البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
ثم دخلت سنة ثلاث وستين ومائة فيها حصر المقنع الزنديق الذي كان قد نبغ
بخراسان وقال بالتناسخ، واتبعه على جهالته
(10/154)
وضلالته خلق من
الطغام وسفهاء الانام، والسفلة من العوام، فلما كان في هذا العام لجأ
إلى قلعة كش فحاصره سعيد الحريثي (1) فألح عليه في الحصار، فلما أحس
بالغلبة تحسى سما وسم نساءه فماتوا جميعا، عليهم لعائن الله.
ودخل الجيش الاسلامي قلعته فاحتزوا رأسه وبعثوا به إلى المهدي، وكان
المهدي بحلب.
قال ابن خلكان: كان اسم المقنع عطاء، وقيل جكيم، والاول أشهر (2).
وكان أولا قصارا ثم ادعى الربوبية، مع أنه كان أعور قبيح المنظر، وكان
يتخذ له وجها من ذهب (3)، وتابعه على جهالته خلق كثير، وكان يرى الناس
قمرا يرى من مسيرة شهرين ثم يغيب، فعظم اعتقادهم له ومنعوه بالسلاح،
وكان يزعم - لعنة الله وتعالى عما يقولون علوا كبيرا - أن الله ظهر في
صورة آدم، ولهذا سجدت له الملائكة، ثم في نوح، ثم في الانبياء واحدا
واحدا، ثم تحول إلى أبي مسلم الخراساني، ثم تحول إليه.
ولما حاصروه المسلمون في قلعته التي كان جددها بناحية كش مما وراء
النهر ويقال لها سنام (4)، تحسى هو ونساؤه سما فماتوا واستحوذ المسلمون
على حواصله وأمواله.
وفيها جهز المهدي البعوث من خراسان وغيرها من البلاد لغزو الروم، وأمر
على الجميع ولده هارون الرشيد، وخرج من بغداد مشيعا له، فسار معه مراحل
(5) واستخلف على بغداد ولده موسى الهادي، وكان في هذا الجيش الحسن (6)
بن قحطبة والربيع الحاجب وخالد بن برمك - وهو مثل الوزير للرشيد ولي
العهد - ويحيى بن خالد - وهو كاتبه وإليه النفقات - وما زال المهدي مع
ولده مشيعا له حتى بلغ الرشيد إلى بلاد الروم، وارتاد هناك المدينة
المسماة بالمهدية في بلاد الروم، ثم رجع إلى الشام وزار بيت المقدس،
فسار الرشيد إلى بلاد الروم في جحافل عظيمة، وفتح الله عليهم فتوحات
كثيرة، وغنموا أموالا جزيلة جدا، وكان لخالد بن برمك في ذلك أثر جميل
لم يكن لغيره، وبعثوا بالبشارة مع سليمان بن برمك إلى المهدي فأكرمه
المهدي وأجزل عطاءه.
وفيها عزل المهدي عمه عبد الصمد بن علي عن الجزيرة وولى عليها زفر بن
عاصم الهلالي، ثم عزله وولى عبد الله بن صالح بن علي.
وفيها ولى المهدي ولده هارون الرشيد بلاد المغرب وأذربيجان وأرمينية،
وجعل على رسائله يحيى بن خالد بن برمك، وولى وعزل جماعة من النواب.
وحج بالناس فيها علي بن المهدي.
__________
(1) في الطبري 9 / 342: الحرشي.
(2) في الاثار الباقية ص 211: اسمه هاشم بن حكيم.
(3) قيل له المقنع لانه كان لا يسفر عن وجهه بل اتخذ وجها من ذهب تقنع
به فقد كان مشوه الخلق.
(4) في المشترك 254 لياقوت: وسنام أربعة مواضع والموضع الرابع منها
سنام قلعة عمرها المقنع الخارجي بما وراء النهر.
قال ابن خلكان: انها من رستاق كش.
(5) عسكر بالبردان (انظر الطبري 9 / 342 - ابن الاثير 6 / 60).
(6) من الطبري وابن الاثير، وفي الاصل: الحسين وهو تحريف.
(*)
(10/155)
وفيها توفي
إبراهيم بن طهمان، وحريز بن عثمان الحمصي الرحبي، وموسى بن علي اللخمي
المصري وشعيب بن أبي حمزة، وعيسى بن علي بن عبد الله بن عباس عم
السفاح، وإليه ينسب قصر عيسى، ونهر عيسى ببغداد، قال يحيى بن معين: كان
له مذهب جميل، وكان معتزلا للسلطان.
توفي في هذه السنة عن ثمان وسبعين سنة.
وهمام بن يحيى، ويحيى بن أبي أيوب المصري، وعبيدة بنت أبي كلاب
العابدة، بكت من خشية الله أربعين سنة حتى عميت.
وكانت تقول: أشتهي الموت فإني أخشى أن أجني على نفسي جناية تكون سبب
هلاكي يوم القيامة.
ثم دخلت سنة أربع وستين ومائة فيها غزا عبد
الكبير بن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب بلاد الروم،
فأقبل إليه ميخائيل البطريق في نحو من تسعين ألفا، فيهم طازاذ الارمني
البطريق ففشل عنه عبد الكبير ومنع المسلمين من القتال وانصرف راجعا -
فأراد المهدي ضرب عنقه فكلم فيه فحبسه في المطبق.
وفي يوم
الاربعاء في أواخر ذي القعدة أسس المهدي قصرا من لبن بعيسا باذ، ثم عزم
على الذهاب إلى الحج فأصابه حمى فرجع من أثناء الطريق، فعطش الناس في
الرجعة حتى كاد بعضهم يهلك، فغضب المهدي على يقطين صاحب المصانع، وبعث
من حيث رجع المهلب بن صالح بن أبي جعفر ليحج بالناس فحج بهم عامئذ.
وفيها توفي شيبان بن عبد الرحمن
النحوي، وعبد العزيز (1) بن أبي سلمة الماجشون، ومبارك بن فضالة صاحب
الحسن البصري.
