البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي

ثم دخلت سنة ثلاث وخمسون ومائة وفيها غضب المنصور على كاتبه أبي أيوب المورياني (2) وسجنه وسجن أخاه خالدا وبني أخيه
__________
(1) وهو هاشم بن الاساجيج كما في الاثير - وفي الطبري ابن الاشتاخنج -.
(2) المورياني نسبة إلى قرية موريان من قرى الاهواز.
وكان المنصور قد اشتراه صبيا قبل الخلافة وثقفه رآه السفاح مرة فأعجبه فاحتبسه عنده ثم اعتقه.
واختص أبو أيوب بالسفاح طيلة خلافته.
ثم قلده الخليفة المنصور وزارته - ورغم أن أبا أيوب كان لبيبا بصيرا بالامور عاقلا فطنا ذكيا - فإن هيبة المنصور كانت تصغر هيبة الوزراء وكان لا = (*)

(10/116)


الاربعة سعيدا ومسعودا ومخلدا ومحمدا، وطالبهم بالاموال الكثرة.
وكان سبب ذلك ما ذكره ابن عساكر في ترجمة أبي جعفر المنصور، وهو أنه كان في زمن شبيبته قد ورد الموصل وهو فقير لا شئ له ولا معه شئ، فأجر نفسه من بعض الملاحين حتى اكتسب شيئا تزوج به امرأة، ثم جعل يعدها ويمينها أنه من بيت سيصير الملك إليهم سريعا، فاتفق حبلها منه، ثم تطلبه بنو أمية فهرب عنها وتركها حاملا، ووضع عندها رقعة فيها نسبته، وأنه عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وأمرها إذا بلغها
أمره أن تأتيه، وإذا ولدت غلاما أن تسميه جعفرا.
فولدت غلاما فسمته جعفرا.
ونشأ الغلام فتعلم الكتابة وغوى العربية والادب، وأتقن ذلك إتقانا جيدا، ثم آل الامر إلى بني العباس، فسألت عن السفاح فإذا هو ليس صاحبها، ثم قام المنصور وصار الولد إلى بغداد فاختلط بكتاب الرسائل فأعجب به أبو أيوب المورياني صاحب ديوان الانشاء للمنصور، وحظي عنده وقدمه على غيره، فاتفق حضوره معه بين يدي الخليفة فجعل الخليفة يلاحظه، ثم بعث يوما الخادم ليأتيه بكاتب فدخل ومعه ذلك الغلام، فكتب بين يدي المنصور كتابا وجعل الخليفة ينظر إليه ويتأمله، ثم سأله عن اسمه فأخبره أنه جعفر، فقال: ابن من ؟ فسكت الغلام، فقال: مالك لا تتكلم ؟ فقال: يا أمير المؤمنين إن من خبري كيت وكيت، فتغير وجه الخليفة ثم سأله عن أمه فأخبره، وسأله عن أحوال بلد الموصل فجعل يخبره والغلام يتعجب.
ثم قام إليه الخليفة فاحتضنه وقال: أنت ابني.
ثم بعثه بعقد ثمين ومال جزيل وكتاب إلى أمه يعلمها بحقيقة الامر وحال الولد.
وخرج الغلام ومعه ذلك من باب سر الخليفة فأحرز ذلك ثم جاء إلى أبي أيوب فقال: ما بطأ بك عند الخليفة ؟ فقال: إنه استكتبني في رسائل كثيرة، ثم تقاولا، ثم فارقه الغلام مغضبا ونهض من فوره فاستأجر إلى الموصل ليعلم أمه ويحملها وأهلها إلى بغداد، إلى أبيه الخليفة.
فسار مراحل، ثم سأل عنه أبو أيوب فقيل سافر فظن أبو أيوب أنه قد أفشى شيئا من أسراره إلى الخليفة وفر منه، فبعث في طلبه رسولا وقال: حيث وجدته فرده علي.
فسار الرسول في طلبه فوجده في بعض المنازل فخنقه وألقاه في بئر وأخذ ما كان معه فرجع به إلى أبي أيوب.
فلما وقف أبو أيوب على الكتاب أسقط في يده وندم على بعثه خلفه.
وانتظر الخليفة عود ولده إليه واستبطأه وكشف عن خبره فإذا رسول أبي أيوب قد لحقه وقتله.
فحينئذ استحضر أبا أيوب وألزمه بأموال عظيمة، وما زال في العقوبة حتى أخذ جميع أمواله وحواصله ثم قتله، وجعل يقول: هذا قتل حبيبي.
وكان المنصور كلما ذكر ولده حزن عليه حزنا شديدا.
وفيها خرجت الخوارج من الصفرية وغيرهم ببلاد إفريقية.
فاجتمع منهم ثلاثمائة ألف وخمسون ألفا، ما بين فارس وراجل، وعليهم أبو حاتم الانماطي، وأبو عباد (1).
وانضم إليهم أبو قرة
__________
= يظهر لهم أبهة ولا رونق.
وغضب عليه المنصور فقتله وفي سبب قتله أقوال - انظر الطبري 9 / 284 - ابن الاثير
5 / 609 الفخري ص 176.
(1) في البيان المغرب 1 / 77: أبو حاتم الاباضي وأبو غادي، وفي الطبري: أبو عاد.
(*)

(10/117)


