البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائة
ذكر خروج عبد الله بن علي على ابن أخيه
المنصور
لما رجع أبو جعفر المنصور من الحج بعد موت أخيه السفاح، دخل الكوفة
فخطب بأهلها يوم
(10/66)
الجمعة وصلى
بهم، ثم ارتحل منها إلى الانبار وقد أخذت له البيعة من أهل العراق
وخراسان وسائر البلاد سوى الشام، وقد ضبط عيسى بن علي بيوت الاموال
والحواصل للمنصور حتى قدم، فسلم إليه الامر، وكتب إلى عمه عبد الله بن
علي يعلمه بوفاة السفاح، فلا بلغه الخبر نادى في الناس الصلاة جامعة،
فاجتمع إليه الامراء والناس، فقرأ عليهم وفاة السفاح، ثم قام فيهم
خطيبا فذكر أن السفاح كان عهد إليه حين بعثه إلى مروان أنه إن كسره كان
الامر إليه من بعده، وشهد له بذلك بعض أمراء العراق، ونهضوا إليه
فبايعوه، ورجع إلى حران فتسلمها من نائب المنصور بعد محاصرة أربعين
ليلة، وقتل مقاتل العكي نائبها.
فلما بلغ المنصور ما كان من أمر عمه بعث إليه أبا مسلم الخراساني ومعه
جماعة من الامراء وقد تحصن عبد الله بن علي بحران، وأرصد عنده ما يحتاج
إليه من الاطعمة والسلاح شيئا كثيرا جدا، فسار إليه أبو مسلم الخراساني
وعلى مقدمته مالك بن هيثم الخزاعي، فلما تحقق عبد الله قدوم أبي مسلم
إليه خشي من جيش العراق أن لا يناصحوه، فقتل منهم سبعة عشر ألفا، وأراد
قتل حميد بن قحطبة فهرب منه إلى أبي مسلم، فركب عبد الله بن علي فنزل
نصيبين وخندق حول عسكره، وأقبل أبو مسلم فنزل ناحية وكتب إلى عبد الله:
إني لم أومر بقتالك، وإنما بعثني أمير المؤمنين واليا على الشام فأنا
أريدها.
فخاف جنود الشام من هذا الكلام فقالوا: إنا نخاف على ذرارينا وديارنا
وأموالنا، فنحن نذهب إليها نمنعهم منه.
فقال عبد الله: ويحكم ! والله إنه لم يأت إلا لقتالنا.
فأبوا إلا أن يرتحلوا نحو الشام، فتحول عبد الله من منزله ذلك وقصد
ناحية الشام، فنهض أبو مسلم فنزل موضعه وغور ما حوله من المياه - وكان
موضع عبد الله الذي تحول منه موضعا جيدا جدا - فاحتاج عبد الله وأصحابه
فنزلوا في موضع أبي مسلم فوجدوه منزلا رديئا، ثم أنشأ أبو مسلم القتال
فحاربهم خمسة أشهر، وكان على خيل عبد الله أخوه عبد الصمد بن علي، وعلى
ميمنته بكار بن مسلم (1)
العقيلي، وعلى ميسرته حبيب بن سويد الاسدي.
وعلى ميمنة أبي مسلم الحسن بن قحطبة، وعلى ميسرته أبو نصر خازم بن خزيم
(2)، وقد جرت بينهم وقعات وقتل منهم جماعات في أيام نحسات، وكان أبو
مسلم إذا حمل يرتجز ويقول: من كان ينوي أهله فلا رجع * فر من الموت وفي
الموت وقع وكان يعمل له عرش فيكون فيه إذا التقى الجيشان فما رأى في
جيشه من خلل أرسل فأصلحه.
فلما كان يوم الثلاثاء أو الاربعاء لسبع خلون من جمادى الآخرة التقوا
فاقتتلوا قتالا شديدا، فمكر بهم أبو مسلم ! بعث إلى الحسن بن قحطبة
أمير الميمنة فأمره أن يتحول بمن معه إلا القليل إلى الميسرة، فلما رأى
ذلك أهل الشام انحازوا إلى الميمنة بإزاء الميسرة التي تعمرت، فأرسل
حينئذ أبو مسلم إلى القلب
__________
(1) في ابن الاثير 5 / 466: سلم.
(2) في ابن الاثير والطبري: خزيمة.
(*)
(10/67)
أن يحمل بمن
بقي في الميمنة على ميسرة أهل الشام فحطموهم، فجال أهل القلب والميمنة
من الشاميين فحمل الخراسانيون على أهل الشام وكانت الهزيمة، وانهزم عبد
الله بن علي بعد تلوم، واحتاز أبو مسلم ما كان في معسكرهم، وأمن أبو
مسلم بقية الناس فلم يقتل منهم أحدا، وكتب إلى المنصور بذلك، فأرسل
المنصور مولاه أبا الخصيب (1) ليحصي ما وجدوا في معسكر عبد الله، فغضب
من ذلك أبو مسلم الخراساني.
واستوسقت الممالك لابي جعفر المنصور، ومضى عبد الله بن علي وأخوه عبد
الصمد على وجهيهما، فلما مرا بالرصافة أقام بها عبد الصمد، فلما رجع
أبو الخصيب وجده بها فأخذه معه مقيدا في الحديد فأدخله على المنصور
فدفعه إلى عيسى بن موسى فاستأمن له المنصور، وقيل بل استأمن له إسماعيل
به علي.
وأما عبد الله بن علي فإنه ذهب إلى أخيه سليمان بن علي بالبصرة فأقام
عنده زمانا مختفيا (2)، ثم علم به المنصور فبعث إليه فسجنه [ في بيت
بني أسامة على الملح ثم أطلق عليه الماء فذاب الملح وسقط البيت على عبد
الله فمات.
وهذه من بعض دواهي المنصور والله سبحانه أعلم ] (3).
فلبث في السجن سبع سنين ثم سقط عليه في البيت الذي هو فيه فمات كما
سيأتي بيانه في
موضعه إن شاء الله تعالى.
مهلك أبي مسلم الخراساني
في هذه السنة أيضا لما فرغ أبو مسلم من الحج سبق الناس بمرحلة فجاءه
خبر السفاح في الطريق فكتب إلى أبي جعفر يعزيه في أخيه ولم يهنئه
بالخلافة، ولا رجع إليه.
فغضب المنصور من ذلك مع ما كان قد أضمر له من السوء إذا أفضت إليه
الخلافة، وقيل إن المنصور هو الذي كان قد تقدم بين يدي الحج بمرحلة،
وأنه لما جاءه خبر موت أخيه كتب إلى أبي مسلم يستعجله في السير كما
قدمنا.
فقال لابي أيوب: أكتب له كتابا غليظا، فلما بلغه الكتاب أرسل يهنئه
بالخلافة وانقمع من ذلك.
وقال بعض الامراء للمنصور: إنا نرى أن لا تجامعه في الطريق فإن معه من
الجنود من لا يخالفه.
وهم له أهيب، وعلى طاعته أحرص، وليس معك أحد، فأخذ المنصور برأيه ثم
كان من أمره في مبايعته لابي جعفر ما ذكرنا، ثم بعثه إلى عمه عبد الله
فكسره كما تقدم، وقد بعث في غبون ذلك الحسن بن قحطبة لابي أيوب كاتب
رسائل المنصور يشافهه ويخبره بأن أبا مسلم متهم عند أبي جعفر، فإنه إذا
جاءه كتاب منه يقرأه ثم يلوي شدقيه ويرمي بالكتاب إلى أبي نصر ويضحكان
استهزاء، فقال أبو أيوب: إن تهمة أبي مسلم عندنا أظهر من هذا.
ولما بعث أبو جعفر مولاه أبا الخصيب يقطين ليحتاط على ما أصيب من معسكر
عبد الله من الاموال والجواهر الثمينة وغيرها، غضب أبو مسلم فشتم أبا
جعفر وهم بأبي
__________
(1) في مروج الذهب 3 / 355: يقطين بن موسى (وانظر الامامة والسياسة 2 /
130، وابن الاعثم 8 / 219).
