البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي

ثم دخلت سنة سبع وسبعين ومائة فيها عزل الرشيد جعفر البرمكي عن مصر وولى عليها إسحاق بن سليمان، وعزل حمزة بن
مالك عن خراسان وولى عليها الفضل بن يحيى البرمكي مضافا إلى ما كان بيده من الاعمال بالري وسجستان وغير ذلك.
وذكر الواقدي أنه أصاب الناس ريح شديدة وظلمة في أواخر المحرم من هذه السنة، وكذلك في أواخر صفر منها.
وفيها حج بالناس الرشيد وفيها توفي (شريك بن عبد الله) القاضي الكوفي النخعي، سمع أبا إسحاق وغير واحد، وكان مشكورا في حكمه وتنفيذ الاحكام، وكان لا يجلس للحكم حتى يتغدى ثم يخرج ورقة من خفه فينظر فيها ثم يأمر بتقديم الخصومة إليه، فحرص بعض أصحابه على قراءة ما في تلك الورقة فإذا فيها يا شريك بن عبد الله اذكر الصراط وحدته يا شريك بن عبد الله اذكر الموقف بين يدي الله عز وجل.
كانت وفاته يوم السبت مستهل ذي القعدة منها.
وفيها توفي عبد الواحد بن زيد، ومحمد بن مسلم وموسى بن أعين.

(10/183)


ثم دخلت سنة ثمان وسبعين ومائة فيها وثبت طائفة من الحوفية (1) من قيس وقضاعة على عامل مصر إسحاق بن سليمان فقاتلوه وجرت فتنة عظيمة فبعث الرشيد هرثمة بن أعين نائب فلسطين في خلق من الامراء مددا لاسحاق، فقاتلوهم حتى أذعنوا بالطاعة وأدوا ما عليهم من الخراج والوظائف، واستمر هرثمة نائبا على مصر نحوا من شهر عوضا عن إسحاق بن سليمان، ثم عزله الرشيد عنها وولى عليها عبد الملك بن صالح.
وفيها وثبت طائفة من أهل إفريقية فقتلوا الفضل بن روح بن حاتم وأخرجوا من كان بها من آل المهلب، فبعث إليهم الرشيد هرثمة فرجعوا إلى الطاعة على يديه.
وفيها فوض الرشيد أمور الخلافة كلها إلى يحيى بن خالد بن برمك.
وفيها خرج الوليد بن طريف بالجزيرة وحكم بها وقتل خلقا من أهلها، ثم مضى منها إلى أرمينية فكان من أمره ما سنذكره.
وفيها سار الفضل بن يحيى إلى خراسان فأحسن السيرة فيها وبنى فيها الربط والمساجد، وغزا ما وراء النهر، واتخذ بها جندا من العجم سماهم العباسية، وجعل ولاءهم له، وكانوا نحوا من خمسمائة ألف، وبعث منهم نحوا من عشرين ألفا إلى بغداد، فكانوا يعرفون بها بالكرمينية (2)، وفي ذلك يقول مروان بن أبي حفصة: ما الفضل إلا شهاب لا أفول له * عند الحروب إذا ما تأفل الشهب
حمام على ملك غر سهمهم * من الوراثة في أيديهم سبب أمست يد لبني ساقي الحجيج بها * كتائب ما لها في غيرهم أرب كتائب لبني العباس قد عرفت * ما ألف الفضل منها العجم والعرب أثبت خمس مئين في عدادهم * من الالوف التي أحصت لها الكتب يقارعون عن القوم الذين هم * أولى بأحمد في الفرقان إن نسبوا إن الجواد ابن يحيى الفضل لاورق * يبقى على جود كفيه ولا ذهب ما مر يوم له مذ شد مئزره * إلا تمول أقوام بما يهب كم غاية في الندى والبأس أحرزها * للطالبين مداها دونها تعب يعطي النهي (3) حين لا يعطي الجواد ولا * ينبو إذا سلت الهندية القضب ولا الرضى والرضى لله غايته * إلى سوى الحق يدعوه ولا الغضب قد فاض عرفك حتى ما يعادله * غيث ولا بحر له حدب وكان قد أنشده قبل خروجه إلى خراسان:
__________
(1) وكان سبب ذلك أن اسحاق زاد على المزارعين في الخراج - ما كان يقبله غيره من الامراء - زيادة أجحفت بهم فخرج عليه أهل الحوف مطالبين برد الخراج إلى سابق عهده.
(2) في الطبري 10 / 63: الكرنبية.
(3) في الطبري: اللهى.
(*)

(10/184)


ألم تر أن الجود من يد (1) آدم * تحدر حتى صار في راحة الفضل إذا ما أبو العباس سحت (2) سماؤه * فيا لك من هطل ويا لك من ويل وقال فيه أيضا: إذا أم طفل راعها جوع طفلها * دعته باسم الفضل فاعتصم الطفل ليحيى بك الاسلام إنك عزه * وإنك من قوم صغيرهم كهل
قال فأمر له بمائة ألف درهم.
ذكره ابن جرير.
وقال سلم الخاسر فيهم أيضا: وكيف تخاف من بؤس بدار * يجاورها (3) البرامكة البحور وقوم منهم الفضل بن يحيى * نفير ما يوازنه نفير له يومان يوم ندى وبأس * كأن الدهر بينهما أسير إذا ما البرمكي غدا ابن عشر * فهمته أمير أو وزير وقد اتفق للفضل في هذه السفرة إلى خراسان أشياء غريبة، وفتح بلادا كثيرة، منها كابل وما وراء النهر، وقهر ملك الترك وكان ممتنعا، وأطلق أموالا جزيلة جدا، ثم قفل راجعا إلى بغداد، فلما اقترب منها خرج الرشيد ووجوه الناس إليه، وقدم عليه الشعراء والخطباء وأكابر الناس، فجعل يطلق الالف ألف، والخمسمائة ألف ونحوها، وأنفذ في ذلك من الاحوال شيئا كثيرا لا يمكن حصره إلا بتعب وكلفة، وقد دخل عليه بعض الشعراء (4) والبدر موضوعة بين يديه وهي تفرق على الناس فقال: كفى الله بالفضل بن يحى بن خالد * وجود يديه بخل كل بخيل فأمر له بمال جزيل.
وغزا الصائفة في هذه السنة معاوية بن زفر بن عاصم.
وغزا الشاتية سليمان بن راشد.
وحج بالناس فيها محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس نائب مكة.
وفيها توفي جعفر بن سليمان، وعنتر بن القاسم، وعبد الملك بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم القاضي ببغداد، وصلى عليه الرشيد ودفن بها، وقد قيل إنه مات في التي قبلها فالله أعلم.
__________
(1) في الطبري: لدن.
(2) في الطبري: راحت.
(3) في الطبري: تكنفها.
(4) ذكره الطبري 10 / 65: حفص بن مسلم.
(*)

