البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
ثم دخلت سنة خمس وثمانين ومائة
فيها قتل أهل طبرستان متوليهم مهرويه
الرازي، فولى الرشيد عليهم عبد الله بن سعيد الحرشي.
وفيها قتل عبد الرحمن الانباري أبان بن قحطبة الخارجي بمرج القلعة.
وفيها عاث حمزة الشاري ببلاد باذغيس من خراسان، فنهض عيسى بن علي بن
عيسى إلى عشرة آلاف من جيش حمزة فقتلهم، وسار وراء حمزة إلى كابل
وزابلستان.
وفيها خرج أبو الخصيب فتغلب على أبيورد وطوس ونيسابور وحاصر مرو وقوي
أمره.
وفيها توفي يزيد بن يزيد ببرذعة،
فولى الرشيد مكانه ابنه أسد بن يزيد.
واستأذن الوزير يحيى (2) بن خالد الرشيد في أن يعتمر في رمضان فأذن له،
ثم رابط بجنده إلى وقت الحج.
وكان أمير الحج في هذه السنة منصور بن محمد بن عبد الله بن علي بن عبد
الله بن عباس.
وفيها توفي: عبد الصمد بن علي ابن عبد الله بن عباس عم السفاح
والمنصور.
ولد سنة أربع ومائة، وكان ضخم الخلق جدا ولم يبدل أسنانه، وكانت أصولها
صفيحة واحدة، قال يوما للرشيد: يا أمير المؤمنين هذا المجلس
__________
(1) واسمه عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب.
(2) كذا بالاصل والطبري، وفي ابن الاثير 6 / 168: جعفر بن يحيى بن
خالد.
(*)
(10/200)
اجتمع فيه عم
أمير المؤمنين، وعم عمه، وعم عم عمه، وذلك أن سليمان بن أبي جعفر عم
الرشيد، والعباس بن محمد بن علي عم سليمان، وعبد الصمد بن علي السفاح،
وتلخيص ذلك أن عبد الصمد عم عم عم الرشيد لانه عم جده.
روى عبد الصمد عن أبيه عن جده عبد الله بن عباس عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال: " إن البر والصلة ليطيلان الاعمار، ويعمران الديار،
ويثريان الاموال، ولو كان القوم فجارا ".
وبه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن البر والصلة ليخففان
الحساب يوم القيامة " ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم (والذين
يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب) [
الرعد: 21 ].
وغير ذلك من الاحاديث.
ومحمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، المعروف
بالامام، كان علي إمارة الحاج، وإقامة سقايته في خلافة المنصور عدة
سنين.
توفي ببغداد فصلى عليه الامين في شوال من هذه السنة، ودفن بالعباسية.
وفيها توفى من مشايخ الحديث: ضمام (1) بن إسماعيل، وعمرو بن عبيد (2).
والمطلب بن زياد (3).
والمعافى بن عمران (4).
في قول.
ويوسف بن الماجشون.
وأبو إسحاق الفزاري إمام أهل الشام بعد الاوزاعي في المغازي والعلم
والعبادة.
ورابعة العدوية وهي رابعة بنت إسماعيل مولاة آل عتيك، العدوية البصرية
العابدة المشهورة.
ذكرها أبو نعيم في الحلية والرسائل، وابن الجوزي في صفوة الصفوة،
والشيخ شهاب الدين السهروردي في المعارف، والقشيري.
وأثنى عليها أكثر الناس، وتكلم فيها أبو داود السجستاني، واتهمها
بالزندقة، فلعله بلغه عنها أمر.
وأنشد لها السهروردي في المعارف: - إني جعلتك في الفؤاد محدثي * وأبحت
جسمي من أراد جلوسي فالجسم مني للجليس موانس * وحبيب قلبي في الفؤاد
أنيسي وقد ذكروا لها أحوالا وأعمالا صالحة، وصيام نهار وقيام ليل،
ورؤيت لها منامات صالحة فالله
__________
(1) من تقريب التهذيب 1 / 374 وشذرات الذهب 1 / 308 وفي الاصل: تمام.
وهو ابن اسماعيل بن مالك المرادي أبو اسماعيل المصري قال أبو حاتم: كان
صدوقا متعبدا لم يخرجوا له شيئا في الكتب الستة.
قال في المغني: لينه بعض الحفاظ.
(2) عمرو بن عبيد: الطنافسي الكوفي روى عن زياد بن علاقة والكبار.
وثقه أحمد وابن معين.
(3) المطلب بن زياد: ابن أبي زهير الثقفي مولاهم الكوفي صدوق.
(4) المعافى بن عمران: أبو سعود الازدي عالم أهل الموصل وزاهدهم سمع من
ابن جريج وطبقته.
قال الثوري فيه: ياقوتة العلماء.
وقال ابن سعد: كان ثقة فاضلا صاحب سنة.
وقال في تقريب التهذيب: ثقة عابد فقيه.
(*)
(10/201)
أعلم.
توفيت بالقدس الشريف وقبرها شرقيه بالطور.
والله أعلم.
ثم دخلت سنة ست وثمانين ومائة فيها خرج علي
بن عيسى بن ماهان من مرو لحرب أبي الخصيب إلى نسا فقاتله بها، وسبى
نساءه وذراريه.
واستقامت خراسان.
وحج بالناس فيها الرشيد ومعه ابناه محمد الامين، وعبد الله المأمون،
فبلغ جملة ما أعطى لاهل الحرمين ألف ألف دينار وخمسين ألف دينار، وذلك
أنه كان يعطي الناس فيذهبون إلى الامين فيعطيهم، فيذهبون إلى المأمون
فيعطيهم.
وكان إلى الامين ولاية الشام والعراق، وإلى المأمون من همدان إلى بلاد
المشرق.
ثم تابع الرشيد لولده القاسم من بعد ولديه، ولقبه المؤتمن، وولاه
الجزيرة والثغور والعواصم، وكان الباعث له على ذلك أن ابنه القاسم هذا
كان في حجر عبد الملك بن صالح، فلما بايع الرشيد لولديه كتب إليه: - يا
أيها الملك الذي * لو كان نجما كان سعدا اعقد لقاسم بيعة * واقدح له في
الملك زندا فالله فرد واحد * فاجعل ولاة العهد فردا ففعل الرشيد ذلك،
وقد حمده قوم على ذلك، وذمه آخرون.
ولم ينتظم للقاسم هذا أمر، بل اختطفته المنون والاقدار عن بلوغ الامل
والاوطار.
ولما قضى الرشيد حجه أحضر من معه من
الامراء والوزراء، وأحضر وليي العهد محمدا الامين وعبد الله المأمون.
وكتب بمضمون ذلك صحيفة، وكتب فيها الامراء والوزراء خطوطهم بالشهادة
على ذلك (1)، وأراد الرشيد أن يعلقها في الكعبة فسقطت فقيل: هذا أمر
سريع انتقاضه.
وكذا وقع كما سيأتي.
وقال إبراهيم الموصلي في عقد هذه البيعة في الكعبة: خير الامور مغبة *
وأحق أمر بالتمام أمر قضى أحكامه الر * حمن في البلد الحرام وقد أطال
القول في هذا المقام أبو جعفر بن جرير وتبعه ابن الجوزي في المنتظم.
وفيها توفي من الاعيان أصبغ بن عبد
العزيز بن مروان بن الحكم أبو ريان في رمضان منها.
وحسان بن إبراهيم قاضي كرمان عن مائة سنة.
__________
(1) انظر نسخة الكتاب في الطبري 10 / 73.
(*)
(10/202)
وسلم الخاسر
الشاعر وهو سلم بن عمرو بن حماد بن عطاء، وإنما قيل له الخاسر لانه باع
مصحفا واشترى به ديوان شعر لامرئ القيس، وقيل لانه أنفق مائتي ألف في
صناعة الادب (1).
وقد كان شاعرا منطقيا له قدرة على الانشاء على حرف واحد، كما قال في
موسى الهادي: موسى المطر غيث بكر ثم انهمر كم اعتبر ثم فتر وكم قدر ثم
غفر عدل السير باقي الاثر خير البشر فرع مضر بدر بدر لمن نظر هو الوزر
لمن حضر والمفتخر لمن غبر.
وذكر الخطيب أنه كان على طريقة غير مرضية من المجون والفسق، وأنه كان
من تلاميذ بشار ابن برد، وأن نظمه أحسن من نظم بشار، فمما غلب فيه
بشارا قوله: من راقب الناس لم يظفر بحاجته * وفاز بالطيبات الفاتك
اللهج
فقال سلم: من راقب الناس مات غما * وفاز باللذة الجسور فغضب بشار وقال:
أخذ معاني كلامي فكسناها ألفاظا أخف من ألفاظي.
وقد حصل له من الخلفاء والبرامكة نحوا من أربعين ألف دينار، وقيل أكثر
من ذلك.
ولما مات ترك ستة وثلاثين ألف دينار وديعة عند أبي الشمر (2) الغساني،
فغنى إبراهيم الموصلي يوما الرشيد فأطر به فقال له: سل.
فقال: يا أمير المؤمنين أسألك شيئا ليس فيه من مالك شئ، ولا أرزأوك
شيئا سواه.
قال: وما هو ؟ فذكر له وديعة سلم الخاسر، وأنه لم يترك وارثا.
فأمر له بها (3).
ويقال إنها كانت خمسين ألف دينار.
والعباس بن محمد ابن علي بن عبد الله بن عباس عم الرشيد، كان من سادات
قريش، ولي إمارة الجزيرة في أيام الرشيد، وقد أطلق له الرشيد في يوم
خمسة آلاف درهم، وإليه تنسب العباسية، وبها دفن وعمره خمس وستون سنة،
وصلى عليه الامين.
ويقطين بن موسى كان أحد الدعاة إلى دولة بني العباس، وكان داهية ذا
رأي، وقد احتال مرة حيلة عظيمة لما
__________
(1) في الاغاني 19 / 261 ووفيات الاعيان 2 / 350: لقب بالخاسر لانه باع
مصحفا واشترى بثمنه طنبورا.
(2) في وفيات الاعيان: أبي السمراء.
(3) في الاغاني 19 / 280: ان الرشيد هو الذي أخذ تركة سلم الخاسر وقال:
هذا خادمي ونديمي والذي خلفه من مالي، فأنا أحق به.
(*)
(10/203)
حبس مروان
الحمار إبراهيم بن محمد بحران، فتحيرت الشيعة العباسية فيمن يولون، ومن
يكون ولي الامر من بعده إن قتل ؟ فذهب يقطين هذا إلى مروان فوقف بين
يديه في صورة تاجر فقال: يا أمير المؤمنين إني قد بعث إبراهيم بن محمد
بضاعة ولم أقبض ثمنها منه حتى أخذته رسلك، فإن رأى أمير المؤمنين أن
يجمع بيني وبينه لاطالبه بمالي فعل قال: نعم ! فأرسل به إليه مع غلام،
فلما رآه
قال: يا عدو الله إلى من أوصيت بعدك آخذ مالي منه ؟ فقال له: إلى ابن
الحارثية - يعني أخاه عبد الله السفاح - فرجع يقطين إلى الدعاة إلى بني
العباس فأعلمهم بما قال، فبايعوا السفاح، فكان من أمره ما ذكرناه.
ثم دخلت سنة سبع وثمانين ومائة فيها كان
مهلك البرامكة على يدي الرشيد، قتل جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي، ودمر
ديارهم واندرست آثارهم، وذهب صغارهم وكبارهم.
وقد اختلف في سبب ذلك على أقوال ذكرها ابن جرير وغيره، قيل إن الرشيد
كان قد سلم يحيى بن عبد الله بن حسن إلى جعفر البرمكي ليسجنه عنده، فما
زال يحيى يترفق له حتى أطلقه، فنم الفضل بن الربيع ذلك إلى الرشيد فقال
له الرشيد: ويلك لا تدخل بيني وبين جعفر، فلعله أطلقه عن أمري وأنا لا
أشعر.
ثم سأل الرشيد جعفرا عن ذلك فصدقه فتغيظ عليه وحلف ليقتلنه، وكره
البرامكة، ثم قتلهم وقلاهم بعد ما كانوا أحظى الناس عنده، وأحبهم إليه،
وكانت أم جعفر والفضل أم الرشيد من الرضاعة، وقد جعلهم الرشيد من
الرفعة في الدنيا وكثرة المال بسبب ذلك شيئا كثيرا لم يحصل لمن قبلهم
من الوزراء ولا لمن بعدهم من الاكابر والرؤساء، بحيث إن جعفرا بنى دارا
غرم عليها عشرين ألف ألف درهم، وكان ذلك من جملة ما نقمه عليه الرشيد.