(2) في الامامة والسياسة 2 / 160: اسره أبو مسلم وبعث به إلى أبي جعفر.
(3) ما بين معكوفين زيادة قال في هامش المطبوعة: وجدت زيادة بهامش نسخة
الاستانة.
وانظر الفخري ص 168 (*)
(10/68)
الخصيب، حتى
قيل له: إنه رسول فتركه ورجع.
فلما قدم أخبر المنصور بما كان وبما هم به أبو مسلم من قتله، فغضب
المنصور وخشي أن يذهب أبو مسلم إلى خراسان فيشق عليه تحصيله بعد ذلك،
وأن تحدث حوادث، فكتب إليه مع يقطين إني قد وليتك الشام ومصر وهما خير
من خراسان.
فابعث إلى مصر من شئت وأقم أنت بالشام، لتكون أقرب إلى أمير المؤمنين،
إذا أراد لقاءك كنت منه قريبا.
فغضب أبو مسلم وقال: قد ولاني الشام ومصر، ولي ولاية خراسان، فإذا أذهب
إليها وأستخلف على الشام ومصر (1).
فكتب إلى المنصور بذلك فقلق المنصور من ذلك كثيرا.
ورجع أبو مسلم من الشام قاصدا خراسان وهو عازم على مخالفة المنصور.
فخرج المنصور من الانبار إلى المدائن وكتب إلى أبي مسلم بالمسير إليه،
فكتب إليه أبو مسلم وهو على الزاب عازم على الدخول إلى خراسان: إنه لم
يبق لامير المؤمنين عدو إلا أمكنه الله منه، وقد كان نروي عن ملوك آل
ساسان أن أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدهماء.
فنحن نافرون من قربك، حريصون على الوفاء بعهدك ما وفيت، حريون بالسمع
والطاعة غير أنها من بعيد حيث يقارنها السلامة.
فإن أرضاك ذلك فأنا كأحسن عبيدك، وإن أبيت إلا أن تعطي نفسك إراداتها
نقضت ما أبرمت من عهدك ضنا بنفسي عن مقامات الذل والاهانة.
فلما وصل الكتاب إلى المنصور كتب إلى أبي مسلم: قد فهمت كتابك وليست
صفتك صفة أولئك الوزراء الغششة إلى ملوكهم الذين يتمنون اضطراب حبل
الدولة لكثرة جرائمهم، وإنما راحتهم في تبدد نظام الجماعة، فلم سويت
نفسك بهم وأنت في طاعتك ومناصحتك واضطلاعك بما حملت من أعباء هذا الامر
على ما أنت به، وليس مع الشريطة التي أوجبت منك سمع ولا طاعة، وقد حمل
أمير المؤمنين عيسى بن موسى إليك رسالة ليسكن إليها قلبك إن أصغيت
إليها، وأسأله أن يحول بين الشيطان ونزغاته وبينك، فإنه لم يجد بابا
يفسد به نيتك أوكد عنده من هذا ولا أقرب من طبه من الباب الذي فتحه
عليك.
ويقال إن أبا مسلم كتب إلى المنصور: أما بعد فإني اتخذت رجلا إماما
ودليلا على ما افترض الله على خلقه، وكان في محلة العلم نازلا وفي
قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قريبا، فاستجهلني بالقرآن
فحرفه عن مواضعه طمعا في قليل قد تعافاه (2) الله إلى خلقه، وكان كالذي
دلى بغرور، وأمرني أن أجرد السيف وأرفع المرحمة ولا أقبل المعذرة ولا
أقيل العثرة، ففعلت توطيدا لسلطانكم حتى عرفكم الله من كان يجهلكم،
وأطاعكم من كان عدوكم، وأظهركم الله بي بعد الاخفاء والحقارة والذل، ثم
استنقذني الله بالتوبة.
فإن يعف عني فقديما عرف به ونسب إليه، وإن يعاقبني فبما قدمت يداي، وما
الله بظلام للعبيد.
ذكره المدائني عن شيوخه.
__________
(1) في ابن الاعثم 8 / 220: رمى بكتاب المنصور من يده وتمثل:
الق الصحيفة لاتبال وإن يكن * مكرا كمثل صحيفة المتلمس (2) في ابن
الاثير: نعاه.
(*)
(10/69)
وبعث المنصور
إليه جرير بن يزيد بن جرير بن عبد الله البجلي (1) - وقد كان أوحد أهل
زمانه - في جماعة من الامراء، وأمره أن يكلم أبا مسلم باللين كلاما
يقدر عليه، وأن يكون في جملة ما يكلمه به أنه يريد رفع قدرك وعلو
منزلتك والاطلاقات لك، فإن جاء بهذا فذاك، وإن أبي فقل هو برئ من
العباس إن شققت العصا وذهبت على وجهك ليدركنك بنفسه وليقا تلنك دون
غيره، ولو خضت البحر الخضم لخاضه خلفك حتى يدركك فيقتلك أو يموت قبل
ذلك.
ولا تقل له هذا حتى تيأس من رجوعه بالتي هي أحسن.
فلما قدم عليه أمراء المنصور بحلوان دخلوا عليه ولاموه فيما هم به من
منابذة أمير المؤمنين، وما هو فيه من مخالفته، ورغبوه في الرجوع إلى
الطاعة، فشاور ذوي الرأي من أمرائه فكلهم نهاه عن الرجوع إليه، وأشاروا
بأن يقيم في الري فتكون خراسان تحت حكمه، وجنوده طوعا له، فإن استقام
له الخليفة وإلا كان في عز ومنعة من الجند.
فعند ذلك أرسل أبو مسلم إلى أمراء المنصور فقال لهم: ارجعو إلى صاحبكم
فلست ألقاه.
فلما استيأسوا منه قالوا له ذلك الكلام الذي كان المنصور أمرهم به.
فلما سمع ذلك كسره جدا وقال قوموا عني الساعة.
وكان أبو مسلم قد استخلف على خراسان أبا داود إبراهيم بن خالد، فكتب
إليه المنصور في غيبة أبي مسلم حين اتهم: إن ولاية خراسان لك ما بقيت،
فقد وليتكها وعزلت عنها أبا مسلم.
فعند ذلك كتب أبو داود إلى أبي مسلم حين بلغه ما عليه من منابذة
الخليفة: إنه ليس يليق بنا منابذة خلفاء أهل بيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فارجع إلى إمامك سامعا مطيعا والسلام.
فزاده ذلك كسرا أيضا فبعث إليهم أبو مسلم: إني سأبعث إليه أبا إسحاق
وهو ممن أثق به.
فبعث أبا إسحاق إلى المنصور فأكرمه ووعده بنيابة العراق إن هو رده.
فلما رجع إليه أبو إسحاق قال له: ما وراءك ؟ قال: رأيتهم معظمين لك
يعرفون قدرك.
فغره ذلك وعزم على الذهاب إلى الخليفة، فاستشار أميرا يقال له نيزك،
فنهاه، فصمم على الذهاب، فلما رآه نيزك عازما على الذهاب تمثل بقول
الشاعر:
ما للرجال مع القضاء محالة * ذهب القضاء بحيلة الاقوام ثم قال له: احفظ
عني واحدة.
قال: وما هي ؟ قال: إذا دخلت عليه فاقتله ثم بايع من شئت بالخلافة فإن
الناس لا يخالفونك.
وكتب أبو مسلم إلى المنصور يعلمه بقدومه عليه.
قال أبو أيوب كاتب الرسائل: فدخلت على المنصور وهو جالس في خباء شعر
جالس في مصلاه بعد العصر، وبين يديه كتاب فألقاه إلى فإذا هو كتاب أبي
مسلم يعلمه بالقدوم عليه، ثم قال الخليفة: والله لئن ملات عيني منه
لاقتلنه.