(10/185)


ثم دخلت سنة تسع وسبعين ومائة فيها كان قدوم الفضل بن يحيى من خراسان وقد استخلف عليها عمر بن جميل (1)، فولى الرشيد عليها منصور بن يزيد بن منصور الحميري.
وفيها عزل الرشيد (2) خالد بن برمك عن الحجوبة وردها إلى الفضل بن الربيع.
وفيها خرج بخراسان حمزة بن أترك السجستاني، وكان من أمره ما سيأتي طرف منه.
وفيها رجع الوليد بن طريف الشاري إلى الجزيرة واشتدت شوكته وكثر أتباعه، فبعث إليه الرشيد يزيد بن مزيد الشيباني فراوغه حتى قتله وتفرق أصحابه، فقالت الفارعة في أخيها الوليد بن طريف ترثيه: أيا شجر الخابور ما لك مورقا * كأنك لم تجزع على ابن طريف فتى لا يحب الزاد الا من التقى * ولا المال إلا من قنا وسيوف وفيها خرج الرشيد معتمرا من بغداد شكرا لله عز وجل، فلما قضى عمرته أقام بالمدينة حتى حج بالناس في هذه السنة، فمشى من مكة إلى منى ثم إلى عرفات، وشهد المشاهد والمشاعر كلها ماشيا، ثم انصرف إلى بغداد على طريق البصرة.
وفيها توفي: إسماعيل بن محمد ابن يزيد بن ربيعة أبو هاشم الحميري الملقب بالسيد، كان من الشعراء المشهورين المبرزين فيه، ولكنه كان رافضيا خبيثا، وشيعيا غثيثا، وكان ممن يشرب الخمر ويقول بالرجعة - أي بالدور - قال يوما لرجل: أقرضني دينارا ولك عندي مائة دينار إذا رجعنا إلى الدنيا.
فقال له الرجل: إني أخشى أن تعود كلبا أو خنزيرا فيذهب ديناري.
وكان قبحه الله يسب الصحابة في شعره.
قال الاصمعي: ولو لا ذلك ما قدمت عليه أحدا في طبقته، ولا سيما الشيخين وابنيهما.
وقد أورد ابن الجوزي شيئا من شعره في ذلك كرهت أن أذكره لبشاعته وشناعته، وقد اسود وجهه عند الموت وأصابه كرب شديد جدا.
ولما مات لم يدفنوه لسبه الصحابة رضي الله عنهم.
وفيها توفي: حماد بن زيد
أحد أئمة الحديث.
وخالد بن عبد الله أحد الصلحاء، كان من سادات المسلمين، اشترى
__________
(1) في الطبري 1 / 65: عمرو بن شرحبيل.
(2) في الطبري: عزل الرشيد محمد بن خالد بن برمك، والمشهور أن خالد والده كان قد مات سنة خمس وستين ومائة (انظر شذرات الذهب 1 / 261).
(*)

(10/186)


نفسه من الله أربع مرات.
ومالك بن أنس الامام، والهقل بن زياد صاحب الاوزاعي، وأبو الاحوص.
وكلهم قد ذكرناهم في التكميل.
والامام مالك هو أشهرهم وهو أحد الائمة الاربعة أصحاب المذاهب المتبعة، فهو مالك بن أنس بن مالك بن عامر بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن غيلان بن حشد بن عمرو بن الحارث، وهو ذو أصبح الحميري، أبو عبد الله المدني إمام دار الهجرة في زمانه، روى مالك عن غير واحد من التابعين (1)، وحدث عنه خلق من الائمة، منهم السفيانان، وشعبة، وابن المبارك، والاوزاعي، وابن مهدي وابن جريج والليث والشافعي والزهري شيخه، ويحيى بن سعيد الانصاري وهو شيخه، ويحيى بن سعيد القطان، ويحيى بن يحيى الاندلسي، ويحيى بن يحيى النيسابوري.
قال البخاري: أصح الاسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر.
وقال سفيان بن عيينة: ما كان أشد انتقاده للرجال.
وقال يحيى بن معين: كل من روى عنه مالك فهو ثقة، إلا أبا أمية.
وقال غير واحد: هو أثبت أصحاب نافع والزهري.
وقال الشافعي: إذا جاء الحديث فمالك النجم.
وقال: من أراد الحديث فهو عيال على مالك.
ومناقبه كثيرة جدا، وثناء الائمة عليه أكثر من أن يحصر في هذا المكان.
قال أبو مصعب: سمعت مالكا يقول: ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك.
وكان إذا أراد أن يحدث تنظف وتطيب وسرح لحيته ولبس أحسن ثيابه، وكان يلبس حسنا.
وكان نقش خاتمه حسبي الله ونعم الوكيل، وكان إذا دخل منزله قال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله.
وكان منزله مبسوطا بأنواع المفارش.
ومن وقت خروج محمد بن عبد الله بن حسن لزم مالك بيته فلم يكن يأتي أحدا لا لعزاء ولا لهناء، ولا
يخرج لجمعة ولا لجماعة، ويقول: ما كل ما يعلم يقال، وليس كل أحد يقدر على الاعتذار ولما احتضر قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم جعل يقول: لله الامر من قبل ومن بعد، ثم قبض في ليلة أربعة عشر من صفر، وقيل من ربيع الاول من هذه السنة، وله خمس وثمانون سنة.
قال الواقدي: بلغ سبعين سنة ودفن بالبقيع.
وقد روى الترمذي عن سفيان بن عيينة عن ابن جريج عن أبي الزبير عن أبي صالح عن أبي هريرة: " يوشك أن يضرب الناس أكباد الابل يطلبون العلم فلا يجدون أحدا أعلم من عالم المدينة ".
ثم قال: هذا حديث حسن.
وقد روى عن ابن عيينة أنه قال: هو مالك بن أنس.
وكذا قال عبد الرزاق.
وعن ابن عيينة رواية أنه عبد العزيز بن عبد الله العمري.
وقد ترجمه ابن خلكان في الوفيات فأطنب وأتى بفوائد جمة.
__________
(1) حدث عن نافع والمقبري ونعيم المجمر والزهري وعامر بن عبد الله وابن المنكدر وعبد الله بن دينار (تذكرة الحفاظ 1 / 207).
(*)

