البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين ومائة فيها دخل قسطنطين ملك الروم ملطية عنوة
فهدم سورها وعفا عمن قدر عليه من مقاتليها.
وفيها غزا الصائفة صالح بن علي نائب مصر، فبنى ما كان هدم ملك الروم من
سور ملطية، وأطلق لاخيه عيسى بن علي أربعين ألف دينار، وكذلك أعطى لابن
أخيه العباس بن محمد بن علي أربعين ألف دينار.
وفيها بايع عبد الله بن علي الذي كسره أبو مسلم وانهزم إلى البصرة
واستجار بأخيه سليمان بن علي، حتى بايع للخليفة في هذه السنة ورجع إلى
طاعته.
ولكن حبس في سجن بغداد كما سيأتي.
وفيها خلع جهور بن مرار العجلي الخليفة المنصور بعدما كسر سنباذ (2)
واستحوذ على حواصله وعلى أموال أبي مسلم، فقويت نفسه بذلك وظن أنه لا
يقدر عليه بعد، فأرسل إليه الخليفة محمد بن الاشعث الخزاعي في جيش كثيف
فاقتتلوا قتالا شديدا، فهزم جهور وقتل عامة من معه، وأخذ ما كان معه من
الاموال والحواصل والذخائر، ثم لحقوه فقتلوه.
وفيها قتل الملبد الخارجي على يدي خازم بن
خزيمة في ثمانية آلاف، وقتل من أصحاب الملبد ما يزيد على ألف وانهزم
بقيتهم.
قال الواقدي: وحج بالناس فيها الفضل بن علي، والنواب فيها هم المذكورون
بالتي قبلها.
وممن توفي فيها من الاعيان زيد بن
واقد، والعلاء بن عبد الرحمن، وليث بن أبي سليم في قول.
وفيها كانت خلافة (3) الداخل من بني أمية إلى بلاد الاندلس وهو عبد
الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان الهاشمي.
قلت: ليس هو بهاشمي إنما هو من بني أمية ويسمى أمويا،
__________
(1) في الطبري وابن الاثير: زياد على المدينة، وعلى مكة العباس بن عبد
الله بن معبد ومات خلال الموسم فضم اسماعيل عمله إلى زياد.
(2) في مروج الذهب 3 / 360: بسنفاد.
(3) في الطبري 9 / 171: روى خبر خلافته في حوادث سنة 139.
(*)
(10/54)
عن أبي معاوية،
عن الاعمش عن عطية، عن أبي سعيد.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يخرج رجل من أهل بيتي عند
انقطاع من الزمان وظهور من الفتن، يقال له السفاح، يعطي المال حثيا "
(1).
وقال عبد الرزاق: حدثنا الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي
أسماء عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقتتل عند
حرتكم هذه ثلاثة كلهم ولد خليفة لا تصير إلا واحد منهم، ثم تقبل
الرايات من خراسان فيقتلونكم مقتلة لم ير مثلها.
ثم ذكر شيئا فإذا كان كذلك فأتوه ولو حبوا على الثلج، فإنه خليفة الله
المهدي " (2).
ورواه بعضهم عن ثوبان فوقفه وهو أشبه والله أعلم.
وقال الامام أحمد: حدثني يحيى بن غيلان وقتيبة بن سعيد قالا: ثنا راشد
بن سعد، حدثني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب عن قبيصة هو ابن ذؤيب، عن أبي
هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يخرج من خراسان
رايات سود لا يردها شئ حتى تنصب بايليا " (3).
وقد رواه البيهقي في الدلائل من حديث راشد بن سعد المصري، وهو ضعيف.
ثم قال: قد روي قريبا من هذا عن كعب الاحبار وهو أشبه.
ثم رواه عن كعب أيضا قال: " تظهر رايات سود لبني العباس حتى ينزلوا
الشام، ويقتل الله على أيديهم كل جبار وعدو لهم ".
وروى إبراهيم بن الحسين، عن ابن أبي أويس، عن ابن أبي ذؤيب،
عن محمد بن عبد الرحمن العامري، عن سهل (4) عن أبيه، عن أبي هريرة.
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للعباس: " فيكم النبوة وفيكم
المملكة ".
وروى عبد الله بن أحمد: عن ابن معين، عن عبيد بن أبي قرة، عن الليث، عن
أبي قبيل، عن أبي ميسرة مولى العباس قال سمعت العباس يقول: كنت عند
رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقال: " انظر هل ترى في السماء
من شئ ؟ قلت: نعم ! قال: ما ترى ؟ قلت: الثريا، قال: أما إنه سيملك هذه
الامة بعددها من صلبك ".
قال البخاري: عبيد بن أبي قرة لا يتابع على حديثه.
وروى ابن عدي من طريق سويد بن سعيد، عن حجاج بن تميم، عن ميمون بن
مهران، عن ابن عباس قال: " مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه
جبريل وأنا أظنه دحية الكلبي، فقال جبريل لرسول الله صلى الله عليه
وسلم: إنه لوسخ الثياب، وسيلبس ولده من بعده السواد " (5).
وهذا منكر من هذا
__________
(1) المصدر السابق.
(2) أخرجه ابن ماجه في سننه 2 / 1367 وفيه: الرايات السود.
والحديث في اسناده أبي قلابة الرقاشي الضرير واسمه عبد اللك بن محمد بن
عبد الله الرقاشي كان يحدث من حفظه فكثرت الاوهام في حديثه.
وقال الدار قطني: صدوق (التهذيب 6 / 419).
(3) أخرجه أحمد في مسنده 2 / 365.
والترمذي في الفتن 4 / 531 وفيه رشدين بن سعد المهري المصري قالوا فيه:
ليس بشئ (قاله ابن معين) وقال أبو زرعة: ضعيف.
وقال النسائي: متروك وقال ابن حبان: يقلب المناكير في أخباره على
مستقيم حديثه.