الصفري (1) في أربعين ألفا، فقاتلوا نائب إفريقية فهزموا جيشه وقتلوه، وهو عمر بن [ حفص بن ] (2) عثمان بن أبي صفرة الذي كان نائب السند كما تقدم، قتله هؤلاء الخوارج رحمه الله.
وأكثرت الخوارج الفساد في البلاد، وقتلوا الحريم والاولاد.
وفيها ألزم المنصور الناس بلبس قلانس سود طوال جدا، حتى كانوا يستعينون على رفعها من داخلها بالقضيب، فقال أبو دلامة الشاعر في ذلك: وكنا نرجي من إمام زيادة * فزاد الامام المرتجى (3) في القلانس تراها على هام الرجال كأنها * دنان يهود جللت بالبرانس وفيها غزا الصائفة معيوف بن يحيى الحجوري فأسر خلقا كثيرا من الروم ينيف على ستة آلاف أسير، وغنم أموالا جزيلة.
وحج بالناس المهدي بن المنصور وهو ولي العهد الملقب بالمهدي.
وكان على نيابة مكة والطائف محمد بن إبراهيم، وعلى المدينة الحسن بن زيد وعلى الكوفة محمد بن سليمان وعلى البصرة يزيد بن منصور، وعلى مصر محمد بن سعيد.
وذكر الواقدي أن يزيد بن منصور كان ولاه المنصور في هذه السنة اليمن.
فالله أعلم.
وفيها توفي أبان بن صمعة، وأسامة بن زيد الليثي، وثور بن يزيد الحمصي، والحسن بن عمارة، وقطر بن خليفة، ومعمر وهشام بن الغازي والله أعلم.
ثم دخلت سنة أبع وخمسين ومائة فيها دخل المنصور بلاد الشام وزار بيت المقدس وجهز يزيد بن حاتم في خمسين ألفا وولاه بلاد إفريقية، وأمره بقتال الخوارج، وأنفق على هذا الجيش نحوا من ثلاث وستين ألف (4) درهم، وغزا الصائفة زفر بن عاصم الهلالي.
وحج بالناس فيها محمد بن إبراهيم.
ونواب البلاد والاقاليم هم المذكورون في التي قبلها، سوى البصرة فعليها عبد الملك بن أيوب بن ظبيان.
وفيها توفي أبو أيوب الكاتب وأخوه خالد، وأمر المنصور ببني أخيه أن تقطع أيديهم وأرجلهم ثم تضرب بعد ذلك أعناقهم
ففعل ذلك بهم.
وفيها توفي:
__________
(1) في ابن عذارى: اليفرني أمير تلمسان.
(2) من الطبري 9 / 284.
(3) في الطبري: المصطفى.
(4) في الطبري 9 / 285: ألف ألف درهم.

(10/118)


أشعب الطامع (1) وهو أشعب بن جبير أبو العلاء، ويقال أبو إسحاق المديني، ويقال له أبو حميدة.
وكان أبوه مولى لآل الزبير، قتله المختار، وهو خال الواقدي (2).
روى عن عبد الله بن جعفر " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتختم في اليمين ".
وأبان بن عثمان، وسالم وعكرمة، وكان ظريفا ماجنا يحبه أهل زمانه لخلاعته وطمعه، وكان حميد الغناء، وقد وفد على الوليد بن يزيد دمشق فترجمه ابن عساكر ترجمة ذكر عنه فيها أشياء مضحكة، وأسند عن حديثين.
وروى عنه أنه سئل يوما أن يحدث فقال: حدثني عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " خصلتان من عمل بهما دخل الجنة " ثم سكت فقيل له: وما هما ؟ فقال: نسي عكرمة الواحدة ونسيت أنا الاخرى.
وكان سالم بن عبد الله بن عمر يستخفه ويستحليه ويضحك منه ويأخذه معه إلى الغابة، وكذلك كان غيره من أكابر الناس.
وقال الشافعي: عبث الولدان يوما بأشعب فقال لهم: إن ههنا أناسا يفرقون الجوز - ليطردهم عنه - فتسارع الصبيان إلى ذلك، فلما رآهم مسرعين قال: لعله حق فتبعهم.
وقال له رجل: ما بلغ من طمعك ؟ فقال: ما زفت عروس بالمدينة إلا رجوت أن تزف إلي فأكسح داري وأنظف بابي وأكنس بيتي.
واجتاز يوما برجل يصنع طبقا من قبش فقال له: زد فيه طورا أو طورين لعله أن يهدي يوما لنا فيه هدية.
وروى ابن عساكر أن أشعب غنى يوما لسالم بن عبد الله بن عمر قول بعض الشعراء: مضين بها والبدر يشبه وجهها * مطهرة الاثواب والدين وافر لها حسب زاك وعرض مهذب * وعن كل مكروه من الامر زاجر
من الخفرات البيض لم تلق ريبة * ولم يستملها عن تقى الله شاعر فقال له سالم: أحسنت فزدنا.
فغناه: ألمت بنا والليل داج كأنه * جناح غراب عنه قد نفض القطرا فقلت أعطار ثوى في رحالنا * وما علمت ليلى سوى ريحها عطرا فقال له: أحسنت ولو لا أن يتحدث الناس لاجزلت لك الجائزة، وإنك من الامر لبمكان وفيها توفي جعفر بن برقان، والحكم بن أبان، وعبد الرحمن بن زيد بن جابر، وقرة بن خالد، وأبو عمرو بن العلاء أحد أئمة القراء، واسمه كنيته، وقيل اسمه ريان والصحيح الاول.
__________
(1) انظر ترجمته في وفيات الاعيان 2 / 471 (شعيب) فوات الوفيات 1 / 197 الاغاني 19 / 134 - تهذيب ابن عساكر 3 / 75 تاريخ بغداد 7 / 37 ميزان الاعتدال 1 / 258 المحاسن والمساوئ ص 597 أخبار الظرفاء ص 31 ثمار القلوب ص (150).
(2) في وفيات الاعيان وفوات الوفيات: خال الاصمعي.
(*)