ثم دخلت سنة خمس وستين ومائة فيها جهز
المهدي ولده الرشيد لغزو الصائفة، وأنفذ معه من الجيوش خمسة وتسعين
ألفا وسبعمائة وثلاثة وتسعين رجلا، وكان معه من النفقة مائة ألف دينار،
وأربعة (2) وتسعون ألف دينار، وأربعمائة وخمسون دينارا، ومن الفضة (3)
إحدى وعشرون ألف ألف وأربعمائة ألف، وأربعة عشر ألفا وثمانمائة درهم.
قال ابن جرير.
فبلغ بجنوده خليج البحر الذي على القسطنطينية، وصاحب الروم يومئذ أغسطة
امرأة أليون، ومعها ابنها في حجرها من الملك الذي توفي عنها، فطلبت
الصلح من الرشيد على أن تدفع له سبعين ألف دينار في كل سنة، فقبل ذلك
منها، وذلك بعد ما قتل من الروم في الوقائع أربعة وخمسين ألفا وأسر من
الذراري خمسة آلاف رأس وستمائة وأربعة (4) وأربعين رأسا،
__________
(1) في ابن الاثير 6 / 65: عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة
الماجشون.
(2) في ابن الاثير: وثلاثة.
(3) في الطبري وابن الاثير: ومن الورق.
(4) في الطبري وابن الاثير: وثلاثة.
(*)
(10/156)
وقتل من الاسرى
ألفي قتيل صبرا، وغنم من الدواب بأدواتها عشرين ألف فرس، وذبح من البقر
والغنم مائة ألف رأس.
وبيع البرذون بدرهم والبغل بأقل من عشرة دراهم، والدرع بأقل من درهم
وعشرون سيفا بدرهم.
فقال في ذلك مروان بن أبي حفصة: أطفت بقسطنطينية الروم مسندا * إليها
القنا حتى اكتسى الذل سورها
وما رمتها حتى أتتك ملوكها * بجزيتها والحرب تغلي قدورها وحج بالناس
صالح بن أبي جعفر المنصور، وفيها توفي
سليمان بن المغيرة، وعبد الله بن العلاء بن دبر، وعبد الرحمن بن نائب
بن ثوبان.
ووهب بن خالد.
ثم دخلت سنة ست وستين ومائة في المحرم منها
قدم الرشيد من بلاد الروم فدخل بغداد في أبهة عظيمة ومعه الروم يحملون
الجزية من الذهب وغيره.
وفيها أخذ المهدي البيعة لولده هارون من بعد موسى الهادي، ولقب
بالرشيد.
وفيها سخط المهدي على يعقوب بن داود وكان قد حظي عنده حتى استوزره
وارتفعت منزلته في الوزارة حتى فوض إليه جميع أمر الخلافة، وفي ذلك
يقول بشار بن برد: بني أمية هبوا طال نومكم * إن الخليفة يعقوب بن داود
ضاعت خلافتكم يا قوم فاطلبوا * خليفة الله بين الخمر (1) والعود فلم
تزل السعاة والوشاة بينه وبين الخليفة حتى أخرجوه عليه، وكلما سعوا به
إليه دخل إليه فأصلح أمره معه، حتى وقع من أمره ما سأذكره، وهو أنه دخل
ذات يوم على المهدي في مجلس عظيم قد فرش بأنواع الفرش وألوان الحرير،
وحول ذلك المكان أصحان مزهرة بأنواع الازاهير، فقال: يا يعقوب كيف رأيت
مجلسنا هذا ؟ فقال: يا أمير المؤمنين ما رأيت أحسن منه.
فقال: هو لك بما فيه، وهذه الجارية ليتم بها سرورك، ولي إليك حاجة أحب
أن تقضيها.
قلت: وما هي يا أمير المؤمنين ؟ فقال: حتى تقول نعم.
فقلت: نعم ! وعلى السمع والطاعة.
فقال ! الله ؟ فقلت: ألله.
قال: وحياة رأسي قلت وحياة رأسك.
فقال: ضع يدك على رأسي وقل ذلك، ففعلت.
فقال: إن ههنا رجلا من العلويين أحب أن تكفينيه، والظاهر أن الحسن بن
إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب.
فقلت: نعم، فقال: وعجل علي، ثم أمر بتحويل ما في ذلك المجلس إلى منزلي
وأمر لي بمائة ألف درهم وتلك الجارية، فما فرحت بشئ فرحي بها.
فلما صارت
__________
(1) في الطبري 10 / 4: وابن الاثير 6 / 70: بين الدف والعود، وفي
الفخري ص 185: بين الناي والعود وفي الاغاني 3 / 243: بين الزق.
(*)
(10/157)
بمنزلي حجبتها
في جانب الدار في خدر، فأمرت بذلك العلوي فجئ به فجلس إلي فتكلم، فما
رأيت أعقل منه ولا أفهم.
ثم قال لي: يا يعقوب تلقى الله بدمي وأنا رجل من ولد فاطمة بنت رسول
الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقلت: لا والله ولكن اذهب حيث شئت وأين شئت.
فقال: إني أختار بلاد كذا وكذا.
فقلت: أذهب كيف شئت، ولا يظهرن عليك المهدي فتهلك وأهلك.
فخرج من عندي وجهزت معه رجلين يسفرانه ويوصلانه بعض البلاد، ولم أشعر
بأن الجارية قد أحاطت علما بما جرى، وأنها كالجاسوس علي، فبعثت بخامدها
إلى المهدي فأعلمته بما جرى، فبعث المهدي إلى تلك الطريق فردوا ذلك
العلوي فحبسه عنده في بيت من دار الخلافة، وأرسل إلي من اليوم الثاني
فذهب إليه ولم أشعر من أمر العلوي بشئ، فلما دخلت عليه قال: ما فعل
العلوي ؟ قلت: مات.
قال: ألله ! قلت ألله.
قال: فضع يدل على رأسي واحلف بحياته، ففعلت.
فقال يا غلام أخرج ما في (1) هذا البيت، فخرج العلوي فأسقط في يدي،
فقال المهدي: دمك لي حلال.
ثم أمر به فألقي في بئر في المطبق.
قال يعقوب: فكنت في مكان لا أسمع فيه ولا أبصر، فذهب بصري وطال شعري
حتى ثرث مثل البهائم، ثم مضت علي مدد متطاولة، فبينما أنا ذات يوم إذ
دعيت فخرجت من البئر فقيل لي: سلم على أمير المؤمنين.
