البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
ثم دخلت سنة سبعين ومائة من الهجرة النبوية وفيها عزم الهادي على خلع
أخيه هارون الرشيد من الخلافة وولاية العهد لابنه جعفر بن الهادي
فانقاد هارون لذلك ولم يظهر منازعة بل أجاب، واستدعى الهادي جماعة من
الامراء فأجابوه إلى ذلك، وأبت ذلك أمهما الخيزران، وكانت تميل إلى
ابنها هارون أكثر من موسى، وكان الهادي قد منعها من التصرف في شئ من
المملكة لذلك، بعد ما كانت قد استحوذت عليه في أول ولايته، وانقلبت
الدول
__________
(1) في الطبري 10 / 32 وابن الاثير 6 / 94: معيوف.
(2) في الطبري وابن الاثير: يوم التروية.
وانظر مروج الذهب 3 / 400.
(*)
(10/168)
إلى بابها
والامراء إلى جنابها، فحلف الهادي لئن عاد أمير إلى بابها ليضربن عنقه
ولا يقبل منه شفاعة، فامتنعت من الكلام في ذلك، وحلفت لا تكلمه أبدا،
وانتقلت عنه إلى منزل آخر.
وألح هو على أخيه هارون في الخلع وبعث إلى يحيى بن خالد بن برمك - وكان
من أكابر الامراء الذين هم في صف الرشيد - فقال له: ماذا ترى فيما أريد
من خلع هارون وتولية ابني جعفر ؟ فقال له خالد: إني أخشى أن تهون
الايمان على الناس، ولكن المصلحة تقتضي أن تجعل جعفرا ولي العهد من بعد
هارون، وأيضا فإني أخشى أن لا يجيب أكثر الناس إلى البيعة لجعفر، لانه
دون البلوغ، فيتفاقم الامر ويختلف الناس.
فأطرق مليا - وكان ذلك ليلا - ثم أمر بسجنه ثم أطلقه.
وجاء يوما إليه أخوه هارون الرشيد فجلس عن يمينه بعيدا، فجعل الهادي
ينظر إليه مليا ثم قال: يا هارون ! تطمع أن تكون وليا للعهد حقا ؟
فقال: إي والله، ولئن كان ذلك لاصلن من قطعت، ولانصفن من ظلمت، ولازوجن
بنيك من بناتي.
فقال ذاك الظن بك.
فقام إليه هارون ليقبل يده فحلف الهادي ليجلس معه على السرير فجلس معه،
ثم أمر له بألف ألف دينار، وأن يدخل الخزائن فيأخذ منها ما أراد، وإذا
جاء الخراج دفع إليه نصفه.
ففعل ذلك كله ورضي الهادي عن الرشيد.
ثم سافر الهادي إلى حديثة الموصل بعد الصلح،
ثم عاد منها فمات بعيساباذ ليلة الجمعة للنصف من ربيع الاول (1)، وقيل
لآخر سنة سبعين ومائة، وله من العمر ثلاث وعشرون سنة (2)، وكانت خلافته
ستة أشهر (3) وثلاثة وعشرون يوما.
وكان طويلا جميلا، أبيض، بشفته العليا تقلص.
وقد توفي هذه الليلة خليفة وهو الهادي، وولي خليفة وهو الرشيد، وولد
خليفة وهو المأمون بن الرشيد.
وقد قالت الخيزران أمهما في أول الليل: إنه بلغني أن يولد خليفة ويموت
خليفة ويولى خليفة.
يقال إنها سمعت ذلك من الاوزاعي قبل ذلك بمدة، وقد سرها ذلك جدا.
ويقال: إنها سمت ولدها الهادي خوفا منه على ابنها الرشيد، ولانه كان قد
أبعدها وأقصاها وقرب حظيته خالصة وأدناها فالله أعلم.
وهذا ذكر شئ من ترجمة الهادي هو موسى بن محمد المهدي بن عبد الله
المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس أبو محمد
__________
(1) في الطبري 10 / 38: ليلة الجمعة لاربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع
الاول.
وفي مروج الذهب 3 / 397: لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الاول.
(2) اختلف في عمره يوم توفي: قيل اربع وعشرين سنة وقيل ثمان وعشرين سنة
وقيل ستا وعشرين سنة (انظر الطبري وابن الاثير حوادث سنة 170 - ومروج
الذهب - والاخبار الطوال ص 386.
وابن الاعثم 8 / 243).
(3) في مدة خلافته اختلاف انظر مروج الذهب 3 / 397.
ابن الاثير 6 / 101 الطبري 10 / 38 ابن الاعثم 8 / 243 الاخبار الطوال
ص 386.
(*)
(10/169)
الهادي.
ولي الخلافة في محرم سنة تسع وستين ومائة.
ومات في النصف من ربيع الاول أو الآخر سنة سبعين ومائة، وله من العمر
ثلاث، وقيل أربع، وقيل ست وعشرون سنة، والصحيح الاول، ويقال إنه لم يل
الخلافة أحد قبله في سنه، وكان حسنا جميلا طويلا، أبيض، وكان قوي البأس
يثب على الدابة وعليه درعان، وكان أبوه يسميه ريحانتي.
ذكر عيسى بن دأب قال: كنت يوما عند الهادي إذ جئ بطست فيه رأس جاريتين
قد ذبحا وقطعا، لم أر أحسن صورا منهما، ولا مثل شعورهما، وفي
شعورهما اللآلئ والجواهر منضدة، ولا رأيت مثل طيب ريحهما.
فقال لنا الخليفة: أتدرون ما شأن هاتين ؟ قلت: لا.
فقال: إنه ذكر أنه تركب إحداهما الاخرى يفعلان الفاحشة، فأمرت الخادم
فرصدهما ثم جاءني فقال: إنهما مجتمعتان، فجئت فوجدتهما في لحاف واحد
وهما على الفاحشة، فأمرت بحز رقابهما.
ثم أمر برفع رؤوسهما من بين يديه ورجع إلى حديثه الاول كأنه لم يصنع
شيئا.
وكان شهما خبيرا بالملك كريما، ومن كلامه: ما أصلح الملك بمثل تعجيل
العقوبة للجاني، والعفو عن الزلات، ليقل الطمع عن الملك.