(10/119)


وهو أبو عمرو بن العلاء بن عمار بن العريان بن عبد الله بن الحصين التميمي المازني البصري، وقيل غير ذلك في نسبه، كان علامة زمانه في الفقه والنحو وعلم القراءات، وكان من كبار العلماء العاملين، يقال إنه كتب ملء بيت من كلام العرب، ثم تزهد فأحرق ذلك كله، ثم راجع الامر الاول فلم يكن عنده إلا ما كان يحفظه من كلام العرب، وكان قد لقي خلقا كثيرا من أعراب الجاهلية، كان مقدما أيام الحسن البصري ومن بعده.
ومن اختياراته في العربية قوله في تفسيره الغرة في الجنين: إنها لا يقبل فيها إلا أبيض غلاما كان أو جارية.
فهم ذلك من قوله عليه السلام: " غرة عبد أو أمة " ولو أريد أي عبد كان أو جارية لما قيده بالغرة، وإنما الغرة البياض.
قال ابن خلكان: وهذا غريب ولا أعلم هل يوافقه قول أحد من الائمة المجتهدين أم لا.
وذكر عنه أنه كان إذا دخل شهر رمضان لا ينشد بيتا من الشعر حتى ينسلخ، وإنما كان يقرأ القرآن وأنه كان يشتري له كل يوم كوزا جديدا وريحانا طريا، وقد صحبه الاصمعي نحوا من عشر سنين.
كانت وفاته في هذه السنة، وقيل في سنة ست وخمسين، وقيل تسع وخمسين فالله أعلم.
وقد قارب التسعين، وقيل إنه جاوزها فالله أعلم.
وقبره بالشام وقيل بالكوفة فالله أعلم.
وقد روى ابن عساكر في ترجمه صالح بن علي بن عبد الله بن العباس عن أبيه عن جده عبد الله ابن عباس مرفوعا " لان يربي أحدكم بعد أربع وخمسين ومائة جرو كلب خير له من أن يربي ولدا لصلبه ".
وهذا منكر جدا وفي إسناده نظر.
ذكره من طريق تمام عن خيثمة بن سليمان، عن محمد بن عوف الحمصي، عن أبي المغيرة عبد الله بن السمط، عن صالح به، وعبد الله بن السمط هذا لا أعرفه، وفد ذكره شيخنا الحافظ الذهبي في كتابه الميزان وقال: روي عن صالح بن علي حديثا موضوعا.
ثم دخلت سنة خمس وخمسين ومائة فيها دخل يزيد بن حاتم بلاد إفريقية فافتتحها عودا على بدء، وقتل من كان فيها ممن تغلب عليها من الخوارج، وقتل أمراءهم وأسر كبراءهم وأذل أشرافهم واستبدل أهل تلك البلاد بالخوف أمنا وسلامة، وبالاهانة كرامة، وكان من جملة من قتل من أمرائهم أبو حاتم وأبو عباد (1) الخارجيان.
ثم لما استقامت له وبه الامور في البلدان دخل بعد ذلك بلاد القيروان فمهدها وأقر أهلها وقرر أمورها وأزال محذورها والله سبحانه أعلم.
__________
(1) في ابن عذاري 1 / 78: أبو غادي.
(*)

(10/120)