فسلمت وأنا أظنه المهدي، فلما ذكرت المهدي قال: رحم الله المهدي.
فقلت: الهادي ؟ فقال: رحم الله الهادي.
فقلت: الرشيد ؟ قال: نعم.
فقلت: يا أمير المؤمنين قد رأيت ما حل بي من الضعف والعلة، فإن رأيت أن
تطلقني.
فقال: أين تريد ؟ قلت: مكة.
فقال: اذهب راشدا، فسار إلى مكة فما لبث بها إلا قليلا حتى مات رحمه
الله تعالى.
وقد كان يعقوب هذا يعظ المهدي في تعاطيه شرب النبيذ بين يديه، وكثرة
سماع الغناء فكان يلومه على ذلك ويقول: ما على هذا استوزرتني، ولا على
هذا صحبتك، أبعد الصلوات الخمس في المسجد الحرام يشرب الخمر ويغني بين
يديك ؟ فيقول له المهدي: فقد سمع عبد الله بن جعفر، فقال له يعقوب: إن
ذلك لم يكن له من حسناته، ولو كان هذا قربة لكان كلما داوم عليه العبد
أفضل.
وفي ذلك يقول بعض الشعراء حثا للمهدي على ذلك:
فدع عنك يعقوب بن داود جانبا * وأقبل على صهباء طيبة النشر وفيها ذهب
المهدي إلى قصره المسمى بعيسا باذ - بني له بالآجر بعد القصر الاول
الذي بناه باللبن - فسكنه وضرب هناك الدراهم والدنانير.
وفيها أمر المهدي بإقامة البريد بين مكة والمدينة واليمن ولم يفعل أحد
هذا قبل هذه السنة.
وفيها خرج موسى الهادي إلى جرجان.
وفيها ولى القضاء أبا يوسف (2) صاحب أبي حنيفة.
وفيها حج بالناس إبراهيم بن يحيى بن محمد عامل الكوفة.
ولم يكن
__________
(1) في الفخري ص 186: من في هذا البيت.
(2) وهو يعقوب بن ابراهيم بن حبيب بن خنيس بن سعد بن حبنة الانصاري.
(*)
(10/158)
في هذه السنة
صائفة للهدنة التي كانت بين الرشيد وبين الروم.
وفيها توفي صدقة بن عبد الله
السمين، وأبو الاشهب العطاردي، وأبو بكر النهشلي، وعفير بن معدان.
ثم دخلت سنة سبع وستين ومائة فيها وجه
المهدي ابنه موسى الهادي إلى جرجان في جيش كثيف لم ير مثله، وجعل على
رسائله أبان بن صدقة.
وفيها توفي عيسى بن موسى الذي كان ولي العهد من بعد المهدي: مات
بالكوفة فأشهد نائبها روح بن حاتم على وفاته القاضي وجماعة من الاعيان.
ثم دفن.
وكان قد امتنع من الصلاة عليه فكتب إليه المهدي يعنفه أشد التعنيف،
وأمر بمحاسبته على عمله.
وفيها عزل المهدي أبا عبيد الله معاوية بن عبيد الله عن ديوان الرسائل
وولاه الربيع بن يونس الحاجب، فاستخلف فيه سعيد بن واقد وكان أبو عبيد
الله يدخل على مرتبته.
وفيها وقع وباء شديد وسعال كثير ببغداد والبصرة، وأظلمت الدنيا حتى
كانت كالليل حتى تعالى النهار، وكان ذلك لليال (1) بقين من ذي الحجة من
هذه السنة.
وفيها تتبع المهدي جماعة من الزنادقة في سائر الآفاق فاستحضرهم وقتلهم
صبرا بين يديه، وكان المتولي أمر مزنادقة عمر الكلواذي.
وفيها أمر المهدي بزيادة كثيرة في المسجد الحرام، فدخل في ذلك دور
كثيرة، وولى ذلك ليقطين بن موسى الموكل بأمر الحرمين، فلم يزل في عمارة
ذلك حتى مات المهدي كما سيأتي.
ولم يكن للناس صائفة للهدنة.
وحج بالناس نائب المدينة إبراهيم بن [ يحيى بن ] (2) محمد
وتوفي بعد فراغه من الحج بأيام.
وولى مكانه إسحاق بن عيسى بن علي بن عبد الله بن عباس.
وممن توفي فيها من الاعيان بشار بن
برد أبو معاذ الشاعر مولى عقيل، ولد أعمى، وقال الشعر وهو دون عشر
سنين، وله التشبيهات التي لم يهتد إليها البصراء.
وقد أثنى عليه الاصمعي والجاحظ وأبو تمام وأبو عبيدة، وقال له ثلاثة
عشر ألف بيت من الشعر.
فلما بلغ المهدي أنه هجاه وشهد عليه قوم أنه زنديق أمر به فضرب حتى مات
عن بضع وسبعين سنة.
وقد ذكره ابن خلكان في الوفيات، فقال: بشار بن برد بن يرجوخ العقيلي
مولاهم، وقد نسبه صاحب الاغاني فأطال نسبه.
وهو بصري قدم بغداد أصله من طخارستان (3)، وكان ضخما عظيم الخلق، وشعره
في أول طبقات المولدين، ومن شعره البيت المشهور:
__________
(1) في ابن الاثير 6 / 76: لثلاث ليال مضين.
(2) من الطبري وابن الاثير ومروج الذهب.
(3) طخارستان: ناحية كبيرة مشتملة على بلدان وراء نهر بلخ على جيحون
خرج منها جماعة من العلماء.
