البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائة فيها أغار اشتر خان الخوارزمي في جيش من
الاتراك على ناحية أرمينية فدخلوا تفليس وقتلوا خلقا كثيرا وأسروا
كثيرا من المسلمين وأهل الذمة، وممن قتل يومئذ حرب بن عبد الله
الراوندي الذي تنسب إليه الحربية (1) ببغداد، وكان مقيما بالموصل في
ألفين لمقابلة الخوارج، فأرسله المنصور لمساعدة المسلمين ببلاد
أرمينية، وكان في جيش جبريل بن يحيى، فهزم جبريل وقتل حرب رحمه الله.
وفي هذه السنة كان مهلك عبد الله بن علي عم المنصور.
وهو الذي أخذ الشام من أيدي بني أمية، كان عليها واليا حتى مات السفاح،
فلما مات دعا إلى نفسه فبعث إليه المنصور أبا مسلم الخراساني فهزمه أبو
مسلم وهرب عبد الله إلى عند أخيه سليمان بن علي والي البصرة فاختفى
عنده مدة ثم ظهر المنصور على أمره فاستدعى به وسجنه، فلما كان في هذه
السنة عزم المنصور على الحج فطلب عمه عيسى بن موسى - وكان ولي العهد من
بعد المنصور عن وصية
__________
(1) الحربية: اتباع عبد الله بن عمرو بن حرب الكندي قالت إن روح الاله
تناسخت في الانبياء والائمة إلى أن انتقلت
إلى عبد الله بن حرب الكندي (الفرق بين الفرق ص 185).
(*)
(10/110)
السفاح - وسلم
إليه عمه عبد الله بن علي (1) وقال له: إن هذا عدوي وعدوك، فاقتله في
غيبتي عنك ولا تتواني.
وسار المنصور إلى الحج وجعل يكتب إليه من الطريق يستحثه في ذلك ويقول
له: ماذا صنعت فيما أودعت إليك فيه ؟ مرة بعد مرة.
وأما عيسى بن موسى فإنه لما تسلم عمه حار في أمره وشاور بعض أهله فأشار
بعضهم ممن له رأي أن المصلحة تقتضي أن لا تقتله وابقه عندك وأظهر قتله
فإنا نخشى أن يطالبك به جهرة فتقول: قتلته، فيأمر بالقود فتدعي أنه
أمرك بقتله بالسر بينك وبينه فتعجز عن إثبات ذلك فيقتلك به، وإنما يريد
المنصور قتله وقتلك ليستريح منكما معا.
فتغير عيسى بن موسى عند ذلك وأخفى عمه وأظهر أنه قتله.
فلما رجع المنصور من الحج أمر أهله أن يدخلوا عليه ويشفعوا في عمه عبد
الله بن علي، وألحوا في ذلك فأجابهم إلى ذلك، واستدعى عيسى بن موسى
وقال له: إن هؤلاء شفعوا في عبد الله بن علي وقد أجبتهم إلى ذلك فسلمه
إليهم.
فقال عيسى: وأين عبد الله ؟ ذاك قتلته منذ أمرتني.
فقال المنصور: لم آمرك بذلك، وجحد ذلك وأن يكون تقدم إليه منه أمره في
ذلك، فأحضر عيسى الكتب التي كتبها إليه المنصور مرة بعد مرة في ذلك
فأنكر أن يكون أراد ذلك، وصمم على الانكار، وصمم عيسى بن موسى أنه قد
قتله، فأمر المنصور عند ذلك بقتل عيسى بن موسى قصاصا بعبد الله، فخرج
به بنو هاشم ليقتلوه، فلما جاؤوا بالسيف قال: ردوني إلى الخليفة، فردوه
إليه فقال له: إن عمك حاضر ولم أقتله، فقال: هلم به.
فأحضره فسقط في يد الخليفة وأمر بسجنه بدار جدرانها مبنية على ملح،
فلما كان من الليل أرسل على جدرانها الماء فسقط عليه البناء فهلك.
ثم إن المنصور خلع عيسى بن موسى عن ولاية العهد وقدم عليه ابنه المهدي،
وكان يجلسه فوق عيسى بن موسى عن يمينه، ثم كان لا يلتفت إلى عيسى بن
موسى ويهينه في الاذن والمشورة والدخول عليه والخروج من عنده، ثم ما
زال يقصيه ويبعده ويتهدده ويتوعده حتى خلع نفسه بنفسه، وبايع لمحمد ابن
منصور وأعطاه المنصور على ذلك نحوا من اثني عشر ألف ألف درهم، وانصلح
أمر عيسى بن موسى وبنيه عند المنصور، وأقبل عليه بعدما كان قد أعرض
عنه.
