانع (الفرق بين
الفرق ص 193 - 194).
(2) من الطبري وابن الاثير.
وفي الاصل ونصرهم وهو تحريف.
(*)
(10/44)
ووضعوها
مواضعها، وأعطوها أهلها، وخرجوا خماصا منها.
ثم وثب بنو حرب ومروان فابتزوها لانفسهم، وتداولوها.
فجاروا فيها واستأثروا بها، وظلموا أهلها، فأملى الله لهم حينا (فلما
آسفونا انتقمنا منهم) فانتزع منهم ما بأيديهم بأيدينا، ورد الله علينا
حقنا، وتدارك بنا أمتنا، وتولى أمرنا والقيام بنصرنا ليمن بنا على
الذين استضعفوا في الارض، وختم بنا كما افتتح بنا، وإني لارجو [ أن ]
لا يأتيكم الجور من حيث جاءكم الخير، ولا الفساد من حيث جاءكم الصلاح،
وما توفيقنا أهل البيت إلا بالله.
يا أهل الكوفة أنتم محل محبتنا ومنزل مودتنا، وأنتم أسعد الناس بنا
وأكرمهم علينا، وقد زدتكم في أعطياتكم مائة درهم، فاستعدوا فأنا السفاح
الهائج (1) والثائر المبير.
وكان به وعك فاشتد عليه حتى جلس على المنبر ونهض عمه داود فقال: الحمد
لله شكرا الذي أهلك عدونا وأصار إلينا ميراثنا من بيتنا (2).
أيها الناس: الآن انقشعت حنادس الظلمات وانكشف غطاؤها، وأشرقت أرضها
وسماؤها، فطلعت شمس الخلافة من مطلعها، ورجع الحق إلى نصابه، إلى أهل
نبيكم أهل الرأفة والرحمة والعطف عليكم، أيها الناس إنا والله ما خرجنا
لهذا الامر لنكنز لجينا ولا عقيانا ولا لنحفر نهرا ولا لنبني قصرا ولا
لنجمع ذهبا ولا فضة، وإنما أخرجتنا الانفة من انتزاع حقنا والغضب لبني
عمنا، ولسوء سيرة بني أمية فيكم، واستذلالهم لكم، واستئثارهم بفيئكم
وصدقاتكم، فلكم علينا ذمة الله وذمة رسوله وذمة العباس، أن نحكم فيكم
بما أنزل الله، ونعمل بكتاب الله، ونسير في العامة والخاصة بسيرة رسول
الله، تبا تبا لبني أمية وبني مروان، آثروا العاجلة على الآجلة، والدار
الفانية على الدار الباقية، فركبوا الآثام وظلموا الانام، وارتكبوا
المحارم وغشوا الجرائم، وجاروا في سيرتهم في العباد، وسنتهم في البلاد
التي بها استلذوا تسربل الاوزار، وتجلبب الآصار، ومرحوا في أعنة
المعاصي، وركضوا في ميادين الغي، جهلا منهم باستدراج الله، وعميا عن
أخذ الله، وأمنا لمكر الله، فأتاهم بأس الله بياتا وهم نائمون، فأصبحوا
أحاديث ومزقوا كل ممزق، فبعدا للقوم الضالمين.
وأدان الله من مروان، وقد غره بالله الغرور، أرسل عدو الله في عنانه
حتى عثر جواده في فضل خطامه، أظن عدو الله أن لن يقدر عليه أحد ؟ فنادى
حزبه وجمع جنده ورمى بكتائبه فوجد أمامه ووراءه وعن يمينه وعن شماله
ومن فوقه ومن تحته من مكر الله وبأسه ونقمته ما أمات باطله، ومحق
ضلاله، وأحل دائرة السوء به، وأحاط به خطيئته، ورد إلينا حقنا وآوانا.
أيها الناس ! إن أمير المؤمنين نصره الله نصرا عزيزا، إنما غاد إلى
المنبر بعد صلاة الجمعة لانه كره أن يخلط بكلام الجمعة غيره، وإنما
قطعه عن استتمام الكلام شدة الوعك، فادعوا الله لامير المؤمنين
بالعافية، فقد أبدلكم الله بمروان عدو الرحمن، وخليفة الشيطان، المتبع
للسفلة الذين يفسدون في الارض ولا يصلحون المتوكل على الله المقتدي
بالابرار الاخيار الذين أصلحوا الارض بعد فسادها بمعالم الهدى، ومناهج
التقى.
قال فعج الناس له
__________
(1) في الطبري وابن الاثير: المبيح.