(*)
(10/159)
هل تعلمين وراء
الحب منزلة * تدنى إليك فإن الحب أقصاني وقوله: أنا والله أشتهي سحر
عيني * ك وأخشى مصارع العشاق وله: يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة *
والاذن تعشق قبل العين أحيانا قالوا لم لا نرى عينيك (1) قلت لهم *
الاذن كالعين تروى القلب مكانا وله: إذا بلغ الرأي التشاور (2) فاستعن
* بحزم نصيح أو نصيحة حازم ولا تجعل الشورى عليك غضاضة * فريش (3)
الخوافي قوة للقوادم
وما خير كف أمسك الغل أختها * وما خير سيف لم يؤيد بقائم كان بشار يمدح
المهدي حتى وشى إليه الوزير أنه هجاه وقذفه ونسبه إلى شئ من الزندقة،
وأنه يقول بتفضيل النار على التراب، وعذر إبليس في السجود لآدم، وأنه
أنشد: الارض مظلمة والنار مشرقة * والنار معبودة مذ كانت النار فأمر
المهدي بضربه فضرب حتى مات.
ويقال: إنه غرق ثم نقل إلى البصرة في هذه السنة.
وفيها توفي الحسن بن صالح بن حيي،
وحماد بن سلمة، والربيع بن مسلم، وسعيد بن عبد العزيز بن مسلم، وعتبة
الغلام: وهو عتبة بن أبان بن صمعة أحد العباد المشهورين البكائين
المذكورين، كان يأكل من عمل يده في الخوص، ويصوم الدهر ويفطر على الخبز
والملح.
والقاسم الحذاء، وأبو هلال محمد بن سليم، ومحمد بن طلحة، وأبو حمزة
اليشكري محمد بن ميمون.
ثم دخلت سنة ثمان وستين ومائة فيها في
رمضان منها نقضت الروم ما بينهم وبين المسلمين من الصلح الذي عقده
هارون الرشيد عن أمر أبيه المهدي، ولم يستمروا على الصلح إلا ثنتين
وثلاثين شهرا، فبعث نائب الجزيرة خيلا إلى
__________
(1) في وفيات الاعيان 1 / 272: قالوا بمن لا ترى تهذي...* الاذن كالعين
توفي...(2) في وفيات الاعيان، والاغاني 3 / 157: المشورة...* برأي (3)
في الاغاني: فإن.
(*)
(10/160)
الروم فقتلوا
وأسروا وغنموا وسلموا.
وفيها اتخذ المهدي دواوين الازمة (1) ولم يكن بنو أمية يعرفون ذلك.
وفيها حج بالناس علي بن محمد المهدي الذي يقال له ابن ريطة.
وفيها توفي الحسن بن زيد (2) بن حسن
بن علي [ بن علي ] (3) بن أبي طالب، ولاه المنصور المدينة خمس سنين، ثم
غضب عليه فضربه وحبسه وأخذ جميع ماله.
وحماد عجرد.
كان ظريفا ماجنا شاعرا، وكان ممن يعاشر الوليد بن
يزيد ويهاجي بشار بن برد.
وقدم على المهدي ونزل الكوفة واتهم بالزندقة.
قال ابن قتيبة في طبقات الشعراء: ثلاثة حمادون بالكوفة يرمون بالزندقة
حماد الرواية، وحماد عجرد، وحماد بن الزبرقان النحوي.
وكانوا يتشاعرون ويتماجنون.
وخارجة بن مصعب، وعبد الله بن الحسن بن الحصين بن أبي الحسن البصري،
قاضي البصرة بعد سوار.
سمع خالدا الحذاء وداود بن أبي هند، وسعيدا الجريري.
وروى عنه ابن مهدي.
وكان ثقة فقيها له اختيارات تعزى إليه غريبة في الاصول والفروع، وقد
سئل عن مسألة فأخطأ في الجواب فقال له قائل: الحكم فيها كذا وكذا.
فأطرق ساعة ثم قال: إذا أرجع وأنا صاغر، لان أكون ذنبا في الحق أحب إلي
من أن أكون رأسا في الباطل.
توفي في ذي القعدة من هذه السنة، وقيل بعد ذلك بعشر سنين فالله أعلم.
غوث بن سليمان بن زياد بن ربيعة أبو يحيى الجرمي، قاضي مصر، كان من
خيار الحكام، ولي الديار المصرية ثلاث مرات في أيام المنصور والمهدي.
وفليح بن سليمان، وقيس بن الربيع في قول، ومحمد بن عبد الله بن علاثة
بن علقمة بن مالك، أبو اليسر العقيلي، قاضي الجانب الشرقي من بغداد
للمهدي، هو وعافية بن يزيد.
وكان يقال لابن علاثة قاضي الجن، لانه كانت بئر يصاب من أخذ منها شيئا
فقال: أيها الجن ! إنا حكمنا أن لكم الليل ولنا النهار.
فكان من أخذ منها شيئا في النهار لم يصبه شئ.
قال ابن معين: كان ثقة.
وقال البخاري: في حفظه شئ.
ثم دخلت سنة تسع وستين ومائة فيها في
المحرم منها توفي المهدي بن المنصور بمكان يقال له ما سبذان، بالحمى،
وقيل مسموما وقيل عضه فرس فمات.
وهذه ترجمته هو محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس،
أبو عبد الله المهدي، أمير المؤمنين
__________
(1) كان ديوان الازمة - واحدها الزمام - من أهم دواوين الدولة - ويشبه
ديوان المحاسبة اليوم - وكانت مهنة صاحب هذا الديوان جمع ضرائب بلاد
العراق أغنى أقاليم الدولة العباسية وتقديم حساب الضرائب في الاقاليم
الاخرى.
ومن اختصاصاته أيضا جمع الضرائب النوعية المسماة بالمعادن وكانت تجمع
لرجل يضبطها بزمام يكون له على كل
ديوان - وقد جمعها عمر بن بزيع - فيتخذ دواوين الازمة ويولي على كل
منها رجلا.
(2) في نسخ المطبوعة: يزيد.
(3) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(*)
(10/161)
وإنما لقب
بالمهدي رجاء أن يكون الموعود به في الاحاديث فلم يكن به، وإن اشتركا
في الاسم فقد افترقا في الفعل، ذاك يأتي في آخر الزمان عند فساد الدنيا
فيملا الارض عدلا كما ملئت جورا وظلما.
وقد قيل إن في أيامه ينزل عيسى بن مريم بدمشق كما سيأتي ذلك في أحاديث
الفتن والملاحم.