بناء الرافقة
وهي المدينة المشهورة وفيها أمر المنصور ببناء الرافقة على منوال بناء بغداد في هذه السنة، وأمر فيها ببناء سور وعمل خندق حول الكوفة، وأخذ ما غرم على ذلك من أموال أهلها، من كل إنسان من أهل اليسار أربعين درهما.
وقد فرضها أولا خمسة دراهم، خمسة دراهم، ثم جباها أربعين أربعين، فقال في ذلك بعضهم: يا لقومي ما رأينا * من (1) أمير المؤمنينا
قسم الخمسة فينا * وجبانا أربعينا وفيها غزا الصائفة يزيد بن أسيد السلمي.
وفيها طلب ملك الروم الصلح من المنصور على أن يحمل إليه الجزية.
وفيها عزل المنصور أخاه العباس بن محمد عن الجزيرة وغرمه أموالا كثيرة.
وفيها عزل محمد بن سليمان بن علي عن إمرة الكوفة، فقيل لامور بلغته عنه في تعاطي منكرات، وأمور لا تليق بالعمال، وقيل لقتله محمد (2) بن أبي العوجاء - وقد كان ابن أبي العوجاء هذا زنديقا - يقال إنه لما أمر بضرب عنقه اعترف على نفسه بوضع أربعة آلاف حديث يحل فيها الحرام ويحرم فيها الحلال، ويصوم الناس يوم الفطر ويفطرهم في أيام الصيام، فأراد المنصور أن يجعل قتله له ذنبا فعزله به، وإنما أراد أن يقيده منه، فقال له عيسى بن موسى: يا أمير المؤمنين له تعزله بهذا ولا تقتله به، فإنه إنما قتله على الزندقة، ومتى عزلته به شكره العامة وذموك، فتركه حينا ثم عزله وولى مكانه على الكوفة عمرو ابن زهير.
وفيها عزل عن المدينة الحسن بن زيد وولى عليها عمه عبد الصمد بن علي، وجعل معه فليح ابن سليمان مشرفا عليه.
وعلى إمرة مكة محمد بن إبراهيم بن محمد، وعلى البصرة الهيثم بن معاوية، وعلى مصر محمد بن سعيد، وعلى إفريقية يزيد بن حاتم.
وفيها توفي صفوان بن عمرو وعثمان بن أبي العاتكة الدمشقيان، وعثمان بن عطاء، ومسعر بن كدام.
حماد الراوية وهو ابن أبي ليلى ميسرة - ويقال سابور - بن المبارك بن عبيد الديلمي الكوفي، مولى بكير (3) بن زيد الخيل الطائي، كان من أعلم الناس بأيام العرب وأخبارها وأشعارها ولغاتها، وهو الذي جمع السبع المعلقات الطوال، وإنما سمي الراوية لكثرة روايته الشعر عن العرب، اختبره الوليد بن يزيد بن
__________
(1) من الطبري 9 / 286 وابن الاثير 6 / 5 وفي الاصل: في.
(2) في الطبري 9 / 286 وابن الاثير 6 / 7: عبد الكريم.
(3) في المعارف لابن قتيبة ص 235: مكنف.
(*)

(10/121)


عبد الملك أمير المؤمنين في ذلك فأنشده تسعا وعشرين قصيدة على حروف المعجم، كل قصيدة نحوا
من مائة بيت، وزعم أنه لا يسمى شاعر من شعراء العرب إلا أنشد له ما لا يحفظه غيره.
فأطلق له مائة ألف درهم.
وذكر أبو محمد الحريري في كتابه درة الغواص (1): أن هشام بن عبد الملك استدعاه من العراق من نائبه يوسف بن عمر، فلما دخل عليه إذا هو في دار قوراء مرخمة بالرخام والذهب، وإذا عنده جاريتان حسنتان جدا، فاستنشده شيئا فأنشده، فقال له: سل حاجتك: فقال: كائنة ما كانت يا أمير المؤمنين ؟ فقال: وما هي ؟ فقال تطلق لي إحدى هاتين الجاريتين.
فقال: هما وما عليهما لك، وأخلاه في بعض داره وأطلق له مائة ألف درهم.
هذا ملخص الحكاية، والظاهر أن هذا الخليفة إنما هو الوليد بن يزيد، فإنه ذكر أنه شرب معه الخمر، وهشام لم يكن يشرب.
ولم يكن نائبه على العراق يوسف بن عمر، إنما كان نائبه خالد بن عبد الله القسري، وبعده يوسف بن عمر بن عبد العزيز.
كانت وفاة حماد في هذه السنة عن ستين سنة.
قال ابن خلكان: وقيل إنه أدرك أول خلافة المهدي في سنة ثمان وخمسين فالله أعلم.
وفيها قتل حماد عجرد على الزندقة.
وهو حماد بن عمر ين يوسف (2) بن كليب الكوفي، ويقال إنه واسطي، مولى بني سواد (3)، وكان شاعرا ماجنا ظريفا زنديقا متهما على الاسلام، وقد أدرك الدولتين الاموية والعباسية، ولم يشتهر إلا في أيام بني العباس، وكان بينه وبين بشار بن برد مهاجاة كثيرة، وقد قتل بشار هذا على الزندقة أيضا كما سيأتي، ودفن مع حماد هذا في قبره (4)، وقيل إن حمادا عجرد مات سنة ثمان وخمسين، وقيل إحدى وستين ومائة فالله أعلم.
ثم دخلت سنة ست وخمسين ومائة فيها ظفر الهيثم بن معاوية نائب المنصور على البصرة، بعمرو بن شداد الذي كان عاملا لابراهيم بن محمد (5) على فارس، فقيل: أمر فقطعت يداه ورجلاه وضربت عنقه ثم صلب.
وفيها عزل المنصور الهيثم بن معاوية هذا الذي فعل هذه الفعلة عن البصرة وولى عليها قاضيها سوار بن عبد الله، فجمع له بين القضاء والصلاة، وجعل على شرطتها وأحداثها سعيد بن دعلج، ورجع الهيثم بن
__________
(1) انظر درة الغواص ص 177.
والقصة في تهذيب ابن عساكر ووفيات الاعيان 2 / 207.
(2) في وفيات الاعيان 2 / 210: يونس.
(3) سوأة بن عامر بن صعصعة المعروف بعجرد.
(4) كتب على قبريهما أبو هشام الباهلي: قد تبع الاعمى قفا عجرد * فأصبحا جارين في دار صارا جميعا في يدي مالك * في النار أو الكافر في النار (5) في الطبري وابن الاثير: عبد الله.
(*)

(10/122)