وغضب يوما على رجل فاسترضى عنه فرضي، فشرع الرجل يعتذر فقال الهادي: إن
الرضا كفاك مؤنة الاعتذار.
وعزى رجلا في ولده فقال له: سرك وهو عدو وفتنة، وساءك وهو صلاة ورحمة.
وروى الزبير بن بكار أن مروان بن أبي حفصة أنشد الهادي قصيدة له منها
قوله: تشابه يوما بأسه ونواله * فما أحد يدري لايهما الفضل فقال له
الهادي: أيما أحب إليك ؟ ثلاثون ألفا معجلة أو مائة ألف تدور في
الدواوين ؟ فقال: يا أمير المؤمنين أو أحسن من ذلك ؟ قال: وما هو ؟
قال: تكون ألفا معجلة ومائة ألف تدور بالدواوين.
فقال الهادي: أو أحسن من ذلك، نعجل الجميع لك.
فأمر له بمائة ألف وثلاثين ألفا معجلة.
قال الخطيب البغدادي: حدثني الازهري ثنا سهل بن أحمد الديباجي، ثنا
الصولي، ثنا الغلابي، حدثني محمد بن عبد الرحمن التيمي المكي، حدثني
المطلب بن عكاشة المزني قال: قدمنا على أبي محمد الهادي شهودا على رجل
منا أنه شتم قريشا وتخطى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس لنا
مجلسا أحضر فيه فقهاء أهل زمانه ومن كان بالحضرة على بابه، وأحضر الرجل
وأحضرنا فشهدنا عليه بما سمعنا منه.
فتغير وجه الهادي ثم نكس رأسه ثم رفعه ثم قال: إني سمعت أبي المهدي
يحدث عن أبيه المنصور، عن أبيه علي بن عبد الله بن عباس قال: من أهان
قريشا أهانه الله، وأنت يا عدو الله لم ترض بأن أذيت قريشا حتى تخطيت
إلى ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أضربوا عنقه.
فما برحنا حتى قتل.
توفي الهادي من ربيع الاول من هذه السنة، وصلى عليه أخوه هارون، ودفن
في قصر بناه وسماه الابيض بعيساباذ من الجانب الشرقي من بغداد، وكان له
من الولد تسعة، سبعة ذكور وابنتان، فالذكور جعفر، وعباس، وعبد الله،
وإسحاق، وإسماعيل، وسليمان، وموسى الاعمى، الذي ولد
بعد وفاته فسمي باسم أبيه.
والبنتان هما أم عيسى التي تزوجها المأمون، وأم العباس تلقب توبة (1).
__________
(1) في ابن الاثير 6 / 101: نونة.
(*)
(10/170)
خلافة هارون الرشيد بن المهدي
بويع له بالخلافة ليلة مات أخوه، وذلك ليلة الجمعة للنصف من ربيع الاول
سنة سبعين ومائة وكان عمر الرشيد يومئذ ثنتان وعشرين سنة، فبعث إلى
يحيى بن خالد بن برمك فأخرجه من السجن، وقد كان الهادي عزم تلك الليلة
على قتله وقتل هارون الرشيد، وكان الرشيد ابنه من الرضاعة (1)، فولاه
حينئذ الوزارة، وولى يوسف بن القاسم بن صبيح كتابة الانشاء.
وكان هو الذي قام خطيبا بين يديه حتى أخذت البيعة له على المنبر
بعيساباذ (2)، ويقال إنه لما مات الهادي في الليل جاء يحيى بن خالد بن
برمك إلى الرشيد فوجده نائما فقال: قم يا أمير المؤمنين.
فقال له الرشيد: كم تروعني، لو سمعك هذا الرجل لكان ذلك أكبر ذنوبي
عنده ؟ فقال: قد مات الرجل.
فجلس هارون فقال: أشر علي في الولايات، فجعل يذكر ولايات الاقاليم
لرجال يسميهم فيوليهم الرشيد، فبينما هما كذلك إذ جاء آخر فقال: أبشر
يا أمير المؤمنين فقد ولد لك الساعة غلام.
فقال: هو عبد الله وهو المأمون.
ثم أصبح فصلى على أخيه الهادي، ودفنه بعيساباذ، وحلف لا يصلي الظهر إلا
ببغداد.
فلما فرغ من الجنازة أمر بضرب عنق أبي عصمة القائد لانه كان مع جعفر بن
الهادي، فزاحموا الرشيد على جسر فقال أبو عصمة: اصبر وقف حتى يجوز ولي
العهد.
فقال الرشيد: السمع والطاعة للامير.
فجاز جعفر وأبو عصمة ووقف الرشيد مكسورا ذليلا.
فلما ولي أمر بضرب عنق أبي عصمة، ثم سار إلى بغداد.
فلما انتهى إلى جسر بغداد استدعى بالغواصين فقال إني سقط مني ههنا خاتم
كان والدي المهدي قد اشتراه لي بمائة ألف، فلما كان من أيام بعث إلى
الهادي يطلبه فألقيته إلى الرسول فسقط ههنا.
فغاص الغواصون وراءه فوجدوه فسر به الرشيد سرورا كثيرا.
ولما ولى الرشيد يحيى بن خالد الوزارة قال له: قد فوضت إليك أمر الرعية
وخلعت ذلك من عنقي وجعلته في عنقك، فول من رأيت واعزل من رأيت.
ففي ذلك يقول إبراهيم بن الموصلي:
ألم تر أن الشمس كانت سقيمة * فلما ولي هارون أشرق نورها بيمن أمين
هارون ذي الندي * فهارون واليها ويحيى وزيرها ثم إن هارون أمر يحيى بن
خالد أن لا يقطع أمرا بمشاورة والدته الخيزران.
فكانت هي المشاورة في الامور كلها، فتبرم وتحل وتمضي وتحكم.
وفيها أمر الرشيد بسهم ذوي القربى أن يقسم بين بني هاشم على السواء.
وفيها تتبع الرشيد خلقا من الزنادقة فقتل منهم طائفة كثيرة.
وفيها خرج عليه بعض أهل البيت.