وقد جاء في حديث من طريق عثمان بن عفان: أن المهدي من بني العباس، وجاء
موقوفا على ابن عباس وكعب الاحبار ولا يصح، وبتقدير صحة ذلك لا يلزم أن
يكون على التعيين، وقد ورد في حديث آخر أن المهدي من ولد فاطمة فهو
يعارض هذا والله أعلم.
وأم المهدي بن المنصور أم موسى بنت منصور بن عبد الله الحميري.
روى عن أبيه عن جده عبد الله بن عباس " أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم جهر ببسم الله الرحمن الرحيم ".
رواه عنه يحيى بن حمزة النهشلي قاضي دمشق، وذكر أنه صلى خلف المهدي حين
قدم دمشق فجهر في السورتين بالبسملة، وأسند ذلك عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم ورواه غير واحد عن يحيى بن حمزة، ورواه المهدي عن المبارك بن
فضالة، ورواه عنه أيضا جعفر بن سليمان الضبعي، ومحمد بن عبد الله
الرقاشي، وأبو سفيان سعيد بن يحيى بن مهدي.
وكان مولد المهدي في سنة ست أو سبع وعشرين ومائة، أو في سنة إحدى
وعشرين ومائة ولي الخلافة بعد موت أبيه في ذي الحجة سنة ثمان وخمسين
ومائة، وعمره إذ ذاك ثلاث وثلاثون سنة، ولد بالحميمة من أرض البلقاء،
وتوفي في المحرم من هذه السنة أعني سنة تسع وستين ومائة عن ثلاث أو
ثمان وأربعين سنة، وكانت خلافته عشر سنين وشهرا وبعض شهر، وكان أسمر
طويلا جعد الشعر، على إحدى عينيه نكتة بيضاء، قيل على عينه اليمنى،
وقيل اليسرى.
قال الربيع الحاجب: رأيت المهدي يصلي في ليلة مقمرة في بهو له عليه
ثياب حسنة، فما أدري هو أحسن أم القمر، أم بهوه، أم ثيابه.
فقرأ (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الارض وتقطعوا أرحامكم) [
محمد: 22 ] الآية.
ثم أمرني فأحضرت رجلا من أقاربه كما مسجونا فأطلقه (1).
ولما جاء خبر موت أبيه بمكة كما تقدم، كتم الامر يومين ثم نودي في
الناس يوم الخميس الصلاة جامعة، فقام فيهم خطيبا فأعلمهم موت أبيه
وقال: إن أمير المؤمنين دعي فأجاب فعند الله أحتسب أمير المؤمنين
وأستعينه على خلافة المسلمين.
ثم بايعه الناس بالخلافة يومئذ.
وقد عزاه أبو دلامة وهنأه في قصيدة له يقول فيها: عيناي واحدة ترى
مسرورة * بأميرها جذلا وأخرى تذرف تبكي وتضحك تارة ويسوءها * ما أنكرت
ويسرها ما تعرف فيسوءها موت الخليفة محرما * ويسرها أن قام هذا الارأف
ما إن رأيت كما رأيت ولا أرى * شعرا أرجله وآخر ينتف هلك الخليفة يال
أمة أحمد * وأتاكم من بعده من يخلف أهدى لهذا الله فضل خلافة * ولذاك
جنات النعيم تزخرف
__________
(1) وهو موسى بن جعفر - انظر الطبري 10 / 15 وابن الاثير 6 / 85.
(*)
(10/162)
وقد قال المهدي
يوما في خطبة: أيها الناس أسروا مثلما تعلنون من طاعتنا تهنكم العافية،
وتحمدوا العاقبة، واخفضوا جناح الطاعة لمن ينشر معدلته فيكم، ويطوي ثوب
الاصر عنكم.
وأهال عليكم السلامة ولين المعيشة من حيث أراه الله، مقدما ذلك على فعل
من تقدمه، والله لاعفين عمري من عقوبتكم، ولاحملن نفسي على الاحسان
إليكم.
قال: فأشرقت وجوه الناس من حسن كلامه.
ثم استخرج حواصل أبيه من الذهب والفضة التي كانت لا تحد ولا توصف كثرة،
ففرقها في الناس، ولم يعط أهله ومواليه منها شيئا، بل أجرى لهم أرزاقا
بحسب كفايتهم من بيت المال، لكل واحد خمسمائة في الشهر غير الاعطيات.
وقد كان أبوه حريصا على توفير بيت المال، وإنما كان ينفق في السنة ألفي
درهم من مال السراة.
وأمر المهدي ببناء مسجد الرصافة وعمل خندق وسور حولها، وبني مدنا
ذكرناها فيما تقدم.
وذكر له عن شريك بن عبد الله القاضي أنه لا يرى الصلاة خلفه، فأحضره
فتكلم معه ثم قال
له المهدي في جملة كلامه: يا بن الزانية ! فقال له شريك: مه مه يا أمير
المؤمنين فلقد كانت صوامة قوامة.
فقال له.
يا زنديق لاقتلنك.
فضحك شريك، فقال: يا أمير المؤمنين إن للزنادقة علامات وذكروا أنه هاجت
ريح شديدة، فدخل المهدي بيتا في داره فألزق خده بالتراب وقال: اللهم إن
كنت أنا المطلوب بهذه العقوبة دون الناس فها أنا ذا بين يديك، اللهم لا
تشمت بي الاعداء من أهل الاديان.
فلم يزل كذلك حتى انجلت.
ودخل عليه رجل يوما ومعه نعل فقال: هذه نعل رسول الله صلى الله عليه
وسلم قد أهديتها لك.
فقال: هاتها، فناوله إياها، فقبلها ووضعها على عينيه وأمر له بعشرة
آلاف درهم.
فلما انصرف الرجل قال المهدي: والله إني لاعلم أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم لم ير هذه النعل، فضلا عن أن يلبسها، ولكن لو رددته لذهب
يقول للناس: أهديت إليه نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فردها علي،
فتصدقه الناس، لان العامة تميل إلى أمثالها، ومن شأنهم نصر الضعيف على
القوي وإن كان ظالما، فاشترينا لسانه بعشرة آلاف درهم، ورأينا هذا أرجح
وأصلح.
واشتهر عنه أنه كان يحب اللعب بالحمام والسباق بينها، فدخل عليه جماعة
من المحدثين فيهم عتاب بن إبراهيم فحدثه بحديث أبي هريرة: " لا سبق إلا
في خف أو نعل أو حافر ".