ويقال: إنما قتلهم الرشيد لانه كان لا يمر ببلد ولا إقليم ولا قرية ولا
مزرعة ولا بستان إلا قيل هذا لجعفر، ويقال إن البرامكة كانوا يريدون
إبطال خلافة الرشيد وإظهار الزندقة.
وقيل إنما قتلهم بسبب العباسة.
ومن العلماء من أنكر ذلك وإن كان ابن جرير قد ذكره.
وذكر ابن الجوزي أن الرشيد سئل عن سبب قتله البرامكة فقال: لو أعلم أن
قميصي يعلم ذلك لاحرقته.
وقد كان جعفر يدخل على الرشيد بغير إذن حتى كان يدخل عليه وهو في
الفراش مع حظاياه - وهذه وجاهة ومنزلة عالية - وكان عنده من أحظى
العشراء على الشراب المسكر - فإن الرشيد كان يستعمل في أواخر أيام
خلافته المسكر - وكان أحب أهله إليه أخته العباسة بنت المهدي، وكان
يحضرها معه، وجعفر البرمكي حاضر أيضا معه، فزوجه بها ليحل النظر إليها،
واشترط عليه أن لا يطأها.
وكان الرشيد ربما قام وتركهما وهما ثملان من الشراب فربما واقعها جعفر
فحبلت منه فولدت
ولدا وبعثته مع بعض جواريها إلى مكة، وكان يربى بها.
وذكر ابن خلكان أن الرشيد لما زوج أخته العباسة من جعفر أحبها حبا
شديدا، فراودته عن
(10/204)
نفسه فامتنع
أشد الامتناع خوفا من الرشيد، فاحتالت عليه - وكانت أمه تهدي له في كل
ليلة جمعة جارية حسناء بكرا - فقالت لامه: أدخليني عليه بصفة جارية:
فهابت ذلك فتهددتها حتى فعلت ذلك.
فلما دخلت عليه لم يتحقق وجهها فواقعها فقالت له: كيف رأيت خديعة بنات
الملوك ؟ وحملت من تلك الليلة، فدخل على أمه فقال: بعتيني والله برخيص.
ثم إن والده يحيى بن خالد جعل يضيق على عيال الرشيد في النفقة حتى شكت
زبيدة ذلك إلى الرشيد مرات، ثم أفشت له سر العباسة، فاستشاط غيظا، ولما
أخبرته أن الولد قد أرسلت به إلى مكة حج عام ذلك حتى تحقق الامر.
ويقال: إن بعض الجواري نمت عليها إلى الرشيد وأخبرته بما وقع، وأن
الولد بمكة وعنده جوار وأموال وحلى كثيرة.
فلم يصدق حتى حج في السنة الخالية، ثم كشف الامر عن الحال، فإذا هو كما
ذكر.
وقد حج في هذه السنة التي حج فيها الرشيد يحيى بن خالد، فجعل يدعو عند
الكعبة: اللهم إن كان يرضيك عني سلب جميع مالي وولدي وأهلي فافعل ذلك
وأبق علي منهم الفضل، ثم خرج.
فلما كان عند باب المسجد رجع فقال: اللهم والفضل معهم فإني راض برضاك
عني ولا تستثن منهم أحدا.
فلما قفل الرشيد من الحج صار إلى الحيرة ثم ركب في السفن إلى العمر (1)
من أرض الانبار، فلما كانت ليلة السبت سلخ المحرم من هذه السنة أرسل
مسرورا الخادم ومعه حماد بن سالم أبو عصمة في جماعة من الجند، فأطافوا
بجعفر بن يحيى ليلا، فدخل عليه مسرور الخادم وعنده بختيشوع المتطبب،
وأبو ركانة الاعمى المغني الكلوذاني، وهو في أمره وسروره، وأبو زكار
(2) يغنيه: فلا تبعد فكل فتى سيأتي * عليه الموت يطرق أو يغادي فقال
الخادم له: يا أبا الفضل هذا الموت قد طرقك، أجب أمير المؤمنين.
فقام إليه يقبل قدميه ويدخل عليه أن يمكنه فيدخل إلى أهله فيوصي إليهم
ويودعهم، فقال: أما الدخول فلا سبيل
إليه، ولكن أوص.
فأوصى وأعتق جميع مماليكه أو جماعة منهم، وجاءت رسل الرشيد تستحثه
فأخرج إخراجا عنيفا، فجعلوا يقودونه حتى أتوا به المنزل الذي فيه
الرشيد، فحبسه وقيده بقيد حمار، وأعلموا الرشيد بما كان يفعل، فأمر
بضرب عنقه، فجاء السياف إلى جعفر فقال: إن أمير المؤمنين قد أمرني أن
آتيه برأسك.
فقال: يا أبا هاشم لعل أمير المؤمنين سكران، فإذا صحا عاتبك في،
فعاوده.
فرجع إلى الرشيد فقال: إنه يقول: لعلك مشغول.
فقال: يا ماص بظر أمه ائتني
__________
(1) العمر: بضم العين، وفي نسخ البداية المطبوعة الغمر، وقال البكري في
معجم ما استعجم: قلاية العمر والعمر عندهم: الدير، والعمر: من
السريانية (عمرا) وهي تعني البيت ثم خصصت بالدير.
أما القلاية فهي صومعة الراهب.
ويضم الدير على هذا عدة قلايات.
(2) من الطبري وابن الاثير والفخري.
وفي الاصل: أبو ركانة (*)
(10/205)
برأسه.
فكرر عليه جعفر المقالة فقال الرشيد في الثالثة: برئت من المهدي إن لم
تأتني برأسه لابعثن من يأتيني برأسك ورأسه.
فرجع إلى جعفر فحز رأسه وأتى به إلى الرشيد فألقاه بين يديه، وأرسل
الرشيد من ليلته البرد بالاحتياط على البرامكة جميعهم ببغداد وغيرها،،
ومن كان منهم بسبيل.
فأخذوا كلهم عن آخرهم.
فلم يفلت منهم أحد.
وحبس يحيى بن خالد في منزله، وحبس الفضل بن يحيى في منزل آخر وأخذ جميع
ما كانوا يملكونه من الدنيا، وبعث الرشيد برأس جعفر وجثته فنصب الرأس
عند الجسر الاعلى، وشقت الجثة باثنتين فنصب نصفها الواحد عند الجسر
الاسفل، والآخر عند الجسر الآخر، ثم أحرقت بعد ذلك.
ونودي في بغداد: أن لا أمان للبرامكة ولا لمن آواهم، إلا محمد بن يحيى
بن خالد فإنه مستثنى منهم لنصحه للخليفة.
وأتي الرشيد بأنس بن أبي شيخ كان يتهم بالزندقة، وكان مصاحبا لجعفر،
فدار بينه وبين الرشيد كلام، ثم أخرج الرشيد من تحت فراسه سيفا وأمر
بضرب عنقه به (1).
وجعل يتمثل ببيت قيل في قتل أنس قبل ذلك (2): تلمظ السيف من شوق إلى
أنس (3) * فالسيف يلحظ والاقدار تنتظر
فضربت عنق أنس فسبق السيف الدم فقال الرشيد: رحم الله عبد الله بن
مصعب، فقال الناس: إن السيف كان للزبير بن العوام.
ثم شحنت السجون بالبرامكة واستلبت أموالهم كلها، وزالت عنهم النعمة.
وقد كان الرشيد في اليوم الذي قتل جعفرا في آخره، هو وإياه راكبين في
الصيد في أوله، وقد خلا به دون ولاة العهود، وطيبه في ذلك بالغالية
بيده، فلما كان وقت المغرب ودعه الرشيد وضمه إليه وقال: لولا أن الليلة
ليلة خلوتي بالنساء ما فارقتك، فاذهب إلى منزلك واشرب واطرب وطب عيشا
حتى تكون على مثل حالي، فأكون أنا وأنت في اللذة سواء.
فقال: والله يا أمير المؤمنين لا أشتهي ذلك إلا معك.
فقال: لا ! انصرف إلى منزلك.
فانصرف عنه جعفر فما هو إلا أن ذهب الليل بعضه حتى أوقع به من البأس
والنكال ما تقدم ذكره.
وكان ذلك ليلة السبت آخر ليلة من المحرم، وقيل إنها أول ليلة من صفر في
هذه السنة، وكان عمر جعفر إذ ذاك سبعا وثلاثين سنة، ولما جاء الخبر إلى
أبيه يحيى بن خالد بقتله قال: قتل الله ابنه.
ولما قيل له: قد خربت دارك قال: خرب الله دوره.
ويقال: إن يحيى لما نظر إلى دوره وقد هتكت ستورها واستبيحت قصورها،
وانتهب ما فيها.
قال: هكذا تقوم الساعة.
وقد كتب إليه بعض أصحابه يعزيه فيما جرى له، فكتب إليه جواب التعزية:
أنا بقضاء الله راض، وباختياره عالم، ولا يؤاخذ الله العباد إلا
بذنوبهم، وما الله بظلام للعبيد.
وما يغفر الله أكثر ولله الحمد.
وقد أكثر الشعراء من المراثي في
__________
(1) تولى قتله - في رواية للطبري - ابراهيم بن عثمان بن نهيك.
(2) نسبه ابن الاعثم لابي كبير الهذلي، والبيت ليس في ديوان الهذليين.
(3) في ابن الاعثم 8 / 277: إلى النفس.
(*)
(10/206)
البرامكة فمن
ذلك قول الرقاشي، وقيل إنها لابي نواس (1): الآن استرحنا واستراحت
ركابنا * وأمسك من يحدي ومن كان يحتدي (2) فقل للمطايا قد أمنت من
السرى * وطي الفيافي فدفدا بعد فدفد وقل للمنايا قد ظفرت بجعفر * ولن
تظفري من بعده بمسود
وقل للمطايا بعد فضل: تعطلي * وقل للرزايا كل يوم تجددي ودونك سيفا
برمكيا مهندا * أصيب بسيف هاشمي مهند وقال الرقاشي (3)، وقد نظر إلى
جعفر وهو على جذعه: أما والله لولا خوف واش * وعين للخليفة لا تنام
لطفنا حول جذعك واستلمنا * كما للناس بالحجر استلام فما أبصرت قبلك (4)
يا بن يحيى * حساما فله السيف الحسام على اللذات والدنيا جميعا (5) *
ودولة آل برمك السلام قال فاستدعاه الرشيد فقال له: كم كان يعطيك جعفر
كل عام ؟ قال: ألف دينار.
قال: فأمر له بألفي دينار.
وقال الزبير بن بكار عن عمه مصعب الزبيري قال: لما قتل الرشيد جعفرا
وقفت امرأة على حمار فاره فقالت بلسان فصيح: والله يا جعفر لئن صرت
اليوم آية لقد كنت في المكارم غاية، ثم أنشأت تقول (6): ولما رأيت
السيف خالط (7) جعفرا * ونادى مناد للخليفة في يحيى بكيت على الدنيا
وأيقنت أنما * قصارى الفتى يوما مفارقة الدنيا وما هي إلا دولة بعد
دولة * تخول ذا نعمى وتعقب ذا بلوى إذا أنزلت هذا منازل رفعة * من
الملك حطت ذا إلى الغاية القصوى قال: ثم حركت حمارها فذهبت فكأنها كانت
ريحا لا أثر لها، ولا يعرف أين ذهبت.
وذكر ابن الجوزي أن جعفرا كان له جارية يقال لها فتينة مغنية، لم يكن
لها في الدنيا نظير، كان
__________
(1) في مروج الذهب 3 / 467 قال: هو أشجع السلمي.
(2) في مروج الذهب: يجدي ويجتدي.
(3) نسب الطبري الابيات إلى أبي عبد الرحمن العطوي.
(4) في شذرات الذهب: مثلك، وليس البيت في الطبري.
(5) في الطبري: على الدنيا وساكنها جميعا...(6) نسب ابن خلكان الابيات
إلى دعبل بن علي الخزاعي 1 / 340.
(7) في وفيات الاعيان: صبح.
(*)
(10/207)
مشتراها عليه
بمن معها من الجواري مائة ألف دينار، فطلبها منه الرشيد فامتنع من ذلك،
فلما قتله الرشيد اصطفى تلك الجارية فأحضرها ليلة في مجلس شرابه وعنده
جماعة من جلسائه وسماره، فأمر من معها أن يغنين فاندفعت كل واحدة تغني،
حتى انتهت النوبة إلى فتينة، فأمرها بالغناء فأسبلت دمعها وقالت: أما
بعد السادة فلا.