قال أبو أيوب: فقلت إنا لله وإنا إليه راجعون.
وبت تلك الليلة لا يأتيني نوم، أفكر في هذه الواقعة، وقلت: إن دخل أبو
مسلم خائفا ربما يبدو منه شر إلى الخليفة، والمصلحة تقتضي أن
__________
(1) في ابن الاثير 5 / 471: كتب المنصور كتابا وبعثه مع أبي حميد
المرورذي.
وفي ابن الاعثم نسخة كتاب جواب أبي جعفر على كتاب أبي مسلم 8 / 223.
وفي الفخري ص 169: وأرسل المنصور الكتب على يد رجل عاقل من أصحابه.
(*)
(10/70)
يدخل آمنا
ليتمكن منه الخليفة.
فلما أصبحت طلبت رجلا من الامراء (1) وقلت له: هل لك أن تتولى مدينة
كسكر فإنها مغلة في هذه السنة ؟ فقال: ومن لي بذلك ؟ فقلت له: فاذهب
إلى أبي مسلم فتلقاه في الطريق فاطلب منه أن يوليك تلك البلد، فإن أمير
المؤمنين يريد أن يوليه ما وراء بابه ويستريح لنفسه.
واستأذنت المنصور له أن يذهب إلى أبي مسلم فأذن له، وقال له: سلم عليه
وقل له: إنا بالاشواق إليه.
فسار ذلك الرجل - وهو سلمة بن فلان - (2) إلى أبي مسلم فأخبره باشتياق
الخليفة إليه، فسره ذلك وانشرح، وإنما هو غرور ومكر به، فلما سمع أبو
مسلم بذلك عجل السير إلى منيته، فلما قرب من المدائن أمر الخليفة
القواد والامراء أن يتلقوه، وكان دخوله على المنصور من آخر ذلك اليوم،
وقد أشار أبو أيوب على المنصور أن يؤخر قتله في ساعته هذه إلى الغد،
فقبل ذلك منه.
فلما دخل أبو مسلم على المنصور من العشي أظهر له الكرامة والتعظيم، ثم
قال: اذهب فأرح نفسك وادخل الحمام، فإذا كان الغد فأتني.
فخرج من عنده وجاءه الناس يسلمون عليه، فلما كان الغد طلب الخليفة بعض
الامراء فقال له: كيف بلائي عندك ؟ فقال: والله يا أمير المؤمنين لو
أمرتني أن أقتل نفسي لقتلتها.
قال: فكيف بك لو أمرتك بقتل أبي مسلم ؟ قال: فوجم ساعة ثم قال له أبو
أيوب: ما لك لا تتكلم ؟ فقال قولة ضعيفة: أقتله.
ثم اختار له من عيون الحرس أربعة فحرضهم على قتله، وقال لهم: كونوا من
وراء الرواق فإذا صفقت بيدي فاخرجوا عليه فاقتلوه.
ثم أرسل المنصور إلى أبي مسلم رسلا تترى يتبع بعضها بعضا، فأقبل (3)
أبو مسلم فدخل دار الخلافة ثم دخل على الخليفة وهو يبتسم، فلما وقف بين
يديه جعل المنصور يعاتبه في الذي صنع واحدة واحدة، فيعتذر عن ذلك كله.
ثم قال: يا أمير المؤمنين أرجو أن تكون نفسك قد طابت علي.
فقال المنصور: أما والله ما زادني هذا إلا غيظا عليك.
ثم ضرب بإحدى يديه على الاخرى فخرج عثمان وأصحابه فضربوه بالسيوف حتى
قتلوه ولفوه في عباءة ثم أمر بإلقائه في دجلة، وكان آخر العهد به، وكان
مقتله في يوم الاربعاء لاربع بقين من شعبان سنة سبع وثلاثين ومائة.
وكان من جملة ما عاتبه به المنصور أن قال: كتبت إلي مرات تبدأ بنفسك،
وأرسلت تخطب عمتي أمينة (4)، وتزعم أنك ابن سليط بن عبد الله بن عباس
إلى غير ذلك.
فقال أبو مسلم: يا أمير المؤمنين لا يقال لي هذا وقد سعيت في أمركم بما
علمه كل أحد.
فقال: ويلك ! لو قامت في ذلك أمة
__________
(1) هو سلمة بن سعيد بن جابر (انظر الطبري وابن الاثير).
(2) كذا بالاصول، انظر الحاشية السابقة.
(3) في الاخبار الطوال ص 380: فلما كان في اليوم الرابع...وفي مروج
الذهب 3 / 356: ركب أبو مسلم مرارا إلى المنصور وهو لا يظهر له شيئا.
وفي الامامة والسياسة 2 / 161: فأقام أياما يأتي أبا جعفر كل يوم...وفي
ابن الاعثم 8 / 225: فأقام كذلك ثلاثة أيام فلما كان في اليوم
الرابع...(4) كذا في الاصول والطبري، وفي ابن الاثير 5 / 475 والاخبار
الطوال ص 381: آمنة.
وفي ابن خلكان 3 / 154: آسية.
(*)
(10/71)
سوداء لاتمه
الله لجدنا وحيطتنا.
ثم قال: والله لاقتلنك.
فقال: استبقني يا أمير المؤمنين لاعدائك.
فقال: وأي عدو لي أعدى منك.
ثم أمر بقتله كما تقدم: فقال له بعض الامراء: يا أمير المؤمنين الآن
صرت خليفة.
ويقال إن المنصور أنشد عند ذلك: فألقت عصاها واستقر بها النوى * كما قر
علينا بالاياب المسافر وذكر ابن خلكان أن المنصور لما أراد قتل أبي
مسلم تحير في أمره هل يستشير أحدا في ذلك أو يستبد هو به لئلا يشيع
وينشر، ثم استشار واحدا من نصحاء أصحابه فقال: يا أمير المؤمنين قال
الله تعالى (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) [ الانبياء: 22 ] فقال
له: لقد أودعتها أذنا واعية.
ثم عزم على ذلك.
ترجمة أبي مسلم الخراساني
هو عبد الرحمن بن مسلم أبو مسلم صاحب دولة بني العباس، ويقال له أمير
آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الخطيب: يقال له عبد الرحمن
بن شيرون بن اسفنديار أبو مسلم المروزي، صاحب الدولة العباسية، يروي عن
أبي الزبير وثابت البناني وإبراهيم وعبد الله ابني محمد بن علي بن عبد
الله بن عباس، زاد ابن عساكر في شيوخه محمد بن علي وعبد الرحمن بن
حرملة وعكرمة مولى ابن عباس.
قال ابن عساكر: روى عنه إبراهيم بن ميمون الصائغ، وبشر والد مصعب بن
بشر، وعبد الله بن شبرمة وعبد الله بن المبارك وعبد الله بن منيب
المروزي وقديد بن منيع صهر أبي مسلم.
قال الخطيب: وكان أبو مسلم فاتكا ذا رأي وعقل وتدبير وحزم، قتله أبو
جعفر المنصور بالمدائن.
وقال أبو نعيم الاصبهاني في تاريخ أصبهان: كان اسمه عبد الرحمن بن
عثمان بن يسار، قيل إنه ولد بأصبهان، وروي عن السدي وغيره، وقيل كان
اسمه إبراهيم بن عثمان بن يسار بن سندوس (1) بن حوذون، من ولد بزرجمهر،
وكان يكنى أبا إسحاق، ونشأ بالكوفة وكان أبوه أوصى به إلى عيسى بن موسى
السراج، فحمله إلى الكوفة وهو ابن سبع سنين، فلما بعثه إبراهيم بن محمد
الامام إلى خراسان قال له: غير اسمك وكنيتك.