وفيها ولد الامين
__________
(1) كان مولد الفضل بن يحيى قبله بسبعة أيام فجعلت أم الفضل زينب بنت
منير ترضع الرشيد بلبان الفضل والخيزران أم الرشيد ترضع الفضل من لبان
الرشيد (الطبري - ابن الاثير).
(2) نص خطبته في الطبري 10 / 49.
(*)
(10/171)
محمد بن الرشيد
ابن زبيدة.
وذلك يوم الجمعة لست (1) عشرة ليلة خلت من شوال من هذه السنة.
وفيها كمل بناء مدينة طرسوس على يدي فرج الخادم التركي ونزلها الناس.
وفيها حج بالناس أمير المؤمنين الرشيد، وأعطى أهل الحرمين أموالا
كثيرة، ويقال إنه غزا في هذه السنة أيضا.
وفي ذلك يقول داود بن رزين الشاعر: بهارون لاح النور في كل بلدة * وقام
به في عدل سيرته النهج إمام بذات الله أصبح شغله * وأكثر ما يعنى به
الغزو والحج تضيق عيون الناس عن نور وجهه * إذا ما بدا للناس منظره
البلج وإن أمين الله هارون ذا الندا * ينيل الذي يرجوه أضعاف ما يرجو
وغزا الصائفة فيها سليمان بن عبد الله البكائي.
ذكر من توفي فيها من الاعيان الخليل
بن أحمد بن عمرو بن تميم أبو عبد الرحمن الفراهيدي، ويقال الفرهودي
الازدي، شيخ النحاة، وعنه أخذ سيبويه والنضر بن شميل، وغير واحد من
أكابرهم، وهو الذي اخترع علم
العروض.
قسمه إلى خمس دوائر وفرعه إلى خمسة عشر بحرا، وزاد الاخفش فيه بحرا آخر
وهو الخبب، وقد قال بعض الشعراء: قد كان شعر الورى صحيحا * من قبل أن
يخلق الخليل وقد كان له معرفة بعلم النغم، وله فيه تصنيف أيضا، وله
كتاب العين في اللغة، ابتدأه وأكمله النضر بن شميل وأضرابه من أصحاب
الخليل، كمؤرج السدوسي، ونصر بن علي الجهضمي.
فلم يناسبوا ما وضعه الخليل.
وقد وضع ابن درستويه كتابا وصف فيه ما وقع لهم من الخلل فأفاد.
وقد كان الخليل رجلا صالحا عاقلا وقورا كاملا، وكان متقللا من الدنيا
جدا، صبورا على خشونة العيش وضيقه، وكان يقول: لا يجاوز همي ما وراء
بابي، وكان ظريفا حسن الخلق، وذكر أنه اشتغل رجل عليه في العروض وكان
بعيد الذهن فيه.
قال: فقلت له يوما: كيف تقطع هذا البيت ؟ إذا لم تستطع شيئا فدعه *
وجاوزه إلى ما تستطيع فشرع معي في تقطيعه على قدر معرفته، ثم إنه نهض
من عندي فلم يعد إلي، وكأنه فهم ما أشرت إليه.
ويقال إنه لم يسم أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم بأحمد سوى أبيه.
روى ذلك عن أحمد بن أبي خيثمة والله أعلم.
ولد الخليل سنة مائة من الهجرة، ومات بالبصرة سنة سبعين ومائة على
المشهور، وقيل سنة
__________
(1) في الطبري 10 / 50: لثلاث.
(*)
(10/172)
ستين، وزعم ابن
الجوزي في كتابه شذور العقود أنه توفي سنة ثلاثين ومائة، وهذا غريب جدا
والمشهور الاول.
وفيها توقي الربيع بن سليمان بن عبد الجبار بن كامل المرادي (1)
مولاهم، المصري المؤدب راوية الشافعي، وآخر من روى عنه.
وكان رجلا صالحا تفرس فيه الشافعي وفي البويطي والمزني وابن عبد الحكم
العلم فوافق ذلك ما وقع في نفس الامر ومن شعر الربيع هذا: صبرا جميلا
ما أسرع الفرجا * من صدق الله في الامور نجا من خشي الله لم ينله أذى *
ومن رجا الله كان حيث رجا
فأما الربيع بن سليمان بن داود الجيزي فإنه روى عن الشافعي أيضا.
وقد مات في سنة ست وخمسين ومائتين والله أعلم.
ثم دخلت سنة إحدى وسبعين ومائة فيها أضاف
الرشيد الخاتم إلى يحيى بن خالد مع الوزارة.
وفيها قتل الرشيد أبا هريرة محمد بن فروخ
نائب الجزيرة صبرا في قصر الخلد بين يديه.
وفيها خرج الفضل بن سعيد الحروري فقتل.
وفيها قدم روح بن حاتم نائب إفريقية.
وفيها خرجت الخيزران إلى مكة فأقامت بها إلى أن شهدت الحج، وكان الذي
حج بالناس فيها عبد الصمد بن علي عم الخلفاء.
ثم دخلت سنة ثنتين وسبعين ومائة فيها وضع
الرشيد عن أهل العراق العشر الذي كان يؤخذ منهم بعد النصف.
وفيها خرج الرشيد من بغداد يرتاد له موضعا يسكنه غير بغداد فتشوش فرجع.
وفيها حج بالناس يعقوب بن أبي جعفر المنصور عم الرشيد.
وفيها غزا الصائفة إسحاق بن سليمان بن علي.
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين ومائة فيها توفي
بالبصرة محمد بن سليمان فأمر الرشيد بالاحتياط على حواصله التي تصلح
للخلفاء،
__________
(1) المرادي: نسبة إلى مراد وهي قبيلة كبيرة باليمن.
قال في وفيات الاعيان 2 / 292: مات سنة سبعين ومائتين بمصر، ولعل اسمه
وقع سهوا هنا.
فالربيع بن يونس وزير الهادي كان قد مات سنة 170 (انظر وفيات الاعيان 2
/ 299 ومروج الذهب 3 / 400 وقال الطبري مات سنة تسع وستين ومائة).
(*)
(10/173)
فوجدوا من ذلك
شيئا كثيرا من الذهب والفضة والامتعة وغير ذلك، فنضدوه ليستعان بن على
الحرب وعلى مصالح المسلمين.