وانظر دلائل النبوة للبيهقي ج 6 / 516 - 517.
(4) في البيهقي: سهيل وهو سهيل بن أبي صالح.
(5) دلائل البيهقي 6 / 518.
(*)
(10/55)
الوجه، ولا شك
أن بني العباس كان السواد من شعارهم، أخذوا ذلك من دخول رسول الله صلى
الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وعلى رأسه عمامة سوداء، فأخذوا بذلك
وجعلوه شعارهم في الاعياد والجمع والمحافل.
وكذلك كان جندهم لا بد أن يكون على أحدهم شئ من السواد، ومن ذلك
الشربوش الذي يلبسه
الامراء إذا خلع عليهم.
وكذلك دخل عبد الله بن علي دمشق يوم دخلها وعليه السواد، فجعل النساء
والغلمان يعجبون من لباسه، وكان دخوله من باب كيسان.
وقد خطب الناس يوم الجمعة وصلى بهم وعليه السواد.
وقد روى ابن عساكر عن بعض الخراسانية قال: لما صلى عبد الله بن علي
بالناس يوم الجمعة صلى إلى جانبي رجل فقال: الله أكبر، سبحانك اللهم
وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك، انظروا إلى عبد الله بن
علي ما أقبح وجهه وأشنع سواده ؟ ! وشعارهم إلى يومك هذا كما تراه على
الخطباء يوم الجمعة والاعياد.
استقرار أبي العباس السفاح واستقلاله بالخلافة وما اعتمده في أيامه من
السيرة الحسنة قد تقدم أنه أول ما بويع به بالخلافة بالكوفة يوم الجمعة
الثاني عشر من ربيع الآخر، وقيل الاول من هذه السنة، سنة ثنتين وثلاثين
ومائة، ثم جرد الجيوش إلى مروان فطردوه عن المملكة وأجلوه عنها، وما
زالوا خلفه حتى قتلوه ببوصير من بلاد الصعيد، بأرض مصر، في العشر
الاخير من ذي الحجة من هذه السنة على ما تقدم بيانه، وحينئذ استقل
السفاح بالخلافة واستقرت يده على بلاد العراق وخراسان والحجاز والشام
والديار المصرية، خلا بلاد الاندلس، فإنه لم يحكم عليها ولا وصل سلطانه
إليها، وذلك أن بعض من دخلها من بني أمية استحوذ عليها وملكها كما
سيأتي بيانه.
وقد خرج على السفاح في هذه السنة طوائف، فمنهم أهل قنسرين بعد ما
بايعوه على يدي عمه عبد الله بن علي وأقر عليهم أميرهم مجزأة بن الكوثر
بن زفر بن الحارث الكلابي، وكان من أصحاب مروان وأمرائه، فخلع السفاح
ولبس البياض، وحمل أهل البلد على ذلك فوافقوه، وكان السفاح يومئذ
بالحيرة، وعبد الله بن علي مشغول بالبلقاء يقاتل بها حبيب بن مرة المزي
ومن وافقه من أهل البلقاء والبثنية وحوران على خلع السفاح، فلما بلغه
عن أهل قنسرين ما فعلوا صالح حبيب بن مرة وسار نحو قنسرين، فلما اجتاز
بدمشق - وكان بها أهله وثقله - استخلف عليها أبا غانم عبد الحميد بن
ربعي الكناني (1) في أربعة آلاف، فلما جاوز البلد وانتهى إلى حمص، نهض
أهل دمشق مع رجل يقال له عثمان بن عبد الاعلى بن سراقة فخلعوا السفاح
وبيضوا وقتلوا الامير أبا غانم وقتلوا جماعة من
أصحابه وانتهبوا ثقل عبد الله بن علي وحواصله، ولم يتعرضوا لاهله.
وتفاقم الامر على عبد الله وذلك
__________
(1) في الطبري 9 / 138 وابن الاثير 5 / 433: الطائي.
(*)
(10/56)
أن أهل قنسرين
تراسلوا مع أهل حمص وتزمروا واجتمعوا على أبي محمد السفياني، وهو أبو
محمد بن عبد الله بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، فبايعوه بالخلافة
وقام معه نحو من أربعين ألفا فقصدهم عبد الله بن علي فالتقوا بمرج
الاخرم، فاقتتلوا مع مقدمة السفياني وعليها أبو الورد فاقتتلوا قتالا
شديدا وهزموا عبد الصمد وقتل من الفريقين ألوف، فتقدم إليهم عبد الله
بن علي ومعه حميد بن قحطبة فاقتتلوا قتالا شديدا جدا، وجعل أصحاب عبد
الله يفرون وهو ثابت وهو حميد.
وما زال حتى هزم أصحاب أبي الورد، وثبت أبو الورد في خمسمائة فارس من
أهل بيته وقومه، فقتلوا جميعا وهرب أبو محمد السفياني ومن معه حتى
لحقوا بتدمر، وأمن عبد الله أهل قنسرين وسودوا وبايعوه ورجعوا إلى
الطاعة، ثم كر عبد الله راجعا إلى دمشق وقد بلغه ما صنعوا، فلما دنا
منها تفرقوا عنها ولم يكن منهم قتال فأمنهم ودخلوا في الطاعة.
وأما أبو محمد السفياني فإنه ما زال مضيعا ومشتتا حتى لحق بأرض الحجاز
فقاتله نائب أبي جعفر المنصور في أيام المنصور (1)، فقتله وبعث برأسه
وبإبنين له أخذهما أسيرين فأطلقهما المنصور في أيامه.
وقد قيل إن وقعة السفياني يوم الثلاثاء آخر يوم من ذي الحجة سنة ثنتين
وثلاثين ومائة فالله أعلم.