معاوية قاتل عمرو بن شداد إلى بغداد فمت فيها فجأة في هذه السنة، وهو على بطن جارية له، وصلى عليه المنصور ودفن في مقابر بني هاشم، ويقال إنه أصابته دعوة عمر بن شداد الذي قتله تلك القتلة، فليتق العبد الظلم.
وحج بالناس العباس بن محمد أخو المنصور.
ونواب البلادهم المذكورون في التي قبلها.
وعلى فارس والاهواز وكور دجلة عمارة بن حمزة، وعلى كرمان والسند هشام بن عمرو.
وفيها توفي حمزة الزيات في قول.
وهو أحد القراء المشهورين والعباد المذكورين، وإليه تنسب المدود الطويلة في القراءة اصطلاحا من عنده، وقد تلكم فيه بسببها بعض الائمة وأنكروها عليه.
وسعيد بن أبي عروبة، وهو أول من جمع السنن في قول، وعبد الله بن شوذب، وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم الافريقي، وعمر بن ذر.
ثم دخلت سنة سبع وخمسين ومائة فيها بنى المنصور قصره المسمى بالخلد في بغداد، تفاؤلا بالتخليد في الدنيا، فعند كماله مات وخرب القصر من بعده، وكان المستحث في عمارته أبان بن صدقة، والربيع مولى المنصور وهو حاجبه.
وفيها حول المنصور الاسواق من قرب دار الامارة إلى باب الكرخ.
وقد ذكرنا فيما تقدم سبب ذلك.
وفيها أمر بتوسعة الطرقات.
وفيها أمر بعمل جسر عند باب الشعير.
وفيها استعرض المنصور جنده وهم ملبسون السلاح وهو أيضا لابس سلاحا عظيما، وكان ذلك عند دجلة.
وفيها عزل عن السند هشام بن عمرو وولى عليها سعيد (1) بن الخليل.
وفيها غزا الصائفة يزيد بن أسيد السلمي
فأوغل في بلاد الروم، وبعث سنانا مولى البطال مقدمة بين يديه ففتح حصونا وسبى وغنم.
وفيها حج بالناس إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي.
ونواب البلاد هم المذكورون في التي قبلها.
وفيها توفي الحسين بن واقد، والامام الجليل علامة الوقت أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الاوزاعي فقيه أهل الشام وإمامهم.
وقد بقي أهل دمشق وما حولها من البلاد على مذهبه نحوا من مائتين وعشرين سنة.
شئ من ترجمة الاوزاعي رحمه الله هو عبد الرحمن بن عمرو بن محمد (2) أبو عمرو الاوزاعي.
والاوزاع بطن من حمير وهو من أنفسهم، قاله محمد بن سعد.
وقال غيره: لم يكن من أنفسهم وإنما نزل في محلة الاوزاع، وهي قرية خارج باب الفراديس من قرى دمشق، وهو ابن عم يحيى بن عمرو الشيباني.
قال أبو زرعة: وأصله
__________
(1) في الطبري 9 / 288 وابن الاثير: 6 / 13: معبد.
(2) في ابن خلكان 3 / 127: يحمد.
(*)

(10/123)


من سبي السند فنزل الاوزاع فغلب عليه النسبة إليها.
وقال غيره: ولد ببعلبك ونشأ بالبقاع يتيما في حجر أمه، وكانت تنتقل به من بلد إلى بلد، وتأدب بنفسه، فلم يكن في أبناء الملوك والخلفاء والوزراء والتجار وغيرهم أعقل منه، ولا أورع ولا أعلم، ولا أفصح ولا أوقر ولا أحلم، ولا أكثر صمتا منه، ما تكلم بكلمة إلا كان المتعين على من سمعها من جلسائه أن يكتبها عنه، من حسنها، وكان يعاني الرسائل والكتابة، وقد اكتتب مرة في بعث إلى اليمامة فسمع من يحيى بن أبي كثير وانقطع إليه فأرشده إلى الرحلة إلى البصرة ليسمع من الحسن وابن سيرين.
فسار إليها فوجد الحسن قد توفي من شهرين ووجد ابن سيرين مريضا، فجعل يتردد لعيادته، فقوي المرض به ومات ولم يسمع منه الاوزاعي شيئا.
ثم جاء فنزل دمشق بمحلة الاوزاع خارج باب الفراديس، وساد أهلها في زمانه وسائر البلاد في الفقه والحديث والمغازي وغير ذلك من علوم الاسلام.
وقد أدرك خلقا من التابعين وغيرهم، وحدث عنه جماعات من سادات المسلمين، كمالك بن أنس والثوري والزهري، وهو من شيوخه.
وأثنى عليه غير واحد من الائمة، وأجمع المسلمون على عدالته وإمامته.
قال مالك: كان الاوزاعي إماما يقتدى
به.
وقال سفيان بن عيينة وغيره: كان الاوزاعي إمام أهل زمانه، وقد حج مرة فدخل مكة وسفيان الثوري آخذ بزمام جمله، ومالك بن أنس يسوق به، والثوري يقول: أفسحوا للشيخ حتى أجلساه عند الكعبة، وجلسا بين يديه يأخذان عنه.
وقد تذاكر مالك والاوزاعي مرة بالمدينة من الظهر حتى صليا العصر، ومن العصر حتى صليا المغرب، فغمره الاوزاعي في المغازي، وغمره مالك في الفقه.
أو في شئ من الفقه.
وتناظر الاوزاعي والثوري في مسجد الخيف في مسألة رفع اليدين في الركوع والرفع منه.
فاحتج الاوزاعي على الرفع في ذلك بما رواه عن الزهري عن سالم عن أبيه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في الركوع والرفع منه ".
واحتج الثوري على ذلك بحديث يزيد بن أبي زياد.
فغضب الاوزاعي وقال: تعارض حديث الزهري بحديث يزيد بن أبي زياد وهو رجل ضعيف ؟ فاحمر وجه الثوري، فقال الاوزاعي: لعلك كرهت ما قلت ؟ قال: نعم.
قال: فقم بنا حتى نلتعن عند الركن أينا على الحق.
فسكت الثوري.
وقال هقل بن زياد: أفتى الاوزاعي في سبعين ألف مسألة بحدثنا.
وأخبرنا.
وقال أبو زرعة: روي عنه ستون ألف مسألة.
وقال غيرهما: أفتى في سنة ثلاث عشرة ومائة وعمره إذ ذاك خمس وعشرون سنة، ثم لم يزل يفتي حتى مات وعقله زاك.
وقال يحيى القطان عن مالك: اجتمع عندي الاوزاعي والثوري وأبو حنيفة فقلت: أيهم أرجح ؟ قال: الاوزاعي.
وقال محمد بن عجلان: لم أر أحدا أنصح للمسلمين من الاوزاعي.
وقال غيره: ما رئي الاوزاعي ضاحكا مقهقها قط، ولقد كان يعظ الناس فلا يبقى أحد في مجلسه إلا بكى بعينه أو بقلبه، وما رأيناه يبكي في مجلسه قط وكان إذا خلى بكى حتى يرحم.
وقال يحيى بن معين: العلماء أربعة: الثوري، وأبو حنيفة ومالك، والاوزاعي.
قال أبو حاتم: كان ثقة متبعا لما سمع.
قالوا: وكان الاوزاعي لا يلحن في كلامه، وكانت كتبه ترد على المنصور فينظر فيها ويتأملها ويتعجب من فصاحتها وحلاوة عبارتها.
وقد قال المنصور يوما لاحظي كتابه عنده - وهو سليمان بن مجالد -: ينبغي أن نجيب الاوزاعي على ذلك