وهو محمد بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس، وأمه أم حسن بنت جعفر
بن حسن بن حسن بن علي، وكان من رجالات قريش وشجعانهم.
جمع له المنصور بين البصرة والكوفة، وزوجه المهدي ابنته العباسة، وكان
له من الاموال شئ كثير، كان دخله في كل يوم مائة
ألف.
وكان له خاتم من ياقوت أحمر لم ير مثله.
وروى الحديث عن أبيه عن جده الاكبر، وهو حديث مرفوع في مسح رأس اليتيم
إلى مقدم رأسه، ومسح رأس من له أب إلى مؤخر رأسه.
وقد وفد على الرشيد فهناه بالخلافة فأكرمه وعظمه وزاده في عمله شيئا
كثيرا.
ولما أراد الخروج خرج معه الرشيد يشيعه إلى كلواذا.
توفي في جمادي الآخرة من هذه السنة عن إحدى وخمسين سنة، وقد أرسل
الرشيد من اصطفى من ماله الصامت فوجد له من الذهب ثلاثة آلاف ألف
دينار، ومن الدراهم ستة آلاف ألف، خارجا عن الاملاك.
وقد ذكر ابن جرير أن وفاته ووفاة الخيزران في يوم واحد، وقد وقفت جارية
من جواريه على قبره فأنشأت تقول: أمسى التراب لمن هويت مبيتا * الق
التراب فقل له حييتا إنا نحبك يا تراب وما بنا * إلا كرامة من عليه
حثيتا وفيها توفيت الخيزران جارية
المهدي وأم أمير المؤمنين الهادي والرشيد، اشتراها المهدي وحظيت عنده
جدا ثم أعتقها وتزوجها وولدت له خليفتين: موسى الهادي والرشيد.
ولم يتفق هذا لغيرها من النساء إلا الولادة بنت العباس العبسية، زوجة
عبد الملك بن مروان، وهي أم الوليد وسليمان.
وكذلك لشاه فرند بنت فيروز بن يزدجرد، ولدت لمولاها الوليد بن عبد
الملك: يزيد (1) وإبراهيم.
وكلاهما ولي الخلافة.
وقد روي من طريق الخيزران عن مولاها المهدي عن أبيه، عن جده، عن ابن
عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من اتقى الله وقاه كل شئ ".
ولما عرضت الخيزران على المهدي ليشتريها أعجبته إلا دقة في ساقيها،
فقال لها: يا جارية إنك لعلى غاية المنى والجمال لو لا دقة ساقيك
وخموشهما.
فقالت: يا أمير المؤمنين إنك أحوج ما تكون إليهما لا تراهما فاستحسن
جوابها واشتراها وحظيت عنده جدا.
وقد حجت الخيزران مرة في حياة المهدي فكتب إليها وهي بمكة يستوحش لها
ويتشوق إليها بهذا الشعر: نحن في غاية السرور ولكن * ليس إلا بكم يتم
السرور عيب ما نحن فيه يا أهل ودي * أنكم غيب ونحن حضور
فأجدوا في السير بل إن قدرتم * أن تطيروا مع الرياح فطيروا
__________
(1) في الاصل مروان وهو تحريف والصواب ما أثبتناه، وانظر حاشية 1 ص 18.
(*)
(10/174)
فأجابته أو
أمرت من أجابه: قد أتانا الذي وصفت من الشو * ق فكدنا وما قدرنا نظير
ليت أن الرياح كن يؤدين * ما قد يكن الضمير لم أزل صبة فإن كنت بعدي *
في سرور فدام ذاك السرور وذكروا أنه أهدى إليها محمد بن سليمان نائب
البصرة الذي مات في اليوم الذي ماتت فيه مائة وصيفة، مع كل وصيفة جام
من فضة مملوء مسكا.
فكتبت إليه: إن كان ما بعثته ثمنا عن ظننا فيك فظننا فيك أكثر مما
بعثت، وقد بخستنا في الثمن، وإن كنت تريد به زيادة المودة فقد اتهمتني
في المودة.
وردت ذلك عليه.
وقد اشترت الدار المشهورة بها بمكة المعروفة بدار الخيزران، فزادتها في
المسجد الحرام.
وكان مغل ضياعها في كل سنة ألف (1) ألف وستين ألفا، واتفق موتها ببغداد
ليلة الجمعة لثلاث بقين من جمادى الآخرة من هذه السنة.
وخرج ابنها الرشيد في جنازتها وهو حامل سريرها يخب في الطين.
فلما انتهى إلى المقبرة أتي بماء فغسل رجليه ولبس خفا وصلى عليها، ونزل
لحدها.
فلما خرج من القبر أتي بسرير فجلس عليه واستدعى بالفضل بن الربيع فولاه
الخانم والنفقات.
وأنشد الرشيد قول ابن نويرة حين دفن أمه الخيزران: وكنا كندماني جذيمة
برهة * من الدهر حتى قيل لن يتصدعا فلما تفرقنا كأني ومالكا * لطول
اجتماع لم نبت ليلة معا وفيها توفيت:
غادر: جارية كانت لموسى الهادي، كان يحبها حبا شديدا جدا، وكانت تحسن
الغناء جدا، فبينما هي يوما تغنيه إذ أخذته فكرة غيبته عنها وتغير
لونه، فسأله بعض الحاضرين: ما هذا يا أمير المؤمنين ؟
فقال: أخذتني فكرة أني أموت وأخي هارون يتولى الخلافة بعدي ويتزوج
جاريتي هذه.
ففداه الحاضرون ودعوا له بطول العمر.
ثم استدعى أخاه هارون فأخبره بما وقع فعوذه الرشيد من ذلك، فاستحلفه
الهادي بالايمان المغلظة من الطلاق والعتاق والحج ماشيا حافيا أن لا
يتزوجها، فحلف له واستحلف الجارية كذلك فحلفت له، فلم يكن إلا أقل من
شهرين حتى مات، ثم خطبها الرشيد فقالت: كيف بالايمان التي حلفناها أنا
وأنت ؟ فقال: إني أكفر عني وعنك.
فتزوجها وحظيت عنده جدا، حتى كانت تنام في حجره فلا يتحرك خشية أن
يزعجها.