وممن خلع السفاح أيضا أهل الجزيرة حين بلغهم أن أهل قنسرين خلعوا،
فوافقوهم وبيضوا وركبوا إلى نائب حران من جهة السفاح - وهو موسى بن كعب
- وكان في ثلاثة آلاف قد اعتصم بالبلد، فحاصروه قريبا من شهرين، ثم بعث
السفاح أخاه أبا جعفر المنصور فيمن كان بواسط محاصري ابن هبيرة، فمر في
مسيرة إلى حران بقرقيسيا وقد بيضوا فغلقوا أبوابها دونه، ثم مر بالرقة
وعليها بكار بن مسلم (2) وهم كذلك، ثم بحاجر وعليها إسحاق بن مسلم فيمن
معه من أهل الجزيرة يحاصرونها فرحل إسحاق عنها إلى الرها، وخرج موسى بن
كعب فيمن معه من جند حران فتلقاه المنصور ودخلوا في جيشه، وقدم بكار بن
مسلم على أخيه إسحاق بن مسلم بالرها فوجهه إلى جماعة
ربيعة بدارا وماردين، ورئيسهم حروري يقال له بريكة، فصارا حزبا واحدا،
فقصد إليهم أبو جعفر فقاتلهم قتالا شديدا، فقتل بريكة في المعركة، وهرب
بكار إلى أخيه بالرها، فاستخلفه بها ومضى بمعظم العسكر [ حتى نزل ]
سميساط وخندق على عسكره، وأقبل أبو جعفر فحاصر بكارا بالرها، وجرت له
معه وقعات.
ر ؟ ب السفاح إلى عمه عبد الله بن علي أن يسير إلى سميساط وقد اجتمع
على إسحاق بن مسلم ستون ألفا من أهل الجزيرة، فسار إليهم عبد الله
واجتمع إليه أبو جعفر المنصور، فكاتبهم إسحاق وطلب منهم الامان فأجابوه
إلى ذلك، على إذن أمير المؤمنين.
وولى السفاح أخاه أبا جعفر المنصور الجزيرة وأذربيجان وأرمينية، فلم
يزل عليها حتى أفضت إليه الخلافة بعد أخيه، ويقال
__________
(1) وهو زياد بن عبيد الله الحارثي.
(2) في ابن الاثير 5 / 435: سلم، ورد كذلك في الخبر.
(*)
(10/57)
إن إسحاق بن
مسلم العقيلي إنما طلب الامان لما تحقق أن مروان قد قتل، وذلك بعد مضي
سبعة أشهر وهو محاصر، وقد كان صاحبا لابي جعفر المنصور فآمنه.
وفي هذه السنة ذهب أبو جعفر المنصور عن أمر أخيه السفاح إلى أبي مسلم
الخراساني وهو أميرها، ليستطلع رأيه في قتل أبي سلمة، لانه كان يريد أن
يصرف الخلافة عنهم، فيسأله هل ذلك كان عن ممالاة أبي مسلم لابي سلمة في
ذلك أم لا ؟ فسكت القوم، فقال السفاح: لئن كان هذا عن رأيه إنا لبعر
(1) بلاء عظيم، إلا أن يدفعه الله عنا.
قال أبو جعفر: فقال لي أخي: ما ترى ؟ فقلت: الرأي رأيك.
فقال: إنه ليس أحد أخص بأبي مسلم منك، فاذهب إليه فاعلم لي علمه، فإن
كان عن رأيه احتلنا له، وإن لم يكن عن رأيه طابت أنفسنا.
قال أبو جعفر: فخرجت إليه قاصدا على وجل.
قال المنصور: فلما وصلت إلى الري إذا كتاب أبي مسلم إلى نائبها يستحثني
إليه في المسير، فازددت وجلا، فلما انتهيت إلى نيسابور إذا كتابه
يستحثني أيضا وقال لنائبها: لا تدعه يقر ساعة واحدة.
فإن أرضك بها خوارج، فانشرحت لذلك فلما صرت من مرو على فرسخين، خرج
يتلقاني ومعه الناس، فلما واجهني ترجل فقبل يدي، فأمرته فركب.
فلما دخلت مرو نزلت في داره فمكث ثلاثا لا يسألني في
أي شئ جئت، فلما كان في اليوم الرابع سألني ما أقدمك ؟ فأخبرته بالامر.
فقال: أفعلها أبو سلمة ؟ أنا أكفيكموه.
فدعا مرار بن أنس الضبي فقال: اذهب إلى الكوفة فحيث لقيت أبا سلمة
فاقتله، وانته في ذلك إلى رأي الامام.
فقدم مرار الكوفة الهاشمية، وكان أبو سلمة يسمر عند السفاح، فلما خرج
قتله مرار وشاع أن الخوارج قتلوه، وغلقت البلد.
ثم صلى عليه يحيى بن محمد بن علي أخو أمير المؤمنين، ودفن بالهاشمية،
وكان يقال له وزير آل محمد.
ويقال لابي مسلم أمير آل محمد.
قال الشاعر (2).
إن الوزير وزير ال محمد * أودى فمن يشناك كان وزيرا ويقال إن أبا جعفر
إنما سار إلى أبي مسلم بعد قتل أبي سلمة وكان معه ثلاثون رجلا على
البريد، منهم الحجاج بن أرطاة، وإسحاق بن الفضل الهاشمي، وجماعة من
السادات.
ولما رجع أبو جعفر من خراسان قال لاخيه: لست بخليفة ما دام أبو مسلم
حيا حتى تقتله، لما رأى من طاعة العساكر له، فقال له السفاح: اكتمها
فسكت.
ثم إن السفاح بعث أخاه أبا جعفر إلى قتال ابن هبيرة بواسط، فلما اجتاز
بالحسن بن قحطبة أخذه معه، فلما أحيط بابن هبيرة كتب إلى محمد بن عبد
الله بن حسن ليبايع له بالخلافة فأبطأ عليه جوابه، فمال إلى مصالحة أبي
جعفر، فاستأذن أبو جعفر أخاه السفاح في ذلك فأذن
__________
(1) في الطبري 9 / 140: ليعرض، وفي ابن الاثير 5 / 437: لنعرفن.