(2) في الطبري وابن الاثير: نبينا (صلى الله عليه وسلم).
(*)
(10/45)
بالدعاء ثم
قال: واعلموا يا أهل الكوفة أنه لم يصعد منبركم هذا خليفة بعد رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأمير
المؤمنين هذا - وأشار بيده إلى السفاح - واعلموا أن هذا الامر فينا ليس
بخارج عنا، حتى نسلمه إلى عيسى بن مريم عليه السلام، والحمد لله رب
العالمين على ما أبلانا وأولانا.
ثم نزل أبو العباس وداود حتى دخلا القصر.
ثم دخل الناس يبايعون إلى العصر، ثم من بعد العصر إلى الليل.
ثم إن أبا العباس خرج فعسكر بظاهر الكوفة (1) واستخلف عليها عمه داود،
وبعث عمه عبد الله بن علي إلى أبي عون بن يزيد، وبعث ابن أخيه عيسى بن
موسى إلى الحسن بن قحطبة.
وهو يومئذ بواسط يحاصر ابن هبيرة، وبعث يحيى بن [ جعفر بن ] تمام بن
العباس إلى حميد بن قحطبة بالمدائن، وبعث أبا اليقظان عثمان بن عروة بن
محمد بن عمار بن ياسر إلى بسام بن إبراهيم بن بسام
بالاهواز، وبعث سلمة بن عمرو بن عثمان إلى مالك بن الطواف (2).
وأقام هو بالعكسر أشهرا، ثم ارتحل فنزل المدينة الهاشمية في قصر
الامارة، وقد تنكر لابي سلمة الخلال، وذلك لما كان بلغه عنه من العدول
بالخلافة عن ابن العباس إلى آل علي بن أبي طالب والله سبحانه وتعالى
أعلم.
مقتل مروان بن محمد بن مروان آخر خلفاء بني
امية.
وتحول الخلافة إلى بني العباس مأخوذ من قوله تعالى: (والله يؤتى ملكه
من يشاء) [ البقرة: 246 ] وقوله (قل اللهم مالك الملك) الآية [ آل
عمران: 26 ].
وقد ذكرنا أن مروان لما بلغه خبر أبي مسلم وأتباعه وما جرى بأرض
خراسان، تحول من حران فنزل على نهر قريب من الموصل، يقال له الزاب من
أرض الجزيرة ثم لما بلغه أن السفاح قد بويع له بالكوفة والتفت عليه
الجنود، واجتمع له أمره، شق عليه جدا، وجمع جنوده فتقدم إليه أبو عون
بن أبي يزيد (3) في جيش كثيف وهو أحد أمراء السفاح، فنازله على الزاب
وجاءته الامداد من جهة السفاح، ثم ندب السفاح الناس ممن يلي القتال من
أهل بيته، فانتدب له عبد الله بن علي فقال: سر على بركة الله، فسار في
جنود كثيرة فقدم على أبي عون فتحول له أبو عون عن سرادقه وخلاه له وما
فيه، وجعل عبد الله بن علي على شرطته حياش بن حبيب الطائي، ونصير بن
المحتفز، ووجه أبو العباس موسى بن كعب في ثلاثين رجلا على البريد إلى
عبد الله بن علي يحثه على مناجزة مروان، والمبادرة إلى قتاله ونزاله
قبل أن تحدث أمور، وتبرد نيران الحرب.
فتقدم عبد الله بن علي بجنوده حتى واجه جيش مروان، ونهض مروان في
__________
(1) في الطبري 9 / 129 وابن الاثير 5 / 416: بحمام أعين.
(2) في الطبري: طريف.
(3) في الطبري: أبو عون عبد الملك بن يزيد الازدي (انظر بن الاثير 5 /
417 وابن الاعثم 8 / 182 ومروج الذهب 3 / 310).
(*)
(10/46)
جنوده وتصاف
الفريقان في أول النهار، ويقال إنه كان مع مروان يومئذ مائة ألف وخمسون
ألفا، ويقال مائة وعشرون ألفا، وكان عبد الله بن علي في عشرين ألفا.