فبينما هي ذات ليلة نائمة إذ انتبهت مذعورة تبكي، فقال لها: ما شأنك ؟
فقالت: يا أمير المؤمنين رأيت الهادي في منامي هذا وهو يقول:
__________
(1) في مروج الذهب 3 / 413: مائة ألف ألف وستين ألف درهم.
(*)
(10/175)
أخلفت عهدي بعد
ما * جاورت سكان المقابر ونسيتني وحنثت في * أيمانك الكذب الفواجر
ونكحت غادرة أخي * صدق الذي سماك غادر أمسيت في أهل البلى * وعددت في
الموتى الغوابر لا يهنك الالف الجدي * د ولا تدر عنك الدوائر ولحقت بي
قبل الصبا * ح وصرت حيث غدوت صائر فقال لها الرشيد: أضغاث أحلام.
فقالت: كلا والله يا أمير المؤمنين، فكأنما كتبت هذه الابيات في قلبي.
ثم ما زالت ترتعد وتضطرب حتى ماتت قبل الصباح.
وفيها ماتت: هيلانة جارية الرشيد، وهو الذي سماها هيلانة لكثرة قولها
هي لانه.
قال الاصمعي: وكان لها محبا، وكانت قبله لخالد بن يحيى بن برمك، فدخل
الرشيد يوما منزله قبل الخلافة فاعترضته في طريقه وقالت: أما لنا منك
نصيب ؟ فقال: وكيف السبيل إلى ذلك ؟ فقالت: استوهبني من هذا الشيخ.
فاستوهبها من يحيى بن خالد فوهبها له وحظيت عنده، ومكثت عنده ثلاث سنين
ثم توفيت فحزن عليها حزنا شديدا ورثاها وكان من قوله فيها:
قد قلت لما ضمنوك الثرى * وجالت الحسرة في صدري اذهب فلاق الله لا سرني
* بعدك شئ آخر الدهر وقال العباس بن الاحنف في موتها: يا من تباشرت
القبور بموتها * قصد الزمان مساءتي فرماك أبغي الانيس فما أرى لي مؤنسا
* إلا التردد حيث كنت أراك قال: فأمر له الرشيد بأربعين ألفا، لكل بيت
عشرة آلاف، فالله أعلم.
ثم دخلت سنة أربع وسبعين ومائة من الهجرة
فيها وقعت عصبية بالشام وتخبيط من أهلها.
وفيها استقضى الرشيد يوسف ابن القاضي أبي يوسف وأبوه حي.
وفيها غزا الصائفة عبد الملك بن صالح فدخل بلاد الروم.
وفيها حج بالناس الرشيد، فلما اقترب من مكة بلغه أن فيها وباء فلم يدخل
مكة حتى كان وقت الوقوف وقف ثم جاء المزدلفة ثم منى ثم دخل مكة فطاف
وسعى ثم ارتحل ولم ينزل بها.
(10/176)
ثم دخلت سنة خمس وسبعين ومائة
فيها أخذ الرشيد بولاية العهد من بعده
لولده محمد بن زبيدة وسماه الامين، وعمره إذ ذاك خمس سنين، فقال
في ذلك سلم الخاسر: قد وفق الله الخليفة إذ بنى * بيت الخلافة للهجان
الازهر فهو الخليفة عن أبيه وجده * شهدا عليه بمنظر وبمخبر قد بايع
الثقلان في مهد الهدى * لمحمد بن زبيدة ابنة جعفر وقد كان الرشيد يتوسم
النجابة والرجاحة في عبد الله المأمون، ويقول: والله إن فيه حزم
المنصور، ونسك المهدي، وعزة نفس الهادي.
ولو شئت أن أقول الرابعة مني لقلت، وإني لاقدم محمد بن زبيدة وإني
لاعلم أنه متبع هواه ولكن لا أستطيع غير ذلك.
ثم أنشأ يقول: لقد بان وجه الرأي لي غير أنني * غلبت على الامر الذي
كان أحزما
وكيف يرد الدر في الضرع بعدما * نوزع حتى صار نهبا مقسما أخاف التواء
الامر بعد استوائه * وأن ينقض الامر الذي كان أبرما وغزا الصائفة عبد
الملك بن صالح، في قول الواقدي.
وحج بالناس الرشيد.
وفيها سار يحيى بن عبد الله بن حسن إلى الديلم وتحرك هناك.
وفيها توفي من الاعيان: شعوانة
العابدة الزاهدة كانت أمة سوداء كثيرة العبادة روي عنها كلمات حسان،
وقد سألها الفضيل بن عياض الدعاء فقالت: أما بينك وبينه ما إن دعوته
استجاب لك ؟ فشهق الفضيل ووقع مغشيا عليه.
وفيها توفي: الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي مولاهم قال ابن خلكان:
كان مولى قيس بن رفاعة وهو مولى عبد الرحمن بن مسافر الفهمي، كان الليث
إمام الديار المصرية بلا مدافعة، وولد بقرقشندة من بلاد مصر سنة أربع
وتسعين.
وكانت وفاته في شعبان من هذه السنة، ونشأ بالديار المصرية.
وقال ابن خلكان: أصله من قلقشندة (1) وضبطه بلامين الثانية متحركة.
وحكى عن بعضهم أنه كان جيد الذهن، وأنه ولي القضاء بمصر فلم يحمدوا
__________
(1) قلقشندة: قرية من قرى الوجه البحري من القاهرة، بينها وبين القاهرة
مقدار ثلاثة فراسخ وقرقشندة: قرية بأسفل مصر بالريف ولد بها الليث بن
سعد، وأهل بيته يقولون إن أصله من الفرس من أهل أصبهان (معجم البلدان 4
/ 327).
(*)
(10/177)
ذهنه بعد ذلك،
ولد سنة أربع وعشرين ومائة، وذلك غريب جدا.
وذكروا أنه كان يدخله من ملكه في كل سنة آلاف دينار.
وقال آخرون: كان يدخله من الغلة في كل سنة ثمانون ألف دينار، وما وجبت
عليه زكاة، وكان إماما في الفقه والحديث والعربية.
قال الشافعي: كان الليث أفقه من مالك إلا أنه ضيعه أصحابه.