(2) وهو سليمان بن المهاجر البجلي، وقبله في مروج الذهب: إن المساءة قد
تسر وربما * كان السرور بما كرهت جديرا (*)
(10/58)
له في المصالحة
(1)، فكتب له أبو جعفر كتابا بالصلح (2)، فمكث ابن هبيرة يشاور فيه
العلماء أربعين يوما.
ثم خرج يزيد بن عمر بن هبيرة إلى أبي جعفر في ألف وثلاثمائة من
البخارية، فلما دنا من سرادق أبي جعفر هم أن يدخل بفرسه فقال الحاجب
سلام: انزل أبا خالد.
فنزل.
وكان حول السرادق عشرة آلاف من أهل خراسان، ثم أذن له في الدخول فقال:
أنا ومن معي ؟ قال: لا بل أنت وحدك، فدخل ووضعت له وسادة فجلس عليها،
فحادثه أبو جعفر ساعة ثم خرج من عنده فأتبعه أبو
جعفر بصره، ثم جعل يأتيه يوما بعد يوم في خمسمائة فارس وثلاثمائة راجل،
فشكوا ذلك إلى أبي جعفر فقال أبو جعفر للحاجب: مره فليأت في حاشيته،
فكان يأتي في ثلاثين نفسا، فقال الحاجب: كأنك تأتي متأهبا (3) ؟ فقال:
لو أمرتموني بالمشي لمشيت إليكم، ثم كان يأتي في ثلاثة أنفس.
وقد خاطب ابن هبيرة يوما لابي جعفر فقال له في غبون كلامه: يا هناه -
أو قال يا أيها المرء - ثم اعتذر إليه بأنه قد سبق لسانه إلى ذلك،
فأعذره.
وقد كان السفاح كتب إلى أبي مسلم يستشيره في مصالحة ابن هبيرة فنهاه عن
ذلك، وكان السفاح لا يقطع أمرا دونه، فلما وقع الصلح على يدي أبي جعفر
لم يحب السفاح ذلك ولم يعجبه، وكتب إلى أبي جعفر يأمره بقتله، فراجعه
أبو جعفر مرارا لا يفيده ذلك شيئا، حتى جاء كتاب السفاح أن اقتله لا
محالة، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم كيف يعطي الامان وينكث ؟
هذا فعل الجبابرة.
وأقسم عليه في ذلك.
فأرسل إليه أبو جعفر طائفة من الخراسانية فدخلوا عليه وعنده ابنه داود
وفي حجره صبي صغير، وحوله مواليه وحاجبه، فدافع عنه ابنه حتى قتل وقتل
خلق من مواليه، وخلصوا إليه، فألقى الصبي من حجره وخر ساجدا فقتل وهو
ساجد، واضطرب الناس، فنادى أبو جعفر في الناس بالامان إلا (4) عبد
الملك بن بشر وخالد بن سلمة المخزومي وعمر (5) بن ذر.
فسكن الناس ثم استؤمن لبعض هؤلاء وقتل بعضا.
وفي هذه السنة بعث أبو مسلم الخراساني محمد بن الاشعث إلى فارس، وأمره
أن يأخذ عمال أبي سلمة الخلال فيضرب أعناقهم، ففعل ذلك.
وفيها ولى السفاح أخاه يحيى بن محمد الموصل وأعمالها، وولى عمه داود
مكة والمدينة واليمن واليمامة، وعزله عن الكوفة وولى مكانه عليها عيسى
بن موسى، وولى قضاءها ابن أبي ليلى، وكان على نيابة البصرة سفيان بن
معاوية المهلبي، وعلى
__________
(1) في الاخبار الطوال ص 373: فكتب أبو العباس - ردا على كتاب أبي جعفر
- لا حكم لابن هبيرة عندي إلا السيف.
فكتم أبو جعفر الكتاب عن جميع الناس.
(2) نسخة كتاب الصلح في الامامة والسياسة 2 / 152.
(3) في الطبري 9 / 145: مباهيا.
(4) في الطبري وابن الاثير والاخبار الطوال: إلا الحكم بن عبد الملك بن
بشر وفي الامامة والسياسة 2 / 157
الحكم بن عبد الله بن بشر.
(2) (5) الاخبار الطوال ص 357: محمد بن ذر.
وفي الامامة والسياسة: عمرو بن ذر ولم يذكر خالدا.
(*)
(10/59)
قضائها الحجاج
بن أرطاة، وعلى السند منصور بن جمهور، وعلى فارس محمد بن الاشعث.
وعلى أرمينية وأذربيجان والجزيرة أبو جعفر المنصور، وعلى الشام
وأعمالها عبد الله بن علي عم السفاح، وعلى مصر أبو عون عبد الملك بن
يزيد.
وعلى خراسان وأعمالها أبو مسلم الخراساني، وعلى ديوان الخراج خالد بن
برمك.
وحج بالناس فيها داود بن علي.
ذكر من توفي فيها من الاعيان مروان
بن محمد بن مروان بن الحكم أبو عبد الملك الاموي، آخر خلفاء بني أمية،
فقتل في العشر الاخير من ذي الحجة من هذه السنة كما تقدم ذلك مبسوطا،
ووزيره عبد الحميد بن يحيى بن سعد مولى بني عامر بن لؤي، الكاتب البليغ
الذي يضرب به المثل، فيقال وفتحت الرسائل بعبد الحميد، وختمت بابن
العميد.
وكان إماما في الكتابة وجميع فنونها، وهو القدوة فيها.
وله رسائل في ألف ورقة، وأصله من قيسارية ثم سكن الشام، وتعلم هذا
الشأن من سالم مولى هشام بن عبد الملك وكان يعقوب بن داود وزير المهدي
يكتب بين يديه، وعليه تخرج، وكان ابنه إسماعيل بن عبد الحميد ماهرا في
الكتابة أيضا، وقد كان أولا يعلم الصبيان ثم تقلبت به الاحوال أن صار
وزيرا لمروان، وقتله السفاح ومثل به، وكان اللائق بمثله العفو عنه.