فقال مروان لعبد العزيز بن عمر بن عبد
العزيز: إن زالت الشمس يومئذ ولم يقاتلونا كنا نحن الذين ندفعها إلى
عيسى بن مريم، وإن قاتلونا قبل الزوال فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم أرسل مروان إلى عبد الله بن علي يسأله الموادعة، فقال عبد الله: كذب
ابن زريق، لا تزول الشمس حتى أوطئه الخيل إن شاء الله، وكان ذلك يوم
السبت لاحدى عشر ليلة خلت من جمادى الآخرة من هذه السنة، فقال مروان:
قفوا لا تبتدئون بقتال، وجعل ينظر إلى الشمس فخالفه الوليد بن معاوية
بن مروان - وهو ختن مروان على ابنته - فحمل، فغضب مروان فشتمه فقاتل
أهل الميمنة فانحاز أبو عون إلى عبد الله بن علي، فقاتل موسى بن كعب
لعبد الله بن علي، فأمر الناس فنزلوا ونودي الارض الارض، فنزلوا
وأشرعوا الرماح وجثوا على الركب وقاتلوهم، وجعل أهل الشام يتأخرون
كأنما يدفعون، وجعل عبد الله يمشي قدما، وجعل يقول: يا رب حتى متى نقتل
فيك، ونادى: يا أهل خراسان، يا شارات إبراهيم الامام، يا محمد يا
منصور، واشتد القتال جدا بين الناس، فلا تسمع إلا وقعا كالمرازب على
النحاس، فأرسل مروان إلى قضاعة يأمرهم بالنزول فقالوا: قل لبني سليم
فلينزلوا، وأرسل إلى السكاسك أن احملوا فقالوا: قل لبني عامر أن
يحملوا، فأرسل إلى السكون أن احملوا فقالوا: قل إلى غطفان فليحملوا.
فقال لصاحب شرطته: انزل فقال لا والله لا أجعل نفسي غرضا.
قال: أما والله لاسوءنك.
قال: وددت والله لو قدرت على ذلك.
ويقال: إنه قال ذلك لابن هبيرة.
قالوا: ثم انهزم أهل الشام واتبعتهم أهل خراسان في أدبارهم يقتلون
ويأسرون، وكان من غرق من أهل الشام أكثر ممن قتل وكان في جملة من غرق
إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك المخلوع (1)، وقد أمر عبد الله بن علي
بعقد الجسر، واستخراج من غرق في الماء، وجعل يتلو قوله تعالى: (وإذ
فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون) [ البقرة:
50 ] وأقام عبد الله بن علي في موضع المعركة سبعة أيام، وقد قال رجل من
ولد سعيد بن العاص في مروان وفراره يومئذ: لج الفرار بمروان فقلت له *
عاد الظلوم ظليما همه الهرب أين الفرار وترك الملك إذ (2) ذهبت * عنك
الهوينا فلا دين ولا حسب
فراشه الحلم فرعون العقاب وإن * تطلب نداه فكلب دونه كلب واحتاز عبد
الله ما في معسكر مروان من الاموال والامتعة والحواصل، ولم يجد فيه
امرأة سوى
__________
(1) 1) في مروج الذهب 3 / 297: غرق من بني أمية ثلثمائة رجل.
(1) في ابن الاعثم 8 / 184: إن.
(2) (*)
(10/47)
جارية كانت
لعبد الله بن مروان، وكتب إلى أبي العباس السفاح بما فتح الله عليه من
النصر، وما حصل لهم من الاموال.
فصلى السفاح ركعتين شكرا لله عز وجل، وأطلق لكل من حضر الوقعة خمسمائة
خمسمائة، ورفع في أرزاقهم إلى ثمانين، وجعل يتلو قوله (فلما فصل طالوت
بالجنود) الآية [ البقرة: 249 ].