فتسمى عبد الرحمن بن مسلم، واكتنى بأبي مسلم، فسار إلى خراسان وهو ابن
سبع عشرة سنة راكبا على حمار بأكاف، وأعطاه إبراهيم بن محمد نفقة، فدخل
خراسان وهو كذلك، ثم آل به الحال حتى صارت له خراسان بأزمتها
وحذافيرها، وذكر أنه في ذهابه إليها عدا رجل من بعض الحانات فقطع ذنب
حماره، فلما تمكن أبو مسلم جعل ذلك المكان دكا فكان
بعد ذلك خرابا.
وذكر بعضهم أنه أصابه سبي في صغره وأنه اشتراه بعض دعاة بني العباس
بأربعمائة درهم، ثم إن إبراهيم بن محمد الامام استوهبه واشتراه فانتمى
إليه وزوجه إبراهيم بنت أبي النجم
__________
(1) في وفيات الاعيان 3 / 145: شذوس بن جودرن.
(*)
(10/72)
إسماعيل
الطائي، أحد دعاتهم، لما بعثه إلى خراسان، وأصدقها عنه أربعمائة درهم
فولد لابي مسلم بنتان إحداهما أسماء أعقبت، وفاطمة لم تعقب.
وقد تقدم ذكر كيفية استقلال أبي مسلم بأمور خراسان في سنة تسع وعشرين
ومائة، وكيف نشر دعوة بني العباس، وقد كان ذا هيبة وصرامة وإقدام وتسرع
في الامور.
وقد روى ابن عساكر بإسناده: أن رجلا قام إلى أبي مسلم وهو يخطب فقال:
ما هذا السواد الذي أرى عليك ؟ فقال: حدثني أبو الزبير عن جابر بن عبد
الله " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة
سوداء ".
وهذه ثياب الهيئة وثياب الدولة.
يا غلام اضرب عنقه.
وروى من حديث عبد الله بن منيب عنه عن محمد بن علي، عن أبيه، عن جده
عبد الله بن عباس.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أراد هوان قريش أهانه
الله ".
وقد كان إبراهيم بن ميمون الصائغ من أصحابه وجلسائه في زمن الدعوة،
وكان يعده إذا ظهر أن يقيم الحدود، فلما تمكن أبو مسلم ألح عليه
إبراهيم بن ميمون في القيام بما وعده به حتى أحرجه، فأمر بضرب عنقه،
وقال له: لم لا كنت تنكر على نصر بن سيار وهو يعمل أواني الخمر من
الذهب فيبعثها إلى بني أمية ؟ فقال له: إن أولئك لم يقربوني من أنفسهم
ويعدوني منها ما وعدتني أنت.
وقد رأى بعضهم لابراهيم بن ميمون هذا منازل عالية في الجنة بصبره على
الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه كان آمرا ناهيا قائما في ذلك،
فقتله أبو مسلم رحمه الله.
وقد ذكرنا طاعة أبي مسلم للسفاح واعتناءه بأمره وامتثال مراسيمه، فلما
صار الامر إلى المنصور استخف به واحتقره، ومع هذا بعثه المنصور إلى عمه
عبد الله إلى الشام فكسره واستنقذ منه الشام وردها إلى حكم المنصور.
ثم شمخت نفسه على المنصور وهم بقتله، ففطن لذلك المنصور مع ما كان
مبطنا له من البغضة، وقد سأل أخاه السفاح غير مرة أن يقتله كما تقدم
ذلك فأبي عليه، فلما تولى
المنصور ما زال يماكره ويخادعه حتى قدم عليه فقتله.
قال بعضهم: كتب المنصور إلى أبي مسلم: أما بعد فإنه يرين على القلوب
ويطبع عليها المعاصي، فع أيها الطائش، وأفق أيها الكسران، وانتبه أيها
النائم، فإنك مغرور بأضغاث أحلام كاذبة، في برزخ دنيا قد غرت من كان
قبلك وسم بها سوالف القرون (هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا) [
مريم: 98 ] وإن الله لا يعجزه من هرب، ولا يفوته من طلب، فلا تغتر بمن
معك من شيعتي وأهل دعوتي، فكأنهم قد صالوا عليك بعد أن صالوا معك، إن
أنت خلعت الطاعة وفارقت الجماعة وبدا لك من الله ما لم تكن تحتسب، مهلا
مهلا، احذر البغي أبا مسلم فإنه من بغى واعتدى تخلى الله عنه، ونصر
عليه من يصرعه لليدين والفم، واحذر أن تكون سنة في الذين قد خلوا من
قبلك، ومثلة لمن يأتي بعدك، فقد قامت الحجة وأعذرت إليك وإلى أهل طاعتي
فيك.
قال تعالى: (وأتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه
الشيطان فكان من الغاوين) [ الاعراف: 174 ].
فأجابه أبو مسلم: أما بعد فقد قرأت كتابك فرأيتك فيه للصواب مجانبا،
وعن الحق حائدا إذ
(10/73)
تضرب فيه
الامثال على غير أشكالها، وكتبت إلي فيه آيات منزلة من الله للكافرين،
وما يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وإنني والله ما انسلخت من
آيات الله، ولكنني يا عبد الله بن محمد كنت رجلا متأولا فيكم من القرآن
آيات أوجبت لكم بها الولاية والطاعة، فأتممت بأخوين من قبلك ثم بك من
بعدهما، فكنت لهما شيعة متدينا أحسبني هاديا مهتديا، وأخطأت في التأويل
وقدما أخطأ المتأولون، وقد قال تعالى: (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا
فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة
ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم) [ الانعام: 54 ] وإن أخاك السفاح
ظهر في صورة مهدي وكان ضالا فأمرني أن أجد السيف وأقتل بالظنة وأقدم
بالشبهة وأرفع الرحمة ولا أقيل العثرة، فوترت أهل الدنيا في طاعتكم،
وتوطئة سلطانكم، حتى عرفكم الله من كان جهلكم.
ثم إن الله سبحانه تداركني منه بالندم واستنقذني بالتوبة، فإن يعف عني
ويصفح فإنه كان للاوابين غفورا، وإن يعاقبني فبذنوني وما ربك بظلام
للعبيد.
فكتب إليه المنصور: أما بعد أيها المجرم العاصي، فإن أخي كان إمام هدى
يدعو إلى الله على بينة من ربه (1)، فأوضح لك السبيل، وحملك على المنهج
السديد، فلو بأخي اقتديت لما كنت عن الحق حائدا، وعن الشيطان وأوامره
صادرا، ولكنه لم يسنح لك أمران إلا كنت لارشدهما تاركا، ولاغواهما
راكبا، تقتل قتل الفراعنة، وتبطش بطش الجبابرة، وتحكم بالجور حكم
المفسدين، وتبذر المال وتضعه في غير مواضعه فعل المسرفين، ثم من خبري
أيها الفاسق أني قد وليت موسى بن كعب خراسان، وأمرته أن يقيم بنيسابور،
فإن أردت خراسان لقيك بمن معه من قوادي وشيعتي، وأنا موجه للقائك
أقرانك، فاجمع كيدك وأمرك غير مسدد ولا موفق، وحسب أمير المؤمنين ومن
اتبعه الله ونعم الوكيل (2).
ولم يزل المنصور يراسله تارة بالرغبة وتارة بالرهبة، ويستخف أحلام من
حوله من الامراء والرسل الذين يبعثهم أبو مسلم إلى المنصور ويعدهم، حتى
حسنوا لابي مسلم في رأيه القدوم عليه سوى أمير معه يقال له نيزك، فإنه
لم يوافق على ذلك، فلما رأى أبا مسلم وقد انطاع لهم أنشد عند ذلك البيت
المتقدم، وهو: ما للرجال مع القضاء محالة * ذهب القضاء بحيلة الاقوام
وأشار عليه بأن يقتل المنصور ويستخلف بدله فلم يمكنه ذلك، فإنه لما قدم
المدائن تلقاه الامراء عن أمر الخليفة، فما وصل إلا آخر النهار، وقد
أشار أبو أيوب كاتب الرسائل أن لا يقتله يومه هذا كما تقدم فلما وقف
بين يدي الخليفة أكرمه وعظمه وأظهر احترامه، وقال: اذهب الليلة فأذهب
عنك
__________
(1) في ابن الاعثم 8 / 223: على بصيرة ويقين من أمره.