وبعث إليه مالك يستهديه شيئا من العصفر لاجل جهاز ابنته، فبعث إليه
بثلاثين حملا، فاستعمل منه مالك حاجته وباع منه بخمسمائة دينار، وبقييت
عنده منه بقية.
وحج مرة فأهدى له مالك طبقا فيه رطب فرد الطبق وفيه ألف دينار.
وكان يهب للرجل من أصحابه من العلماء
الالف دينار وما يقارب ذلك.
وكان يخرج إلى الاسكندرية في البحر هو وأصحابه في مركب ومطبخه في مركب.
ومناقبه كثيرة جدا.
وحكى ابن خلكان أنه سمع قائلا يقول يوم مات الليث: ذهب الليث فلا ليث
لكم * ومضى العلم غريبا وقبر فالتفتوا فلم يروا أحدا.
وفيها توفي: المنذر بن عبد الله بن
المنذر القرشي، عرض عليه المهدي أن يلي القضاء ويعطيه من بيت المال
مائة ألف درهم، فقال: إني عاهدت الله أن لامألي شيئا، وأعيذ أمير
المؤمنين بالله أن أخيس بعهدي.
فقال له المهدي: الله ؟ قال: الله.
قال: انطلق فقد أعفيتك.
ثم دخلت سنة ست وسبعين ومائة فيها كان ظهور
يحيى بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب ببلاد الديلم،
واتبعه خلق كثير وجم غفير، وقويت شوكته، وارتحل إليه الناس من الكور
والامصار، فانزعج لذلك الرشيد وقلق من أمره، فندب إليه الفضل بن يحيى
بن خالد بن برمك في خمسين ألفا، وولاه كور الجبل والري وجرجان وطبرستان
وقومس وغير ذلك.
فسار الفضل بن يحيى إلى تلك الناحية في أبهة عظيمة، وكتب الرشيد تلحقه
مع البرد في كل منزلة، وأنواع التحف والبر، وكاتب الرشيد صاحب الديلم
ووعده بألف ألف درهم إن هو سهل خروج يحيى إليهم، وكتب الفضل إلى يحيى
بن عبد الله يعده ويمنيه ويؤمله ويرجيه، وأنه إن خرج إليه أن يقيم له
العذر عند الرشيد.
فامتنع يحيى أن يخرج إليهم حتى يكتب له الرشيد كتاب أمان بيده.
فكتب الفضل إلى الرشيد بذلك ففرح الرشيد ووقع منه موقعا عظيما.
وكتب الامان بيده وأشهد عليه القضاة والفقهاء ومشيخة بني هاشم، منهم
عبد الصمد بن علي (1)، وبعث الامان وأرسل معه جوائز وتحفا كثيرة إليهم،
ليدفعوا ذلك جميعه إليه.
__________
(1) وذكر الطبري منهم: والعباس بن محمد ومحمد بن ابراهيم وموسى بن عيسى
10 / 55.
(*)
(10/178)
ففعلوا وسلمه
إليه فدخلوا به بغداد، وتلقاه الرشيد وأكرمه وأجزل له في العطاء، وخدمه
آل برمك
خدمة عظيمة، بحيث أن يحيى بن خالد كان يقول: خدمته بنفسي وولدي: وعظم
الفضل عند الرشيد جدا بهذه الفعلة حيث سعى بالصلح بين العباسيين
والفاطميين، ففي ذلك يقول مروان بن أبي حفصة يمدح الفضل بن يحيى ويشكره
على صنيعه هذا: ظفرت فلا شلت يد برمكية * رتقت بها الفتق الذي بين هاشم
على حين أعيا الراتقين التئامه * فكفوا وقالوا ليس بالمتلائم فأصحبت قد
فازت يداك بخطة * من المجد باق ذكرها في المواسم وما زال قدح الملك
يخرج فائزا * لكم كلما ضمت قداح المساهم قالوا: ثم إن الرشيد تنكر
ليحيى بن عبد الله بن حسن وتغير عليه، ويقال: إنه سجنه ثم استحضره
وعنده جماعات من الهاشميين، وأحضر الامان الذي بعث به إليه فسأل الرشيد
محمد بن الحسن عن هذا الامان أصحيح هو ؟ قال: نعم ! فتغيظ الرشيد عليه.
وقال أبو البختري: ليس هذا الامان بشئ فأحكم فيه بما شئت، ومزق الامان.
وبصق فيه أبو البختري، وأقبل الرشيد على يحيى (1) ابن عبد الله فقال:
هيه هيه، وهو يبسم تبسم الغضب، وقال: إن الناس يزعمون أنا سممناك.
فقال يحيى: يا أمير المؤمنين إن لنا قرابة ورحما وحقا، فعلام تعذبني
وتحبسني ؟ فرق له الرشيد، فاعترض بكار (2) بن مصعب بن ثابت بن عبد الله
بن الزبير فقال: يا أمير المؤمنين لا يغرنك هذا الكلام من هذا، فإنه
عاص شاق، وإنما هذا منه مكر وخبث.
وقد أفسد علينا مدينتنا وأظهر فيها العصيان فقال له يحيى: ومن أنتم
عافاكم الله ؟ وإنما هاجر أبوك إلى المدينة بآبائي وآباء هذا ثم قال
يحيى: يا أمير المؤمنين لقد جاءني هذا حين قتل أخي محمد بن عبد الله
فقال: لعن الله قاتله، وأنشدني فيه نحوا من عشرين بيتا، وقال لي، إن
تحركت إلى هذا الامر فأنا من يبايعك، وما يمنعك أن تلحق بالبصرة
وأيدينا معك ؟ قال: فتغير وجه الرشيد ووجه الزبيري وأنكر وشرع يحلف
بالايمان المغلظة إنه لكاذب في ذلك، وتحير الرشيد.
ثم قال ليحيى: أتحفظ شيئا من المرثية ؟ قال: نعم.
وأنشده منها جانبا (3).
فازداد الزبيري في الانكار، فقال له يحيى بن عبد الله، فقل: إن كنت
كاذبا فقد برئت من حول الله وقوته، ووكلني الله إلى حولي وقوتي.
فامتنع من الحلف بذلك، فعزم عليه الرشيد وتغيظ عليه، فحلف بذلك
__________
(1) في مروج الذهب 3 / 417: ذكره وسماه موسى بن عبد الله، ثم قال: وقيل
إن صاحب هذا الخبر هو يحيى بن عبد الله.