وزاد في الحديث " أو جناح " فأمر له بعشرة آلاف.
ولما خرج قال: والله إني لاعلم أن عتابا كذب على رسول الله صلى الله
عليه وسلم ثم أمر بالحمام فذبح ولم يذكر عتابا بعدها.
وقال الواقدي: دخلت على المهدي يوما فحدثته بأحاديث فكتبها عني ثم قام
فدخل بيوت نسائه ثم خرج وهو ممتلئ غيظا فقلت: مالك يا أمير المؤمنين ؟
فقال: دخلت على الخيزران فقامت إلي ومزقت ثوبي وقالت: ما رأيت منك
خيرا، وإني والله يا واقدي إنما اشتريتها من نخاس، وقد نالت عندي ما
نالت، وقد بايعت لو لديها بأمرة المؤمنين من بعدي.
فقلت: يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنهن
يغلبن الكرام ويغلبهن اللئام ".
وقال: " خيركم خيركم
(10/163)
لاهله وأنا
خيركم لاهله، وقد خلقت المرأة من ضلع أعوج إن قومته كسرته " (1).
وحدثته في هذا الباب بكلام حضرني.
فأمر لي بألفي دينار، فلما وافيت المنزل إذا رسول الخيزران قد لحقني
بألفي دينار إلا عشرة دنانير، وإذا معه أثواب أخر، وبعثت تشكرني وتثني
علي معروفا.
وذكروا أن المهدي كان قد أهدر دم رجل من أهل الكوفة وجعل لمن جاء به
مائة ألف، فدخل الرجل بغداد متنكرا فلقيه رجل فأخذ بمجامع ثوبه ونادى:
هذا طلبة أمير المؤمنين.
وجعل الرجل يريد أن ينفلت منه فلا يقدر، فبينا هما، يتجاذبان وقد اجتمع
الناس عليهما، إذ مر أمير في موكبه - وهو معن بن زائدة (2) - فقال
الرجل ! يا أبا الوليد خائف مستجير.
فقال معن: ويلك مالك وله ؟ فقال هذا طلبة أمير المؤمنين، جعل لمن جاء
به مائة ألف.
قال معن: أما علمت أني قد أجرته ؟ أرسله من يدك.
ثم أمر بعض غلمانه فترجل وأركبه وذهب به إلى منزله، وانطلق ذلك الرجل
إلى باب الخليفة وأنهى إليهم الخبر، فبلغ المهدي فأرسل إلى معن فدخل
عليه فسلم فلم يرد عليه السلام وقال: يا معن أبلغ من أمرك أن تجير علي
؟ قال: نعم، قال: ونعم أيضا ! قال: نعم ! قد قتلت في دولتكم أربعة آلاف
مصل فلا يجار لي رجل واحد ؟ فأطرق المهدي ثم رفع رأسه إليه وقال: قد
أجرنا من أجرت يا معن.
فقال: يا أمير المؤمنين إن الرجل ضعيف، فأمر له بثلاثين ألفا.
فقال: إن جريمته عظيمة وإن جوائز الخلفاء على قدر جرائم الرعية.
فأمر له بمائة ألف، فحملت بين يدي معن إلى ذلك الرجل، فقال له معن: خذ
المال وادع لامير المؤمنين وأصلح نيتك في المستقبل.
وقدم المهدي مرة البصرة فخرج ليصلي بالناس فجاء أعرابي فقال: يا أمير
المؤمنين مر هؤلاء فلينتظروني حتى أتوضأ - يعني المؤذنين - فأمرهم
بانتظاره، ووقف المهدي في المحراب لم يكبر حتى قيل له هذا الاعرابي قد
جاء.
فكبر، فتعجب الناس من سماحة أخلاقه.
وقدم أعرابي ومعه كتاب مختوم فجعل يقول: هذا كتاب أمير المؤمنين إلي،
أين الرجل الذي يقال له الربيع الحاجب ؟ فأخذ الكتاب وجاء به إلى
الخليفة وأوقف الاعرابي وفتح الكتاب فإذا هو قطعة أديم فيها كتابة
ضعيفة، والاعرابي يزعم أن هذا خط الخليفة، فتبسم المهدي وقال: صدق
الاعرابي، هذا خطي، إني خرجت يوما إلى الصيد فضعت عن الجيش وأقبل الليل
فتعوذت بتعويذ رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع لي نار من بعيد
فقصدتها فإذا هذا الشيخ وامرأته في خباء يوقدان نارا، فسلمت عليهما
فردا السلام وفرش لي كساء وسقاني مذقة من لبن مشوب بماء، فما شربت شيئا
إلا وهي أطيب منه، ونمت نومة على تلك العباءة ما أذكر أني نمت أحلى
منها.
فقام إلى شويهة له فذبحها فسمعت امرأته تقول له: عمدت إلى مكسبك ومعيشة
أولادك
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في النكاح (50) والدارمي في النكاح (55).
(2) تقدم أن معن بن زائدة قد قتله الخوارج بسجستان سنة 152، وقيل سنة
إحدى وخمسين ومائة إن صح وفاته فيكون اقحام اسمه سهوا من الناسخ، فابن
خلكان ذكر وفاته سنة اثنتين وخمسين ومائة أيضا وسيذكره المؤلف فيمن
توفي من الاعيان - انظر حواديث سنة 182 ه.
(*)
(10/164)
فذبحتها، هلكت
نفسك وعيالك.
فما التفت إليها، واستيقظت فاشتويت من لحم تلك الشويهة وقلت له: أعندك
شئ أكتب لك فيه كتابا ؟ فأتاني بهذه القطعة فكتبت له بعود من ذلك
الرماد خمسمائة ألف، وإنما أردت خمسين ألفا، والله لانفذنها له كلها
ولو لم يكن في بيت المال سواها.
فأمر له بخمسمائة ألف فقبضها الاعرابي واستمر مقيما في ذلك الموضع في
طريق الحاج من ناحية الانبار، فجعل يقري الضيف ومن مر به من الناس،
فعرف منزله بمنزل مضيف أمير المؤمنين المهدي.