(2) راجع حاشية 1 صفحة 70.
(*)
(10/74)
وعثاء السفر ثم
ائتني من الغد.
فلما كان الغد أرصد له من الامراء من يقتله، منهم عثمان بن نهيك، وشبيب
بن واج، فقتلوه كما تقدم.
ويقال بل أقام أياما يظهر له المنصور الاكرام والاحترام، ثم نشق منه
الوحشة فخاف أبو مسلم واستشفع بعيسى بن موسى واستجار به، وقال: إني
أخافه على نفسي.
فقال: لا بأس عليك فانطلق فإني آت وراءك، أنت في ذمتي حتى آتيك، - ولم
يكن مع عيسى خبر بما يريد به الخليفة - فجاء أبو مسلم يستأذن على
المنصور فقالوا له: اجلس ههنا فإن أمير المؤمنين يتوضأ، فجلس وهو يود
أن يطول مجلسه ليجئ عيسى بن موسى فأبطأ، وأذن له الخليفة فدخل عليه
فجعل يعاتبه في أشياء صدرت منه فيعتذر عنها جيدا، حتى قال له: فلم قتلت
سليمان بن كثير، وإبراهيم بن ميمون، وفلانا وفلانا ؟ قال: لانهم عصوني
وخالفوا أمري.
فغضب عند ذلك المنصور وقال: ويحك ! أنت تقتل إذا عصيت، وأنا لا أقتلك
وقد عصيتني ؟ وصفق بيديه وكانت الاشارة بينه وبين المرصدين لقتله -،
فتبادروا إليه ليقتلوه فضربه أحدهم فقطع حمائل سيفه، فقال: يا أمير
المؤمنين استبقني لاعدائك، فقال: وأي عدو لي أعدى منك.
ثم زجرهم المنصور فقطعوه قطعا ولفوه في عباءة، ودخل عيسى بن موسى على
إثر ذلك فقال: ما هذا يا أمير المؤمنين ؟ فقال: هذا أبو مسلم، فقال:
إنا لله وإنا إليه راجعون، فقال له المنصور: احمد الله الذي هجمت علي
نعمة، ولم تهجم علي نقمة، ففي ذلك يقول أبو دلامة: أبا مسلم (1) ما غير
الله نعمة * على عبده حتى يغيرها العبد أبا مسلم خوفتني القتل فانتحى *
عليك بما خوفتني الاسد الورد وذكر ابن جرير: أن المنصور تقدم إلى عثمان
بن نهيك وشبيب بن واج وأبي حنيفة حرب بن قيس وآخر من الحرس أن يكونوا
قريبا منه، فإذا دخل عليه أبو مسلم وخاطبه وضرب بإحدى يديه على الاخرى
فليقتلوه.
فلما دخل عليه أبو مسلم قال له المنصور: ما فعل السيفان (2) اللذان
أصبتهما من عبد الله بن علي ؟ فقال: هذا أحدهما.
فقال: أرنيه، فناوله السيف فوضعه تحت ركبته ثم قال له: ما حملك على أن
تكتب لابي عبد الله السفاح تنهاه عن الموات، أردت أن تعلمنا الدين ؟
قال: إنني ظننت أن أخذه لا يحل، فلما جاءني كتاب أمير المؤمنين علمت
أنه وأهل بيته معدن العلم.
قال: فلم تقدمت علي في طريق الحج ؟ قال: كرهت اجتماعنا على الماء فيضر
ذلك بالناس، فتقدمت التماس الرفق.
قال: فلم لا رجعت إلي حين أتاك خبر موت أبي العباس ؟ قال: كرهت التضييق
على الناس في طريق الحج، وعرفت أنا سنجتمع بالكوفة، وليس عليك مني
خلاف.
قال: فجارية عبد الله بن علي أردت
أن تتخذها لنفسك ؟ قال: لا ! ولكن خفت أن تضيع فحملتها في قبة ووكلت
بها من يحفظها.
ثم قال
__________
(1) في وفيات الاعيان 3 / 155 أبا مجرم.
في الموضعين.
(2) في الطبري 9 / 166: نصلين (وانظر ابن الاثير 5 / 475).
(*)
(10/75)
له: ألست
الكاتب إلي تبدأ بنفسك والكاتب إلي تخطب آمنة (1) بنت علي ؟ وتزعم أنك
ابن سليط بن عبد الله بن عباس ؟ هذا كله ويد المنصور في يده يعركها
ويقبلها ويتعذر، ثم قال له: فما حملك على مراغمتي ودخولك إلى خراسان ؟
قال: خفت أن يكون دخلك مني شئ فأردت أن أدخل خراسان وأكتب إليك بعذري.
قال: فلم قتلت سليمان بن كثير وكان من نقبائنا ودعاتنا قبلك ؟ قال:
أراد خلافي.
فقال: ويحك وأنت أردت خلافي وعصيتني، قتلني الله إن لم أقتلك.
ثم ضربه بعمود الخيمة وخرج إليه أولئك فضربه عثمان فقطع حمائل سيفه،
وضربه شبيب فقطع رجله، وحمل عليه بقيتهم بالسيوف، والمنصور يصيح: ويحكم
اضربوه قطع الله أيديكم.
ثم ذبحوه وقطعوه قطعا قطعا، ثم ألقي في دجلة.
ويروى أن المنصور لما قتله وقف عليه فقال: رحمك الله أبا مسلم، بايعتنا
فبايعناك، وعاهدتنا وعاهدناك، ووفيت لنا فوفينا لك، وإنا بايعناك على
أن لا يخرج علينا أحد في هذه الايام إلا قتلناه، فخرجت علينا فقتلناك،
وحكمنا علينا حكمك على نفسك لنا.
ويقال إن المنصور قال: الحمد لله الذي أرانا يومك يا عدو الله.
قال ابن جرير وقال المنصور عند ذلك: زعمت أن الدين لا يقتضى * فاستوف
بالكيل أبا مجرم سقيت كأسا كنت تسقي بها * أمر في الحلق من العلقم ثم
إن المنصور خطب في الناس بعد قتل أبي مسلم فقال: أيها الناس، لا تنفروا
أطيار النعم بترك الشكر، فتحل بكم النقم، ولا تسروا غش الائمة فإن أحدا
لا يسر منكم شيئا إلا ظهر في فلتات لسانه، وصفحات وجهه، وطوالع نظره
وإنا لن نجهل حقوقكم ما عرفتم حقنا، ولا ننسى الاحسان إليكم ما ذكرتم
فضلنا، ومن نازعنا هذا القميص أوطأنا أم رأسه، حتى يستقيم رجالكم،
وترتدع عمالكم.
وإن هذا الغمر أبا مسلم بايع على أنه من نكث بيعتنا وأظهر غشنا فقد
أباحنا دمه، فنكث
وغدر وفجر وكفر، فحكمنا عليه لانفسنا حكمه على غيره لنا، وإن أبا مسلم
أحسن مبتديا وأساء منتهيا، وأخذ من الناس بنا لنفسه أكثر مما أعطانا.
ورجح قبيح باطنه على حسن ظاهره، وعلمنا من خبث سريرته وفساد نيته ما لو
علم اللائم لنا فيه لما لام، ولو اطلع على ما اطلعنا عليه منه لعذرنا
في قتله، وعنفنا في إمهاله، وما زال ينقض بيعته ويخفر ذمته حتى أحل لنا
عقوبته وأباحنا دمه، فحكمنا فيه حكمه في غيره ممن شق العصا، ولم يمنعنا
الحق له من إمضاء الحق فيه (2)، وما أحسن ما قال النابغة الذبياني
للنعمان - يعني ابن المنذر -: فمن أطاعك فانفعه بطاعته * كما أطاعك
والله على الرشد ومن عصاك فعاقبه معاقبة * تنهى الظلوم ولا تقعد على
ضمد
__________
(1) انظر حاشية 4 صفحة 71.