(10/187)


ثم دخلت سنة ثمانين ومائة فيها هاجت الفتنة بالشام بين النزارية واليمنية، فانزعج الرشيد لذلك فندب جعفر البرمكي إلى الشام في جماعة من الامراء والجنود، فدخل الشام فانقاد الناس له ولم يدع جعفر بالشام فرسا ولا سيفا ولا رمحا إلا استلبه من الناس، وأطفأ الله به نار تلك الفتنة.
وفي ذلك يقول بعض الشعراء (1): لقد أوقدت بالشام نيران فتنة * فهذا أوان الشام تخمد نارها إذا جاش موج البحر من آل برمك * عليها خبت شهبانها وشرارها رماها أمير المؤمنين بجعفر * وفيه تلافى صدعها وانكسارها (2) رماها بميمون النقيبة ماجد * تراضى به قحطانها ونزارها ثم كر جعفر راجعا إلى بغداد بعد ما استخلف على الشام عيسى العكي، ولما قدم على الرشيد أكرمه وقربه وأدناه، وشرع جعفر يذكر كثرة وحشته له في الشام، ويحمد الله الذي من عليه برجوعه إلى أمير المؤمنين ورؤيته وجهه.
وفيها ولى الرشيد جعفرا خراسان وسجستان فاستعمل على ذلك
محمد بن الحسن بن قحطبة، ثم عزل الرشيد جعفرا عن خراسان بعد عشرين ليلة.
وفيها هدم الرشيد سور الموصل بسبب كثرة الخوارج، وجعل الرشيد جعفرا على الحرس، ونزل الرشيد الرقة واستوطنها واستناب على بغداد ابنه الامين محمدا وولاه العراقين، وعزل هرثمة عن إفريقية واستدعاه إلى بغداد فاستنابه جعفر على الحرس.
وفيها كانت بمصر زلزلة شديدة سقط منها رأس منارة الاسكندرية.
وفيها خرج بالجزيرة خراشة الشيباني فقتله مسلم بن بكار بن مسلم العقيلي.
وفيها ظهرت طائفة بجرجان يقال لها المحمرة لبسوا الحمرة واتبعوا رجلا يقال له عمرو بن محمد العمركي، وكان ينسب إلى الزندقة، فبعث الرشيد يأمر بقتله فقتل وأطفأ الله نارهم في ذلك الوقت.
وفيها غزا الصائفة زفر بن عاصم (3).
وحج بالناس موسى (4) بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس.
وفيها كانت وفاة جماعة من الاعيان: إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الانصاري قارئ أهل المدينة ومؤدب علي بن المهدي ببغداد.
وقد مات علي بن المهدي في هذه السنة أيضا.
وقد ولي إمارة الحج غير مرة، وكان أسن من الرشيد بشهور.
__________
(1) نسب الطبري الابيات إلى منصور النمري.
(10 / 66) (2) في الطبري: وانجبارها.
(3) في الطبري: معاوية بن زفر بن عاصم، وفي ابن الاثير، محمد بن معاوية بن زفر بن عاصم.
(4) في الطبري وابن الاثير: موسى بن عيسى بن موسى.
(*)

(10/188)


حسان بن أبي سنان ابن أبي أوفى بن عوف التنوخي الانباري، ولد سنة ستين، ورأى أنس بن مالك ودعا له فجاء من نسله قضاة ووزراء وصلحاء، وأدرك الدولتين الاموية والعباسية.
وكان نصرانيا فأسلم وحسن إسلامه وكان يكتب بالعربية والفارسية والسريانية، وكان يعرب الكتب بين يدي ربيعة لما ولاه السفاح الانبار.
وفيها توفي:
عبد الوارث بن سعيد البيروتي أحد الثقات وعافية بن يزيد ابن قيس القاضي للمهدي على جانب بغداد الشرقي، هو وابن علاثة، وكانا يحكمان بجامع الرصافة، وكان عافية عابدا زاهدا ورعا، دخل يوم على المهدي في وقت الظهيرة فقال: يا أمير المؤمنين اعفني، فقال له المهدي: ولم أعفيك ؟ هل اعترض عليك أحد من الامراء ؟ فقال له: لا ولكن كان بين اثنين خصومة عندي فعمد أحدهما إلى رطب السكر - وكأنه سمع أني أحبه - فأهدى إلي منه طبقا لا يصلح إلا لامير المؤمنين، فرددته عليه، فلما أصبحنا: وجلسنا إلى الحكومة لم يستويا عندي في قلبي ولا نظري، بل مال قلبي إلى المهدي منهما، هذا مع أني لم أقبل منه ما أهداه فكيف لو قبلت منه ؟ فاعفني عفا الله عنك فأعفاه.
وقال الاصمعي: كنت عند الرشيد يوما وعنده عافية وقد أحضره لان قوما استعدوا عليه إلى الرشيد، فجعل الرشيد يوقفه على ما قيل عنه وهو يجيب عما يسأله.
وطال المجلس فعطس الخليفة فشمته الناس ولم يشمته عافية، فقال له الرشيد: لم لم تشمتني مع الناس ؟ فقال: لانك لم تحمد الله، واحتج بالحديث في ذلك.
فقال له الرشيد: ارجع لعملك فوالله ما كنت لتفعل ما قيل عنك، وأنت لم تسامحني في عطسة لم أحمد الله فيها.
ثم رده ردا جميلا إلى ولايته.
وفيها توفي: سيبويه إمام النحاة، واسمه عمرو بن عثمان بن قنبر أبو بشر، المعروف بسيبويه، مولى بني الحارث بن كعب، وقيل مولى آل الربيع بن زياد، وإنما سمي سيبويه لان أمه كانت ترقصه وتقول له ذلك، ومعنى سيبويه رائحة التفاح، وقد كان في ابتداء أمره يصحب أهل الحديث والفقهاء، وكان يستملي على حماد بن سلمة، فلحن يوما فرد عليه قوله فأنف من ذلك، فلزم الخليل بن أحمد فبرع في النحو، ودخل بغداد وناظر الكسائي.
وكان سيبويه شابا حسنا جميلا نظيفا، وقد تعلق من كل علم بسبب، وضرب مع كل أهل أدب بسهم، مع حداثة سنه.
وقد صنف في النحو كتابا لا يلحق شأوه، وشرحه أئمة النحاة بعده فانغمروا في لجج بحره، واستخرجوا من درره، ولم يبلغوا إلى قعره.
وقد زعم ثعلب أنه لم ينفرد بتصنيفه، بل ساعده جماعة في تصنيفه نحوا من أربعين نفسا هو أحدهم، وهو أصول الخليل،