وكان قد جرت بينهما قبل ذلك
مكاتبات في ذلك كثيرة جدا، ومراودات في تمهيد البيعة لابنه المهدي وخلع
عيسى نفسه، وأن العامة لا يعدلون بالمهدي أحدا.
وكذلك الامراء والخواص.
ولم يزل به حتى أجاب إلى ذلك مكرها، فعوضه عن ذلك ما ذكرنا، وسارت بيعة
المهدي في الآفاق شرقا وغربا، وبعدا وقربا، وفرح المنصور بذلك فرحا
شديدا، واستقرت الخلافة في ذريته إلى زماننا هذا، فلم يكن خليفة من بني
العباس إلا من سلالته (ذلك تقدير العزيز العليم) [ الانعام: 96 ].
وفيها توفي عبيد الله بن عمر
العمري، وهاشم بن هاشم، وهشام بن حسان صاحب الحسن البصري.
__________
(1) في الطبري 9 / 264 وابن الاثير 5 / 581: كان ذلك بعد أن خلع عيسى
بن موسى نفسه من ولاية عهد المنصور بأشهر.
(*)
(10/111)
ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومائة فيها بعث المنصور حميد بن قحطبة لغزو
الترك الذين عاثوا في السنة الماضية ببلاد تفليس، فلم يجد منهم أحدا
فإنهم انشمروا إلى بلادهم.
وحج بالناس فيها جعفر بن أبي جعفر (1)، ونواب البلاد فيها هم المذكورون
في التي قبلها.
وفيها توفي جعفر بن محمد الصادق
المنسوب إليه كتاب اختلاج الاعضاء وهو مكذوب عليه.
وفيها توفي سليمان بن مهران الاعمش أحد مشايخ الحديث في ربيع الاول
منها، وعمرو بن الحارث، والعوام بن حوشب، والزبيدي، ومحمد بن عبد
الرحمن بن أبي ليلى.
ومحمد بن عجلان.
ثم دخلت سنة تسع وأربعين ومائة فيها فرغ من
بناء سور بغداد وخندقها.
وفيها غزا الصائفة العباس بن محمد فدخل بلاد الروم ومعه الحسن (2) بن
قحطبة ومحمد بن الاشعث.
ومات محمد بن الاشعث في الطريق.
وفيها حج بالناس محمد بن إبراهيم بن [ محمد بن ] علي وولاه المنصور على
مكة والحجاز عوضا عن عمه عبد الصمد بن علي.
وعمال الامصار فيها هم الذين كانوا في السنة قبلها.
وفيها توفي زكريا بن أبي زائدة،
وكهمس بن الحسن، والمثنى بن الصباح.
وعيسى بن عمرو أبو عمرو الثقفي البصري النحوي شيخ سيبويه.
يقال إنه من موالي خالد بن الوليد، وإنما نزل في ثقيف فنسب إليهم.
كان إماما كبيرا جليلا في اللغة والنحو والقراءات، أخذ ذلك عن عبيد
الله بن كثير وابن المحيص وعبد الله بن أبي إسحاق، وسمع الحسن البصري
وغيرهم.
وعنه الخليل بن أحمد والاصمعي وسيبويه.
ولزمه وعرف به وانتفع به، وأخذ كتابه الذي سماه بالجامع فزاد عليه
وبسطه، فهو كتاب سيبويه اليوم، وإنما هو كتاب شيخه، وكان سيبويه يسأل
شيخه الخليل بن أحمد عما أشكل عليه فيه، فسأله الخليل أيضا عما صنف
عيسى بن عمر فقال: جمع بضعا وسبعين كتابا ذهبت كلها إلا كتاب الاكمال،
وهو بأرض فارس.
وهو الذي أشتغل فيه وأسألك عن غوامضه، فأطرق الخليل ساعة ثم أنشد: ذهب
النحو جميعا كله * غير ما أحدث عيسى بن عمر ذاك إكمال وهذا جامع * وهما
للناس شمس وقمر وقد كان عيسى يغرب ويتقعر في عبارته جدا.
وقد حكى الجوهري عنه في الصحاح: أنه سقط يوما عن حماره فاجتمع عليه
الناس فقال: ما لكم تكأكأتم علي تكأكؤكم على ذي مرة (3) ؟ افرنقعوا
__________
(1) في ابن الاثير 5 / 589: أبو جعفر المنصور.