(2) نسخة خطبة أبي جعفر منصور في مروج الذهب 3 / 358.
وابن الاثير 5 / 478 - 479 باختلاف.
(*)
(10/76)
وقد روى
البيهقي عن الحاكم بسنده: أن عبد الله بن المبارك سئل عن أبي مسلم أهو
خير أم الحجاج ؟ فقال: لا أقول إن أبا مسلم كان خيرا من أحد، ولكن كان
الحجاج شرا منه، قد اتهمه بعضهم على الاسلام، ورموه بالزندقة، ولم أر
فيما ذكروه عن أبي مسلم ما يدل على ذلك، بل على أنه كان ممن يخاف الله
من ذنوبه، وقد ادعى التوبة فيما كان منه من سفك الدماء في إقامة الدولة
العباسية والله أعلم بأمره.
وقد روى الخطيب عنه أنه قال: ارتديت الصبر، وآثرت الكفاف، وحالفت
الاحزان والاشجان، وشامخت المقادير والاحكام، حتى بلغت غاية همتي،
وأدركت نهاية بغيتي.
ثم أنشأ يقول: قد نلت بالعزم (1) والكتمان ما عجزت * عنه ملوك بني
مروان إذ حشدوا ما زلت أضربهم بالسيف فانتبهوا * من رقدة (2) لم ينمها
قبلهم أحد وطفت أسعى عليهم في ديارهم * والقوم في ملكهم (3) في الشام
قد رقدوا ومن رعى غنما في أرض مسبعة * ونام عنها تولى رعيها الاسد
وقد كان قتل أبي مسلم بالمدائن يوم الاربعاء لسبع خلون، وقيل لخمس
بقين، وقيل لاربع، وقيل لليلتين بقيتا من شعبان من هذه السنة - أعني
سنة سبع وثلاثين ومائة - قال بعضهم: كان ابتداء ظهوره في رمضان من سنة
تسع وعشرين ومائة، وقيل في شعبان سنة سبع وعشرين ومائة.
وزعم بعضهم أنه قتل ببغداد في سنة أربعين، وهذا غلط من قائله، فإن
بغداد لم تكن بنيت بعد كما ذكره الخطيب في تاريخ بغداد، ورد هذا القول.
ثم إن المنصور شرع في تأليف أصحاب أبي مسلم بالاعطية والرغبة والرهبة
والولايات، واستدعى أبا إسحاق - وكان من أعز أصحاب أبي مسلم - وكان على
شرطة أبي مسلم، وهم بضرب عنقه فقال: يا أمير المؤمنين والله ما أمنت قط
إلا في هذا اليوم، وما من يوم كنت أدخل عليه (4) إلا تحنطت ولبست كفني.
ثم كشف عن ثيابه التي تلي جسده فإذا هو محنط وعليه أدراع أكفان، فرق له
المنصور وأطلقه.
وذكر ابن جرير أن أبا مسلم قتل في حروبه وما كان يتعاطاه لاجل دولة بني
العباس ستمائة ألف
__________
(1) في وفيات الاعيان 3 / 152: أدركت بالحزم.
وفي ابن الاثير 5 / 480: قد نلت بالحزم.
(2) في الوفيات: حتى ضربتهم...* من نومه...(3) في الوفيات: ما زلت أسعى
بجهدي في دمارهم * والقوم في غفلة...(4) في الاصل عليك تحريف.
(*)
(10/77)
صنبرا زيادة عن
من قتل بغير ذلك.
وقد قال للمنصور وهو يعاتبه على ما كان يصنعه: يا أمير المؤمنين لا
يقال لي هذا بعد بلائي وما كان مني.
فقال له: يابن الخبيثة، لو كانت أمة مكانك لاجزأت ناحيتها، إنما عملت
ما عملت بدولتنا وبريحنا، لو كان ذلك إليك لما وصلت إلى فتيل.
ولما قتله المنصور لف في كساء وهو مقطع إربا إربا، فدخل عيسى بن موسى
فقال: يا أمير المؤمنين أين أبو مسلم ؟ قال: قد كان
هاهنا آنفا.
فقال: يا أمير المؤمنين قد عرفت طاعته ونصيحته ورأي إبراهيم الامام
فيه.
فقال له: يا أنوك (1) والله ما أعلم في الارض عدوا أعدى لك منه، ها هو
ذاك في البساط.
فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون.
فقال له المنصور: خلع الله قلبك ! وهل كان لكم مكان أو سلطان أو أمر أو
نهي مع أبي مسلم ؟ ثم استدعى المنصور برؤوس الامراء فجعل يستشيرهم في
قتل أبي مسلم قبل أن يعلموا بقتله، فكلهم يشير بقتله، ومنهم من كان إذا
تكلم أسر كلامه خوفا من أبي مسلم لئلا ينقل إليه، فلما أطلعهم عن قتله
أفزعهم ذلك وأظهروا سرورا كثيرا.
ثم خطب المنصور الناس بذلك كما تقدم.
ثم كتب المنصور إلى نائب أبي مسلم على أمواله وحواصله (2) بكتاب على
لسان أبي مسلم أن يقدم بجميع ما عنده من الحواصل والذخائر والاموال
والجواهر، وختم الكتاب بخاتم أبي مسلم بكماله، مطبوعا بكل فص الخاتم،
فلما رآه الخازن استراب في الامر، وقد كان أبو مسلم تقدم إلى خازنه أنه
إذا جاءك كتابي فإن رأيته مختوما بنصف الفص فامض لما فيه، فإني إنما
أختم بنصف فصه على كتبي، وإذا جاءك الكتاب مختوما عليه بكماله فلا تقبل
ولا تمض ما فيه.
فامتنع عند ذلك خازنه أن يقبل ما بعث به المنصور، فأرسل المنصور بعد
ذلك إليه من أخذ جميع ذلك وقتل ذلك الرجل الخازن (3)، وكتب المنصور إلى
أبي داود إبراهيم بن خالد بأمرة خراسان كما وعده قبل ذلك عوضا عن أبي
مسلم.
وفي هذه السنة خرج سنباذ يطلب بدم أبي مسلم، وقد كان سنباذ هذا مجوسيا
تغلب على قومس وأصبهان، ويسمى بفيروز اصبهبذ، فبعث إليه أبو جعفر
المنصور جيشا هم عشرة آلاف فارس عليهم جهور (4) بن مرار العجلي -
فالتقوا بين همذان والري بالمفازة، فهزم جهور لسنباذ وقتل من أصحابه
ستين ألفا وسبى ذراريهم ونساءهم، وقتل سنباذ بعد ذلك فكانت أيامه سبعين
يوما.
وأخذ ما كان استحوذ عليه من أموال أبي مسلم التي كانت بالري.
وخرج في هذه السنة أيضا رجل يقال له ملبد [ بن حرمة الشيباني ] في ألف
من الخوارج بالجزيرة فجهز إليه المنصور جيوشا متعددة كثيفة كلها تنفر
منه
__________
(1) الانوك: الاحمق.
(2) وهو أبو نصر مالك بن الهيثم.
(3) في الطبري 9 / 168 وابن الاثير 5 / 478 قدم أبو نصر على المنصور
بعد أن أخلى سبيله زهير بن التركي فاعتذر من أبي جعفر فعفا عنه.
وزاد في الامامة والسياسة 2 / 164: وولاه الموصل.
(4) في ابن الاثير 5 / 481: جمهور.
(*)
(10/78)
وتنكسر ثم
قاتله حميد بن قحطبة نائب الجزيرة، فهزمه ملبد وتحصن منه حميد في بعض
الحصون ثم صالحه حميد بن قحطبة على مائة ألف فدفعها إليه وقبلها ملبد
وتقلع عنه.