فغضب الرشيد غضبا شديدا، وأمر بعض الحاضرين أن يأخذها إليه فقد وهبها
له، ثم لما أراد الانصراف قال له فيما بينه وبينه: لا تطأها.
ففهم أنه إنما يريد بذلك كسرها.
فلما كان بعد ذلك أحضرها وأظهر أنه قد رضي عنها وأمرها بالغناء فامتنعت
وأرسلت دمعها وقالت: أما بعد السادة فلا.
فغضب الرشيد أشد من غضبه في المرة الاولى وقال: النطع والسيف، وجاء
السياف فوقف على رأسها فقال له الرشيد: إذا أمرتك ثلاثا وعقدت أصابعي
ثلاثا فاضرب.
ثم قال لها غن: فبكت وقالت: أما بعد السادة فلا.
فعقد أصبعه الخنصر، ثم أمرها الثانية فامتنعت، فعقد اثنتين، فارتعد
الحاضرون وأشفقوا غاية الاشفاق وأقبلوا عليها يسألونها أن تغني لئلا
تقتل نفسها، وأن تجيب أمير المؤمنين إلى ما يريد.
ثم أمرها الثالثة فاندفعت تغني كارهة: لما رأيت الدنيا قد درست * أيقنت
أن النعيم لم يعد قال فوثب إليها الرشيد وأخذ العود من يدها وأقبل يضرب
به وجهها ورأسها حتى تكسر، وأقبلت الدماء وتطايرت الجوار من حولها،
وحملت من بين يديه فماتت بعد ثلاث.
وروي أن الرشيد كان يقول: لعن الله من أغراني بالبرامكة، فما وجدت
بعدهم لذة ولا راحة ولا رجاء، وددت والله أني شطرت نصف عمري وملكي وأني
تركتهم على حالهم.
وحكى ابن ؟ ن أن جعفرا اشترى جارية من رجل بأربعين ألف دينار، فالتفتت
إلى بائعها وقالت: اذكر العهد الذي بيني وبينك، لا تأكل من ثمني شيئا.
فبكى سيدها وقال: اشهدوا أنها حرة، وأني قد تزوجتها.
فقال جعفر: أشهدوا أن الثمن له أيضا.
وكتب إلى نائب له: أما بعد فقد
كثر شاكوك، وقل شاكروك، فأما أن تعدل، وإما تعتزل.
ومن أحسن ما وقع منه من التلطف في إزالة هم الرشيد، وقد دخل عليه منجم
يهودي فأخبره أنه سيموت في هذه السنة، فحمل الرشيدهما عظيما، فدخل عليه
جعفر فسأله: ما الخبر ؟ فأخبره بقول اليهودي فاستدعى جعفر اليهودي فقال
له: كم بقي لك من العمر ؟ فذكر مدة طويلة.
فقال: يا أمير المؤمنين اقتله حتى تعلم كذبه فيما أخبر عن عمره.
فأمر الرشيد باليهودي فقتل، وسرى عن الرشيد الذي كان فيه.
وبعد مقتل البرامكة قتل الرشيد إبراهيم بن عثمان بن نهيك، وذلك أنه حزن
على البرامكة، ولا سيما على جعفر، كان يكثر البكاء عليهم، ثم خرج من
حيز البكاء إلى حيز الانتصار لهم والاخذ بثأرهم، وكان إذا شرب في منزله
يقول لجاريته: ائتني بسيفي، فيسله ثم يقول: والله لاقتلن قاتله، فأكثر
أن يقول ذلك، فخشي ابنه عثمان أن يطلع الخليفة على ذلك فيهلكهم عن
آخرهم،
(10/208)
ورأى أن أباه
لا ينزع عن هذا، فذهب إلى الفضل بن الربيع فأعلمه، فأخبر الفضل
الخليفة، فاستدعى به فاستخبره فأخبره، فقال: من يشهد معك عليه ؟ فقال:
فلان الخادم فجاء به فشهد، فقال الرشيد: لا يحل قتل أمير كبير بمجرد
قول غلام وخصي، لعلهما قد تواطا على ذلك.
فأحضره الرشيد معه على الشراب ثم خلا به فقال: ويحك يا إبراهيم ! إن
عندي سرا أحب أن أطلعك عليه، أقلقني في الليل والنهار.
قال: وما هو ؟ قال: إني ندمت على قتل البرامكة ووددت أني خرجت من نصف
ملكي ونصف عمري ولم أكن فعلت بهم ما فعلت، فإني لم أجد بعدهم لذة ولا
راحة.
فقال: رحمة الله على أبي الفضل - يعني جعفرا - وبكى، وقال: والله يا
سيدي لقد أخطأت في قتله.
فقال له: قم لعنك الله، ثم حبسه ثم قتله بعد ثلاثة أيام.
وسلم أهله وولده.
وفي هذه السنة غضب الرشيد على عبد الملك بن صالح بسبب أنه بلغه أن يريد
الخلافة، واشتد غضبه بسببه على البرامكة الذين هم في الحبوس، ثم سجنه
فلم يزل في السجن حتى مات الرشيد فأخرجه الامين وعقد له على نيابة
الشام.
وفيها ثارت العصبية بالشام بين المضرية والنزارية، فبعث إليهم الرشيد
محمد بن منصور بن زياد فأصلح بينهم.
وفيها كانت زلزلة عظيمة بالمصيصة فانهدم بعض سورها ونضب ماؤها ساعة من
الليل.
وفيها بعث الرشيد ولده القاسم على الصائفة، وجعله قربانا ووسيلة بين
يديه، وولاه العواصم، فسار إلى بلاد الروم فحاصرهم حتى افتدوا بخلق من
الاسارى يطلقونهم ويرجع عنهم، ففعل ذلك.
وفيها نقضت الروم الصلح الذي كان بينهم وبين المسلمين، الذي كان عقده
الرشيد بينه وبين رني ملكة الروم الملقبة أغسطه.
وذلك أن الروم عزلوها عنهم وملكوا عليهم النقفور، وكان شجاعا، يقال إنه
من سلالة آل جفنة، فخلعوا رني وسملوا عينيها.
فكتب نقفور إلى الرشيد: من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب، أما
بعد فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ، وأقامت نفسها مقام
البيدق، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقا بحمل أمثاله (1) إليها،
وذلك من ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي هذا فاردد إلي ما حملته
إليك من الاموال وافتد نفسك به، وإلا فالسيف بيننا وبينك.
فلما قرأ هارون الرشيد كتابه أخذه الغضب الشديد حتى لم يتمكن أحد أن
ينظر إليه، ولا يستطيع مخاطبته، وأشفق عليه جلساؤه خوفا منه، ثم استدعى
بدواة وكتب على ظهر الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون أمير
المؤمنين إلى نقفور كلب الروم.
قد قرأت كتابك يا بن الكافرة، والجواب ما تراه دون ما تسمعه والسلام.
ثم شخص من فوره وسار حتى نزل بباب هرقلة ففتحها واصطفى ابنة ملكها،
وغنم من الاموال شيئا كثيرا، وخرب وأحرق، فطلب نقفور منه الموادعة على
خراج يؤديه إليه في كل سنة، فأجابه الرشيد إلى ذلك.
فلما رجع من غزوته وصار بالرقة نقض الكافر العهد وخان الميثاق، وكان
البرد قد اشتد جدا، فلم يقدر أحد أن يجئ فيخبر الرشيد
__________
(1) في ابن الاثير 6 / 185: أضعافها.
(*)
(10/209)
بذلك لخوفهم
على أنفسهم من البرد، حتى يخرج فصل الشتاء.
وحج بالناس فيها عبد الله (1) بن عباس بن محمد بن علي.
ذكر في توفي فيها من الاعيان جعفر
بن يحيى بن خالد بن برمك أبو الفضل البرمكي الوزير ابن الوزير، ولاه
الرشيد
الشام وغيرها من البلاد، وبعثه إلى دمشق لما ثارت الفتنة العشيران
بحوران بين قيس ويمن، وكان ذلك أول نار ظهرت بين قيس ويمن في بلاد
الاسلام، كان خامدا من زمن الجاهلية فأثاروه في هذا الاوان، فلما قدم
جعفر بجيشه خمدت الشرور وظهر السرور، وقيلت في ذلك أشعار حسان، قد ذكر
ذلك ابن عساكر في ترجمة جعفر من تاريخه منها: - لقد أوقدت في الشام
نيران فتنة * فهذا أوان الشام تخمد نارها إذا جاش موج البحر من آل برمك
* عليها خبت شهبانها وشرارها رماها أمير المؤمنين بجعفر * وفيه تلاقى
صدعها وانجبارها هو الملك المأمول للبر والتقى * وصولاته لا يستطاع
خطارها وهي قصيدة طويلة (2)، وكانت له فصاحة وبلاغة وذكاء وكرم زائد،
كان أبوه قد ضمه إلى القاضي أبي يوسف فتفقه عليه، وصار له اختصاص
بالرشيد، وقد وقع ليلة بحضرة الرشيد زيادة على ألف توقيع، ولم يخرج في
شئ منها عن موجب الفقه.
وقد روى الحديث عن أبيه، عن عبد الحميد الكاتب، عن عبد الملك بن مروان
كاتب عثمان، عن زيد بن ثابت كاتب الوحي.
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا كتبت بسم الله الرحمن
الرحيم فبين السين فيه ".
رواه الخطيب وابن عساكر من طريق أبي القاسم الكعبي المتكلم، واسمه عبد
الله بن أحمد البلخي - وقد كان كاتبا لاحمد بن زيد - عن أبيه عن عبد
الله بن طاهر عن طاهر بن الحسين بن زريق، عن الفضل بن سهل ذي الرياستين
عن جعفر بن يحيى به.
وقال عمرو بن بحر الجاحظ قال جعفر للرشيد: يا أمير المؤمنين ! قال لي
أبي يحيى: إذا أقبلت الدنيا عليك فاعط، وإذا أدبرت فاعط، فإنها لا
تبقى، وأنشدني أبي: لا بتخلن بدنيا وهي مقبلة * فليس ينقصها التبذير
والسرف فان تولت فأحرى أن تجود بها * فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف قال
الخطيب: ولقد كان جعفر من علو القدر ونفاذ الامر وعظم المحل وجلالة
المنزلة عند
__________
(1) في الطبري 10 / 94: عبيد الله.
وفي مروج الذهب 4 / 455 كالاصل.
وقال: وقيل منصور بن المهدي.
(2) نسب القصيدة الطبري إلى منصور النمري (10 / 66 - 67).
(*)
(10/210)
الرشيد على
حالة انفرد بها، ولم يشاركه فيها أحد.
وكان سمح الاخلاق طلق الوجه ظاهر البشر.
أما جوده وسخاؤه وبذله وعطاؤه فأشهر من أن يذكر.
وكان أيضا من ذوي الفصاحة والمذكورين بالبلاغة.
وروى ابن عساكر عن مهذب حاجب العباس بن محمد صاحب قطيعة العباس
والعباسية أنه أصابته فاقة وضائقة، وكان عليه ديون، فألح عليه
المطالبون وعنده سفط فيه جواهر شراؤه عليه ألف ألف، فأتى به جعفرا
فعرضه عليه وأخبره بما هو عليه من الثمن، وأخبره بالحاح المطالبين
بديونهم، وأنه لم يبق له سوى هذا السفط.
فقال: قد اشتريته منك بألف ألف ثم أقبضه المال وقبض السفط منه، وكان
ذلك ليلا.
ثم أمر من ذهب بالمال إلى منزله وأجلسه معه في السمر تلك الليلة، فلما
رجع إلى منزله إذا السفط قد سبقه إلى منزله أيضا.
قال فلما أصبحت غدوت إلى جعفر لا تشكر له فوجدته مع أخيه الفضل على باب
الرشيد يستأذنان عليه، فقال له جعفر: إني قد ذكرت أمرك للفضل، وقد أمر
لك بألف ألف، وما أظنها إلا قد سبقتك إلى منزلك، وسأفاوض فيك أمير
المؤمنين.
فلما دخل ذكر له أمره وما لحقه من الديون فأمر له بثلاثمائة ألف دينار.