(2) من الطبري 9 / 276 وابن الاثير 5 / 590 وفي الاصل: الحسين وهو
تحريف.
(3) في رواية ابن خلكان 3 / 487 عن الصحاح: جنة (وانظر الصحاح ص 66 و
1258).
(*)
(10/112)
عني.
معناه: ما لكم تجمعتم علي تجمعكم على مجنون ؟ انكشفوا عني.
وقال غيره: كان به ضيق النفس فسقط بسببه فاعتقد الناس أنه مصروع.
فجعلوا يعودونه ويقرأون عليه، فلما أفاق من غشيته قال، ما قال: فقال
بعضهم: إني حسبته - يتكلم بالفارسية - وذكر ابن خلكان أنه كان صاحبا
لابي عمرو بن العلاء، وأن عيسى بن عمر قال يوما لابي عمرو بن العلاء:
أنا أفصح من معد بن عدنان.
فقال له أبو عمرو كيف تقرأ هذا البيت: قد كن يخبأن الوجوه تسترا *
فاليوم حين بدأن للنظار (1)
أو بدين ؟ فقال بدين.
فقال أبو عمرو: أخطأت، ولو قال: بدأن لاخطأ أيضا.
وإنما أراد أبو عمرو تغليطه، وإنما الصواب بدون من بدا يبدو إذا ظهر،
وبدأ يبدأ إذا شرع في الشئ.
ثم دخلت سنة خمسين ومائة من الهجرة
فيها خرج رجل من الكفرة يقال له أستاذسيس في بلاد خراسان فاستحوذ على
أكثرها، والتف معه نحو من ثلاثمائة ألف، وقتلوا من المسلمين هنالك خلقا
كثيرا، وهزموا الجيوش التي في تلك البلاد، وسبوا خلقا كثيرا، وتحكم
الفساد بسببهم، وتفاقم أمرهم، فوجه المنصور خازم بن خزيمة إلى ابنه
المهدي ليوليه حرب تلك البلاد، ويضم إليه من الاجناد ما يقاوم أولئك.
فنهض المهدي في ذلك نهضة هاشمية، وجمع لخازم بن خزيمة الامرة على تلك
البلاد والجيوش، وبعثه في نحو من أربعين ألفا، فسار إليهم وما زال
يراوغهم ويماكرهم ويعمل الخديعة فيهم حتى فاجأهم بالحرب، وواجههم
بالطعن والضرب، فقتل منهم نحوا من سبعين ألفا، وأسر منهم أربعة عشر
ألفا، وهرب ملكهم استاذسيس فتحرز في جبل، فجاء خازم إلى تحت الجبل وقتل
أولئك الاسرى كلهم ولم يزل يحاصره حتى نزل على حكم بعض الامراء، فحكم
أن يقيد بالحديد هو وأهل بيته، وأن يعتق من معه من الاجناد - وكانوا
ثلاثين ألفا - ففعل خازم ذلك كله وأطلق لكل واحد ممن كان مع استاذسيس
ثوبين، وكتب بما وقع من الفتح إلى المهدي، فكتب المهدي بذلك إلى أبيه
المنصور.
وفيها عزل الخليفة عن إمرة المدينة جعفر بن سليمان وولاها الحسن بن زيد
بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
وفيها حج بالناس عبد الصمد بن علي عم الخليفة.
وتوفي فيهما جعفر ابن أمير المؤمنين المنصور ودفن أولا بمقابر بني هاشم
من بغداد، ثم نقل منها إلى موضع آخر.
وفيها توفي عبد الملك بن عبد العزيز
بن جريج أحد أئمة أهل الحجاز، ويقال إنه أول من جمع السنن.
وعثمان بن الاسود، وعمر بن محمد بن زيد.
وفيها توفي الامام أبو حنيفة.
__________
(1) البيت للربيع بن زياد العبسي.
(*)
(10/113)
ذكر ترجمته
هو الامام أبو حنيفة واسمه النعمان بن ثابت التيمي مولاهم الكوفي (1)،
فقيه العراق، وأحد أئمة الاسلام، والسادة الاعلام، وأحد أركان العلماء،
وأحد الائمة الاربعة أصحاب المذاهب المتنوعة، وهو أقدمهم وفاة، لانه
أدرك عصر الصحابة، ورأى أنس بن مالك، قيل وغيره.
وذكر بعضهم أنه روى عن سبعة من الصحابة فالله أعلم (2).