وحج بالناس في هذه السنة عم الخليفة إسماعيل بن علي بن عبد الله بن
عباس قاله الواقدي.
وكان نائب الموصل - يعني عم المنصور وعلى نيابة الكوفة عيسى بن موسى،
وعلى البصرة سليمان بن علي، وعلى الجزيرة حميد بن قحطبة، وعلى مصر صالح
بن علي، وعلى خراسان أبو داود إبراهيم بن خالد، وعلى الحجاز زياد بن
عبد الله (1).
ولم يكن للناس في هذه السنة صائفة لشغل الخليفة بسنباذ وغيره.
ومن مشاهير من توفي فيها أبو مسلم الخراساني كما تقدم، ويزيد بن أبي
زياد أحد من تكلم فيه كما ذكرناه في التكميل، والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين ومائة فيها دخل
قسطنطين ملك الروم ملطية عنوة فهدم سورها وعفا عمن قدر عليه من
مقاتليها.
وفيها غزا الصائفة صالح بن علي نائب مصر، فبنى ما كان هدم ملك الروم من
سور ملطية، وأطلق لاخيه عيسى بن علي أربعين ألف دينار، وكذلك أعطى لابن
أخيه العباس بن محمد بن علي أربعين ألف دينار.
وفيها بايع عبد الله بن علي الذي كسره أبو مسلم وانهزم إلى البصرة
واستجار بأخيه سليمان بن علي، حتى بايع للخليفة في هذه السنة ورجع إلى
طاعته.
ولكن حبس في سجن بغداد كما سيأتي.
وفيها خلع جهور بن مرار العجلي الخليفة المنصور بعدما كسر سنباذ (2)
واستحوذ على حواصله وعلى أموال أبي مسلم، فقويت نفسه بذلك وظن أنه لا
يقدر عليه بعد، فأرسل إليه الخليفة محمد بن الاشعث الخزاعي في جيش كثيف
فاقتتلوا قتالا شديدا، فهزم جهور وقتل عامة من معه، وأخذ ما كان معه من
الاموال والحواصل والذخائر، ثم لحقوه فقتلوه.
وفيها قتل الملبد الخارجي على يدي
خازم بن
خزيمة في ثمانية آلاف، وقتل من أصحاب الملبد ما يزيد على ألف وانهزم
بقيتهم.
قال الواقدي: وحج بالناس فيها الفضل بن علي، والنواب فيها هم المذكورون
بالتي قبلها.
وممن توفي فيها من الاعيان زيد بن
واقد، والعلاء بن عبد الرحمن، وليث بن أبي سليم في قول.
وفيها كانت خلافة (3) الداخل من بني أمية إلى بلاد الاندلس وهو عبد
الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان الهاشمي.
قلت: ليس هو بهاشمي إنما هو من بني أمية ويسمى أمويا،
__________
(1) في الطبري وابن الاثير: زياد على المدينة، وعلى مكة العباس بن عبد
الله بن معبد ومات خلال الموسم فضل اسماعيل عمله إلى زياد.
(2) في مروج الذهب 3 / 360: بسنفاد.
(3) في الطبري 9 / 171: روى خبر خلافته في حوادث سنة 139.
(*)
(10/79)
كان قد دخل إلى
بلاد المغرب فرارا من عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس، فاجتاز بمن
معه من أصحابه الذين فروا معه بقوم يقتتلون على عصبية اليمانية
والمضرية، فبعث مولاه بدرا إليهم فاستمالهم إليه فبايعوه ودخل بهم ففتح
بلاد الاندلس واستحوذ عليها وانتزعها من نائبها يوسف بن عبد الرحمن بن
حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع الفهري وقتله.
وسكن عبد الرحمن قرطبة واستمر في خلافته في تلك البلاد من هذه السنة
إلى سنة ثنتين وسبعين ومائة.
فتوفي فيها وله في الملك أربع وثلاثون سنة وأشهر.
ثم قام من بعده ولده هشام ست سنين وأشهرا.
ثم مات فولي بعده الحكم بن هشام ستا وعشرين سنة وأشهرا ثم مات.
ثم ولي بعده ولده عبد الرحمن بن الحكم ثلاثا وثلاثين سنة ثم مات.
ثم ولي بعده محمد بن عبد الرحمن بن الحكم ستا وعشرين سنة.
ثم ابنه المنذر بن محمد، ثم أخوه عبد الله بن محمد بن المنذر.
وكانت أيامه بعد الثلاثمائة بدهر، ثم زالت تلك الدولة كما سنذكره من
زوال تلك السنون وأهلها وما قضوا فيها من النعيم والعيش الرغيد والنساء
الحسان ثم انقضت تلك السنوات وأهلها كأنهم على ميعاد، ثم أضحوا كأنهم
ورق جف ألوت عليه الصبا والذبول.
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين ومائة فيها أكمل
صالح بن علي بناء ملطية ثم غزا الصائفة على طريق الحديث، فوغل في بلاد
الروم، وغزا معه أختاه أم عيسى ولبابة ابنتا علي، وكانتا نذرتا إن زال
ملك بني أمية أن يجاهدا في سبيل الله عز وجل.
وفيها كان الفداء الذي حصل بين المنصور وبين ملك الروم، فاستنقذ بعض
أسرى المسلمين ثم لم يكن للناس صائفة في هذه السنة إلى سنة ست وأربعين،
وذلك لاشتغال المنصور بأمر ابني عبد الله بن حسن كما سنذكره.
ولكن ذكر بعضهم (1) أن الحسن بن قحطبة غزا الصائفة مع عبد الوهاب بن
إبراهيم الامام سنة أربعين فالله أعلم.
وفيها وسع المنصور المسجد الحرام، وكانت هذه السنة خصبة جدا - أي كثيرة
الخصب فكان يقال لها السنة الخصبة - وقيل إنما كان ذلك في سنة أربعين.
وفيها عزل المنصور عمه سليمان عن إمرة البصرة، فاختفى عبد الله بن علي
وأصحابه خوفا على أنفسهم، فبعث المنصور إلى نائبه على البصرة، وهو
سفيان بن معاوية، يستحثه في إحضار عبد الله بن علي إليه، فبعثه في
أحصابه فقتل بعضهم وسجن عبد الله بن علي عمه، وبعث بقية أصحابه إلى أبي
داود نائب خراسان فقتلهم هناك.
وحج بالناس فيها العباس بن علي بن عبد الله بن عباس.
وفيها توفي عمرو بن مجاهد، ويزيد بن
عبد الله بن الهاد، ويونس بن عبيد، أحد العباد وصاحب الحسن البصري.
__________
(1) انظر ابن الاثير 5 / 500.
(*)
(10/80)
ثم دخلت سنة أربعين ومائة
فيها ثار جماعة من الجند على أبي داود نائب خراسان، وحاصروا داره،
فأشرف عليهم وجعل يستغيث بجنده ليحضروا إليه، واتكأ على آجرة في الحائط
فانكسرت به فسقط فانكسر ظهره فمات، فخلفه على خراسان عاصم (1)، صاحب
الشرطة حتى قدم الامير من جهة الخليفة عليها، وهو عبد الجبار بن عبد
الرحمن الازدي، فتسلم بلاد خراسان، وقتل جماعة من الامراء لانه بلغه
عنهم أنهم يدعون إلى خلافة آل علي بن أبي طالب، وحبس آخرين، وأخذ نواب
أبي داود بجباية الاموال
المنكسرة عندهم.
وفيها حج بالناس الخليفة المنصور أحرم من الحيرة ورجع بعد انقضاء الحج
إلى المدينة، ثم رحل إلى بيت المقدس فزاره، ثم سلك الشام إلى الرقة، ثم
سار إلى الهاشمية - هاشمية الكوفة - ونواب الاقاليم هم المذكورون في
التي قبلها، سوى خراسان فإنه مات نائبها أبو داود، فخلفه مكانه عبد
الجبار الازدي.