وكان جعفر ليلة في سمره عند بعض أصحابه (1) فجاءت الخنفساء فركبت ثياب
الرجل فألقاها عنه جعفر وقال: إن الناس يقولون: من قصدته الخنفساء يبشر
بمال يصيبه.
فأمر له جعفر بألف دينار.
ثم عادت الخنفساء، فرجعت إلى الرجل فأمر له بألف دينار أخرى.
وحج مرة مع الرشيد فلما كانوا بالمدينة قال لرجل من أصحابه: انظر جارية
أشتريها تكون فائقة في الجمال والغناء والدعابة، ففتش الرجل فوجد جارية
على النعت فطلب سيدها فيها مالا كثيرا على أن يراها جعفر، فذهب جعفر
إلى منزل سيدها فلما رآها أعجب بها، فلما غنته أعجبته أكثر، فساومه
صاحبها فيها، فقال له جعفر: قد أحصرنا مالا فإن أعجبك وإلا زدناك، فقال
لها سيدها: إني كنت في نعمة وكنت عندي في غاية السرور، وإنه قد انقبض
علي حالي، وإني قد أحببت أن
أبيعك لهذا الملك، لكي تكوني عنده كما كنت عندي.
فقالت له الجارية: والله يا سيدي لو ملكت منك كما ملكت مني لم أبعك
بالدنيا وما فيها، وأين ما كنت عاهدتني أن لا تبيعني ولا تأكل من ثمني.
فقال سيدها لجعفر وأصحابه: أشهدكم أنها حرة لوجه الله، وأني قد
تزوجتها.
فلما قال ذلك نهض جعفر وقام أصحابه وأمروا الحمال أن يحمل المال.
فقال جعفر: والله لا يتبعني، وقال للرجل: قد ملكتك هذا المال فأنفقه
على أهلك، وذهب وتركه.
هذا وقد كان يبخل بالنسبة إلى أخيه الفضل، إلا أن الفضل كان أكثر منه
مالا.
وروى ابن عساكر من طريق الدار قطني بسنده أنه لما أصيب جعفر وجدوا له
في جرة ألف دينار، زنة كل دينار
__________
(1) الرواية في ابن خلكان وذكر: أنه كان عنده أبو عبيد الثقفي...وذكر
تمام الرواية 1 / 331.
(*)
(10/211)
مائة دينار،
مكتوب على صفحة الدينار جعفر: وأصفر من ضرب دار الملوك * يلوح على وجهه
جعفر يزيد على مائة واحدا * متى تعطه معسرا يوسر وقال أحمد بن المعلى
الراوية: كتبت عنان جارية الناطفي لجعفر تطلب منه أن يقول لابيه يحيى
أن يشير على الرشيد بشرائها، وكتبت إليه هذه الابيات من شعرها في جعفر:
- يا لائمي جهلا ألا تقصر * من ذا على حر الهوى يصبر لا تلحني إذا شربت
الهوى * صرفا فممزوج الهوى سكر أحاط بي الحب فخلفي له * بحر وقدامي له
أبحر تخفق رايات الهوى بالردى * فوقي وحولي للهوى عسكر سيان عندي في
الهوى لائم * أقل فيه والذي يكثر أنت المصفى من بني برمك * يا جعفر
الخيرات يا جعفر لا يبلغ الواصف في وصفه * ما فيك من فضل ولا يعشر من
وفر المال لاغراضه * فجعفر أغراضه أوفر
ديباجة الملك على وجهه * وفي يديه العارض الممطر سحت علينا منهما ديمة
* ينهل منها الذهب الاحمر لو مسحت كفاه جلمودة * نضر فيها الورق الاخضر
لا يستتم المجد إلا فتى * يصبر للبذل كما يصبر يهتز تاج الملك من فوقه
* فخرا ويزهى تحته المنبر أشبهه البدر إذا ما بدا * أو غرة في وجهه
يزهر والله ما أدري أبدر الدجى * في وجهه أم وجهه أنور يستمطر الزوار
منك الندى * وأنت بالزوار تستبشر وكتبت تحت أبياتها حاجتها، فركب من
فوره إلى أبيه فأدخله على الخليفة فأشار عليه بشرائها فقال: لا والله
لا أشتريها، وقد قال فيها الشعراء فأكثروا، واشتهر أمرها وهي التي يقول
فيها أبو نواس: لا يشتريها إلا ابن زانية * أو قلطبان يكون من كانا وعن
تمامة بن أشرس قال: بت ليلة مع جعفر بن يحيى بن خالد، فانتبه من منامه
يبكي مذعورا فقلت: ما شأنك ؟ قال: رأيت شيخا جاء فأخذ بعضادتي هذا
الباب وقال: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا * أنيس ولم يسمر بمكة
سامر
(10/212)
قال فأجبته:
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا * صروف الليالي والجدود العواثر قال ثمامة:
فلما كانت الليلة القابلة قتله الرشيد ونصب رأسه على الجسر ثم خرج
الرشيد فنظر إليه فتأمله ثم أنشأ يقول: تقاضاك دهرك ما أسلفا * وكدر
عيشك بعد الصفا فلا تعجبن فإن الزمان * رهين بتفريق ما ألفا
قال: فنظرت إلى جعفر وقلت: أما لئن أصبحت اليوم آية فلقد كنت في الكرم
والجود غاية، قال: فنظر إلي كأنه جمل صؤول ثم أنشأ يقول: - ما يعجب
العالم من جعفر * ما عاينوه فبنا كانا من جعفر أو من أبوه ومن * كانت
بنو برمك لولانا ثم حول وجه فرسه وانصرف (1).
وقد كان مقتل جعفر ليلة السبت مستهل صفر من سنة سبع وثمانين ومائة،
وكان عمره سبعا وثلاثين سنة، ومكث وزيرا سبع عشرة سنة.
وقد دخلت عبادة أم جعفر على أناس في يوم عيد أضحى تستمنحهم جلد كبش
تدفأ به، فسألوها عن ما كانت فيه من النعمة فقالت: لقد أصبحت في مثل
هذا اليوم وإن على رأسي أربعمائة وصيفة، وأقول إن ابني جعفرا عاق لي.
وروى الخطيب البغدادي باسناده أن سفيان بن عيينة لما بلغه قتل الرشيد
جعفرا وما أحل بالبرامكة، استقبل القبلة وقال: اللهم إن جعفرا كان قد
كفاني مؤنة الدنيا فاكفه مؤنة الآخرة.
حكاية غريبة ذكر ابن الجوزي في المنتظم أن المأمون بلغه أن رجلا يأتي
كل يوم إلى قبور البرامكة فيبكي عليهم ويندبهم، فبعث من جاء به فدخل
عليه وقد يئس من الحياة، فقال له: ويحك ! ما يحملك على صنيعك هذا ؟
فقال: يا أمير المؤمنين إنهم أسدوا إلي معروفا وخيرا كثيرا.
فقال: وما الذي أسدوه إليك ؟ فقال: أنا المنذر بن المغيرة من أهل دمشق،
كنت بدمشق في نعمة عظيمة واسعة، فزالت عني حتى أفضى بي الحال إلى أن
بعت داري، ثم لم يبق لي شئ، فأشار بعض أصحابي علي بقصد البرامكة
ببغداد، فأتيت أهلي وتحملت بعيالي، فأتيت بغداد ومعي نيف وعشرون امرأة
__________
(1) الرواية في وفيات الاعيان 1 / 339 والعقد الفريد 1 / 22 وذكر أن
صاحب الرواية هو يحيى بن خالد.
(*)
(10/213)
فانزلتهن في
مسجد مهجور ثم قصدت مسجدا مأهولا أصلي فيه.
فدخلت مسجدا فيه جماعة لم ار أحسن وجوها منهم، فجلست إليهم فجعلت أدبر
في نفسي كلاما أطلب به منهم قوتا للعيال الذين
معي، فيمنعني من ذلك السؤال الحياء، فبينا أنا كذلك إذا بخادم قد أقبل
فدعاهم فقاموا كلهم وقمت معهم، فدخلوا دارا عظيمة، فإذا الوزير يحيى بن
خالد جالس فيها فجلسوا حوله، فعقد عقد ابنته عائشة على ابن عم له
ونثروا فلق المسك وبنادق العنبر، ثم جاء الخدم إلى كل واحد من الجماعة
بصينية من فضة فيها ألف دينار، ومعها فتات المسك، فأخذها القوم ونهضوا
وبقيت أنا جالسا، وبين يدي الصينية التي وضعوها لي، وأنا أهاب أن آخذها
من عظمتها في نفسي، فقال لي بعض الحاضرين: ألا تأخذها وتذهب ؟ فمددت
يدي فأخذتها فأفرغت ذهبها في جيبي وأخذت الصينية تحت إبطي وقمت، وأنا
خائف أن تؤخذ مني، فجعلت أتلفت والوزير ينظر إلي وأنا لا أشعر، فلما
بلغت الستارة أمرهم فردوني فيئست من المال، فلما رجعت قال لي: ما شأنك
خائف ؟ فقصصت عليه خبري، فبكى ثم قال لاولاده: خذوا هذا فضموه إليكم.
فجاءني خادم فأخذ مني الصينية والذهب وأقمت عندهم عشرة أيام من ولد إلى
ولد، وخاطري كله عند عيالي، ولا يمكنني الانصراف، فلما انقضت العشرة
الايام جاءني خادم فقال: ألا تذهب إلى عيالك ؟ فقلت: بلى والله، فقام
يمشي أمامي ولم يعطني الذهب والصينية، فقلت: يا ليت هذا كان قبل أن
يؤخذ مني الصينية والذهب، يا ليت عيالي رأوا ذلك.
فسار يمشي أمامي إلى دار لم أر أحسن منها، فدخلتها فإذا عيالي يتمرغون
في الذهب والحرير فيها، وقد بعثوا إلى الدار مائة ألف درهم وعشرة آلاف
دينار، وكتابا فيه تمليك الدار بما فيها، وكتابا آخر فيه تمليك قريتين
جليلتين، فكنت مع البرامكة في أطيب عيش، فلما أصيبوا أخذ مني عمرو بن
مسعدة القريتين وألزمني بخراجهما، فكلما لحقتني فاقة قصدت دورهم
وقبورهم فبكيت عليهم.
فأمر المأمون برد القريتين، فبكى الشيخ بكاء شديدا فقال المأمون: مالك
؟ ألم استأنف بك جميلا ؟ قال: بلى ! ولكن هو من بركة البرامكة.
فقال له المأمون: امض مصاحبا فإن الوفاء مبارك، ومراعاة حسن العهد
والصحبة من الايمان.
وفيها توفي: الفضيل بن عياض أبو علي
التميمي أحد أئمة العباد الزهاد، وهو أحد العلماء والاولياء، ولد
بخراسان بكورة دينور (1) وقدم الكوفة وهو كبير، فسمع بها الاعمش ومنصور
بن المعتمر وعطاء بن السائب
وحصين بن عبد الرحمن وغيرهم.
ثم انتقل إلى مكة فتعبد بها، وكان حسن التلاوة كثير الصلاة والصيام،
وكان سيدا جليلا ثقة من أئمة الرواية رحمه الله ورضي عنه.
وله مع الرشيد قصة طويلة.
وقد روينا ذلك مطولا في كيفية دخول الرشيد عليه منزله، وما قال له
الفضيل بن عياض، وعرض
__________
(1) قال ابن سعد: ولد بخراسان.
وفي تذكرة الحفاظ 1 / 246 وابن الاثير 6 / 189: ولد بسمرقند ونشأ
بأبيورد وفي صفة الصفوة 2 / 237: ولد بخراسان بكورة أبيورد.
وانظر مروج الذهب 3 / 434 ووفيات الاعيان 4 / 49.
(*)
(10/214)
عليه الرشيد
المال فأبى أن يقبل منه ذلك (1).
توفي بمكة في المحرم من هذه السنة.
وذكروا أنه كان شاطرا يقطع الطريق، وكان يتعشق جارية، فبينما هو ذات
ليلة يتسور عليها جدارا إذ سمع قارئا يقرأ (ألم يأن للذين آمنوا أن
تخشع قلوبهم لذكر الله) [ الحديد: 16 ] فقال: بلى ! وتاب وأقلع عما كان
عليه.
ورجع إلى خربة فبات بها فسمع سفارا يقولون: خذوا حذركم إن فضيلا أمامكم
يقطع الطريق، فأمنهم واستمر على توبته حتى كان منه ما كان من السيادة
والعبادة والزهادة، ثم صار علما يقتدى به ويهتدى بكلامه وفعاله.