(10/189)


فادعاه سيبويه إلى نفسه.
وقد استبعد ذلك السيرافي في كتاب طبقات النحاة.
قال: وقد أخذ سيبويه اللغات عن أبي الخطاب والاخفش وغيرهما، وكان سيبويه يقول: سعيد بن أبي العروبة، والعروبة يوم الجمعة، وكان يقول: من قال عروبة فقد أخطأ.
فذكر ذلك ليونس فقال أصاب لله دره، وقد ارتحل إلى خراسان ليحظى عند طلحة بن طاهر فإنه كان يحب النحو فمرض هناك مرضه الذي توفي فيه فتمثل عند الموت: يؤمل دنيا لتبقى له * فمات المؤمل قبل الامل يربي فسيلا ليبقى له * فعاش الفسيل ومات الرجل ويقال: إنه لما احتضر وضع رأسه في حجر أخيه فدمعت عين أخيه فاستفاق فرآه يبكي فقال: وكنا جميعا فرق الدهر بيننا * إلى الامد الاقصى فمن يأمن الدهرا قال الخطيب البغدادي: يقال إنه توفي وعمره ثنتان وثلاثون سنة.
وفيها توفيت: عفيرة العابدة كانت طويلة الحزن كثيرة البكاء.
قدم قريب لها من سفر فجعلت تبكي، فقيل لها في ذلك فقالت: لقد ذكرني قدوم هذا الفتى يوم القدوم على الله، فمسرور ومثبور (1).
وفيها مات مسلم بن خالد الزنجي شيخ الشافعي، كان من أهل مكة، ولقد تكلموا فيه لسوء حفظه.
ثم دخلت سنة إحدى وثمانين ومائة فيها غزا الرشيد بلاد الروم فافتتح حصنا يقال له الصفصاف، فقال في ذلك مروان بن أبي حفصة: إن أمير المؤمنين المنصفا (2) * قد ترك الصفصاف قاعا صفصفا وفيها غزا عبد الملك بن صالح بلاد الروم فبلغ أنقرة وافتتح مطمورة.
وفيها تغلبت المحمرة على جرجان (3).
وفيها أمر الرشيد أن يكتب في صدور الرسائل الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الثناء على الله عز وجل.
وفيها حج بالناس الرشيد وتعجل بالنفر، وسأله يحيى بن خالد أن يعفيه من الولاية
فأعفاه وأقام يحيى بمكة.
وفيها توفي:
__________
(1) مثبور: هالك أو خاسر.
(2) في الطبري 10 / 69: المصطفى.
(3) في ابن الاثير 6 / 159: خراسان.
(*)

(10/190)


الحسن بن قحطبة أحد أكابر الامراء، وحمزة بن مالك، ولي إمرة خراسان في أيام الرشيد، وخلف بن خليفة شيخ الحسن بن عرفة عن مائة سنة.
وعبد الله بن المبارك أبو عبد الرحمن المروزي، كان أبوه تركيا مولى لرجل من التجار من بني حنظلة من أهل همذان، وكان ابن المبارك إذا قدمها أحسن إلى ولد مولاهم، وكانت أمه خوارزمية، ولد لثمان عشرة ومائة، وسمع إسماعيل بن خالد، والاعمش، وهشام بن عروة، وحميد الطويل، وغيرهم من أئمة التابعين.
وحدث عن خلائق من الناس، وكان موصوفا بالحفظ والنفقه والعربية والزهد والكرم والشجاعة والشعر، له التصانيف الحسان، والشعر الحسن المتضمن حكما جمة، وكان كثير الغزو والحج، وكان له رأس مال نحو أربعمائة ألف يدور يتجر به في البلدان، فحيث اجتمع بعالم أحسن إليه، وكان يربو كسبه في كل سنة على مائة ألف ينفقها كلها في أهل العبادة والزهد والعلم، وربما أنفق من رأس ماله.
قال سفيان بن عيينة: نظرت في أمره وأمر الصحابة فما رأيتهم يفضلون عليه إلا في صحبتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال إسماعيل بن عياش: ما على وجه الارض مثله، وما أعلم خصلة من الخير إلا وقد جعلها الله في ابن المبارك، ولقد حدثني أصحابي أنهم صحبوه من مصر إلى مكة فكان يطعمهم الخبيص وهو الدهر صائم.
وقدم مرة الرقة وبها هارون الرشيد، فلما دخلها احتفل الناس به وازدحم الناس حوله، فأشرفت أم ولد للرشيد من قصر هناك فقالت: ما للناس ؟ فقيل لها: قدم رجل من علماء خراسان يقال له عبد الله بن المبارك فانجفل الناس إليه.
فقالت المرأة: هذا هو الملك، لا
ملك هارون الرشيد الذي (1) يجمع الناس عليه بالسوط والعصا والرغبة والرهبة.
وخرج مرة إلى الحج فاجتاز ببعض البلاد فمات طائر معهم فأمر بإلقائه على مزبلة هناك، وسار أصحابه أمامه وتخلف هو وراءهم، فلما مر بالمزبلة إذا جارية قد خرجت من دار قريبة منها فأخذت ذلك الطائر الميت ثم لفته ثم أسرعت به إلى الدار، فجاء فسألها عن أمرها وأخذها الميتة، فقالت أنا وأخي هنا ليس لنا شئ إلا هذا الازار، وليس لنا قوت إلا ما يلقى على هذه المزبلة، وقد حلت لنا الميتة منذ أيام.
وكان أبونا له مال فظلم وأخذ ماله وقتل.
فأمر ابن المبارك برد الاحمال وقال لوكيله: كم معك من النفقة ؟ قال: ألف دينار.
فقال: عد منها عشرين دينارا تكفينا إلى مرو واعطها الباقي.
فهذا أفضل من حجنا في هذا العام، ثم رجع.
وكان إذا عزم على الحج يقول لاصحابه: من عزم منكم في هذا العام على الحج فليأتني بنفقته
__________
(1) في صفة الصفوة 4 / 137: الذي لا يجمع الناس إلا بشرط وأعوان.