وروى عن جماعة من التابعين منهم: الحكم وحماد بن أبي سليمان، وسلمة بن
كهيل، وعامر الشعبي، وعكرمة، وعطاء، وقتادة، والزهري، ونافع مولى ابن
عمر، ويحيى بن سعيد - الانصاري وأبو إسحاق السبيعي.
وروى عنه جماعة منهم ابنه حماد وإبراهيم بن طهمان، وإسحاق بن يوسف
الازرق، وأسد بن عمرو القاضي، والحسن بن زياد اللؤلؤي، وحمزة الزيات،
وداود الطائي، وزفر، وعبد الرزاق، وأبو نعيم، ومحمد بن الحسن الشيباني،
وهشيم، ووكيع، وأبو يوسف القاضي.
قال يحيى بن معين: كان ثقة، وكان من أهل الصدق ولم يتهم بالكذب، ولقد
ضربه ابن هبيرة على القضاء فأبى أن يكون قاضيا.
وقد كان يحيى بن سعيد يختار قوله في الفتوى، وكان يحيى يقول: لا نكذب
الله ! ما سمعنا أحسن من رأي أبي حنيفة، وقد أخذنا بأكثر أقواله.
وقال عبد الله بن المبارك: لو لا أن الله أعانني بأبي حنيفة وسفيان
الثوري لكنت كسائر الناس.
وقال في الشافعي: رأيت رجلا لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهبا
لقام بحجته.
وقال الشافعي: من أراد الفقه فهو عيال على أبي حنيفة، ومن أراد السير
فهو عيال على محمد بن إسحاق، ومن أراد الحديث فهو عيال على مالك، ومن
أراد التفسير فهو عيال على مقاتل بن سليمان.
وقال عبد الله بن داود الحريبي: ينبغي للناس أن يدعوا في صلاتهم لابي
حنيفة، لحفظه الفقه والسنن عليهم.
وقال سفيان الثوري وابن المبارك: كان أبو حنيفة أفقه أهل الارض في
زمانه.
وقال أبو نعيم: كان صاحب غوص في المسائل.
وقال مكي بن إبراهيم: كان أعلم أهل الارض.
وروى الخطيب بسنده عن أسد بن عمرو أن أبا حنيفة كان يصلي بالليل ويقرأ
القرآن في كل ليلة، ويبكي حتى يرحمه جيرانه.
ومكث أربعين سنة يصلي الصبح بوضوء العشاء، وختم القرآن في الموضع الذي
توفي فيه سبعين ألف مرة، وكانت وفاته في رجب من هذه السنة - أعني سنة
خمسين ومائة - وعن ابن معين سنة إحدى وخمسين.
وقال غيره: سنة ثلاث وخمسين.
والصحيح
الاول.
__________
(1) مولى لبني تيم الله بن ثعلبة من بكر بن وائل.
(2) في وفيات الاعيان 5 / 406: أدرك أبعة من الصحابة وهم: أنس بن مالك
و عبد الله بن أبي أوفى وسهل بن سعد الساعدي وأبو الطفيل عامر بن واثلة
ولم يلق أحدا منهم ولا أخذ عنهم.
قال الخطيب في تاريخ بغداد 13 / 324 والذهبي في التذكرة 1 / 168: رأى
أنس غير مرة.
(*)
(10/114)
وكان مولده في
سنة ثمانين فتم له من العمر سبعون سنة، وصلى عليه ببغداد ست مرات لكثرة
الزحام، وقبره هناك رحمه الله.
ثم دخلت سنة إحدى وخمسين ومائة فيها عزل
المنصور عمر بن حفص عن السند وولى عليها هشام بن عمرو التغلبي، وكان
سبب عزله عنها أن محمد بن عبد الله بن حسن لما ظهر بعث ابنه عبد الله
الملقب بالاشتر ومعه جماعة بهدية وخيول عتاق إلى عمر بن حفص هذا إلى
السند فقبلها، فدعوه إلى ؟ وة أبيه محمد بن عبد الله بن حسن في السر
فأجابهم إلى ذلك ولبسوا البياض.
ولما جاء خبر مقتل محمد بن عبد الله بالمدينة سقط في أيديهم وأخذوا في
الاعتذار إلى عبد الله بن محمد، فقال له عبد الله: إني أخشى على نفسي.
فقال: إني سأبعثك إلى ملك من المشركين في جوار أرضنا، وإنه من أشد
الناس تعظيما لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنه متى عرفك أنك من
سلالته أحبك.
فأجابه إلى ذلك، وسار عبد الله بن محمد إلى ذلك الملك وكان عنده آمنا،
وصار عبد الله يركب في موكب من الزيدية ويتصيد في جحفل من الجنود،
وانضم إليه خلق وقدم عليه طوائف من الزيدية.