قال الفضيل: لو أن الدنيا كلها حلال أحاسب بها لكنت أتقذرها كما يتقذر
أحدكم الجيفة إذا مر بها أن تصيب ثوبه، وقال: العمل لاجل الناس شرك،
وترك العمل لاجل الناس رياء، والاخلاص أن يعافيك الله منهما.
وقال له الرشيد يوما: ما أزهدك، فقال: أنت أزهد مني، لاني أنا زهدت في
الدنيا التي هي أقل من جناح بعوضة، وأنت زهدت في الآخرة التي لا قيمة
لها، فأنا زاهد في الفاني وأنت زاهد في الباقي.
ومن زهد في درة أزهد ممن زهد في بعرة.
وقد روى مثل هذا عن أبي حازم أنه قال ذلك لسليمان بن عبد الملك.
وقال: لو أن لي دعوة مستجابة لجعلتها للامام، لان به صلاح الرعية، فإذا
صلح أمنت العباد والبلاد.
وقال: إني لاعصى الله فأعرف ذلك في خلق حماري وخادمي وامرأتي وفأر
بيتي.
وقال في قوله تعالى: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) [ هود: 7 ].
قال: يعني أخلصه وأصوبه، إن العمل يجب أن يكون خالصا لله، وصوابا على
متابعة النبي صلى الله عليه وسلم.
وفيها توفي:
بشر بن المفضل، وعبد السلام بن حرب، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي،
وعبد العزيز العمي، وعلي بن عيسى، الامير ببلاد الروم مع القاسم بن
الرشيد في الصائفة.
ومعتمر بن سليمان وأبو شعيب البراثي الزاهد، وكان أول من سكن براثا في
كوخ له يتعبد فيه، فهويته امرأة من بنات الرؤساء فانخلعت مما كانت فيه
من الدنيا والسعادة والحشمة، وتزوجته وأقامت معه في كوخه تتعبد حتى
ماتا، يقال إن اسمها جوهرة.
ثم دخلت سنة ثمان وثمانين ومائة فيها غزا
إبراهيم بن إسرائيل (2) الصائفة فدخل بلاد الروم من درب الصفصاف فخرج
النقفور
__________
(1) لعل المؤلف ذكر الرواية في كتاب آخر وسها عن ذلك فأثبت ملاحظته هنا
ولم يأت على ذكرها في كتابنا.
وقد ذكر المسعودي رواية بهذا المعنى بينه وبين الرشيد مروج الذهب: 3 /
434 ووفيات الاعيان 4 / 48.
وصفة الصفوة 2 / 245.
(2) في الطبري 10 / 95 جبريل وابن الاثير 6 / 190: جبرائيل.
(*)
(10/215)
للقائه فجرح
النقفور ثلاث جراح، وانهزم وقتل من أصحابه أكثر من أربعين ألفا، وغنموا
أكثر من أربعة آلاف دابة.
وفيها رابط القاسم بن الرشيد بمرج دابق.
وفيها حج بالناس الرشيد، وكانت آخر حجاته.
وقد قال أبو بكر حين رأى الرشيد منصرفا من الحج - وقد اجتاز بالكوفة -
لا يحج الرشيد بعدها، ولا يحج بعده خليفة أبدا.
وقد رأى الرشيد بهلول الموله فوعظه موعظة حسنة، فروينا من طريق الفضل
بن الربيع الحاجب قال: حججت مع الرشيد فمررنا بالكوفة فإذا بهلول
المجنون يهذي، فقلت: اسكت فقد أقبل أمير المؤمنين، فسكت.
فلما حاذاه الهودج قال: يا أمير المؤمنين حدثني أيمن بن نائل (1)، ثنا
قدامة بن عبد الله العامري قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم بمنى
على جمل وتحته رحل رث، ولم يكن ثم طرد ولا ضرب ولا إليك إليك.
قال الربيع فقلت: يا أمير المؤمنين إنه بهلول، فقال: قد عرفته، قل يا
بهلول فقال: هب أن قد ملكت الارض طرا * ودان لك العباد فكان ماذا
أليس غدا مصيرك جوف قبر (2) * ويحثو عليك التراب هذا ثم هذا قال: أجدت
يا بهلول، أفغيره ؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين ! من رزقه الله مالا
وجمالا فعف في جماله، وواسى في ماله، كتب في ديوان الله من الابرار.
قال: فظن أنه يريد شيئا، فقال: إنا أمرنا بقضاء دينك.
فقال: لا تفعل يا أمير المؤمنين، لا يقضى دين بدين، اردد الحق إلى أهله
واقض دين نفسك من نفسك.
قال: إنا أمرنا أن يجري عليك رزق تقتات به.
قال: لا تفعل يا أمير المؤمنين فإنه سبحانه لا يعطيك وينساني.
وها أنا قد عشت عمرا لم تجر علي رزقا، انصرف لا حاجه لي في جرايتك.
قال: هذه ألف دينار خذها.
فقال: ارددها على أصحابها فهو خير لك، وما أصنع أنا بها ؟ انصرف عني
فقد آذيتني.
قال: فانصرف عنه الرشيد وقد تصاغرت عنده الدنيا.
وممن توفي فيها من الاعيان: أبو
إسحاق الفزاري إبراهيم بن محمد بن الحارث بن إسماعيل بن خارجة، إمام
أهل الشام في المغازي وغير ذلك.
أخذ عن الثوري والاوزاعي وغيرهما، توفي في هذه السنة.
وقيل قبلها.
وإبراهيم الموصلي النديم، وهو إبراهيم بن ماهان بن بهمن أبو إسحاق، أحد
الشعراء والمغنين والندماء للرشيد
__________
(1) في صفة الصفوة 2 / 517: نابل.
وهو أبو عمران ويقال أبو عمرو الحبشي المكي نزيل عسقلان صدوق يهم، من
الخامسة.
(انظر تقريب التهذيب 1 / 88).
(2) في صفة الصفوة: ترب بدل جوف قبر.
(*)
(10/216)
وغيره، أصله من
الفرس وولد بالكوفة وصحب شبانها وأخذ عنهم الغناء، ثم سافر إلى الموصل
ثم عاد إلى الكوفة فقالوا: الموصلي.
ثم اتصل بالخلفاء أولهم المهدي وحظي عند الرشيد، وكان من جملة سماره
وندمائه ومغنيه، وقد أثرى وكثر ماله جدا، حتى قيل إنه ترك أربعة وعشرين
ألف ألف درهم، وكانت له طرف وحكايات غريبة، وكان مولده سنة خمس عشرة
(1) ومائة في الكوفة، ونشأ في كفالة بني تميم، فتعلم منهم ونسب إليهم،
وكان فاضلا بارعا في صناعة الغناء، وكان مزوجا بأخت المنصور
الملقب بزلزل، الذي كان يضرب معه، فإذا غنى هذا وضرب هذا اهتز المجلس.
توفي في هذه السنة على الصحيح، وحكى ابن خلكان في الوفيات أنه توفي
وأبو العتاهية وأبو عمرو الشيباني ببغداد في يوم واحد من سنة ثلاث عشرة
ومائتين.
وصحح الاول.
ومن قوله في شعره عند احتضاره قوله: مل والله طبيبي * من مقاساة الذي
بي سوف أنعى عن قريب * لعدو وحبيب وفيها مات جرير بن عبد الحميد (2)،
ورشد (3) بن سعد، وعبدة بن سليمان (4)، وعقبة بن خالد (5)، وعمر بن
أيوب العابد أحد مشايخ أحمد بن حنبل، وعيسى بن يونس (6) في قول.
ثم دخلت سنة تسع وثمانين ومائة فيها رجع
الرشيد من الحج وسار إلى الري فولى وعزل.
وفيها رد علي بن عيسى إلى ولاية خراسان، وجاءه نواب تلك البلاد
بالهدايا والتحف من سائر الاشكال والالوان، ثم عاد إلى بغداد فأدركه
عيد الاضحى بقصر اللصوص (7) فضحى عنده، ودخل إلى بغداد لثلاث بقين من
ذي الحجة، فلما اجتاز بالجسر أمر بجثة جعفر بن يحيى البرمكي فأحرقت
ودفنت، وكانت مصلوبة من حين قتل إلى هذا اليوم، ثم ارتحل الرشيد من
بغداد إلى الرقة ليسكنها وهو متأسف على بغداد وطيبها،
__________
(1) في الاغاني 5 / 155 وابن خلكان 1 / 43: خمس وعشرين.
(2) وهو جرير بن عبد الحميد الضبي أبو عبد الله مات وله ثمان وسبعون
سنة روى عن منصور وطبقته من الكوفيين ورحل إليه الناس لثقته وسعة علمه.
(3) وهو رشيدين المهري محدث مصر رجل دين صالح فيه ضعف.
قال السيوطي في حسن المحاضرة هو أبو الحجاج المصري من عقيل.
روى عن زياد بن فائد وحميد بن هاني وخلق.
(4) الكلابي الكوفي، أبو محمد، روى عن عاصم الاحول وطبقته.
قال فيه أحمد: ثقة وزيادة مع صلاح وشدة فقر.
(5) عقبة بن خالد السكوني روى عن هشام بن عروة وطبقته.
(6) أبو عمرو بن يونس بن أبي اسحاق السبيعي.
ثقة مأمون، كان بصيرا بالنحو.
وكان يغزو سنة ويحج سنة.
(7) سمي بذلك لان جيشا من المسلمين نزلوا به فسرقت دوابهم.
(*)
(10/217)
وإنما مراده
بمقامه بالرقة ردع المفسدين بها، وقد قال العباس بن الاحنف في خروجهم
من بغداد مع الرشيد: ما أنخنا حتى ارتحلنا فما ن * فرق بين المناخ
والارتحال ساءلونا عن حالنا إذ قدمنا * فقرنا وداعهم بالسؤال وفيها
فادى الرشيد الاسارى من المسلمين الذين كانوا ببلاد الروم، حتى يقال
إنه لم يترك بها أسيرا من المسلمين.
فقال فيه بعض الشعراء: وفكت بك الاسرى التي شيدت لها * محابس ما فيها
حميم يزورها على حين أعيا المسلمين فكاكها * وقالوا سجون المشركين
قبورها وفيها رابط القاسم بن الرشيد بمرج دابق يحاصر الروم.
وفيها حج بالناس العباس بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس.
ذكر من توفي فيها من الاعيان علي بن
حمزة بن عبد الله بن فيروز أبو الحسن الاسدي مولاهم، الكوفي المعروف
بالكسائي لاحرامه في كساء، وقيل لاشتغاله على حمزة الزيات في كساء، كان
نحويا لغويا أحد أئمة القراء، أصله من الكوفة ثم استوطن بغداد، فأدب
الرشيد وولده الامين، وقد قرأ على حمزة بن حبيب الزيات قراءته، وكان
يقرئ بها، ثم اختار لنفسه قراءة وكان يقرأ بها.
وقد روى عن أبي بكر بن عياش وسفيان بن عيينة وغيرهما، وعنه يحيى بن
زياد الفراء وأبو عبيد.
قال الشافعي: من أراد النحو فهو عيال على الكسائي.
أخذ الكسائي عن الخليل صناعة النحو فسأله يوما: عن من أخذت هذا العلم ؟
قال: من بوادي الحجاز.
فرحل الكسائي إلى هناك فكتب عن العرب شيئا كثيرا، ثم عاد إلى الخليل
فإذا هو قد مات وتصدر في موضعه يونس، فجرت بينهما مناظرات أقر له فيها
يونس بالفضل، وأجلسه في موضعه.
قال الكسائي: صليت يوما بالرشيد فأعجبتني قراءتي، فغلطت غلطة ما غلطها
صبي، أردت
أن أقول لعلهم يرجعون، فقلت لعلهم ترجعين، فما تجاسر الرشيد أن يردها.
فما سلمت قال: أي لغة هذه ؟ فقلت: إن الجواد قد يعثر.
فقال: أما هذا فنعم.
وقال بعضهم: لقيت الكسائي فإذا هو مهموم، فقلت: ما لك ؟ فقال: إن يحيى
بن خالد قد وجه إلي ليسألني عن أشياء فأخشى من الخطأ، فقلت: قل ما شئت
فأنت الكسائي، فقال: قطعه الله - يعني لسانه - إن قلت ما لم أعلم.
وقال الكسائي يوما قلت لنجار: بكم هذان البابان ؟ فقال: بسالجيان يا
مصفعان.
توفي الكسائي في هذه السنة على المشهور، عن سبعين سنة.