(10/191)


حتى أكون أنا أنفق عليه، فكان يأخذ منهم نفقاتهم ويكتب على كل صرة اسم صاحبها ويجمعها في صندوق، ثم يخرج بهم في أوسع ما يكون من النفقات والركوب، وحسن الخلق والتيسير عليهم، فإذا قضوا حجتهم فيقول لهم: هل أوصاكم أهلوكم بهدية، فيشتري لكل واحد منهم ما وصاه أهله من الهدايا المكية واليمنية وغيرها، فإذا جاؤوا إلى المدينة اشترى لهم منها الهدايا المدنية، فإذا رجعوا إلى بلادهم بعث من أثناء الطريق إلى بيوتهم فأصلحت وبيضت أبوابها ورمم شعثها، فإذا وصلوا إلى البلد عمل وليمة بعد قدومهم ودعاهم فأكلوا وكساهم، ثم دعا بذلك الصندوق ففتحه وأخرج منه تلك الصرر ثم يقسم عليهم أن يأخذ كل واحد نفقته التي عليها اسمه، فيأخذونها وينصرفون إلى منازلهم وهم شاكرون ناشرون لواء الثناء الجميل.
وكانت سفرته تحمل على بعير وحدها، وفيها من أنواع المأكول من اللحم والدجاج والحلوى وغير ذلك، ثم يطعم الناس وهو الدهر صائم في الحر الشديد.
وسأله مرة سائل فأعطاه درهما فقال له بعض أصحابه: إن هؤلاء يأكلون الشواء والفالوذج، وقد كان يكفيه قطعة.
فقال: والله ما ظننت أنه يأكل إلا البقل والخبز، فأما إذا كان يأكل الفالوذج والشواء
فإنه لا يكفيه درهم.
ثم أمر بعض غلمانه فقال: رده وادفع إليه عشرة دراهم.
وفضائله ومناقبه كثيرة جدا.
قال أبو عمر بن عبد البر: أجمع العلماء على قبوله وجلالته وإمامته وعدله.
توفي عبد الله بن المبارك بهيت (1) في هذه السنة في رمضانها عن ثلاث وستين سنة.
ومفضل بن فضالة ولي قضاء مصر مرتين، وكان دينا ثقة، فسأل الله أن يذهب عنه الامل فأذهبه، فكان بعد ذلك لا يهنئه العيش ولا شئ من الدنيا، فسأل الله أن يرده عليه فرده فرجع إلى حاله.
ويعقوب التائب العابد الكوفي، قال علي بن الموفق عن منصور بن عمار: خرجت ذات ليلة وأنا أظن أني قد أصبحت، فإذا علي ليل، فجلست إلى باب صغير وإذا شاب يبكي وهو يقول: وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتك مخالفتك ولكن سولت لي نفسي، وغلبتني شقوتي، وغرني سترك المرخى علي فالآن من عذابك من يستنقذني ؟ وبحبل من أتصل إن أنت قطعت حبلك عني ؟ واسوأتاه على ما مضى من أيامي في معصية ربي، يا ويلي كم أتوب وكم أعود، قد حان لي أن أستحي من ربي عز وجل.
قال منصور
__________
(1) هيت: بكسر الهاء، مدينة على الفرات فوق الانبار من أعمال العراق، عندها كانت القوافل تقطع الفرات في طريقها بين بغداد وحلب، واشتهرت قديما بالتمر والقمح والخمر.
وبالقرب منها ينابيع النفط.
(*)

(10/192)


فقلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) [ التحريم: 6 ] قال: فسمعت صوتا واضطرابا شديدا فذهبت لحاجتي، فلما رجعت مررت بذلك الباب فإذا جنازة موضوعة، فسألت عنه فإذا ذاك الفتى قد مات من هذه الآية.
ثم دخلت سنة ثنتين وثمانين ومائة فيها أخذ الرشيد لولده عبد الله المأمون ولاية العهد من بعد أخيه محمد الامين بن زبيدة، وذلك
بالرقة بعد مرجعه من الحج، وضم ابنه المأمون إلى جعفر بن يحيى البرمكي وبعثه إلى بغداد ومعه جماعة من أهل الرشيد خدمة له، وولاه خراسان وما يتصل بها، وسماه المأمون.
وفيها رجع يحيى بن خالد البرمكي من مجاورته بمكة إلى بغداد.
وفيها غزا الصائفة عبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح فبلغ مدينة أصحاب الكهف (1).
وفيها سملت الروم عيني ملكهم قسطنطين بن إليون وملكوا عليهم أمه ريني وتلقب أغسطه.
وحج بالناس موسى بن عيسى بن العباس.
وفيها توفي من الاعيان إسماعيل بن عياش الحمصي أحد المشاهير من أئمة الشاميين، وفيه كلام.
ومروان بن أبي حفصة الشاعر المشهور المشكور.
كان يمدح الخلفاء والبرامكة.
ومعن بن زائدة حصل من الاموال شيئا كثيرا جدا، وكان مع ذلك من أبخل الناس، لا يكاد يأكل اللحم من بخله، ولا يشعل في بيته سراجا، ولا يلبس من الثياب إلا الكرباسي والفرو الغليظ، وكان رفيقه سلم الخاسر إذا ركب إلى دار الخلافة يأتي على برذون وعليه حلة تساوي ألف دينار، والطيب ينفح من ثيابه، ويأتي هو في شر حالة وأسوئها.
وخرج يوما إلى المهدي فقالت امرأة من أهله: إن أطلق لك الخليفة شيئا فاجعل لي منه شيئا.
فقال: إن أعطاني مائة ألف درهم فلك درهم.
فأعطاه ستين ألفا فأعطاها أربعة دوانيق.
توفي ببغداد في هذه السنة، ودفن في مقبرة نصر بن مالك.
والقاضي أبو يوسف واسمه يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن سعد بن حبتة (2)، وهي أمه، وأبوه (3) بجير بن
__________
(1) وهي مدينة دفسوس على ما قاله الطبري، وفي ابن الاثير 6 / 161: أفسوس.
(2) من وفيات الاعيان 6 / 378 ومصباح السعادة 2 / 211 والمعارف ص 218: وفي الاصل حسنة.
وهي حيتة بنت مالك بن بني عمرو بن عوف.
(3) في الاستيعاب: أبو سعد هو عوف بن بحير، وفي تاريخ بغداد 14 / 242: هو بجير بن معاوية.
وفي مفتاح = (*)