وأما المنصور فإنه بعث يعتب على عمر بن حفص نائب السند، فقال رجل من
الامراء ابعثني إليه واجعل القضية مسندة إلي، فإني سأعتذر إليه من ذلك،
فإن سلمت وإلا كنت فداءك وفداء من عندك من الامراء.
فأرسله سفيرا في القضية إلى المنصور، فلما وقف بين يدي المنصور أمر
بضرب عنقه، وكتب إلى عمر بن حفص بعزله عن السند وولاه بلاد إفريقية
عوضا عن أميرها، ولما وجه
المنصور هشام بن عمرو إلى السند أمره أن يجتهد في تحصيل عبد الله بن
محمد، فجعل يتوانى في ذلك، فبعث إليه المنصور يستحثه في ذلك، ثم اتفق
الحال أن سيفا أخا هشام بن عمرو لقي عبد الله بن محمد في بعض الاماكن
فاقتتلوا فقتل عبد الله وأصحابه جميعا واشتبه عليهم مكانه في القتلى
فلم يقدروا عليه.
فكتب هشام بن عمرو إلى المنصور يعلمه يقتله، فبعث يشكره على ذلك ويأمره
بقتال الملك الذي آواه، ويعلمه أن عبد الله كان قد تسرى بجارية هنالك
وأولدها ولدا أسماه محمدا، فإذا ظفرت بالملك فاحتفظ بالغلام فنهض هشام
بن عمرو إلى ذلك الملك فقاتله فغلبه وقهره على بلاده وأمواله وحواصله،
وبعث بالفتح والاخماس وبذلك الغلام والملك إلى المنصور، ففرح المنصور
بذلك وبعث بذلك الغلام إلى المدينة، وكتب المنصور إلى نائبها يعلمه
بصحة نسبه، ويأمره أن يلحقه بأهله يكون عندهم لئلا يضيع نسبه، فهو الذي
يقال له أبو الحسن بن الاشتر.
وفي هذه السنة قدم المهدي بن المنصور على أبيه من خراسان فتلقاه أبوه
والامراء والاكابر إلى أثناء الطريق، وقدم بعد ذلك نواب البلاد والشام
وغيرها للسلام عليه وتهنئته بالسلامة والنصر.
وحمل إليه من الهدايا والتحف ما لا يحد ولا يوصف.
(10/115)
بناء الرصافة
قال ابن جرير: وفي هذه السنة شرع المنصور في بناء الرصافة لابنه المهدي
بعد مقدمه من خراسان، وهي في الجانب الشرقي من بغداد، وجعل لها سورا
وخندقا، وعمل عندها ميدانا وبستانا، وأجرى إليها الماء من نهر المهدي.
قال ابن جرير: وفيها جدد المنصور البيعة لنفسه ثم لولده المهدي من
بعده، ولعيسى بن موسى من بعدهما، وجاء الامراء والخواص فبايعوا وجعلوا
يقبلون يد المنصور ويد ابنه ويلمسون يد عيسى بن موسى ولا يقبلونها.
قال الواقدي: وولى المنصور معن بن زائدة سجستان.
وحج بالناس فيها محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي، وهو نائب مكة
والطائف، وعلى المدينة الحسن بن زيد، وعلى الكوفة محمد بن سليمان، وعلى
البصرة جابر بن زيد الكلابي، وعلى مصر زيد
ابن حاتم.
ونائب خراسان حميد بن قحطبة، ونائب سجستان معن بن زائدة.
وغزا الصائفة فيها عبد الوهاب بن إبراهيم بن محمد.
وفيها توفي حنظلة بن أبي سفيان،
وعبد الله بن عون، ومحمد بن إسحاق بن يسار، صاحب السيرة النبوية التي
جمعها وجعلها علما يهتدى به، وفخرا يستجلى به، والناس كلهم عيال عليه
في ذلك، كما قال الشافعي وغيره من الائمة.
ثم دخلت سنة ثنتين وخمسين ومائة فيها عزل
المنصور عن إمرة مصر يزيد بن حاتم وولاها محمد بن سعيد، وبعث إلى نائب
إفريقية وكان قد بلغه أنه عصى وخالف، فلما جئ به أمر بضرب عنقه (1).
وعزل عن البصر، جابر بن زيد الكلابي وولاها يزيد بن منصور.
وفيها قتلت الخوارج معن بن زائدة بسجستان.
وفيها توفي عباد بن منصور، ويونس بن يزيد الايلي. |