(10/124)


دائما، لنستعين بكلامه فيما نكاتب به إلى الآفاق إلى من لا يعرف كلام الاوزاعي.
فقال: والله يا أمير المؤمنين لا يقدر أحد من أهل الارض على مثل كلامه ولا على شئ منه.
وقال الوليد بن مسلم: كان
الاوزاعي إذا صلى الصبح جلس يذكر الله سبحانه حتى تطلع الشمس، وكان يأثر عن السلف ذلك.
قال: ثم يقومون فيتذاكرون في الفقه والحديث.
وقال الاوزاعي: رأيت رب العزة في المنام فقال: أنت الذي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ؟ فقلت: بفضلك أي رب.
ثم قلت: يا رب أمتني على الاسلام.
فقال: وعلى السنة.
وقال محمد بن شعيب بن شابور: قال لي شيخ بجامع دمشق: أنا ميت في يوم كذا وكذا.
فلما كان في ذلك اليوم رأيته في صحن الجامع يتفلى، فقال لي: اذهب إلى سرير الموتى فاحرزه لي عندك قبل أن تسبق إليه.
فقلت: ما تقول ؟ فقال: هو ما أقول لك، وإني رأيت كأن قائلا يقول فلان قدري وفلان كذا وعثمان بن العاتكة نعم الرجل، وأبو عمرو الاوزاعي خير من يمشي على وجه الارض، وأنت ميت في يوم كذا وكذا.
قال محمد بن شعيب: فما جاء الظهر حتى مات وصلينا عليه بعدها وأخرجت جنازته.
ذكر ذلك ابن عساكر.
وكان الاوزاعي رحمه الله كثير العبادة حسن الصلاة ورعا ناسكا طويل الصمت، وكان يقول: من أطال القيام في صلاة الليل هون الله عليه طول القيام يوم القيامة، أخذ ذلك من قوله تعالى: (ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا، إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا) [ الانسان: 26 - 27 ] وقال الوليد بن مسلم: ما رأيت أحدا أشد اجتهادا من الاوزاعي في العبادة.
وقال غيره: حج فما نام على الراحلة، إنما هو في صلاة، فإذا نعس استند إلى القتب، وكان من شدة الخشوع كأنه أعمى.
ودخلت امرأة على امرأة الاوزاعي فرأت الحصير الذي يصلي عليه مبلولا فقالت لها: لعل الصلبي بال ههنا.
فقالت: هذا أثر دموع الشيخ من بكائه في سجوده، هكذا يصبح كل يوم.
وقال الاوزاعي: عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك وأقوال الرجال وإن زخرفوه وحسنوه، فإن الامر ينجلي وأنت منه على طريق مستقيم.
وقال أيضا: اصبر على السنة وقف حيث يقف القوم، وقل ما قالوا وكف عما كفوا، وليسعك ما وسعهم.
وقال: العلم ما جاء عن أصحاب محمد، وما لم يجئ عنهم فليس بعلم.
وكان يقول: لا يجتمع حب علي وعثمان إلا في قلب مؤمن.
وإذا أراد الله بقوم شرا فتح عليهم باب الجدل وسد عنهم باب العلم والعمل.
قالوا: وكان الاوزاعي من أكرم الناس وأسخاهم، وكان له في بيت المال على الخلفاء أقطاع صار إليه من بني أمية وقد وصل إليه من خلفاء بني أمية وأقاربهم وبني العباس
نحو من سبعين ألف دينار، فلم يمسك منها شيئا، ولا اقتنى شيئا من عقار ولا غيره، ولا ترك يوم مات سوى سبعة (1) دنانير كانت جهازه، بل كان ينفق ذلك كله في سبيل الله وفي الفقراء والمساكين.
ولما دخل عبد الله بن علي - عم السفاح الذي أجلى بني أمية عن الشام، وأزال الله سبحانه دولتهم على يده - دمشق فطلب الاوزاعي فتغيب عنه ثلاثة أيام ثم حضر بين يديه.
قال الاوزاعي:
__________
(1) في تذكرة الحفاظ 1 / 183: ستة دنانير.
(*)