(2) في الطبري 10 / 56: بكار بن عبد الله مصعب (انظر مورج الذهب 3 /
417 وفيه: عبد الله بن مصعب).
(3) في مروج الذهب 3 / 417 ذكر منها: قوموا ببيعتكم ننهض بطاعتنا * إن
الخلافة فيكم يا بني حسن في شعر طويل.
(*)
(10/179)
فما كان إلا أن
خرج من عند الرشيد فرماه الله بالفالج فمات من ساعته.
ويقال إن امرأته غمت وجهه بمخدة فقتله الله.
ثم إن الرشيد أطلق يحيى بن عبد الله وأطلق له مائة ألف دينار، ويقال
إنما حبسه بعض يوم وقيل ثلاثة أيام.
وكان جملة ما وصله من المال من الرشيد أربعمائة ألف دينار من بيت
المال، وعاش بعد ذلك كله شهرا واحدا ثم مات رحمه الله (1).
وفيها وقعت فتنة عظيمة بالشام بين النزارية، وهم قيس، واليمانية وهم
يمن، وهذا كان أول بدو أمر العشيرتين بحوران، وهم قيس ويمن، أعادوا ما
كانوا عليه في الجاهلية في هذا الآن.
وقتل منهم في هذه السنة بشر كثير.
وكان على نيابة الشام كلها من جهة الرشيد ابن عمه موسى بن عيسى، وقيل
عبد الصمد بن علي فالله أعلم.
وكان على نيابة دمشق بخصوصها سندي بن سهل أحد موالي جعفر المنصور، وقد
هدم سور دمشق حين ثارت الفتنة خوفا من أن يتغلب عليها أبو الهيذام
المزي (2) رأس القيسية، وقد كان مزي هذا دميم الخلق.
قال الجاحظ: وكان لا يحلف المكاري ولا الملاح ولا الحائك، ويقول: القول
قولهم، ويستخير الله في الحمال ومعلم الكتاب.
وقد توفي سنة أربع ومائتين (3).
فلما تفاقم الامر بعث الرشيد من جهته موسى بن يحيى بن خالد ومعه جماعة
من القواد ورؤوس الكتاب، فأصلحوا بين الناس وهدأت الفتنة واستقام أمر
الرعية، وحملوا جماعات من رؤوس الفتنة إلى الرشيد فرد أمرهم إلى يحيى
بن خالد فعفا عنهم وأطلقهم، وفي ذلك يقول بعض الشعراء:
قد هاجت الشام هيجا * يشيب رأس وليده فصب موسى عليها * بخيله وجنوده
فدانت الشام لما * أتى بسنح وحيده هذا الجواد الذي ب * ذ كل جود بجوده
أعداه جود أبيه * يحيى وجود جدوده فجاد موسى بن يحيى * بطارف وتليده
ونال موسى ذرى المج * د وهو حشو مهوده خصصته بمديحي * منثوره وقصيده
__________
(1) في الفخري ص 195: قتل يحيى في الحبس شر قتلة، وفي مروج الذهب 3 /
419: ألقي في بركة فيها سباع ف جوعت فامسكت عن أكله فبني عليه ركن
بالجص والحجر وهو حي.
(2) واسمه عامر بن عمارة بن خريم الناعم بن عمرو بن الحارث بن خارجة بن
سنان بن أبي حارثة بن مرة بن نشبة بن غيظ بن مرة بن عوف بن سعد بن
ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان المري أحد فرسان العرب المشهورين.
(3) في ابن الاثير 6 / 133: مات أبو الهيذام سنة اثنتين وثمانين ومائة.
(*)
(10/180)
من البرامك
عودا * له فأكرم بعوده حووا على الشعر طرا * خفيفه ومديده وفيها عزل
الرشيد الغظريف بن عطاء عن خراسان وولاها حمزة بن مالك بن الهيثم
الخزاعي الملقب بالعروس.
وفيها ولى الرشيد جعفر بن يحيى بن خالد نيابة مصر، فاستناب عليها جعفر
عمر بن مهران، وكان ردئ الخلق ردئ الشكل زمن الكف أحول، وكان سبب
ولايته إياها أن نائبها موسى بن عيسى كان قد عزم على خلع الرشيد.
فقال الرشيد: والله لاعزلنه ولاولين عليها أحسن (1) الناس.
فاستدعى عمر بن مهران هذا فولاه عليها عن نائبه جعفر بن يحيى البرمكي.
فسار إليها على بغل وغلامه أبو درة على بغل آخر، فدخلها كذلك فانتهى
إلى مجلس نائبها موسى بن عيسى
فجلس في أخريات الناس، فلما انفض الناس أقبل عليه موسى بن عيسى وهو لا
يعرف من هو، فقال: ألك حاجة يا شيخ ؟ قال: نعم أصلح الله الامير.
ثم دفع الكتب إليه فلما قرأها قال: أنت عمر بن مهران ؟ قال: نعم ! قال:
لعن الله فرعون حين قال: (أليس لي ملك مصر) [ الزخرف: 51 ] ثم سلم إليه
العمل وارتحل منها، وأقبل عمر بن مهران على عمله، وكان لا يقبل شيئا من
الهدايا إلا ما كان ذهبا أو فضة أو قماشا، ثم يكتب على كل هدية اسم
مهديها، ثم يطالب بالخراج ويلح في طلبه عليهم، وكان بعضهم يماطله به،
فأقسم لا يماطله أحد إلا فعل به وفعل.
فجمع من ذلك شيئا كثيرا، وكان يبعث ما جمعه إلى بغداد، ومن ما طله بعثه
إلى بغداد.
فتأدب الناس معه.
ثم جاءهم القسط الثاني فعجز كثير منهم عن الاداء فجعل يستحضر ما كانوا
أدوه إليه من الهدايا، فإن كان نقدا أداه عنهم، وإن كان برا باعه وأداه
عنهم، وقال لهم: إني إنما ادخرت هذا لكم إلى وقت حاجتكم.