وكان في صحبة الرشيد ببلاد الري
(10/218)
فمات بنواحيها
هو ومحمد بن الحسن في يوم واحد، وكان الرشيد يقول: دفنت الفقه والعربية
بالري.
قال ابن خلكان: وقيل إن الكسائي توفي بطوس سنة ثنتين وثمانين ومائة،
وقد رأى بعضهم الكسائي في المنام ووجهه كالبدر فقال: ما فعل بك ربك ؟
فقال: غفر لي بالقرآن.
فقلت: ما فعل حمزة ؟ قال: ذاك في عليين، ما نراه إلا كما نرى الكوكب.
وفيها توفي: محمد بن الحسن بن زفر
أبو عبد الله الشيباني مولاهم، صاحب أبي حنيفة.
أصله من قرية (1) من قرى دمشق، قدم أبوه العراق فولد بواسط سنة ثنتين
وثلاثين ومائة، ونشأ بالكوفة فسمع من أبي حنيفة ومسعر والثوري وعمر بن
ذر ومالك بن مغول، وكتب عن مالك بن أنس والاوزاعي وأبي يوسف، وسكن
بغداد وحدث بها، وكتب عنه الشافعي حين قدمها في سنة أربع وثمانين
ومائة، وولاه الرشيد قضاء الرقة ثم عزله.
وكان يقول لاهله: لا تسألوني حاجة من حاجات الدنيا فتشغلوا قلبي.
وخذوا ما شئتم من مالي فإنه أقل لهمي وأفرغ لقلبي.
وقال الشافعي: ما رأيت حبرا سمينا مثله، ولا رأيت أخف روحا منه، ولا
أفصح منه.
كنت إذا سمعته يقرأ القرآن كأنما ينزل القرآن بلغته.
وقال أيضا: ما رأيت أعقل منه، كان يملا العين والقلب، قال الطحاوي: كان
الشافعي قد طلب من محمد بن الحسن كتاب السير فلم يجبه إلى الاعارة فكتب
إليه: قل للذي لم تر عيناي مثله * حتى كأن من رآه قد رأى من قبله
العلم ينهى أهله أن يمنعوه أهله * لعله ببذله لاهله لعله قال: فوجه به
إليه في الحال هدية لا عارية.
وقال إبراهيم الحربي: قيل لاحمد بن حنبل: هذه المسائل الدقاق من أين هي
لك ؟ قال: من كتب محمد بن الحسن رحمه الله.
وقد تقدم أنه مات هو والكسائي في يوم واحد من هذه السنة.
فقال الرشيد: دفنت اليوم اللغة والفقه جميعا.
وكان عمره ثمانية وخمسين سنة.
ثم دخلت سنة تسعين ومائة من الهجرة فيها
خلع رافع بن ليث بن نصر بن سيار نائب سمرقند الطاعة ودعا إلى نفسه (2)،
وتابعه أهل بلده وطائفة كثيرة من تلك الناحية، واستفحل أمره، فسار إليه
نائب خراسان علي بن عيسى فهزمه
__________
(1) وهي حرستا على باب دمشق في وسط الغوطة (2) قال في الاخبار الطوال ص
391: وكان سبب خروجه أن علي بن عيسى بن ماهان لما ولي خراسان أساء
السيرة.
وتحامل على من كان بها من العرب.
وأظهر الجور وانظر الطبري 10 / 98 وابن الاثير 6 / 195.
(*)
(10/219)
رافع وتفاقم
الامر به.
وفيها سار الرشيد لغزو بلاد الروم لعشر بقين من رجب، وقد لبس على رأسه
قلنسوة فقال فيها أبو المعلا الكلابي: فمن يطلب لقاءك أو يرده *
فبالحرمين أو أقصى الثغور ففي أرض العدو على طمر * وفي أرض الترفه فوق
كور وما حاز الثغور سواك خلق * من المتخلفين على الامور فسار حتى وصل
إلى الطوانة فعسكر بها وبعث إليه نقفور بالطاعة وحمل الخراج والجزية
حتى عن رأس ولده ورأسه، وأهل مملكته، في كل سنة خمسة عشر ألف دينار،
وبعث يطلب من الرشيد جارية قد أسروها وكانت ابنة ملك هرقلة (1)، وكان
قد خطبها على ولده، فبعث بها الرشيد مع هدايا وتحف وطيب بعث يطلبه من
الرشيد، واشترط عليه الرشيد أن يحمل في كل سنة ثلثمائة ألف دينار، وأن
لا يعمر هرقلة.
ثم انصرف الرشيد راجعا واستناب على الغزو عقبة بن جعفر ونقض أهل قبرص
العهد
فغزاهم معيوف بن يحيى، فسبى أهلها وقتل منهم خلقا كثيرا.
وخرج رجل من عبد القيس فبعث إليه الرشيد من قتله.
وحج بالناس فيها عيسى بن موسى الهادي.
من توفي فيها من الاعيان والمشاهير أسد بن عمرو بن عامر أبو المنذر
البجلي الكوفي صاحب أبي حنيفة، حكم ببغداد وبواسط، فلما انكف بصره عزل
نفسه عن القضاء.
قال أحمد بن حنبل: كان صدوقا.
ووثقه ابن معين، وتكلم فيه علي بن المديني والبخاري.
وسعدون المجنون صام ستين سنة فخف دماغه فسماه الناس مجنونا، وقف يوما
على حلقة ذي النون المصري فسمع كلامه فصرخ ثم أنشأ يقول: ولا خير في
شكوى إلى غير مشتكى * ولا بد من شكوى إذا لم يكن صبر وقال الاصمعي:
مررت به وهو جالس عند رأس شيخ سكران يذب عنه، فقلت له: ما لي أراك عند
رأس هذا الشيخ ؟ فقال: إنه مجنون.
فقلت: أنت مجنون أو هو ؟ قال: لا بل هو، لاني صليت الظهر والعصر في
جماعة وهو لم يصل جماعة ولا فرادى.
وهو مع هذا قد شرب الخمر وأنا لم أشربها.
قلت: فهل قلت في هذا شيئا ؟ قال: نعم، ثم أنشأ يقول: تركت النبيذ لاهل
النبيذ * وأصبحت أشرب ماء قراحا لان النبيذ يذل العزيز * ويكسو السواد
الوجوه الصباحا فإن كان ذا جائزا للشباب * فما العذر منه إذا الشيب
لاحا
__________
(1) نسخة كتاب نقفور إلى الرشيد في شأن ابنته الاسيرة في الطبري 10 /
99.
(*)
(10/220)
قال الاصمعي:
فقلت له: صدقت، أنت العاقل وهو المجنون.
وعبيدة بن حميد بن صهيب، أبو عبد الرحمن التميمي الكوفي، مؤدب الامين.
روى عن الاعمش وغيره، وعنه أحمد بن حنبل.
وكان يثني عليه.
وفيها توفي: يحيى بن خالد بن برمك
أبو علي الوزير والد جعفر البرمكي، ضم إليه المهدي ولده الرشيد فرباه،
وأرضعته امرأته مع
الفضل بن يحيى، فلما ولي الرشيد عرف له حقه، وكان يقول: قال أبي، قال
أبي.
وفوض إليه أمور الخلافة وأزمتها، ولم يزل كذلك حتى نكبت البرامكة فقتل
جعفر وخلد أباه يحيى في الحبس حتى مات في هذه السنة.
وكان كريما فصيحا، ذا رأي سديد، يظهر من أموره خير وصلاح.
قال يوما لولده: خذوا من كل شئ طرفا، فإن من جهل شيئا عاداه.
وقال لاولاده: أكتبوا أحسن ما تسمعون، واحفظوا أحسن ما تكتبون، وتحدثوا
بأحسن ما تحفظون.
وكان يقول لهم: إذا أقبلت الدنيا فأنفقوا منها فإنها لا تبقى، وإذا
أدبرت فأنفقوا منها فإنها لا تبقى، وكان إذا سأله سائل في الطريق وهو
راكب أقل ما يأمر له بمائتي درهم فقال رجل يوما: يا سمي الحصور (1)
يحيى * أتيحت لك من فضل ربنا جنتان كل من مر في الطريق عليكم * فله من
نوالكم مائتان مائتا درهم لمثلي قليل * هي (2) للفارس العجلان فقال:
صدقت.
وأمر فسبق به إلى الدار، فلما رجع سأل عنه فإذا هو قد تزوج وهو يريد أن
يدخل على أهله فأعطاه صداقها أربعة آلاف، وعن دار أربعة آلاف، وعن
الامتعة أربعة آلاف.
وكلفة الدخول أربعة آلاف، وأربعة آلاف يستظهر بها.
وجاء رجل يوما فسأله شيئا فقال: ويحك لقد جئتني في وقت لا أملك فيه
مالا، وقد بعث إلي صاحب لي يطلب مني أن يهدي إلي ما أحب، وقد بلغني أنك
تريد أن تبيع جارية لك، وأنك قد أعطيت فيها ثلاثة آلاف دينار، وإني
سأطلبها فلا تبعها منه بأقل من ثلاثين ألف دينار.
فجاؤوني فبلغوا معي بالمساومة إلى عشرين ألف دينار، فلما سمعتها ضعف
قلبي عن ردها، وأجبت إلى بيعها، فأخذها وأخذت العشرين ألف دينار.
فأهداها إلى يحيى، فلما اجتمعت بيحيى قال: بكم بعتها ؟ قلت: بعشرين ألف
دينار.
قال: إنك لخسيس خذ جاريتك إليك وقد بعث إلى صاحب فارس يطلب مني أن
أستهديه شيئا، وإني سأطلبها منه فلا تبعها بأقل من خمسين ألف دينار.
فجاؤوني فوصلوا في ثمنها إلى ثلاثين ألف دينار، فبعتها منهم.
فلما جئته لامني أيضا
__________
(1) الحصور: الذي لم يتزوج، ويحيى المشار إليه هنا هو يحيى بن زكريا.
(2) في وفيات الاعيان 6 / 223: هي منكم للقابس.
(*)
(10/221)
وردها علي،
فقلت: أشهدك أنها حرة وأني قد تزوجتها، وقلت: جارية قد أفادتني خمسين
ألف دينار لا أفرط فيها بعد اليوم.
وذكر الخطيب أن الرشيد طلب من منصور بن زياد عشرة آلاف ألف درهم، ولم
يكن عنده منها سوى ألف ألف درهم، فضاق ذرعا، وقد توعده بالقتل وخراب
الديار إن لم يحملها في يومه ذلك، فدخل على يحيى بن خالد وذكر أمره
فأطلق له خمسة آلاف ألف، واستطلق له من ابنه الفضل ألفي ألف، وقال
لابنه: يا بني بلغني أنك تريد أن تشتري بها ضيعة.
وهذه ضيعة تغل الشكر وتبقى مدى الدهر.
وأخذ له من ابنه جعفر ألف ألف، ومن جاريته دنانير عقدا اشتراه بمائة
ألف دينار، وعشرون ألف دينار، وقال للمترسم عليه: قد حسبناه عليك بألفي
ألف.
فلما عرضت الاموال على الرشيد رد العقد، وكان قد وهبه لجارية يحيى، فلم
يعد فيه بعد إذ وهبه.
وقال له بعض بنيه وهم في السجن والقيود: يا أبت بعد الامر والنهي
والنعمة صرنا إلى هذا الحال، فقال: يا بني دعوة مظلوم سرت بليل ونحن
عنها غافلون ولم يغفل الله عنها.
ثم أنشأ يقول: رب قوم قد غدوا في نعمة * زمنا والدهر ريان غدق سكت
الدهر زمانا عنهم * ثم أبكاهم دما حين نطق وقد كان يحيى بن خالد هذا
يجري على سفيان بن عيينة كل شهر ألف درهم، وكان سفيان يدعو له في سجوده
يقول: اللهم إنه قد كفاني المؤنة وفرغني للعبادة فاكفه أمر آخرته.
فلما مات يحيى رآه بعض أصحابه في المنام فقال: ما فعل الله بك ؟ قال:
غفر لي بدعاء سفيان.
وقد كانت وفاة يحيى بن خالد رحمه الله في الحبس في الرافقة لثلاث خلون
من المحرم من هذه السنة عن سبعين سنة، وصلى عليه ابنه الفضل، ودفن على
شط الفرات، وقد وجد في جيبه رقعة مكتوب فيها بخطه: قد تقدم الخصم
والمدعا عليه بالاثر، والحاكم الحكم العدل الذي لا يجوز ولا يحتاج إلى
بينة.