صفة مقتل مروان لما انهزم مروان سار
لا يلوي على أحد، فأقام عبد الله بن علي في مقام المعركة سبعة أيام، ثم
سار خلفه بمن معه من الجنود، وذلك عن أمر السفاح له بذلك، فلما مر
مروان بحران اجتازها وأخرج أبا محمد السفياني من سجنه، واستخلف عليها
أبان بن يزيد - وهو ابن أخته (1)، وزوج ابنته أم عثمان - فلما قدم عبد
الله على حران خرج إليه أبان بن يزيد مسودا فأمنه عبد الله بن علي
وأقره على عمله، وهدم الدار التي سجن فيها إبراهيم الامام، واجتاز
مروان قنسرين قاصدا حمص، فلما جاءها خرج إليه أهلها بالاسواق والمعايش،
فأقام بها يومين أو ثلاثة ثم شخص منها، فلما رأى أهل حمص قلة من معه
اتبعوه ليقتلوه ونهبوا ما معه، وقالوا: مرعوب مهزوم، فأدركوه بواد عند
حمص فأكمن لهم أميرين، فلما تلاحقوا بمروان عطف عليهم فناشدهم أن
يرجعوا فأبوا إلا مقاتلته، فثار القتال بينهم وثار الكمينان من ورائهم،
فانهزم الحمصيون، وجاء مروان إلى دمشق وعلى نيابتها من جهته زوج ابنته
الوليد بن معاوية بن مروان، فتركه بها واجتاز عنها قاصدا إلى الديار
المصرية، وجعل عبد الله بن علي لا يمر ببلد وقد سودوا فيبايعونه
ويعطيهم الامان، ولما وصل إلى قنسرين وصل إليه أخوه عبد الصمد بن علي
في
أربعة آلف، قد بعثهم السفاح مددا له، ثم سار عبد الله حتى أتى حمص، ثم
سار منها إلى بعلبك، ثم منها حتى أتى دمشق من ناحية المزة فنزل بها
يومين أو ثلاثة، ثم وصل إليه أخوه صالح بن علي في ثمانية آلاف مددا من
السفاح، فنزل صالح بمرج عذراء، ولما جاء عبد الله بن علي دمشق نزل على
الباب الشرقي، ونزل صالح أخوه على باب الجابية، ونزل أبو عون على باب
كيسان، ونزل بسام على الباب الصغير، وحميد بن قحطبة على باب توما، وعبد
الصمد ويحيى بن صفوان والعباس بن يزيد على باب الفراديس، فحاصرها أياما
ثم افتتحها يوم الاربعاء لعشر خلون من رمضان هذه السنة، فقتل من أهلها
خلقا كثيرا وأباحها ثلاث ساعات، وهدم سورها، ويقال إن أهل دمشق لما
حاصرهم عبد الله اختلفوا فيما بينهم، ما بين عباسي وأموي، فاقتتلوا
فقتل بعضهم بعضا، وقتلوا نائبهم ثم سلموا البلد وكان أول من صعد السور
من ناحية الباب الشرقي رجل يقال له عبد الله الطائي، ومن ناحية الباب
الصغير بسام بن إبراهيم، ثم أبيحت دمشق ثلاث ساعات حتى قيل إنه قتل بها
في هذه المدة نحوا من خمسين ألفا.
__________
(1) هو إبان بن يزيد بن محمد بن مروان ابن اخ مروان (انظر الطبري - ابن
الاثير).
(*)
(10/48)
وذكر ابن عساكر
في ترجمة عبيد بن الحسن الاعرج من ولد جعفر بن أبي طالب، وكان أميرا
على خمسة آلاف، مع عبد الله بن علي في حصار دمشق، أنهم أقاموا محاصريها
خمسة أشهر، وقيل مائة يوم، وقيل شهرا ونصفا، وأن البلد كان قد حصنه
نائب مروان تحصينا عظيما، ولكن اختلف أهلها فيما بينهم بسبب اليمانية
والمضرية، وكان ذلك سبب الفتح، حتى أنهم جعلوا في كل مسجد محرابين
للقبلتين حتى في المسجد الجامع منبرين، وإمامين يخطبان يوم الجمعة على
المنبرين، وهذا من عجيب ما وقع، وغريب ما اتفق، وفظيع ما أحدث بسبب
الفتنة والهوى والعصبية، نسأل الله السلامة والعافية.
وقد بسط ذلك ابن عساكر في هذه الترجمة المذكورة، وذكر في ترجمة محمد بن
سليمان بن عبد الله النوفلي قال: كنت مع عبد الله بن علي أول ما دخل
دمشق، دخلها بالسيف، وأباح القتل فيها ثلاث ساعات، وجعل جامعها سبعين
يوما اسطبلا لدوابه وجماله، ثم نبش قبور بني أمية فلم يجد في
قبر معاوية إلا خيطا أسود مثل الهباء، ونبش قبر عبد الملك بن مروان
فوجد جمجمة، وكان يجد في القبر العضو بعد العضو، إلا هشام بن عبد الملك
فإنه وجده صحيحا لم يبل منه غير أرنبة أنفه، فضربه بالسياط وهو ميت
وصلبه أياما ثم أحرقه ودق رماده ثم ذره في الريح، وذلك أن هشاما كان قد
ضرب أخاه محمد بن علي، حين كان قد اتهم بقتل ولد له صغير، سبعمائة سوط،
ثم نفاه إلى الحميمة بالبلقاء.