ثم أكمل استخراج جميع الخراج بديار مصر ولم يفعل ذلك أحد قبله، ثم
انصرف عنها لانه كان قد شرط على الرشيد أنه إذا مهد البلاد وجبى
الخراج، فذاك إذنه في الانصراف.
ولم يكن معه بالديار المصرية جيش ولا غيره سوى مولاه أبو درة وحاجبه،
وهو منفذ أموره.
وفيها غزا الصائفة عبد الرحمن بن عبد الملك ففتح حصنا.
وفيها حجت زبيدة زوجة الرشيد ومعها أخوها، وكان أمير الحج سليمان بن
أبي جعفر المنصور عم الرشيد.
وفيها توفي: إبراهيم بن صالح ابن
علي بن عبد الله بن عباس، كان أميرا على مصر، توفي في شعبان.
وإبراهيم بن هرمة كان شاعرا.
وهو إبراهيم بن علي بن سلمة بن عامر بن هرمة أبو إسحاق الفهري المدني،
وفد على المنصور في وفد أهل المدينة حين استوفدهم عليه، فجلسوا إلى ستر
دون المنصور، يرى الناس من ورائه ولا يرونه، وأبو الخصيب الحاجب واقف
يقول: يا أمير المؤمنين هذا فلان الخطيب، فيأمره فيخطب،
__________
(1) في الطبري 10 / 61 وابن الاثير 6 / 126: أخس وهو أصوب.
(*)
(10/181)
ويقول: هذا
فلان الشاعر فيأمره فينشد.
حتى كان من آخرهم ابن هرمة هذا، فسمعته يقول: لا
مرحبا ولا أهلا ولا أنعم الله بك عينا.
قال: فقلت: هلكت، ثم استنشدني فأنشدته قصديتي التي أقول فيها: سرى ثوبه
عند الصبا المتجابل (1) * وقرب للبين الخليط المزايل حتى انتهيت إلى
قولي: فأما الذي أمنته يأمن الردى * وأما الذي حاولت بالثكل ثاكل قال:
فأمر برفع الحجاب فإذا وجهه كأنه فلقة قمر، فاستنشدني بقية القصيدة
وأمر لي بالقرب بين يديه، والجلوس إليه، ثم قال: ويحك يا إبراهيم !
لولا ذنوب بلغتني عنك لفضلتك على أصحابك، فقلت: يا أمير المؤمنين كل
ذنب بلغك عني لم تعف عنه فأنا مقر به.
قال: فتناول المخصرة فضربني بها ضربتين وأمر لي بعشرة آلاف وخلعة وعفا
عني وألحقني بنظرائي.
وكان من جملة ما نقم المنصور عليه قوله: ومهما الام (2) على حبهم *
فإني أحب بني فاطمه بني بنت من جاء بالمحكما * ت وبالدين وبالسنة
القائمة فلست أبالي بحبي لهم * سواهم من النعم السائمة قال الاخفش.
قال لنا ثعلب قال الاصمعي: ختمت الشعراء بابن هرمة.
ذكر وفاته في هذه السنة أبو الفرج ابن الجوزي (3).
وفيها توفي الجراح بن مليح والد
وكيع بن الجراح، وسعيد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن جميل أبو عبد الله
المديني، ولي قضاء بغداد سبع عشرة سنة لعسكر المهدي، وثقه ابن معين
وغيره.
وفيها توفي: صالح بن بشير المري أحد العباد والزهاد، كان كثير البكاء
وكان يعظ فيحضر مجلسه سفيان الثوري وغيره من العلماء، ويقول: سفيان هذا
نذير قوم، وقد استدعاه المهدي ليحضر عنده فجاء إليه راكبا على حمار
فدنا من بساط الخليفة وهو راكب فأمر الخليفة ابنيه - وليي العهد من
بعده موسى الهادي وهارون
__________
(1) كذا بالاصل ولعل فيه تحريفا.
(2) لم يجزم الفعل هنا، وهو شاذ لضرورات الشعر.
(3) في خزانة الادب 1 / 425: مات في خلافة الرشيد بعد الخمسين ومائة
تقريبا.
وقال في الذريعة 1 / 314: وفي سنتي ولادته ووفاته خلاف.
(*)
(10/182)
الرشيد - أن يقوما إليه لينزلاه عن دابته، فابتدراه فأنزلاه، فأقبل
صالح على نفسه فقال: لقد خبت وخسرت إن أنا داهنت ولم اصدع بالحق في هذا
اليوم، وفي هذا المقام.
ثم جلس إلى المهدي فوعظه موعظة بليغة حتى أبكاه، ثم قال له: اعلم أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم خصم من خالفه في أمته، ومن كان محمد خصمه
كان الله خصمه، فأعد لمخاصمة الله ومخاصمة رسوله حججا تضمن لك النجاة،
وإلا فاستسلم للهلكة، واعلم أن أبطا الصرعى نهضة صريع هوى بدعته، وأعلم
أن الله قاهر فوق عباده، وأن أثبت الناس قدما آخذهم بكتاب الله وسنة
رسوله، وكلام طويل.
فبكى المهدي وأمر بكتابة ذلك الكلام في دواوينه.
وفيها توفي عبد الملك بن محمد بن
محمد بن أبي بكر عمرو بن حزم قدم قاضيا بالعراق.
وفرج بن فضالة التنوخي الحمصي، كان على بيت المال ببغداد في خلافة
الرشيد، فتوفي في هذه السنة، وكان مولده سنة ثمان وثمانين فمات وله
ثمان وثمانون سنة.
ومن مناقبه أن المنصور دخل يوما إلى قصر الذهب فقام الناس إلا فرج بن
فضالة فقال له وقد غضب عليه: لم لم تقم ؟ قال: خفت أن سيألني الله عن
ذلك ويسألك لم رضيت بذلك، وقد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم القيام
للناس.
قال: فبكى المنصور وقربه وقضى حوائجه.
والمسيب بن زهير بن عمرو أبو سلمة الضبي، كان والي الشرطة ببغداد في
أيام المنصور والمهدي والرشيد، وولي خراسان مرة للمهدي.
عاش ستا وتسعين سنة.
والوضاح بن عبد الله أبو عوانة السري مولاهم، كان من أئمة المشايخ في
الرواية.
توفي في هذه السنة وقد جاوز الثمانين. |