فحملت إلى الرشيد فلما قرأها بكى يومه ذلك، وبقي أياما يتبين الاسى في
وجهه.
وقد قال بعض الشعراء في يحيى بن خالد:
سألت الندا هل أنت حر فقال لا * ولكنني عبد ليحيى بن خالد فقلت شراء
قال لا بل وراثة * توارث رقي والد بعد والد (1)
__________
(1) ذكرهما صاحب شذرات الذهب ونسبهما لكلثوم العتابي باختلاف: 1 / 327:
سألت الندى والجود حران أنتما ؟ * فقالا: كلانا عبد يحيى بن خالد فقلت:
شراء ذلك الملك قال لا * ولكن ارثا والدا بعد والد (*)
(10/222)
ثم دخلت سنة إحدى وتسعين ومائة فيها خرج رجل بسواد العراق يقال له
ثروان بن سيف، وجعل يتنقل فيها من بلد إلى بلد، فوجه إليه الرشيد طوق
بن مالك فهزمه وجرح ثروان وقتل عامة أصحابه، وكتب بالفتح إلى الرشيد.
وفيها خرج بالشام أبو النداء فوجه إليه الرشيد يحيى بن معاذ واستنابه
على الشام.
وفيها وقع الثلج ببغداد.
وفيها غزا بلاد الروم يزيد بن مخلد الهبيري في عشرة آلاف، فأخذت عليه
الروم المضيق فقتلوه في خمسين من أصحابه على مرحلتين من طرسوس، وانهزم
الباقون، وولى الرشيد غزو الصائفة لهرثمة بن أعين، وضم إليه ثلاثين
ألفا فيهم مسرور الخادم، وإليه النفقات.
وخرج الرشيد إلى الحدث ليكون قريبا منهم.
وأمر الرشيد بهدم الكنائس والديور، وألزم أهل الذمة بتمييز لباسهم
وهيآتهم في بغداد وغيرها من البلاد.
وفيها عزل الرشيد علي بن موسى عن إمرة خراسان وولاها هرثمة بن أعين.
وفيها فتح الرشيد هرقلة في شوال وخربها وسبى أهلها وبث الجيوش والسرايا
بأرض الروم إلى عين زربة، والكنيسة السوداء.
وكان دخل هرقلة في كل يوم مائة ألف وخمسة وثلاثين ألف مرتزق، وولى حميد
بن معيوف سواحل الشام إلى مصر، ودخل جزيرة قبرص فسبى أهلها وحملهم حتى
باعهم بالرافقة، فبلغ ثمن الاسقف ألفي دينار، باعهم أبو البختري
القاضي.
وفيها أسلم الفضل بن سهل على يدي المأمون.
وحج بالناس فيها الفضل بن عباس بن محمد بن علي العباسي، وكان والي مكة،
ولم يكن للناس بعد هذه السنة صائفة إلى سنة خمس عشرة
ومائتين.
وفيها توفي من الاعيان: سلمة بن
الفضل الابرش (1)، وعبد الرحمن بن القاسم الفقيه الراوي عن مالك بن
يونس بن أبي إسحاق، قدم على الرشيد فأمر له بمال جزيل، نحوا من خمسين
ألفا فلم يقبله.
والفضل بن موسى الشيباني (2).
ومحمد بن سلمة (3)، ومحمد بن الحسين المصيصي أحد الزهاد الثقات.
قال لم أتكلم بكلمة أحتاج إلى الاعتذار منها منذ خمسين سنة.
وفيها توفي معمر الرقي.
__________
(1) قاضي الري وراوي المغازي عن ابن اسحاق مختلف في الاحتجاج ولكنه في
ابن اسحاق ثقة.
(2) في ابن الاثير 6 / 206: السيناني: نسبة إلى سينان وهي قرية من قرى
مرو.
وهو مولى بني قطيعة وشيخ مرو ومحدثها.
ثقة.
(3) الحراني الفقيه محدث حران ومفتيها روى عن هشام بن حسان وطبقته.
قال ابن سعد: ثقة فاضل له رواية وفتوى.
(*)
(10/223)
ثم دخلت سنة ثنتين وتسعين ومائة فيها دخل هرثمة بن أعين إلى خراسان
نائبا عليها، وقبض على علي بن عيسى فأخذ أمواله وحواصله وأركبه على
بعير وجهه لذنبه ونادى عليه ببلاد خراسان، وكتب إلى الرشيد بذلك فشكره
على ذلك، ثم أرسله إلى الرشيد بعد ذلك فحبس بداره ببغداد.
وفيها ولى الرشيد ثابت بن نصر بن مالك نيابة الثغور فدخل بلاد الروم
وفتح مطمورة.
وفيها كان الصلح بين المسلمين والروم على يد ثابت بن نصر.
وفيها خرجت الخرمية بالجبل وبلاد أذربيجان.
فوجه الرشيد إليهم عبد الله بن مالك بن الهيثم الخزاعي في عشرة آلاف
فارس فقتل منهم خلقا وأسر وسبى ذراريهم، وقدم بهم بغداد فأمر له الرشيد
بقتل الرجال منهم، وبالذرية فبيعوا فيها.
وكان قد غزاهم قبل ذلك خزيمة بن خازم.
وفي ربيع الاول منها قدم الرشيد من الرقة إلى بغداد في السفن وقد
استخلف على الرقة ابنه القاسم وبين يديه خزيمة بن خازم، ومن نية الرشيد
الذهاب إلى خراسان لغزو رافع بن ليث الذي كان قد خلع الطاعة واستحوذ
على بلاد كثيرة من بلاد سمرقند وغيرها، ثم خرج الرشيد في شعبان قاصدا
خراسان، واستخلف على بغداد انبه محمدا الامين، وسأل المأمون من أبيه أن
يخرج معه خوفا من غدر أخيه الامين، فأذن له فسار معه وقد شكا الرشيد في
أثناء الطريق إلى بعض أمرائه جفاء بنيه الثلاثة الذين جعلهم ولاة العهد
من بعده، وأراه داء في جسده، وقال إن لكل واحد من الامين والمأمون
والقاسم عندي عينا علي، وهم يعدون أنفاسي ويتمنون انقضاء أيامي، وذلك
شر لهم لو كانوا يعلمون.
فدعا له ذلك الامير ثم أمر له الرشيد بالانصراف إلى عمله وودعه، وكان
آخر العهد به.
وفيها تحرك ثروان الحروري وقتل عامل السلطان بطف البصرة.
وفيها قتل الرشيد الهيصم اليماني.
ومات عيسى بن جعفر وهو يريد اللحاق بالرشيد فمات في الطريق.
وفيها حج بالناس العباس بن عبد الله بن جعفر بن أبي جعفر المنصور.
وفيها توفي: إسماعيل بن جامع ابن
إسماعيل بن عبد الله بن المطلب بن أبي وداعة (1) أبو القاسم، أحد
المشاهير بالغناء، كان ممن يضرب به المثل، وقد كان أولا يحفظ القرآن ثم
صار إلى صناعة الغناء وترك القرآن، وذكر عنه أبو الفرج بن علي بن
الحسين صاحب الاغاني حكايات غريبة، من ذلك أنه قال كنت يوما مشرفا من
غرفة (2) بحران إذ أقبلت جارية سوداء معها قربة تستقي الماء، فجلست
ووضعت قربتها واندفعت تغني:
__________
(1) اسم أبي وداعة: الحارث أسر يوم بدر وفداه ابنه المطلب بأربعة الآف
درهم.
وهو أول أسير فدي يوم بدر.
(2) في الاغاني 6 / 335: مشرعة.
والمشرعة مورد الشاربة التي يشرعها الناس فيشربون منها ويستقون.
وتسمي العرب المشرعة إذا كان الماء فيها لا انقطاع له كماء الانهار.
(*)
(10/224)
إلى الله أشكو
بخلها وسماحتي * لها عسل مني وتبذل علقما فردي مصاب القلب أنت قتلته *
ولا تتركيه هائم القلب مغرما (1) قال: فسمعت ما لا صبر لي عنه ورجوت أن
تعيده فقامت وانصرفت، فنزلت وانطلقت وراءها وسألتها أن تعيده فقالت: إن
علي خراجا كل يوم درهمين، فأعطيتها درهمين فأعادته فحفظته وسلكته
يومي ذلك، فلما أصبحت أنسيته فأقبلت السوداء فسألتها أن تعيده فلم تفعل
إلا بدرهمين، ثم قالت: كأنك تستكثر أربعة دراهم، كأني بك وقد أخذت عليه
أربعة آلاف دينار.
قال فغنيته ليلة للرشيد فأعطاني ألف دينار، ثم استعادنيه ثلاث مرات
أخرى وعطاني ثلاثة آلاف دينار، فتبسمت فقال: مم تبسمت ؟ فذكرت له القصة
فضحك وألقى إلي كيسا آخر فيه ألف دينار.
وقال: لا أكذب السوداء.
وحكى عنه أيضا قال: أصبحت يوما بالمدينة وليس معي إلا ثلاثة دراهم،
فإذا جارية على رقبتها جرة تريد الركي (2) وهي تسعى وتترنم بصوت شجي:
شكونا إلى أحبابنا طول ليلنا * فقالوا لنا ما أقصر الليل عندنا وذاك
لان النوم يغشى عيونهم * سريعا ولا يغشى (3) لنا النوم أعينا إذا ما
دنا الليل المضر بذي الهوى * جزعنا وهم يستبشرون إذا دنا فلو أنهم
كانوا يلاقون مثلما * نلاقي لكانوا في المضاجع مثلنا قال: فاستعدته
منها وأعطيتها الدراهم الثلاثة فقالت: لتأخذن بدلها ألف دينار، وألف
دينار وألف دينار.
فأعطاني الرشيد ثلاثة آلاف دينار في ليلة على ذلك الصوت.
وفيها توفي: بكر بن النطاح أبو وائل
الحنفي البصري الشاعر المشهور، نزل بغداد زمن الرشيد، وكان يخالط أبا
العتاهية.
قال أبو عفان: أشعر أهل العدل من المحدثين أربعة، أولهم بكر بن النطاح.
وقال المبرد: سمعت الحسن بن رجاء يقول اجتمع جماعة من الشعراء ومعهم
بكر بن النطاح يتناشدون، فلما فرغوا من طوالهم أنشد بكر بن النطاح
لنفسه: ما ضرها لو كتبت بالرضى * فجف جفن العين أو أغمضا شفاعة مردودة
عندها * في عاشق يود لو قد قضى يا نفس صبرا واعلمي أنما * يأمل منها
مثلما قد مضى
__________
(1) ويروى: ولا تبعدي فيما تجشمت كلثما.
(2) الركي: جنس للركية وهي البئر.
(3) في الاغاني 6 / 311: سراعا وما يغشى.
(*)
(10/225)
لم تمرض
الاجفان من قاتل * بلحظه إلا لان أمرضا قال: فابتدروه يقبلون رأسه.
ولما مات رثاه أبو العتاهية فقال: مات ابن نطاح أبو وائل * بكر فأمسى
الشعر قد بانا وفيها توفي بهلول
المجنون، كان يأوي إلى مقابر الكوفة، وكان يتكلم بكلمات حسنة، وقد وعظ
الرشيد وغيره كما تقدم.
وعبد الله بن إدريس الاودي الكوفي، سمع الاعمش وابن جريج وشعبة ومالكا
وخلقا سواهم.
وروى عنه جماعات من الائمة، وقد استدعاه الرشيد ليوليه القضاء فقال: لا
أصلح، وامتنع أشد الامتناع، وكان قد سأل قبله وكيعا فامتنع أيضا، فطلب
حفص بن غياث فقبل.
وأطلق لكل واحد خمسة آلاف عوضا عن كلفته التي تكلفها في السفر، فلم
يقبل وكيع ولا ابن إدريس، وقبل ذلك حفص، فحلف ابن إدريس لا يكلمه أبدا.
وحج الرشيد في بعض السنين فاجتاز بالكوفة ومعه القاضي أبو يوسف والامين
والمأمون، فأمر الرشيد أن يجتمع شيوخ الحديث ليسمعوا ولديه، فاجتمعوا
إلا ابن إدريس هذا، وعيسى بن يونس.
فركب الامين والمأمون بعد فراغهما من سماعهما على من اجتمع من المشايخ
إلى ابن إدريس فأسمعهما مائة حديث، فقال له المأمون: يا عم إن أردت
أعدتها من حفظي، فأذن له فأعادها من حفظه كما سمعها، فتعجب لحفظه.