وعن سوار - صاحب رحبة سوار - قال: انصرفت يوما من عند المهدي فجئت
منزلي فوضع لي الغداء فلم تقبل نفسي عليه، فدخلت خلوتي لانام في
القائلة فلم يأخذني نوم، فاستدعيت بعض حظاياي لا تلهى بها فلم تنبسط
نفسي إليها، فنهضت فخرجت من المنزل وركبت بغلتي فما جاوزت الدار إلا
قليلا حتى لقيني رجل ومعه ألفا درهم، فقلت: من أين هذه ؟ فقال: من ملك
الجديد.
فاستصحبته معي وسرت في أزقة بغداد لا تشاغل عما أنا فيه من الضجر،
فحانت صلاة العصر عند مسجد في بعض الحارات، فنزلت لاصلي فيه، فلما قضيت
الصلاة إذا برجل أعمى قد أخذ بثيابي فقال: إن لي إليك حاجة، فقلت: وما
حاجتك ؟ فقال: إني رجل ضرير ولكنني لما شممت رائحة طيبك ظننت أنك من
أهل النعمة والثروة، فأحببت أن أفضي إليك بحاجتي.
فقلت: وما هي ؟ فقال: إن هذا القصر الذي تجاه المسجد كان لابي فسافر
منه إلى خراسان فباعه وأخذني معه وأنا صغير، فافترقنا هناك وأصابني أنا
الضرر، فرجعنا إلى بغداد بعد أن مات أبي، فجئت إلى صاحب هذا القصر أطلب
منه شيئا أتبلغ به لعلي أجتمع بسوار، فإنه كان صاحبا لابي، فلعله أن
يكون عنده سعة يجود منها علي.
فقلت: ومن أبوك ؟ فذكر رجلا كان أصحب الناس إلي، فقلت: إني أنا سوار
صاحب
أبيك، وقد منعني الله يومك هذا النوم والقرار والاكل والراحة حتى
أخرجني من منزلي لاجتمع بك، وأجلسني بين يديك، وأمرت وكيلي فدفع له
الالفي الدرهم التي معه، وقلت له: إذا كان الغد فأت منزلي في مكان كذا
وكذا.
وركبت فجئت دار الخلافة وقلت: ما أتحف المهدي الليلة في السمر بأغرب من
هذا.
فلما قصصت عليه القصة تعجب من ذلك جدا وأمر لذلك الاعمى بألفي دينار،
وقال لي: هل عليك دين ؟ قلت: نعم ! قال: كم ؟ قلت: خمسون ألف دينار.
فسكت وحادثني ساعة ثم لما قمت من بين يديه فوصلت إلى المنزل إذا
الحمالون قد سبقوني بخمسين ألف دينار وألفي دينار للاعمي، فانتظرت
الاعمى أن يجئ في ذلك اليوم فتأخر فلما أمسيت عدت إلى المهدي فقال: قد
فكرت في أمرك فوجدتك إذا قضيت دينك لم يبق معك شئ، وقد أمرت لك بخمسين
ألف دينار أخرى.
فلما كان اليوم الثالث جاءني الاعمى فقلت: قد رزقني الله بسببك خيرا
كثيرا، ودفعت له الالفي الدينار التي من عند الخليفة وزدته ألفي دينار
من عندي أيضا.
ووقفت امرأة للمهدي فقالت: يا عصبة رسول الله اقض حاجتي.
فقال المهدي: ما سمعتها من أحد غيرها، اقضوا حاجتها واعطوها عشرة آلاف
درهم.
ودخل ابن الخياط على المهدي فامتدحه
(10/165)
فأمر له بخمسين
ألف درهم ففرقها ابن الخياط وأنشأ يقول: أخذت (1) بكفي كفه أبتغي الغنى
* ولم أدر أن الجود من كفه يعدي فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى * أفدت،
وأعداني فبددت (2) ما عندي قال: فبلغ ذلك المهدي فأعطاه بدل كل درهم
دينارا.
وبالجملة فإن للمهدي مآثر ومحاسن كثيرة، وقد كانت وفاته بما سبذان، كان
قد خرج إليها ليبعث إلى ابنه الهادي ليحضر إليه من جرجان حتى يخلعه من
ولاية العهد ويجعله بعد هارون الرشيد، فامتنع الهادي من ذلك، فركب
المهدي إليه قاصدا إحضاره، فلما كان بماسبذان مات بها.
وكان قد رأى في النوم وهو بقصره ببغداد - المسمى بقصر السلامة - كأن
شيخا وقف بباب القصر، ويقال إنه سمع هاتفا يقول: كأني بهذا القصر قد
باد أهله * وأوحش منه ربعه ومنازله
وصار عميد القوم من بعد بهجة * وملك إلى قبر عليه جنادله ولم يبق إلا
ذكره وحديثه * تنادي عليه معولات حلائله فما عاش بعدها إلا عشرا حتى
مات.
وروي أنه لما قال له الهاتف: كأني بهذا القصر قد باد أهله * وقد درست
أعلامه ومنازله فأجابه المهدي: كذاك أمور الناس يبلى جديدها * وكل فتى
يوما ستبلى فعائله فقال الهاتف: تزود من الدنيا فإنك ميت * وإنك مسؤول
فما أنت قائله فأجابه المهدي: أقول بأن الله حق شهدته * وذلك قول ليس
تحصى فضائله فقال الهاتف: تزود من الدنيا فإنك راحل * وقد أزف الامر
الذي بك نازل فأجابه المهدي: متى ذاك خبرني هديت فإنني * سأفعل ما قد
قلت لي وأعاجله فقال الهاتف: تلبث ثلاثا بعد عشرين ليلة * إلى منتهى
شهر وما أنت كامله
__________
(1) في وفيات الاعيان 4 / 401: لمست.
(2) في الوفيات: فضيعت.
(*)
(10/166)
قالوا: فلم يعش
بعدها إلا تسعا وعشرين يوما حتي مات رحمه الله تعالى.
وقد ذكر ابن جرير اختلافا في سبب موته، فقيل إنه ساق خلف ظبي والكلاب
بين يديه فدخل الظبي إلى خربة فدخلت الكلاب وراءه وجاء الفرس فحمل
بمشواره فدخل الخربة فكسر ظهره،
وكانت وفاته بسبب ذلك.