قال: ثم تتبع عبد الله بن علي بني أمية من أولاد الخلفاء وغيرهم، فقتل
منهم في يوم واحد اثنين وتسعين ألفا عند نهر بالرملة، وبسط عليهم
الانطاع ومد عليهم سماطا فأكل وهم يختلجون تحته، وهذا من الجبروت
والظلم الذي يجازيه الله عليه، وقد مضى ولم يدم له ما أراده ورجاه، كما
سيأتي في ترجمته.
وأرسل امرأة هشام بن عبد الملك وهي عبدة بنت عبد الله بن يزيد بن
معاوية صاحبة الخال، مع نفر من الخراسانية إلى البرية ماشية حافية
حاشرة عن وجهها وجسدها عن ثيابها ثم قتلوها.
ثم أحرق ما وجده من عظم ميت منهم.
وأقام بها عبد الله خمسة عشر يوما.
وقد استدعى بالاوزاعي فأوقف بين يديه فقال له: يا أبا عمرو ما تقول في
هذا الذي صنعناه ؟ قال فقلت له: لا أدري، غير أنه قد حدثني يحيى بن
سعيد الانصاري عن محمد بن إبراهيم، عن علقمة، عن عمر بن الخطاب قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما الاعمال بالنيات " فذكر
الحديث.
قال الاوزاعي: وانتظرت رأسي أن يسقط بين رجلي ثم أخرجت، وبعث إلي بمائة
دينار.
ثم سار وراء مروان فنزل على نهر الكسوة ووجه يحيى بن جعفر الهاشمي
نائبا على دمشق، ثم سار فنزل مرج الروم، ثم أتى نهر أبي فطرس فوجد
مروان قد هرب فدخل مصر، وجاءه كتاب السفاح: ابعث صالح بن علي في طلب
مروان وأقم أنت بالشام نائبا عليها، فسار صالح يطلب مروان في ذي القعدة
من هذه السنة، معه أبو عمر وعامر بن إسماعيل، فنزل على ساحل البحر وجمع
ما هناك من السفن وبلغه أن مروان قد نزل الفرما، وقيل الفيوم، فجعل
يسير على الساحل والسفن تقاد معه في البحر حتى أتى العريش، ثم سار حتى
نزل على النيل ثم سار إلى الصعيد، فعبر مروان النيل وقطع الجسر
(10/49)
وحرق ما حوله
من العلف والطعام، ومضى صالح في طلبه.
فالتقى بخيل لمروان فهزمهم، ثم جعل
كلما التقوا مع خيل لمروان يهزمونهم حتى سألوا بعض من أسروا عن مروان
فدلهم عليه، وإذا به في كنيسة أبو صير، فوافوه من آخر الليل فانهزم من
معه من الجند وخرج إليهم مروان في نفر يسر معه فأحاطوا به حتى قتلوه،
طعنه رجل من أهل البصرة يقال له معود (1)، ولا يعرفه حتى قال رجل صرع
أمير المؤمنين، فابتدره رجل من أهل الكوفة كان يبيع الرمان فاحتز رأسه،
فبعث به عامر بن إسماعيل أمير هذه السرية إلى أبي عون، فبعث به أبو عون
إلى صالح بن علي، فبعث به صالح مع رجل يقال له خزيمة بن يزيد بن هانئ
كان على شرطته، لامير المؤمنين السفاح.
وكان مقتل مروان يوم الاحد لثلاث بقين من ذي الحجة، وقيل يوم الخميس
لست مضين منها سنة ثنتين وثلاثين ومائة، وكانت خلافته خمس سنين وعشرة
أشهر وعشرة أيام على المشهور، واختلفوا في سنه فقيل أربعون سنة، وقيل
ست وقيل ثمان وخمسون سنة، وقيل ستون وقيل اثنتان وقيل ثلاث وقيل تسع
وستون سنة، وقيل ثمانون فالله أعلم.
ثم إن صالح بن علي سار إلى الشام واستخلف على مصر أبا عون بن أبي يزيد
والله سبحانه أعلم.
وهذا شئ من ترجمة مروان الحمار
وهو مروان بن محمد بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، القرشي
الاموي، أبو عبد الملك أمير المؤمنين آخر خلفاء بني أمية، وأمه أمة
كردية يقال لها لبابة (2)، وكانت لابراهيم بن الاشتر النخعي، أخذها
محمد بن مروان يوم قتله فاستولدها مروان هذا، ويقال إنها كانت أولا
لمصعب بن الزبير، وقد كانت دار مروان هذا في سوق الاكافين، قاله ابن
عساكر.