وفيها توفي داود بن أبي هند، وأبو
حازم سلمة بن دينار، وسهيل بن أبي صالح، وعمارة بن غزية بن قيس
السكوني.
ثم دخلت سنة إحدى وأربعين ومائة فيها خرجت
طائفة يقال لها الراوندية على المنصور.
ذكر ابن جرير عن المدائني: أن أصلهم من خراسان، وهم على رأي أبي مسلم
الخراساني، كانوا يقولون بالتناسخ، ويزعمون أن روح آدم انتقلت إلى
عثمان بن نهيك، وأن ربهم الذي يطعمهم ويسقيهم أبو جعفر المنصور.
وأن الهيثم بن معاوية جبريل، قبحهم الله.
قال ابن جرير: فأتوا يوما قصر المنصور فجعلوا يطوفون به ويقولون: هذا
قصر ربنا، فأرسل المنصور إلى رؤسائهم فحبس منهم مائتين، فغضبوا من ذلك
وقالوا: علام تحبسهم ؟ ثم عمدوا إلى نعش فحملوه على كواهلهم وليس عليه
أحد، واجتمعوا حوله كأنهم يشيعون جنازة، واجتازوا بباب السجن، فألقوا
النعش ودخلوا السجن قهرا واستخرجوا من فيه من أصحابهم، وقصدوا نحو
المنصور وهم في ستمائة، فتنادى الناس وغلقت أبواب البلد، وخرج المنصور
من القصر ماشيا، لانه لم يجد دابة يركبها، ثم جئ بدابة فركبها وقصد نحو
الراوندية وجاء الناس من كل ناحية، وجاء معن بن زائدة، فلما رأى
المنصور ترجل وأخذ بلجام دابة المنصور، وقال: يا أمير المؤمنين ارجع !
نحن نكفيكهم.
فأبى وقام أهل الاسواق إليهم فقاتلوهم، وجاءت الجيوش فالتفوا عليهم من
كل ناحية
__________
(1) في ابن الاثير 5 / 498 والطبري 9 / 173: عصام.
(*)
(10/81)
فحصدوهم عن
اخرهم، ولم يبق منهم بقية.
وجرحوا عثمان بن نهيك بسهم بين كتفيه، فمرض أياما
ثم مات، فصلى عليه الخليفة، وقام على قبره حتى دفن ودعا له، وولى أخاه
عيسى بن نهيك على الحرس، وكان ذلك كله بالمدينة الهاشمية من الكوفة.
ولما فرغ المنصور من قتال الراوندية ذلك اليوم صلى بالناس الظهر في آخر
وقتها، ثم أتي بالطعام فقال أين معن من زائدة ؟ وأمسك عن الطعام حتى
جاء معن فأجلسه إلى جنبه، ثم أخذ في شكره لمن بحضرته لما رأى من شهامته
يومئذ.
فقال معن: والله يا أمير المؤمنين لقد جئت وإني لوجل، فلما رأيت
استهانتك بهم وإقدامك عليهم قوي قلبي واطمأن، وما ظننت أن أحدا يكون في
الحرب هكذا، فذاك الذي شجعني يا أمير المؤمنين.
فأمر له المنصور بعشرة آف ور ؟ ي عنه وولاه اليمن.
وكان معن بن زائدة قبل ذلك مختفيا، لانه قاتل المسودة مع ابن هبيرة،
فلم يظهر إلا في هذا اليوم.
فلما رأى الخليفة صدقة في قتاله رضي عنه.
ويقال: إن المنصور قال عن نفسه: أخطأت في ثلاث: قتلت أبا مسلم وأنا في
جماعة قليلة، وحين خرجت إلى الشام ولو اختلف سيفان بالعراق لذهبت
الخلافة، ويوم الراوندية لو أصابني سهم غرب لذهبت ضياعا.
وهذا من حزمه وصرامته.
وفي هذه السنة ولى المنصور ابنه محمدا العهد من بعده ودعاه بالمهدي
وولاه بلاد خراسان وعزل عنها عبد الجبار بن عبد الرحمن، وذلك أنه قتل
خلقا من شيعة الخليفة، فشكاه المنصور إلى أبي أيوب كاتب الرسائل فقال:
يا أمير المؤمنين أكتب إليه ليبعث جيشا كثيفا من خراسان إلى غزو الروم،
فإذا خرجوا بعثت إليه من شئت فأخرجوه من بلاد خراسان ذليلا.
فكتب إليه المنصور بذلك، فرد الجواب بأن بلاد خراسان قد عائت بها
الاتراك، ومتى خرج منها جيش خيف عليها وفسد أمرها.
فقال المنصور لابي أيوب: ماذا ترى ؟ قال: فاكتب إليه: إن بلاد خراسان
أحق بالمدد لثغور المسلمين من غيرها، وقد جهزت إليك بالجنود.
فكتب إليه أيضا: إن بلاد خراسان ضيقة في هذا العام أقواتها، ومتى دخلها
جيش أفسدها.
فقال الخليفة لابي أيوب: ما تقول ؟ فقال: يا أمير المؤمنين هذا رجل قد
أبدى صفحته وخلع فلا تناظره.
فحينئذ بعث المنصور ابنه محمدا المهدي ليقيم بالري، فبعث المهدي بين
يديه خازم بن خزيمة مقدمة إلى عبد الجبار، فما زال به يخدعه ومن معه
حتى هرب من معه وأخذوه هو فأركبوه بعيرا محولا وجهه إلى ناحية ذنب
البعير.
وسيروه كذلك في البلاد حتى أقدموه على المنصور
ومعه ابنه وجماعة من أهله، فضرب المنصور عنقه وسير ابنه ومن معه إلى
جزيرة (1) في طرف اليمن، فأسرتهم الهنود بعد ذلك، ثم فودي بعضهم بعد
ذلك.
واستقر المهدي نائبا على خراسان، وأمره أبوه أن يغزو طبرستان، وأن
يحارب الاصبهبذ بمن معه من الجنود وأمده بجيش عليهم عمر بن العلاء،
وكان من أعلم الناس بحرب طبرستان، وهو الذي يقول فيه الشاعر (2):
__________
(1) وهي دهلك (الطبري ابن الاثير).
(2) وهو بشار بن برد.
(*)
(10/82)
فقل للخليفة إن جئته * نصيحا ولا خير في المتهم إذا أيقظتك حروب العدى
* فنبه لها عمرا ثم نم فتى لا بنام على دمنة * ولا يشرب الماء إلا بدم
فلما تواقفت الجيوش على طبرستان فتحوها وحصروا الاصبهبذ حتى ألجأوه إلى
قلعته فصالحهم على ما فيها من الذخائر، وكتب المهدي إلى أبيه بذلك،
ودخل الاصبهبذ بلاد الديلم فمات هناك.
وكسروا أيضا ملك الترك الذي يقال له المصمغان، وأسروا أمما من الذراري،
فهذا فتح طبرستان الاول.
وفيها فرغ بناء المصيصة على يدي جبريل بن يحيى الخراساني، وفيها رابط
محمد بن إبراهيم الامام ببلاد ملطية.
وفيها عزل المنصور زياد بن عبيد الله عن إمرة الحجاز وولى المدينة محمد
بن خالد القسري وقدمها في رجب.
وولى مكة والطائف الهيثم بن معاوية العكي (1).
وفيها توفي موسى بن كعب وهو على
شرطة المنصور.
وعلى مصر من كان عليها في السنة الماضية، ثم ولى مصر محمد بن الاشعث ثم
عزله عنها وولى عليها نوفل بن الفرات.
وحج بالناس فيها صالح بن علي وهو نائب قنسرين وحمص ودمشق، وبقية البلاد
عليها من ذكرنا في التي قبلها والله أعلم.
وفيها توفي أبان بن تغلب، وموسى بن عقبة، صاحب المغازي، وأبو إسحاق
الشيباني في قول والله سبحانه أعلم. |