(10/193)


معاوية، استصغر يوم أحد، وأبو يوسف كان أكبر أصحاب أبي حنيفة، روى الحديث عن الاعمش
وهمام بن عروة ومحمد بن إسحاق ويحيى بن سعيد وغيرهم.
وعنه محمد بن الحسن وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين.
قال علي بن الجعد: سمعته يقول: توفي أبي وأنا صغير فأسلمتني أمي إلى قصار فكنت أمر على حلقة أبي حنيفة فأجلس فيها، فكانت أمي تتبعني فتأخذ بيدي من الحلقة وتذهب بي إلى القصار، ثم كنت أخالفها في ذلك وأذهب إلى أبي حنيفة، فلما طال ذلك عليها قالت لابي حنيفة: إن هذا صبي يتيم ليس له شئ إلا ما أطعمه من مغزلي، وإنك قد أفسدته علي.
فقال لها: اسكتي يا رعناء، ها هوذا يتعلم العلم وسيأكل الفالوذج بدهن الفستق في صحون الفيروزج فقالت له: إنك شيخ قد خرفت.
قال أبو يوسف: فلما وليت القضاء - وكان أول من ولاه القضاء الهادي وهو أول من لقب قاضي القضاة، وكان يقال له: قاضي قضاة الدنيا، لانه كان يستنيب في سائر الاقاليم التي يحكم فيها الخليفة -.
قال أبو يوسف: فبينا أنا ذات يوم عند الرشيد إذ أتي بفالوذج في صحن فيروزج فقال لي: كل من هذا، فإنه لا يصنع لنا في كل وقت.
وقلت: وما هذا يا أمير المؤمنين ؟ فقال: هذا الفالوذج.
قال فتبسمت فقال: ما لك تتبسم ؟ فقلت: لا شئ أبقى الله أمير المؤمنين.
فقال: لتخبرني.
فقصصت عليه القصة فقال: إن العلم ينفع ويرفع في الدنيا والآخرة.
ثم قال: رحم الله أبا حنيفة، فلقد كان ينظر بعين عقله ما لا ينظر بعين رأسه.
وكان أبو حنيفة يقول عن أبي يوسف: إنه أعلم أصحابه.
وقال المزني: كان أبو يوسف أتبعهم للحديث.
وقال ابن المديني: كان صدوقا.
وقال ابن معين: كان ثقة.
وقال أبو زرعة: كان سليما من التجهم.
وقال بشار الخفاف: سمعت أبا يوسف يقول: من قال القرآن مخلوق فحرام كلامه، وفرض مباينته، ولا يجوز السلام ولا رده عليه.
ومن كلامه الذي ينبغي كتابته بماء الذهب قوله: من طلب المال بالكيما (1) أفلس، ومن تتبع غرائب الحديث كذب، ومن طلب العلم بالكلام تزندق.
ولما تناظر هو ومالك بالمدينة بحضرة الرشيد في مسألة الصاع وزكاة الخضراوات احتج مالك بما استدعى به من تلك الصيعان المنقولة عن آبائهم وأسلافهم، وبأنه لم يكن الخضراوات يخرج فيها شئ في زمن الخلفاء الراشدين.
فقال أبو يوسف: لو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت.
وهذا إنصاف منه.
وقد كان يحضر في مجلس حكمه العلماء على طبقاتهم، حتى إن أحمد بن حنبل كان شابا وكان
__________
= السعادة أن سعدا استصغره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم أحد، لانه كان لا يأذن للخروج إلى الغزاة إلا للبالغ (انظر المعارف لابن قتيبة ص 218).
(1) الكيما: يعني الكيمياء، ولفظ الكيمياء عبراني معرف أصله (كيم يه) ومعنى ذلك آية من الله، وقد اختلف الناس فيها اختلافا شديدا وكثير منهم قائلون بامتناعها إلا ما يفيد الاستعباد.
وهو علم يراد به سلب الجواهر المعدنية خواصها، وافادتها خواصا لم تكن لها.
(مفتاح السعادة 1 / 317).
(*)

(10/194)