(10/125)


دخلت عليه وهو على سرير وفي يده خيزرانة والمسودة عن يمينه وشماله، ومعهم السيوف مصلتة - والعمد الحديد - فسلمت عليه فلم يرد ونكت بتلك الخيزرانة التي في يده ثم قال: يا أوزاعي ما ترى فيما صنعنا من إزالة أيدي أولئك الظلمة عن العباد والبلاد ؟ أجهادا ورباطا هو ؟ قال: فقلت: أيها الامير سمعت يحيى بن سعيد الانصاري يقول: سمعت محمد بن إبراهيم التيمي يقول: سمعت علقمة بن وقاص يقول سمعت عمر بن الخطاب يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنما الاعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه ".
قال: فنكت بالخيزرانة أشد مما كانت ينكت، وجعل من حوله يقبضون أيديهم على قبضات سيوفهم، ثم قال: يا أوزاعي ما تقول في دماء بني أمية ؟ فقلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة ".
فنكت بها أشد من ذلك ثم قال: ما تقول في أموالهم ؟ فقلت: إن كانت في أيديهم حراما فهي حرام عليك أيضا، وإن كانت لهم حلالا فلا تحل لك إلا بطريق شرعي.
فنكت أشد مما كان ينكت قبل ذلك ثم قال: ألا نوليك القضاء ؟ فقلت: إن أسلافك لم يكونوا يشقون علي في ذلك، وإني أحب أن يتم ما ابتدؤني به من الاحسان.
فقال: كأنك تحب الانصراف ؟ فقلت: إن ورائي حرما وهم محتاجون إلى القيام عليهن وسترهن، وقلوبهن مشغولة بسببي.
قال: وانتظرت رأسي أن يسقط بين يدي، فأمرني بالانصراف.
فلا خرجت إذا برسوله من ورائي، وإذا معه مائتا دينار، فقال يقول لك الامير: استنفق هذه.
قال: فتصدقت بها، وإنما أخذتها
خوفا.
قال: وكان في تلك الايام الثلاثة صائما فيقال إن الامير لما بلغه ذلك عرض عليه الفطر عنده فأبى أن يفطر عنده.
قالوا: ثم رحل الاوزاعي من دمشق فنزل بيروت مرابطا بأهله وأولاده، قال الاوزاعي: وأعجبني في بيروت أني مررت بقبورها فإذا امرأة سوداء في القبور فقلت لها: أين العمارة ياهنتاه ؟ فقالت: إن أردت العمارة فهي هذه - وأشارت إلى القبور - وإن كنت تريد الخراب فأمامك - وأشارت إلى البلد - فعزمت على الاقامة بها.
وقال محمد بن كثير: سمعت الاوزاعي يقول: خرجت يوما إلى الصحراء فإذا رجل جراد وإذا شخص راكب على جرادة منها وعليه سلاح الحديد، وكلما قال بيده هكذا إلى جهة مال الجراد مع يده، وهو يقول: الدنيا باطل باطل باطل، وما فيها باطل باطل باطل.
وقال الاوزاعي: كان عندنا رجل يخرج يوم الجمعة إلى الصيد ولا ينتظر الجمعة فخسف ببغلته فلم يبق منها إلا أذناها، وخرج الاوزاعي يوما من باب مسجد بيروت وهناك دكان فيه رجل يبيع الناطف وإلى جانبه رجل يبيع البصل وهو يقول: يا بصل أحلى من العسل، أو قال أحلى من الناطف.
فقال الاوزاعي: سبحان الله ! أيظن هذا أن شيئا من الكذب يباح ؟ فكأن هذا ما يرى في الكذب بأسا.

(10/126)