ومن مستجاد كلامه: العلم شجرة ثمرتها الالفاظ، والفكر بحر لؤلؤه
الحكمة.
ومن كلامه وقد رأى رجلا (1) يكتب خطا رديئا فقال: أطل جلفة قلمك
وأسمنها، وحرف قطتك وأيمنها.
قال الرجل: ففعلت ذلك فجاد خطي.
وسأله رجل أن يكتب له كتابا إلى بعض الاكابر يوصيه به، فكتب إليه: حق
موصل كتابي إليك كحقه علي إذ رآك موضعا لامله، ورآني أهلا لحاجته، وقد
قضيت أنا حاجته فصدق أنت أمله.
وكان كثيرا ما ينشد هذا البيت: - إذا خرج الكتاب كان دويهم * قسيا
وأقلام القسي لها نبلا وأبو سلمة حفص بن سليمان، هو أول من وزر لآل
العباس، قتله أبو مسلم بالانبار عن أمر
السفاح، بعد ولايته بأربعة أشهر، في شهر رجب.
وكان ذا هيئة فاضلا حسن المفاكهة، وكان السفاح يأنس به ويحب مسامرته
لطيب محاضرته، ولكن توهم ميله لآل علي فدس أبو مسلم عليه من قتله غيلة
كما تقدم، فأنشد السفاح عند قتله: إلى النار فليذهب ومن كان مثله * على
أي شئ فاتنا منه نأسف كان يقال له وزير آل محمد، ويعرف بالخلال، لسكناه
بدرب الخلالين بالكوفة، وهو أول من سمي بالوزير وقد حكى ابن خلكان: عن
ابن قتيبة أن اشتقاق الوزير من الوزر وهو الحمل، فكأن السلطان حمله
أثقالا لاستناده إلى رأيه، كما يلجأ الخائف إلى جبل يعتصم به.
__________
(1) في هامش المطبوعة: هو ابراهيم بن جبلة.
(*)
(10/60)
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين ومائة فيها ولى السفاح عمه سليمان البصرة
وأعمالها، وكور دجلة والبحرين وعمان.
ووجه عمه إسماعيل بن علي إلى كور الاهواز.
وفيها قتل داود بن علي من بمكة والمدينة من بني أمية،
وفيها توفي داود بن علي بالمدينة في
شهر ربيع الاول، واستخلف ابنه موسى على عمله، وكانت ولايته على الحجاز
ثلاثة أشهر، فلما بلغ السفاح موته استناب على الحجاز خاله زياد بن عبيد
الله بن (1) عبد الدار الحارثي، وولى اليمن لابن خاله محمد بن يزيد بن
عبيد الله بن عبد الدار (2)، وجعل إمرة الشام لعميه عبد الله وصالح بني
علي، وأقر أبا عون على الديار المصرية نائبا.
وفيها توجه محمد بن الاشعث إلى إفريقية فقاتلهم قتالا شديدا حتى فتحها.
وفيها خرج شريك بن شيخ المهري ببخارى على أبي مسلم وقال: ما على هذا
بايعنا آل محمد، على سفك والدماء وقتل الانفس ؟ واتبعه على ذلك نحو من
ثلاثين ألفا، فبعث إليه أبو مسلم زياد بن صالح الخزاعي فقاتله فقتله.
وفيها عزل السفاح أخاه يحيى بن محمد عن الموصل، وولى عليه عمه إسماعيل.
وفيها ولى الصائفة من جهته صالح بن علي سعيد بن عبيد الله وغزا ما وراء
الدروب.
وحج بالناس خال السفاح زياد بن عبيد الله بن عبد الدار (1) الحارثي.
ونواب البلاد هم الذين كانوا في التي قبلها سوى من ذكرنا
أنه عزل.
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين ومائة فيها خلع
بسام بن إبراهيم بن بسام الطاعة وخرج على السفاح، فبعث إليه خازم بن
خزيمة فقاتله فقتل عامة أصحابه، واستباح عسكره.
ورجع فمر يملا من بني عبد الدار (3) أخوال السفاح فسألهم عن بعض ما فيه
نصرة للخليفة، فلم يردوا عليه، واستهانوا به، وأمر بضرب أعناقهم -
وكانوا قريبا من عشرين رجلا ومثلهم من مواليهم - فاستعدى بنو عبد الدار
(4) على خازم بن خزيمة إلى السفاح، وقالوا: قتل هؤلاء بلا ذنب، فهم
السفاح بقتله فأشار عليه بعض الامراء بأن لا يقتله ولكن ليبعثه مبعثا
صعبا، فإن سلم فذاك، وإن قتل كان الذي أراد.
فبعثه إلى عمان وكان بها طائفة من الخوارج قد تمردوا وجهز معه سبعمائة
رجل، وكتب إلى عمه سليمان بالبصرة أن يحملهم في السفن إلى
__________
(1) في الطبري 9 / 147: زياد بن عبيد الله بن عبد الله بن عبد المدان
الحارثي، وفي ابن الاثير 5 / 448: زياد بن عبد الله بن عبد المدان
الحارثي.
(2) في الطبري وابن الاثير: عبد المدان.
(3) في الطبري وابن الاثير: عبد المدان.
(4) انظر الحاشية السابقة.
(*)
(10/61)
عمان ففعل،
فقاتل الخوارج فكسرهم وقهرهم واستحوذ على ما هنالك من البلاد، وقتل
أمير الخوارج الصفرية وهو الجلندى، وقتل من أصحابه وأنصاره نحوا من
عشرة آلاف، وبعث برؤوسهم إلى البصرة، فبعث بها نائب البصرة إلى
الخليفة.