بويع له بالخلافة بعد قتل الوليد بن يزيد، وبعد موت يزيد بن الوليد، ثم
قدم دمشق وخلع إبراهيم بن الوليد، واستمر له الامر في نصف صفر سنة سبع
وعشرين ومائة.
وقال أبو معشر: بويع له بالخلافة في ربيع الاول سنة تسع وعشرين ومائة،
وكان يقال له مروان الجعدي، نسبة إلى رأي الجعد بن درهم، وتلقب بالحمار
(3)، وهو آخر من ملك من بني أمية، وكانت خلافته خمس سنين وعشرة أشهر
وعشرة أيام، وقيل خمس سنين وشهرا، وبقي بعد أن بويع للسفاح تسعة أشهر،
وكان أبيض مشربا حمرة، أزرق العينين، كبير
__________
(1) في الطبري 9 / 136: المغود، وفي ابن الاعثم 8 / 188 قتله محمد بن
شهاب المازني وفي الاخبار الطوال ص 367: قتله عامر بن إسماعيل.
(2) في مروج الذهب 3 / 282: ريا وقيل طرونة.
(3) قيل لقب بالحمار لثباته في الحرب (فوات الوفيات 4 / 128).
(*)
(10/50)
اللحية، ضخم
الهامة، ربعة، ولم يكن يخضب.
ولاه هشام نيابة أذربيجان وأرمينية والجزيرة، في سنة أربع عشرة ومائة،
ففتح بلادا كثيرة وحصونا متعددة في سنين كثيرة، وكان لا يفارق الغزو في
سبيل الله، وقاتل طوائف من الناس الكفار ومن الترك والخزر واللان
وغيرهم، فكسرهم وقهرهم، وقد كان شجاعا بطلا مقداما حازم الرأي، لولا أن
جنده خذلوه بتقدير الله عز وجل لما له في ذلك من حكمة سلب الخلافة
لشجاعته وصرامته.
ولكن من يخذل الله يخذل، ومن يهن الله فماله من مكرم.
قال الزبير بن بكار: عن عمه مصعب بن عبد الله: كان بنو أمية يرون أنه
تذهب منهم الخلافة إذا وليها من أمه أمة، فلما وليها مروان هذا أخذت
منهم في سنه ثنتين وثلاثين ومائة.
وقد قال الحافظ ابن عساكر: أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي الحسين،
أخبرنا سهل بن بشر، أنبأ الخليل بن هبة الله بن الخليل، أنبأ عبد
الوهاب الكلابي: حدثنا أبو الجهم أحمد بن الحسين، أنبأ العباس بن
الوليد بن صبح، ثنا عباس بن يحيى أبو الحارث، حدثني الهيثم بن حميد،
حدثني راشد بن داود، عن أسماء عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (لا تزال الخلافة في بني أمية يتلقفونها تلقف الغلمان
الكرة، فإذا خرجت من أيديهم فلا خير في عيش ".
هكذا أورده ابن عساكر وهو منكر جدا، وقد سأل الرشيد أبا بكر بن عياش:
من خير الخلفاء نحن أو بنو أمية ؟ فقال: هم كانوا أنفع للناس، وأنتم
أقوم للصلاة، فأعطاه ستة آلاف.
قالوا وقد كان مروان هذا كثير المروءة كثير العجب، يعجبه اللهو والطرب،
ولكنه كان يشتغل عن ذلك بالحرب.
قال ابن عساكر: قرأت بخط أبي الحسين علي بن مقلد بن نصر بن منقذ بن
الامير في مجموع له: كتب مروان بن محمد إلى جارية له تركها بالرملة عند
ذهابه إلى مصر منهزما:
وما زال يدعوني إلى الصبر ما أرى * فآبى ويدنيني الذي لك في صدري وكان
عزيزا أن تبيتي وبيننا * حجاب فقد أمسيت مني على عشر وأنكاهما والله
للقلب فاعلمي * إذا زدت مثليها فصرت على شهر وأعظم من هذين والله أنني
* أخاف بأن لا نلتقي آخر الدهر سأبكيك لا مستبقيا فيض عبرة * ولا طالبا
بالصبر عاقبة الصبر وقال بعضهم: اجتاز مروان وهو هارب براهب فاطلع عليه
الراهب فسلم عليه فقال له: يا راهب هل عندك علم بالزمان ؟ قال: نعم !
عندي من تلونه ألوان.
قال: هل تبلغ الدنيا من الانسان أن تجعله مملوكا بعد أن كان مالكا ؟
قال: نعم ! قال: فكيف ؟ قال: بحبه لها وحرصه على نيل شهواتها وتضييع
الحزم وترك انتهاز الفرص.