وقال الواقدي: قال لاوزاعي كنا قبل اليوم نضحك ونلعب، أما إذا صرنا أئمة يقتدى بنا فلا نرى أن يسعنا ذلك، وينبغي أن نتحفظ.
وكتب إلى أخ له: أما بعد فقد أحيط بك من كل جانب، وإنه يسار بك في كل يوم وليلة، فاحذر الله والقيام بين يديه، وأن يكون آخر العهد بك والسلام.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثني محمد بن إدريس سمعت أبا صالح - كاتب الليث - يذكر عن الهقل ابن زياد عن الاوزاعي أنه وعظ فقال في موعظته: أيها الناس، تقووا بهذه النعم التي أصبحتم فيها على الهرب من نار الله الموقدة، التي تطلع الافئدة، فإنكم في دار الثواء فيها قليل، وأنتم عما قليل عنها راحلون، خلائف بعد القرون الماضية الذين استقبلوا من الدنيا آنقها وزهرتها، فهم كانوا أطول منكم أعمارا وأمد أجساما، وأعظم أحلاما، وأكثر أموالا وأولادا، فخددوا الجبال وجابوا الصخر بالواد، وتنقلوا في البلاد، مؤيدين ببطش شديد، وأجساد كالعماد، فما لبثت الايام والليالي أن طوت آثارهم،
وأخربت منازلهم وديارهم، وأنست ذكرهم، فهل تحس منهم من أحد أو تسمع له ركزا ؟ كانوا بلهو الامل آمنين، وعن ميقات يوم موتهم غافلين، فآبوا إياب قوم نادمين، ثم إنكم قد علمتم الذي نزل بساحتهم بياتا من عقوبة الله، فأصبح كثير منهم في ديارهم جاثمين، وأصبح الباقون المتخلفون يبصرون في نعمة الله وينظرون في آثار نقمته، وزوال نعمته عمن تقدمهم من الهالكين ينظرون والله في مساكن خالية خاوية، قد كانت بالعز محفوفة، وبالنعم معروفة، والقلوب إليها مصروفة، والاعين نحوها ناظرة، فأصبحت آية للذين يخافون العذاب الاليم، وعبرة لمن يخشى.
وأصبحتم بعدهم في أجل منقوص ودنيا منقوصة، في زمان قد ولى عفوه وذهب رخاؤه وخيره وصفوه، فلم يبق منه إلا جمة شر، وصبابة كدر، وأهاويل عبر، وعقوبات غير، وإرسال فتن وتتابع زلازل، ورذالة خلف بهم ظهر الفساد في البر والبحر، يضيقون الديار ويغلون الاسعار بما يرتكبونه من العار والشنار، فلا تكونوا أشباها لمن خدعه الامل، وغره طول الاجل، ولعبت به الاماني، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن إذا دعي بدر، وإذا نهي انتهى، وعقل مثواه فمهد لنفسه.
وقد اجتمع الاوزاعي بالمنصور حين دخل الشام ووعظه وأحبه المنصور وعظمه، ولما أراد الانصراف من بين يديه استأذنه أن لا يلبس السواد فأذن له، فلما خرج قال المنصور للربيع الحاجب: الحقه فاسأله لم كره لبس السواد ؟ ولا تعلمه أني قلت لك.
فسأله الربيع فقال: لاني لم أر محرما أحرم فيه، ولا ميتا كفن فيه، ولا عروسا جليت فيه، فلهذا أكرهه.
وقد كان الاوزاعي في الشام معظما مكرما أمره أعز عندهم من أمر السلطان، وقد هم به بعض الولاة مرة فقال له أصحابه: دعه عنك والله لو أمر أهل الشام أن يقتلوك لقتلوك.
ولما مات جلس على قبره بعض الولاة فقال: رحمك الله، فوالله لقد كنت أخاف منك أكثر مما أخاف من الذي ولاني - يعني المنصور - وقال ابن العشرين: ما مات الاوزاعي حتى جلس وحده وسمع شتمه بأذنه.

(10/127)


وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي قال: كنت جالسا عند الثوري فجاءه رجل فقال: رأيت كأن ريحانة من الغرب - يعني قلعت - قال: إن صدقت رؤياك فقد مات
الاوزاعي.
فكتبوا ذلك فجاء موت الاوزاعي في ذلك اليوم.
وقال أبو مسهر: بلغنا أن سبب موته أن امرأته أغلقت عليه باب حمام فمات فيه، ولم تكن عامدة ذلك، فأمرها سعيد بن عبد العزيز بعتق رقبة.
قال: وما خلف ذهبا ولا فضة ولا عقارا، ولا متاعا إلا ستة وثمانين (1)، فضلت من عطائه.
وكان قد اكتتب في ديوان الساحل.
وقال غيره: كان الذي أغلق عليه باب الحمام صاحب الحمام، أغلقه وذهب لحاجة له ثم جاء ففتح الحمام فوجده ميتا قد وضع يده اليمنى تحت خده وهو مستقبل القبلة رحمه الله.
قلت: لا خلاف أنه مات ببيروت مرابطا، واختلفوا في سنه ووفاته، فروى يعقوب بن سفيان عن سلمة قال: قال أحمد: رأيت الاوزاعي وتوفي سنة خمسين ومائة.
قال العباس بن الوليد البيروتي: توفي يوم الاحد أول النهار لليلتين بقيتا من صفر سنة سبع وخمسين ومائة، وهو الذي عليه الجمهور وهو الصحيح، وهو قول أبي مسهر وهشام بن عمار والوليد بن مسلم - في أصح الروايات عنه - ويحيى بن معين ودحيم وخليفة بن خياط وأبي عبيد وسعيد بن عبد العزيز وغير واحد.
قال العباس بن الوليد: ولم يبلغ سبعين سنة.
وقال غيره: جاوز السبعين، والصحيح سبع وستون سنة، لان ميلاده في سنة ثمان وثمانين على الصحيح.
وقيل إنه ولد سنة ثلاث وسبعين، وهذا ضعيف.
وقد رآه بعضهم في المنام فقال له: دلني على عمل يقربني إلى الله.
فقال: ما رأيت في الجنة درجة أعلا من درجة العلماء العاملين، ثم المحزونين.