ثم أمر له المأمون بعشرة آلاف فلم يقبلها، فظن أنه استقلها فأضعفها
فقال: والله لو ملات لي المسجد مالا إلى سقفه ما قبلت منه شيئا على
حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما احتضر ابن إدريس بكت ابنته فقال: علام تبكي ؟ فقد ختمت في هذا
البيت أربعة آلاف ختمة.
صعصعة بن سلام ويقال ابن عبد الله أبو عبد الله الدمشقي، ثم تحول إلى
الاندلس فاستوطنها في زمن عبد الملك بن معاوية وابنه هشام، وهو أول من
أدخل علم الحديث ومذهب الاوزاعي إلى بلاد الاندلس،
وولي الصلاة بقرطبة، وفي أيامه غرست الاشجار بالمسجد الجامع هناك كما
يراه الاوزاعي والشاميون ويكرهه مالك وأصحابه.
وقد روى عن مالك والاوزاعي وسعيد بن عبد العزيز.
وروى عنه جماعة منهم عبد الملك بن حبيب الفقيه، وذكره في كتاب الفقهاء،
وذكره ابن يونس في تاريخه - تاريخ مصر - والحميدي في تاريخ الاندلس،
وحرر وفاته في هذه السنة.
وحكى عن شيخه ابن حزم أن صعصعة هذا أول من أدخل مذهب الاوزاعي إلى
الاندلس.
وقال ابن يونس: أول من أدخل علم الحديث إليها.
وذكر أنه توفي قريبا من سنة ثمانين ومائة، والذي حرره الحميدي في هذه
السنة أثبت.
(10/226)
علي بن ظبيان
أبو الحسن العبسي قاضي الشرقية من بغداد، ولاه الرشيد ذلك.
كان ثقة عالما من أصحاب أبي حنيفة، ثم ولاه الرشيد قضاء القضاة، وكان
الرشيد يخرج معه إذا خرج من عنده، مات بقوميسين في هذه السنة.
العباس بن الاحنف ابن الاسود بن طلحة الشاعر المشهور، كان من عرب
خراسان ونشأ ببغداد، وكان لطيفا ظريفا مقبولا حسن الشعر.
قال أبو العباس قال عبد الله بن المعتز: لو قيل لي من أحسن الناس شعرا
تعرفه ؟ لقلت العباس: قد سحب الناس أذيال الظنون بنا * وفرق الناس فينا
قولهم فرقا فكاذب قد رمى بالظن (1) غيركم * وصادق ليس يدري أنه صدقا
وقد طلبه الرشيد ذات ليلة في أثناء الليل فانزعج لذلك وخاف نساؤه، فلما
وقف بين يدي الرشيد قال له: ويحك إنه قد عن لي بيت في جارية لي فأحببت
أن تشفعه بمثله، فقال: يا أمير المؤمنين ما خفت أعظم من هذه الليلة،
فقال: ولم ؟ فذكر له دخول الحرس عليه في الليل، ثم جلس حتى سكن روعه ثم
قال: ما قلت يا أمير المؤمنين ؟ فقال: حنان قد رأيناها * فلم نر مثلها
بشرا
يزيدك وجهها حسنا * إذا ما زدته نظرا فقال الرشيد: زد.
فقال: إذا ما الليل مال علي * ك بالاظلام واعتكرا ودج فلم تر فجرا (2)
* فأبرزها تر قمرا فقال: إنا قد رأيناها، وقد أمرنا لك بعشرة آلاف
درهم.
ومن شعره الذي أقر له فيه بشار بن برد وأثبته في سلك الشعراء بسببه
قوله: أبكي الذين أذاقوني مودتهم * حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا
واستنهضوني فلما قمت منتصبا * بثقل ما حملوني منهم قعدوا
__________
(1) في الاغاني 8 / 367: بالحب.
(2) في وفيات الاعيان 3 / 22: قمرا.
(*)
(10/227)
وله أيضا:
وحدثتني يا سعد عنها فزدتني * جنونا فزدني من حديثك يا سعد هواها هوى
لم يعرف القلب غيره * فليس له قبل وليس له بعد قال الاصمعي: دخلت على
العباس بن الاحنف بالبصرة وهو طريح على فراشه يجود بنفسه وهو يقول: يا
بعيد (1) الدار عن وطنه * مفردا يبكي على شجنه كلما جد النحيب (2) به *
زادت الاسقام في بدنه ثم أغمي عليه ثم انتبه بصوت طائر على شجرة فقال:
ولقد زاد الفؤاد شجا * هاتف (3) يبكي على فننه شاقه ما شاقني (4) فبكى
* كلنا يبكي على سكنه قال ثم أغمي عليه أخرى فحركته فإذا هو قد مات.
قال الصولي: كانت وفاته في هذه السنة،
وقيل بعدها، وقيل قبلها في سنة ثمان وثمانين ومائة فالله أعلم.
وزعم بعض المؤرخين أنه بقي بعد الرشيد.
عيسى بن جعفر بن أبي جعفر المنصور أخو زبيدة، كان نائبا على البصرة في
أيام الرشيد فمات في أثناء هذه السنة.
وفيها توفي: الفضل بن يحيى ابن خالد
بن برمك أخو جعفر وأخوته، كان هو والرشيد يتراضعان.
أرضعت الخيزران فضلا، وأرضعت أم الفضل وهي زبيدة بنت بن بريه هارون
الرشيد.
وكانت زبيدة هذه من مولدات بتبين البرية، وقد قال في ذلك بعض الشعراء
(5):
__________
(1) في مروج الذهب 4 / 127 ووفيات الاعيان 3 / 26: يا غريب.
(2) في مروج الذهب: البكاء به...* دبت الاسقام...(3) في مروج الذهب
والوفيات: طائر.
(4) في مروج الذهب: شفه ما شفني.
(5) هو مروان بن أبي حفصة كما في الفخري ووفيات الاعيان.
(*)
(10/228)
كفى لك فضلا أن
أفضل حرة (1) * غذتك بثدي والخليفة واحد لقد زنت يحيى في المشاهد كلها
* كما زان يحيى خالدا في المشاهد قالوا: وكان الفضل أكرم من أخيه جعفر،
ولكن كان فيه كبر شديد، وكان عبوسا، وكان جعفر أحسن بشرا منه وأطلق
وجها، وأقل عطاء.
وكان الناس إليه أميل، ولكن خصلة الكرم تغطي جميع القبائح، فهي تستر
تلك الخصلة التي كانت في الفضل.
وقد وهب الفضل لطباخه مائة ألف درهم فعابه أبوه على ذلك، فقال: يا أبت
إن هذا يصحبني في العسر واليسر والعيش الخشن، واستمر معي في هذا الحال
فأحسن صحبتي، وقد قال بعض الشعراء:
إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا * من كان يعتادهم في المنزل الخشن ووهب
يوما لبعض الادباء عشرة آلاف دينار فبكى الرجل فقال له: مم تبكي،
أستقللتها ؟ قال: لا والله، ولكني أبكي أن الارض تأكل مثلك، أو تواري
مثلك.
وقال علي بن الجهم عن أبيه: أصبحت يوما لا أملك شيئا حتى ولا علف
الدابة.
فقصدت الفضل بن يحيى، فإذا هو قد أقبل من دار الخلافة في موكب من
الناس، فلما رآني رحب بي وقال: هلم.
فسرت معه، فلما كان ببعض الطريق سمع غلاما يدعو جارية من دار، وإذا هو
يدعوها باسم جارية له يحبها، فانزعج لذلك وشكا إلي ما لقي من ذلك،
فقلت: أصابك ما أصاب أخي بني عامر حيث يقول: وداع دعا إذ نحن بالخيف من
منى * فهيج أحزان الفؤاد ولا يدري دعا باسم ليلى غيرها وكأنما * أطار
بليلى طائرا كان في صدري فقال: اكتب لي هذين البيتين.
قال: فذهبت إلى بقال فرهنت عنده خاتمي على ثمن ورقة وكتبتهما له،
فأخذهما وقال: انطلق راشدا.
فرجعت إلى منزلي فقال لي غلامي: هات خاتمك حتى نرهنه على طعام لنا وعلف
للدابة، فقلت: إني رهنته.
فما أمسينا حتى أرسل إلي الفضل بثلاثين ألفا من الذهب، وعشرة آلاف من
الورق، أجراه علي كل شهر، وأسلفني شهرا.
ودخل على الفضل يوما بعض الاكابر فأكرمه الفضل وأجلسه معه على السرير،
فشكا إليه الرجل دينا عليه وسأله أن يكلم في ذلك أمير المؤمنين.
فقال: نعم، وكم دينك ؟ قال ثلاثمائة ألف ردهم.
فخرج من عنده وهو مهموم لضعف رده عليه، ثم مال إلى بعض إخوانه فاستراح
عنده ثم رجع إلى منزله فإذا المال قد سبقه إلى داره.
وما أحسن ما قال فيه بعض الشعراء:
__________
(1) في الفخري: كفى لك فخرا أن أكرم حرة.
(*)
(10/229)
لك الفضل يا
فضل بن يحيى بن خالد * وما كل من يدعى بفضل له فضل رأى الله فضلا منك
في الناس واسعا * فسماك فضلا فالتقى الاسم والفعل
وقد كان الفضل أكبر رتبة عند الرشيد من جعفر، وكان جعفر أحظى عند
الرشيد منه وأخص.
وقد ولي الفضل أعمالا كبارا، منها نيابة خراسان وغيرها.
ولما قتل الرشيد البرامكة وحبسهم جلد الفضل هذا مائة سوط وخلده في
الحبس حتى مات في هذه السنة، قبل الرشيد بشهور خمسة في الرقة وصلى عليه
بالقصر الذي مات فيه أصحابه، ثم أخرجت جنازته فصلى عليها الناس، ودفن
هناك وله خمس وأربعون سنة، وكان سبب موته ثقل أصابه في لسانه اشتد به
يوم الخميس ويوم الجمعة، وتوفي قبل أذان الغداة من يوم السبت.
قال ابن جرير: وذلك في المحرم من سنة ثلاث وتسعين مائة، وقال ابن
الجوزي: في سنة ثنتين وتسعين فالله أعلم.
وقد أطال بن خلكان ترجمته وذكر طرفا صالحا من محاسنه ومكارمه، من ذلك
أنه ورد بلخ حين كان نائبا على خراسان، وكان بها بيت النار التي كانت
تعبدها المجوس، وقد كان جده برمك من خدامها، فهدم بعضه ولم يتمكن من
هدمه كله، لقوة إحكامه، وبنى مكانه مسجدا لله تعالى.
وذكر أنه كان يتمثل في السجن بهذه الابيات ويبكي: إلى الله فيما نالنا
نرفع الشكوى * ففي يده كشف المضرة والبلوى خرجنا من الدنيا ونحن من
أهلها * فلا نحن في الاموات فيها ولا الاحيا إذا جاءنا السجان يوما
لجاجة * عجبنا وقلنا: جاء هذا من الدنيا (1) ومحمد بن أمية الشاعر
الكاتب، وهو من بيت كلهم شعراء، وقد اختلط أشعار بعضهم في بعض.
ومنصور بن الزبرقان ابن سلمة أبو الفضل النميري الشاعر، امتدح الرشيد،
وأصله من الجزيرة وأقام ببغداد ويقال لجده مطعم الكبش الرخم، وذلك أنه
أضاف يوما فجعلت الرخم تحوم حولهم، فأمر بكبش يذبح للرخم حتى لا يتأذى
بها ضيفانه، ففعل له ذلك.
فقال الشاعر فيه: أبوك زعيم بني قاسط * وخالك ذو الكبش يغذي الرخم وله
أشعار حسنة، وكان يروي عن كلثوم بن عمرو، وكان شيخه الذي أخذ عنه
الغناء.
__________
(1) نسبها ابن خلكان لصالح بن عبد القدوس، وقيل إنها لعلي بن الخليل،
وقال غيره هي لابي العتاهية.
(*)
(10/230)
يوسف بن القاضي أبي يوسف سمع الحديث من السري بن يحيى، ويونس بن أبي
إسحاق، ونظر في الرأي وتفقه، وولي قضاء الجانب الشرقي ببغداد في حياة
أبيه أبي يوسف، وصلى بالناس الجمعة بجامع المنصور عن أمر الرشيد.
توفي في رجب من هذه السنة وهو قاضي ببغداد. |