فإن كنت تحبها فإن عبدها من أحبها، قال: فما السبيل إلى العتق ؟ قال:
ببغضها والتجافي عنها.
قال: هذا ما لا يكون.
قال الراهب: أما إنه سيكون، فبادر بالهرب منها قبل أن تسلبها.
قال: هل تعرفني ؟ قال: نعم ! أنت ملك العرب مروان، تقتل في بلاد
السودان:
(10/51)
وتدفن بلا
أكفان، فلولا أن الموت في طلبك لدللتك على موضع هربك.
قال بعض الناس: كان يقال في ذلك الزمان يقتل ع بن ع بن ع م بن م بن م
يعنون يقتل عبد الله بن علي بن عباس مروان بن محمد بن مروان.
وقال بعضهم: جلس مروان يوما وقد أحيط به وعلى رأسه خادم له قائم، فقال
مروان لبعض من يخاطبه: ألا ترى ما نحن فيه ؟ لهفي على أيد ما ذكرت،
ونعم ما شكرت، ودولة ما نصرت.
فقال له الخادم: يا أمير المؤمنين من ترك القليل حتى يكثر، والصغير حتى
يكبر، والخفي حتى يظهر، وأخر فعل اليوم لغد، حل به أكثر من هذا.
فقال مروان: هذا القول أشد علي من فقد الخلافة.
وقد قيل إن مروان قتل يوم الاثنين لثلاث عشرة خلت من ذي الحجة سنة
ثنتين وثلاثين ومائة، وقد جاوز الستين وبلغ الثمانين.
وقيل إنما عاش أربعين سنة.
والصحيح الاول.
وهو آخر خلفاء بني أمية به انقضت دولتهم.
ما ورد في انقضاء دولة بني أمية وابتداء
بني العباس من الاخبار النبوية
قال العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: " إذا بلغ بنو العاص أربعين رجلا اتخذوا دين الله
دغلا، وعباد الله خولا، ومال الله دولا " (1).
ورواه الاعمش عن عطية عن أبي سعيد مرفوعا بنحوه، وروى ابن لهيعة عن أبي
قبيل عن ابن وهب أنه كان عند معاوية فدخل عليه مروان بن الحكم فتكلم في
حاجة فقال: اقض حاجتي فإني لابو عشرة، وأخو عشرة وعم عشرة.
فلما أدبر مروان قال معاوية لابن عباس وهو معه على السرير: أما تعلم أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا بلغ بنو الحكم ثلاثين رجلا
اتخذوا مال الله بينهم دولا، وعباد الله خولا، وكتاب الله دغلا، فإذا
بلغوا سبعة وتسعين (2) وأربعمائة، كان هلاكهم أسرع من لوك تمرة ".
فقال ابن عباس: اللهم نعم ؟ فلما أدبر مروان قال معاوية: أنشدك بالله
يا بن عباس أما تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر هذا فقال: "
أبو الجبابرة الاربعة ".
فقال ابن عباس: اللهم نعم.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا القاسم بن الفضل ثنا يوسف بن مازن
الراسبي قال: قام رجل إلى الحسين بن علي فقال: يا مسود وجوه المؤمنين !
فقال الحسين: لا تؤنبني رحمك الله، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم
رأى بني أمية يخطبون على منبره رجلا رجلا فساءه ذلك فنزلت (إنا أعطيناك
الكوثر) [ الكوثر: 1 ] وهو نهر في الجنة، ونزلت (إنا أنزلناه في ليلة
القدر) السورة إلى قوله: (خير من ألف شهر) [ القدر: 1 - 3 ] مملكة بني
أمية.
قال: فحسبنا ذلك
__________
(1) رواه البيهقي في الدلائل 6 / 507.
(2) في دلائل البيهقي 6 / 508: تسعة.
(*)
(10/52)
فإذا هو كما
قال لا يزيد ولا ينقص (1).
وقد رواه الترمذي عن محمود بن غيلان عن أبي داود الطيالسي ثم قال: غريب
لا نعرفه إلا من حديث القاسم بن الفضل، وهو ثقة وثقه يحيى القطان وابن
مهدي.
قال: وشيخه يوسف بن سعد ويقال يوسف بن مازن، رجل مجهول، ولا يعرف هذا
بهذا اللفظ إلا من هذا الوجه.
وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث القاسم بن الفضل الحداني، وقد تكلمت
على نكارة هذا الحديث في التفسير بكلام مبسوط، وإنما يكون متجها إذا
قيل إن دولتهم ألف شهر بأن نسقط منها أيام ابن الزبير، وذلك أن معاوية
بويع به مستقلا بالملك في سنة أربعين، وهي عام الجماعة حين سلم إليه
الحسن بن علي الامر بعد ستة أشهر من قتل علي، ثم زالت الخلافة عن بني
أمية في هذه السنة، وهي سنة ثنتين وثلاثين ومائة، وذلك ثنتان وتسعون
سنة، وإذا أسقط منها تسع سنين خلافة ابن الزبير بقي ثلاث وثمانون سنة،
وهي مباينة لما ورد في هذا الحديث، ولكن ليس هذا الحديث مرفوعا إلى
النبي صلى الله عليه وسلم، أنه فسر هذه الآية بهذا العدد، وإنما هذا من
قول بعض الرواة، وقد تكلمنا على ذلك مطولا في التفسير، وتقدم في
الدلائل أيضا تقريره والله أعلم.
وقال علي بن المديني عن يحيى بن سعيد، عن سفيان الثوري، عن علي بن زيد،
عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " رأيت بني
أمية يصعدون منبري فشق ذلك علي فأنزلت: إنا أنزلناه في ليلة القدر "
فيه ضعف وإرسال.
وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: ثنا يحيى بن معين، ثنا عبد الله بن نمير،
عن سفيان الثوري، عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب في قوله (وما جعلنا
الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) [ الاسراء: 60 ] قال: رأى ناسا من
بني أمية على المنابر فساءه ذلك، فقيل له: إنما هي دنيا يعطونها وتضمحل
عن قليل فسرى عنه (2).
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع قال: لما أسري برسول الله صلى الله
عليه وسلم رأى فلانا وهو من بعض بني أمية على المنبر يخطب الناس فشق
ذلك عليه فأنزل الله (وإن أدرى لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين) [
الانبياء: 111 ] وقال مالك بن دينار: سمعت أبا الجوزاء يقول والله
ليعزن الله ملك بني أمية كما أعز ملك من كان قبلهم، ثم ليذلن ملكهم كما
أذل ملك من كان قبلهم، ثم تلا قوله تعالى: (وتلك الايام نداولها بين
الناس) [ آل عمران: 140 ].
وقال ابن أبي الدنيا: حدثني إبراهيم بن سعيد، ثنا أبو أسامة، ثنا عمر
بن حمزة، أخبرني عمر بن سيف مولى لعثمان بن عفان قال: سمعت سعيد بن
المسيب وهو يقول لابي بكر بن سليمان بن أبي خيثمة - وذكروا بني أمية -
فقال: لا يكون هلاكهم إلا بينهم.
قالوا كيف ؟
__________
(1) رواه البيهقي في الدلائل 6 / 510 والترمذي في التفسير.
باب تفسير سورة القدر ح (3350) ص (5 / 444 - 445)، ورواه الحاكم في
مستدركه وابن جرير الطبري كلهم من حديث القاسم بن الفضل،
وفي الحديث: قام رجل إلى الحسن، وليس الحسين وكان ذلك بعد صلحه مع
معاوية، فلعل اقحام اسم الحسين في الحديث سهو من الناسخ.
(2) رواه البيهقي في الدلائل 6 / 509.
(*)
(10/53)
وتنكسر ثم قاتله حميد بن قحطبة نائب الجزيرة، فهزمه ملبد وتحصن منه
حميد في بعض الحصون ثم صالحه حميد بن قحطبة على مائة ألف فدفعها إليه
وقبلها ملبد وتقلع عنه.
وحج بالناس في هذه السنة عم الخليفة إسماعيل بن علي بن عبد الله بن
عباس قاله الواقدي.
وكان نائب الموصل - يعني عم المنصور - وعلى نيابة الكوفة عيسى بن موسى،
وعلى البصرة سليمان بن علي، وعلى الجزيرة حميد بن قحطبة، وعلى مصر صالح
بن علي، وعلى خراسان أبو داود إبراهيم بن خالد، وعلى الحجاز زياد بن
عبد الله (1).
ولم يكن للناس في هذه السنة صائفة لشغل الخليفة بسنباذ وغيره.
ومن مشاهير من توفي فيها أبو مسلم
الخراساني كما تقدم، ويزيد بن أبي زياد أحد من تكلم فيه كما ذكرناه في
التكميل، والله سبحانه أعلم. |