ثم بعد أشهر كتب إليه السفاح أن يرجع فرجع سالما غانما منصورا.
وفيها غزا أبو مسلم بلاد الصفد وغزا أبو داود (1) أحد نواب أبي مسلم
بلاد كش، فقتل خلقا كثيرا وغنم من الاواني الصينية المنقوشة بالذهب
شيئا كثيرا جدا.
وفيها بعث السفاح موسى بن كعب إلى منصور بن جمهور وهو بالهند في اثني
عشر ألفا، فالتقاه موسى بن كعب وهو في ثلاثة آلاف فهزمه
واستباح عسكره.
وفيها مات عامل اليمن محمد بن يزيد بن عبد الله بن عبد الدار (2)،
فاستخلف السفاح عليها عمه (3)، وهو خال الخليفة.
وفيها تحول السفاح من الحيرة إلى الانبار.
وحج بالناس نائب الكوفة عيسى بن موسى، ونواب الاقاليم هم هم.
وفيها توفي من الاعيان أبو هارون
العبدي، وعمارة بن جوين، ويزيد بن يزيد بن جابر الدمشقي والله أعلم.
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين ومائة فيها خرج
زياد بن صالح من وراء نهر بلخ على أبي مسلم فأظفره الله بهم فبدد شملهم
واستقر أمره بتلك النواحي.
وحج بالناس فيها سليمان بن علي نائب البصرة.
والنواب هم المذكورون قبلها.
وممن توفي فيها من الاعيان: يزيد بن
سنان، وأبو عقيل زهرة بن معبد، وعطاء الخراساني.
ثم دخلت سنة ست وثلاثين ومائة فيها قدم أبو
مسلم من خراسان على السفاح، وذلك بعد استئذانه الخليفة في القدوم عليه،
فكتب إليه أن يقدم في خمسمائة من الجند، فكتب إليه: إني قد وترت الناس،
وإني أخشى من قلة الخمسمائة.
فكبت إليه أن يقدم في ألف، فقدم في ثمانية آلاف، فرقهم وأخذ معه من
الاموال والتحف والهدايا شيئا كثيرا.
ولما قدم لم يكن معه سوى ألف من الجند، فتلقاه القواد والامراء إلى
مسافة بعيدة.
ولما دخل على السفاح أكرمه وعظمه واحترمه وأنزله قريبا منه، وكان يأتي
إلى الخلافة كل يوم، واستأذن الخليفة في الحج فأذن له، وقال: لولا أني
عينت الحج لاخي أبي جعفر لامرتك على الحج.
وكان الذي بين أبي جعفر وأبي مسلم خرابا (4) وكان يبغضه، وذلك لما رأى
ما هو فيه من الحرمة
__________
(1) وهو خالد بن ابراهيم.
(2) انظر الحاشية 3 ص 61.
(3) علي بن الربيع بن عبد الله الحارثي.
(4) في الطبري وابن الاثير: متباعدا.
(*)
(10/62)
حين قدم عليه
نيسابور في البيعة للسفاح وللمنصور بعده، فحار في أمره لذلك، فحقد عليه
المنصور
وأشار على السفاح بقتله، فأمره بكتم ذلك.
وحين قدم أمره بقتله أيضا وحرضه على ذلك، فقال له السفاح: قد علمت
بلاءه معنا وخدمته لنا فقال أبو جعفر: يا أمير المؤمنين إنما ذلك
بدولتنا، والله لو أرسلت سنورا لسمعوا لها وأطاعوا، وإنك إن لم تتعش به
تغدى بك هو، فقال له: كيف السبيل إلى ذلك ؟ فقال: إذا دخل عليك فحادثه
ثم أجئ أنا من ورائه فأضربه بالسيف.
قال: كيف بمن معه ؟ قال: هم أذل وأقل.
فأذن له في قتله، فلما دخل أبو مسلم على السفاح ندم على ما كان أذن
لاخيه فيه، فبعث إليه الخادم يقول له: إن ذاك الذي بينك وبينه ندم عليه
فلا تفعله.
فلما جاءه الخادم وجده محتبيا بالسيف قد تهيأ لما يريد من قتل أبي
مسلم.
فلما نهاه عن ذلك غضب أبو جعفر غضبا شديدا.
وفيها حج بالناس أبو جعفر المنصور عن ولاية أخيه السفاح، وسار معه إلى
الحجاز أبو مسلم الخراساني عن أمر الخليفة، وأذن له في الحج، فلما رجعا
من الحج وكانا بذات عرق جاء الخبر إلى أبي جعفر - وكان يسير قبل أبي
مسلم بمرحلة - بموت أخيه السفاح، فكتب إلى أبي مسلم أن قد حدث أمر
فالعجل العجل، فلما استعلم أبو مسلم الخبر عجل السير وراءه، فلحقه إلى
الكوفة.
وكانت بيعة المنصور على ما سيأتي بيانه وتفصيله قريبا والله سبحانه
وتعالى أعلم.
ترجمة أبي العباس السفاح أول خلفاء
بني العباس
هو عبد الله السفاح - ويقال له المرتضى، والقاسم أيضا - ابن محمد بن
الامام بن علي السجاد ابن عبد الله الحبر بن العباس بن عبد المطلب
القرشي الهاشمي أمير المؤمنين، وأمه ريطة - ويقال رايطة - بنت عبيد
الله بن عبد الله بن عبد المدان (1) الحارثي، كان مولد السفاح بالحميمة
من أرض الشراة من البلقاء بالشام، ونشأ بها حتى أخذ مروان أخاه إبراهيم
الامام فانتقلوا إلى الكوفة.
بويع له بالخلافة بعد مقتل أخيه في حياة مروان يوم الجمعة الثاني عشر
من ربيع الاول بالكوفة كما تقدم.