وقيل إن بعض حظاياه بعثت إلى أخرى لبنا مسموما فمر الرسول بالمهدي فأكل
منه فمات.
وقيل بل بعثت إليها بصينية فيها الكمثري وفي أعلاها واحدة كبيرة مسمومة
وكان المهدي يعجبه الكمثري، فمرت به الجارية ومعها تلك الصينية فأخذ
التي في أعلاها فأكلها فمات من ساعته، فجعلت الحظية تندبه وتقول:
واأمير المؤمنيناه، أردت أن يكون لي وحدي فقتلته بيدي.
وكانت وفاته في المحرم من هذه السنة - أعني سنة تسع وستين ومائة - وله
من العمر ثلاث وأربعون سنة على المشهور، وكانت خلافته عشر سنين وشهرا
وكسورا، ورثاه الشعراء بمراثي كثيرة قد ذكرها ابن جرير وابن عساكر.
وفيها توفي عبيد الله بن إياد (1)،
ونافع بن عمر الجمحي (2)، ونافع بن أبي نعيم القارئ (3).
خلافة موسى الهادي بن المهدي ت
وفي أبوه في المحرم من أول سنة تسع وستين ومائة وكان ولي العهد من بعد
أبيه، وكان أبوه قد عزم قبل موته على تقديم أخيه الرشيد عليه في ولاية
العهد، فلم يتفق ذلك حتى مات المهدي بماسبذان.
وكان الهادي إذ ذاك بجرجان، فهم بعض الدولة منهم الربيع الحاجب وطائفة
من القواد على تقديم الرشيد عليه والمبايعة له، وكان الرشيد حاضرا
ببغداد، عزموا على النفقة على الجند لذلك تنفيذا لما رآه المهدي من
ذلك.
فأسرع الهادي السير من جرجان إلى بغداد حين بلغه الخبر، فساق منها
إليها في عشرين يوما، فدخل بغداد وقام في الناس خطيبا، وأخذ البيعة
منهم فبايعوه، وتغيب الربيع الحاجب فتطلبه الهادي حتى حضر بين يديه،
فعفا عنه وأحسن إليه وأقره على حجو بيته، وزاده الوزارة وولايات أخر.
وشرع الهادي في تطلب الزنادقة من الآفاق فقتل منهم طائفة كثيرة، واقتدى
في ذلك
__________
(1) من شذرات الذهب 1 / 270 وفي الاصل زياد وهو تحريف.
وهو عبيد الله بن إياد بن لقيط الكوفي كان عريف قومه بني سدوس.
قال في المغني: ثقة.
(2) وهو نافع بن عمر الجمحي القرشي المكي، محدث مكة حافظ ثبت.
قال صاحب المغني: حجة وقال أحمد: ثقة ثبت.
وقال ابن سعد: ثقة فيه شئ.
(3) وهو نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم الليثي بالولاء المدني أحد
القراء السبعة أصله من أصبهان انتهت إليه رئاسة
القراءة في المدينة، أقرأ الناس دهرا طويلا، وكان أسود اللون حالكا
صبيح الوجه حسن الخلق.
قال فيه ابن مجاهد: كان عالما بوجوه القراءات متبعا لآثار الائمة
الماضين ببلده.
وقال أحمد: كانت تؤخذ عنه القراءة وليس بشئ في الحديث.
(*)
(10/167)
أبيه، وقد كان موسى الهادي من أفكه الناس مع أصحابه في الخلوة، فإذا
جلس في مقام الخلافة كانوا لا يستطيعون النظر إليه، لما يعلوه من
المهابة والرياسة، وكان شابا حسنا وقورا مهيبا.
وفيها - أعني سنة تسع وستين ومائة - خرج بالمدينة الحسين بن علي بن
الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وذلك أنه أصبح يوما وقد
لبس البياض وجلس في المسجد النبوي، وجاء الناس إلى الصلاة فلما رأوه
ولوا راجعين، والتف عليه جماعة فبايعوه على الكتاب والسنة والرضى من
أهل البيت.
وكان سبب خروجه أن متوليها خرج منها إلى بغداد ليهنئ الخليفة بالولاية
ويعزيه في أبيه.
ثم جرت أمور اقتضت خروجه، والتف عليه جماعة وجعلوا مأواهم المسجد
النبوي، ومنعوا الناس من الصلاة فيه، ولم يجبه أهل المدينة إلى ما
أراده، بل جعلوا يدعون عليه لانتهاكه المسجد، حتى ذكر أنهم كانوا
يقذرون في جنبات المسجد، وقد اقتتلوا مع المسودة مرات فقتل من هؤلاء
وهؤلاء.
ثم ارتحل إلى مكة فأقام بها إلى زمن الحج، فبعث إليه الهادي جيشا
فقاتلوه بعد فراغ الناس من الموسم فقتلوه وقتلوا طائفة من أصحابه، وهرب
بقيتهم وتفرقوا شذر مذر.
فكان مدة خروجه إلى أن قتل تسعة أشهر وثمانية عشر يوما، وقد كان كريما
من أجود الناس.
دخل يوما على المهدي فأطلق له أربعين ألف دينار ففرقها في أهله
وأصدقائه من أهل بغداد والكوفة، ثم خرج من الكوفة وما عليه قميص، إنما
كان عليه فروة وليس تحتها قميص.
وفيها حج بالناس سليمان بن أبي جعفر عم الخليفة.
وغزا الصائفة من طريق درب الراهب معتوق (1) بن يحيى في جحفل كثيف، وقد
أقبلت الروم مع بطريقها فبلغوا الحدث.
وفيها توفي الحسين بن علي بن حسن بن
حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب قتل في أيام التشريق (1) كما تقدم.
والربيع بن يونس الحاجب مولى المنصور، وكان حاجبه ووزيره، وقد وزر
للمهدي والهادي،
وكان بعضهم يطعن في نسبه.
وقد أورد الخطيب في ترجمته حديثا من طريقه ولكنه منكر، وفي صحته عنه
نظر.
وقد ولي الحجوبية بعده ولده الفضل بن الربيع، ولاه إياها الهادي. |