وتوفي بالجدري بالانبار يوم الاحد الحادي عشر، وقيل الثالث عشر من ذي
الحجة سن ست وثلاثين ومائة، وكان عمره ثلاثا، وقيل ثنتين، وقيل إحدى
وثلاثين سنة، وقيل ثمان وعشرين سنة.
قال غير واحد.
وكانت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر، وكان أبيض جميلا طويلا، أقنى
الانف، جعد الشعر، حسن اللحية، حسن الوجه، فصيح الكلام، حسن الرأي، جيد
البديهة.
دخل عليه في أول ولايته
عبد الله بن حسن بن حسن بن علي ومعه مصحف وعند السفاح وجوه بني هاشم من
أهل بيته وغيرهم، فقال له: يا أمير المؤمنين أعطنا حقنا الذي جعله الله
لنا في هذا المصحف.
قال: فأشفق عليه الحاضرون أن يعجل السفاح عليه بشئ أو يترك جوابه فيبقى
ذلك مسبة عليه وعليهم.
فأقبل السفاح عليه غير مغضب ولا منزعج، فقال: إن جدك عليا، كان خيرا
مني وأعدل، وقد ولي هذا
__________
(1) في الاصل عبد الدار، (انظر الطبري - ومروج الذهب وابن الاثير).
(*)
(10/63)
الامر فأعطى
جديك الحسن والحسين وكانا خيرا منك، شيئا قد أعطيتكه وزدتك عليه، فما
كان هذا جزائي منك.
قال: فما رد عليه عبد الله بن حسن جوابا، وتعجب الناس من سرعة جوابه
وجدته وجودته على البديهة.
وقد قال الامام أحمد في مسنده: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا جرير، عن
الاعمش، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخرج عند انقطاع من الزمان
وظهور من الفتن رجل يقال له السفاح، يكون إعطاؤه المال حثيا) (1) وكذا
رواه زائدة وأبو معاوية عن الاعمش به.
وهذا الحديث في إسناده عطية العوفي وقد تكلموا فيه.
وفي أن المراد بهذا الحديث هذا السفاح نظر والله أعلم.
وقد ذكرنا فيما تقدم عند زوال دولة بني أمية أخبارا وآثارا في مثل هذا
المعني.
وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن سلمة بن محمد بن هشام، أخبرني محمد
بن عبد الرحمن المخزومي، حدثني داود بن عيسى، عن أبيه، عن محمد بن علي
بن عبد الله بن عباس - وهو والد السفاح - قال: دخلت على عمر بن عبد
العزيز وعنده رجل من النصارى فقال له عمر: من تجدون الخليفة بعد سليمان
؟ قال له: أنت.
فأقبل عمر بن عبد العزيز عليه فقال له: زدني من بيانك.
فقال ثم آخر، إلى أن ذكر خلافة بني أمية إلى آخرها.
قال محمد بن علي: فلما كان بعد ذلك جعلت ذلك النصراني في بالي فرأيته
يوما فأمرت غلامي أن يحبسه علي، وذهبت إلى منزلي فسألته عما يكون في
خلفاء بني أمية فذكرهم واحدا واحدا، وتجاوز عن مروان بن محمد.
قلت: ثم من ؟ قال: ثم ابن الحارثية، وهو ابنك.
قال: وكان ابني ابن الحارثية إذ ذاك حملا قال ووفد أهل المدينة على
السفاح فبادروا إلى
تقبيل يده غير عمران بن إبراهيم بن عبد الله بن مطيع العدوي، فإنه لم
يقبل يده، وإنما حياه بالخلافة فقط.
وقال: والله يا أمير المؤمنين لو كان تقبيلها يزيدك رفعة ويزيدني وسيلة
إليك ما سبقني إليها أحد من هؤلاء، وإني لغني عما لا أجر فيه، وربما
قادنا عمله إلى الوزر ثم جلس.
قال: فوالله ما نقصه ذلك عنده حظا من حظ أصحابه، بل أحبه وزاده.
وذكر القاضي المعافى بن زكريا: أن السفاح بعث رجلا ينادي في عسكر مروان
بهذين البيتين ليلا ثم رجع (2): يا آل مروان إن الله مهلككم * ومبدل
أمنكم خوفا وتشريدا لا عمر الله من أنسالكم أحدا * وبثكم في بلاد الخوف
تطريدا وروى الخطيب البغدادي أن السفاح نظر يوما في المرآة - وكان من
أجمل الناس وجها - فقال: اللهم لا أقول كما قال سليمان بن عبد الملك:
أنا الخليفة الشاب، ولكن أقول: اللهم عمرني طويلا في طاعتك ممتعا
بالعافية.
فما استتم كلامه حتى سمع غلاما يقول لآخر: الاجل بيني وبينك شهران
وخمسة أيام.
فتطير
__________
(1) مسند الامام احمد 3 / 80.
(2) قال ابن الاثير 5 / 460: قال ابن النقاح بيتين من الشعر، وذكرهما.
(*)
(10/64)
من كلامه وقال:
حسبي الله لا قوة إلا بالله عليه توكلت وبه أستعين.
فمات بعد شهرين وخمسة أيام.
وذكر محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعي: أن الرشيد أمر ابنه أن يسمع من
إسحاق بن عيسى بن علي ما يرويه عن أبيه في قصة السفاح، فأخبره عن أبيه
عيسى أنه دخل على السفاح يوم عرفة بكرة فوجده صائما، فأمره أن يحادثه
في يومه هذا ثم يختم ذلك بفطره عنده.
قال: فحادثته حتى أخذه النوم فقمت عنه وقلت: أقيل في منزلي ثم أجئ بعد
ذلك.
فذهبت فنمت قليلا ثم قمت فأقبلت إلى داره فإذا على بابه بشير يبشر بفتح
السند وبيعتهم للخليفة وتسليم الامور إلى نوابه.
قال: فحمدت الله الذي وفقني في الدخول عليه بهذه البشارة، فدخلت الدار
فإذا بشير آخر معه بشارة بفتح إفريقية، فحمدت الله فدخلت عليه فبشرته
بذلك وهو يسرح لحيته بعد الوضوء، فسقط المشط من يده ثم قال: سبحان
الله، كل شئ بائد سواه، نعيت والله إلي نفسي، حدثني إبراهيم الامام عن
أبي هشام عن عبد الله بن
محمد بن علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "
يقدم علي في مدينتي هذه وافدان وافد السند والآخر وافد إفريقية بسمعهم
وطاعتهم وبيعتهم، فلا يمضي بعد ذلك ثلاثة أيام حتى أموت.
قال: وقد أتاني الوافدان فأعظم الله أجرك يا عم في ابن أخيك.
فقلت: كلا، يا أمير المؤمنين إن شاء الله.
قال: بلى إن شاء الله ! لئن كانت الدنيا حبيبة إلي فالآخرة أحب إلي،
ولقاء ربي خير لي، وصحة الرواية عن رسول الله بذلك أحب إلي منها، والله
ما كذبت ولا كذبت.
ثم نهض فدخل منزله وأمرني بالجلوس، فلما جاء المؤذن يعلمه بوقت الظهر
خرج الخادم يعلمني أن أصلي عنه، وكذلك العصر والمغرب والعشاء، وبت
هناك، فلما كان وقت السحر أتاني الخادم بكتاب معه يأمرني أن أصلي عنه
الصبح والعيد ثم أرجع إلى داره، وفيه يقول: يا عم إذا مت فلا تعلم
الناس بموتي حتى تقرأ عليهم هذا الكتاب فيبايعوا لمن فيه.
قال: فصليت بالناس ثم رجعت إليه فإذا ليس به بأس، ثم دخلت عليه من آخر
النهار فإذا هو على حاله غير أنه قد خرجت في وجهه حبتان صغيرتان، ثم
كبرتا، ثم صار في وجهه حب صغار بيض يقال إنه جدري، ثم بكرت إليه في
اليوم الثاني فإذا هو قد هجر وذهبت عنه معرفتي ومعرفة غيري، ثم رجعت
إليه بالعشي فإذا هو انتفخ حتى صار مثل الزق، وتوفي اليوم الثالث من
أيام التشريق، فسجيته كما أمرني، وخرجت إلى الناس فقرأت عليهم كتابه
فإذا فيه: من عبد الله أمير المؤمنين إلى الاولياء وجماعة المسلمين،
سلام عليكم أما بعد فقد قلد أمير المؤمنين الخلافة عليكم بعد وفاته
أخاه فاسمعوا وأطيعوا، وقد قلدها من بعده عيسى بن موسى إن كان.
قال: فاختلف الناس في قوله " إن كان " قيل إن كان أهلا لها.
وقال آخرون إن كان حيا.
وهذا القول الثاني هو الصواب، ذكره الخطيب وابن عساكر مطولا.
وهذا ملخص منه.
وفيه ذكر الحديث المرفوع وهو منكر جدا.
وذكر ابن عساكر أن الطبيب دخل عليه فأخذ بيده فأنشأ يقول عند ذلك: أنظر
إلى ضعف الحرا * ك وذله بعد السكون ينبيك أن بيانه * هذا مقدمة المنون
فقال له الطبيب: أنت صالح.
فأنشأ يقول:
(10/65)
يبشرني بأني ذو صلاح * يبين له وبي داء دفين لقد أيقنت أني غير باق *
ولا شك إذا وضح اليقين قال بعض أهل العلم: كان آخر ما تكلم به السفاح:
الملك لله الحي القيوم، ملك الملوك، وجبار الجبابرة.
وكان نقش خاتمه الله ثقة عبد الله.
وكان موته بالجدري في يوم الاحد الثالث عشر من ذي الحجة سنة ست وثلاثين
ومائة بالانبار العتيقة، عن ثلاث وثلاثين سنة.
وكانت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر على أشهر الاقوال.
وصلى عليه عمه عيسى بن علي.
ودفن في قصر الامارة من الانبار.
وترك تسع جبات وأربعة أقمصة وخمس سراويلات وأربعة طيالسة وثلاثة مطارف
خز.
وقد ترجمه ابن عساكر فذكر بعض ما أوردناه والله أعلم.
وممن توفي فيها من الاعيان السفاح
كما تقدم، وأشعث بن سوار، وجعفر بن أبي ربيعة، وحصين بن عبد الرحمن،
وربيعة الراعي، وزيد بن أسلم، وعبد الملك بن عمير، وعبد الله بن أبي
جعفر، وعطاء بن السائب.
وقد ذكرنا تراجمهم في التكميل ولله الحمد.
خلافة أبي جعفر المنصور
واسمه عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس قد تقدم أنه لما
مات السفاح كان في الحجاز فبلغه موته وهو بذات عرق راجعا من الحج، وكان
معه أبو مسلم الخراساني، فعجل السير وعزاه أبو مسلم في أخيه، فبكى
المنصور عند ذلك، فقال له: أتبكي وقد جاءتك الخلافة ؟ أنا أكفيكها إن
شاء الله.
فسرى عنه، وأمر زياد بن عبيد الله أن يرجع إلى مكة واليا عليها، وكان
السفاح قد عزله عنها بالعباس بن عبد الله بن معبد بن عباس فأقر، عليها،
والنواب على أعمالهم حتى انسلخت هذه السنة، وقد كان عبد الله بن علي
قدم على ابن أخيه السفاح الانبار فأمره على الصائفة، فركب في جيوش
عظيمة إلى بلاد الروم، فلما كان ببعض الطريق بلغه موت السفاح فكر راجعا
إلى حران، ودعا إلى نفسه، وزعم أن السفاح كان عهد إليه حين بعثه إلى
الشام أن يكون ولي العهد من بعده، فالتفت عليه جيوش عظيمة، وكان من
أمره ما سنذكره في السنة الآتية إن شاء الله تعالى. |