يحضر مجلسه في أثناء الناس فيتناظرون ويتباحثون، وهو مع ذلك يحكم ويصنف أيضا.
وقال: وليت هذا الحكم وأرجو الله أن لا يسألني عن جور ولا ميل إلى أحد، إلا يوما واحدا جاءني رجل فذكر أن له بستانا وأنه في يد أمير المؤمنين، فدخلت إلى أمير المؤمنين فأعلمته فقال: البستان لي اشتراه لي المهدي.
فقلت: إن رأى أمير المؤمنين أن يحضره لاسمع دعواه.
فأحضره فادعى بالبستان فقلت: ما تقول يا أمير المؤمنين ؟ فقال: هو بستاني.
فقلت للرجل: قد سمعت ما أجاب.
فقال الرجل: يحلف، فقلت أتحلف يا أمير المؤمنين ؟ فقال: لا، فقلت سأعرض عليك اليمين ثلاثا فإن حلفت وإلا حكمت عليك يا أمير المؤمنين.
فعرضتها عليه ثلاثا فامتنع فحكمت بالبستان للمدعي.
قال: فكنت في أثناء الخصومة أود أن ينفصل ولم يمكني أن أجلس الرجل مع الخليفة.
وبعث القاضي أبو يوسف في تسليم البستان إلى الرجل.
وروى المعافى بن زكريا الجريري، عن محمد بن أبي الازهر، عن حماد بن أبي إسحاق، عن أبيه عن بشر بن الوليد عن أبي يوسف.
قال: بينا أنا ذات ليلة قد نمت في الفراش، إذا رسول الخليفة يطرق الباب، فخرجت منزعجا فقال: أمير المؤمنين يدعوك، فذهبت فإذا هو جالس ومعه عيسى بن جعفر فقال لي الرشيد: إن هذا قد طلبت منه جارية يهبنيها فلم يفعل، أو يبعنيها، وإني أشهدك إن لم يجبني إلى ذلك قتلته.
فقلت لعيسى: لم لم تفعل ؟ فقال: إني حالف بالطلاق والعتاق وصدقة مالي كله أن لا أبيعها ولا أهبها.
فقال لي الرشيد: فهل له من مخلص (1) ؟ فقلت: نعم يبيعك نصفها ويهبك نصفها (2).
فوهبه النصف وباعه النصف بمائة ألف دينار، فقبل منه ذلك وأحضرت الجارية، فلما رآها
الرشيد قال: هل لي من سبيل عليها الليلة ؟ قلت: إنها مملوكة ولا بد من استبرائها، إلا أن تعتقها وتتزوجها فإن الحرة لا تستبرأ.
قال فأعتقها وتزوجها منه بعشرين ألف دينار، وأمر لي بمائتي ألف درهم وعشرين تختا من ثياب، وأرسلت إلي الجارية بعشرة آلاف دينار.
وقال يحيى بن معين: كنت عند أبي يوسف فجاءته هدية من ثياب ديبقي وطيب وفانيل ند وغير ذلك، فذاكرني رجل في إسناد حديث (من أهديت له هدية وعنده قوم جلوس فهم شركاؤه) فقال أبو يوسف: إنما ذاك في الاقط والتمر والزبيب، ولم تكن الهدايا في ذلك الوقت ما ترون، يا غلام ارفع هذا إلى الخزائن، ولم يعطهم منها شيئا.
وقال بشر بن غياث المريسي: سمعت أبا يوسف يقول: صحبت أبا حنيفة سبع عشرة سنة ثم انصبت علي الدنيا سبع عشرة سنة، وما أظن أجلي إلا أن اقترب.
فما مكث بعد ذلك إلا شهورا حتى مات.
وقد مات أبو يوسف في ربيع الاول من هذه السنة عن سبع وستين سنة، ومكث في القضاء بعده
__________
(1) في وفيات الاعيان 6 / 385: مخرج.
(2) زيد في الوفيات ومفتاح السعادة: فيكون لم يهب ولم يبع.
(*)

(10/195)


ولده يوسف.
وقد كان نائبه على الجانب الشرقي (1) من بغداد.
ومن زعم من الرواة أن الشافعي اجتمع بأبي يوسف كما يقوله عبد الله بن محمد البلوي الكذاب في الرحلة التي ساقها الشافعي فقد أخطأ في ذلك، إنما ورد الشافعي بغداد في أول قدمة قدمها إليها في سنة أربع وثمانين.
وإنما اجتمع الشافعي بمحمد بن الحسن الشيباني فأحسن إليه وأقبل عليه، ولم يكن بينهما شنآن كما يذكره بعض من لا خبرة له في هذا الشأن والله أعلم.
وفيها توفي: يعقوب بن داوود بن طهمان أبو عبد الله مولى عبد الله بن حازم السلمي، استوزره المهدي وحظي عنده جدا، وسلم إليه أزمة الامور، ثم لما أمر بقتل العلوي كما تقدم فأطلقه ونمت عليه تلك الجارية سجنه المهدي في بئر وبنيت عليه قبة، ونبت شعره حتى صار مثل شعور الانعام، وعمي، ويقال بل غشي بصره، ومكث
نحوا من خمسة عشر سنة في ذلك البئر لا يرى ضوءا ولا يسمع صوتا إلا في أوقات الصلوات يعلمونه بذلك، ويدلى إليه في كل يوم رغيف وكوز ماء، فمكث كذلك حتى انقضت أيام المهدي وأيام الهادي وصدر من أيام الرشيد، قال يعقوب: فأتاني آت في منامي فقال: عسى الكرب الذي أمسيت فيه * يكون وراءه فرج قريب فيأمن خائف ويفك عان * ويأتي أهله النائي الغريب فلما أصبحت نوديت فظننت أني أعلم بوقت الصلاة، ودلي إلي حبل وقيل لي: اربط هذا الحبل في وسطك، فأخرجوني، فلما نظرت إلى الضياء لم أبصر شيئا، وأوقفت بين يدي الخليفة فقيل لي: سلم على أمير المؤمنين، فظننته المهدي فسلمت عليه باسمه، فقال: لست به، فقلت الهادي ؟ فقال: لست به.
فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين الرشيد.
فقال: نعم، ثم قال: والله إنه لم يشفع فيك عندي أحد، ولكني البارحة حملت جارية لي صغيرة على عنقي فذكرت حملك إياي على عنقك فرحمت ما أنت فيه من الضيق فأخرجتك.
ثم أنعم عليه وأحسن إليه.
فغار منه يحيى بن خالد بن برمك، وخشي أن يعيده إلى منزلته التي كان عليها أيام المهدي، وفهم ذلك يعقوب فاستأذن الرشيد في الذهاب إلى مكة فأذن له، فكان بها حتى مات في هذه السنة رحمه الله.
وقال: يخشى يحيى أن أرجع إلى الولايات لا والله ما كنت لافعل أبدا، ولو رددت إلى مكاني.
وفيها توفي يزيد بن زريع أبو معاوية شيخ الامام أحمد بن حنبل في الحديث، كان ثقة عالما عابدا ورعا، توفي أبوه وكان والي البصرة وترك من المال خمسمائة درهم، فلم يأخذ منها يزيد درهما واحدا، وكان يعمل الخوص بيده ويقتات منه هو وعياله.
توفي بالبصرة في هذه السنة، وقيل قبل ذلك فالله أعلم.
__________
(1) في ابن خلكان 6 / 388 ومفتاح السعادة 1 / 211: الغربي.
(*)

(10/196)


ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين ومائة فيها خرجت الخزر على الناس من ثلمة أرمينية فعاثوا في تلك البلاد فسادا، وسبوا من المسلمين وأهل الذمة نحوا من مائة ألف، وقتلوا بشرا كثيرا وانهزم نائب أرمينية سعيد بن مسلم (1)،
فأرسل الرشيد إليهم خازم بن خزيمة (2) ويزيد بن مزيد في جيوش كثيرة كثيفة، فأصلحوا ما فسد في تلك البلاد.
وحج بالناس العباس بن موسى الهادي.
وفيها توفي من الاعيان علي بن الفضيل بن عياض في حياة أبيه.
كان كثير العبادة والورع والخوف والخشية.
ومحمد بن صبيح أبو العباس مولى بني عجل المذكر.
ويعرف بابن السماك.
روى عن إسماعيل بن أبي خالد والاعمش والثوري وهشام بن عروة وغيرهم، ودخل يوما على الرشيد فقال: إن لك بين يدي الله موقفا فانظر أين منصرفك، إلى الجنة أم النار ؟ فبكى الرشيد حتى كاد يموت.
وموسى بن جعفر ابن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو الحسن الهاشمي، ويقال له الكاظم، ولد سنة ثمان أو تسع وعشرين ومائة، وكان كثير العبادة والمروءة، إذا بلغه عن أحد أنه يؤذيه أرسل إليه بالذهب والتحف، ولد له من الذكور والاناث أربعون نسمة.
وأهدي له مرة عبد عصيدة فاشتراه واشترى المزرعة التي هو فيها بألف دينار وأعتقه، ووهب المزرعة له.
وقد استدعاه المهدي إلى بغداد فحبسه، فلما كان في بعض الليالي رأى المهدي علي بن أبي طالب وهو يقول له: يا محمد (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الارض وتقطعوا أرحامكم) [ محمد: 22 ] فاستيقظ مذعورا وأمر به فأخرج من السجن ليلا فأجلسه معه وعانقه وأقبل عليه، وأخذ عليه العهد أن لا يخرج عليه ولا على أحد من أولاده، فقال: والله ما هذا من شأني ولا حدثت فيه نفسي، فقال: صدقت.
وأمر له بثلاثة آلاف دينار، وأمر به فرد إلى المدينة فما أصبح الصباح إلا وهو على الطريق، فلم يزل بالمدينة حتى كانت خلافة الرشيد فحج، فلما دخل ليسلم على قبر النبي صلى الله عليه وسلم ومعه موسى بن جعفر الكاظم، فقال الرشيد: السلام عليك يا رسول الله يا بن عم.
فقال موسى: السلام عليك يا أبت.
فقال الرشيد: هذا هو الفخر يا أبا الحسن (3).
ثم لم يزل ذلك في نفسه حتى استدعاه في سنة تسع وسبعين وسجنه فأطال سجنه، فكتب إلى موسى رسالة يقول فيها: أما بعد يا أمير المؤمنين إنه لم ينقض عني يوم من البلاء إلا انقضى عنك يوم من الرخاء، حتى يفضي بنا ذلك إلى
__________
(1) من الطبري 10 / 70 وابن الاثير 6 / 163 وفي الاصل: مسلم.
(2) في الطبري وابن الاثير: خزيمة بن خازم.
(3) من ابن الاثير 6 / 164 وفي الاصل: أبا الحسن.
(*)

(10/197)


يوم يخسر فيه المبطلون.
توفي لخمس بقين من رجب من هذه السنة (1) ببغداد وقبره هناك مشهور.
وفيها توفي: هاشم (2) بن بشير بن أبي حازم القاسم بن دينار أبو معاوية السلمي الواسطي، كان أبوه طباخا للحجاج بن يوسف الثقفي، ثم كان بعد ذلك يبيع الكوامخ (3)، وكان يمنع ابنه من طلب العلم ليساعده على شغله، فأبى إلا أن يسمع الحديث.
فاتفق أن هاشما مرض فجاءه أبو شيبة قاضي واسط عائدا له ومعه خلق من الناس، فلما رآه بشير فرح بذلك وقال: يا بني أبلغ من أمرك أن جاء القاضي إلى منزلي ؟ لا أمنعك بعد هذا اليوم من طلب الحديث.
كان هاشم من سادات العلماء، وحدث عن مالك وشعبة والثوري وأحمد بن حنبل وخلق غير هؤلاء، وكان من الصلحاء العباد.
ومكث يصلي الصبح بوضوء العشاء قبل أن يموت بعشر سنين.
ويحيى بن زكريا ابن أبي زائدة قاضي المدائن كان من الائمة الثقات.
ويونس بن حبيب أحد النحاة النجباء، أخذ النحو عن أبي عمرو بن العلاء وغيره، وأخذ عنه الكسائي والفراء، وقد كانت له حلقة بالبصرة ينتابها أهل العلم والادب والفصحاء من الحاضرين والغرباء.
توفي في هذه السنة عن ثمان وسبعين سنة (4).
ثم دخلت سنة أربع وثمانين ومائة فيها رجع الرشيد من الرقة إلى بغداد فأخذ الناس بأداء بقايا الخراج الذي عليهم، وولى رجلا (5) يضرب الناس على ذلك ويحبسهم، وولى على أطراف البلاد.
وعزل وولى وقطع ووصل.
وخرج بالجزيرة أبو عمرو الشاري فبعث إليه الرشيد من قبله (6) شهر زور.
وحج بالناس فيها إبراهيم بن محمد العباسي.
وفيها توفي:
__________
(1) في مروج الذهب: 3 / 435: مات سنة ست وثمانين ومائة مسموما ببغداد، وقال الخطيب في تاريخ بغداد: مات في الحبس ودفن في مقابر الشونيزيين خارج القبة.
(2) في ابن الاثير 6 / 165: هشيم (انظر شذرات الذهب 1 / 303 وصفة الصفوة 3 / 15).
(3) الكوامخ مفردها الكامخ وهو إدام يؤتدم به وخصه بعضهم بالمخللات التي تستعمل لتشهي الطعام.
(4) في ابن الاثير 6 / 165: زاد عمره على مائة سنة.
(5) ذكره الطبري وهو: عبد الله بن الهيثم بن سام (6 / 70).
(6) في الكلام نقص وتمامه من ابن الاثير والطبري: فوجه إليه زهيرا القصاب فقتله في شهرزور.
(*)

(10/198)


أحمد بن الرشيد (1) كان زاهدا عابدا قد تنسك، وكان لا يأكل إلا من عمل يده في الطين، كان يعمل فاعلا فيه، وليس يملك إلا مروا وزنبيلا - أي مجرفة وقفة - وكان يعمل في كل جمعة بدرهم ودانق يتقوت بهما من الجمعة إلى الجمعة، وكان لا يعمل إلا في يوم السبت فقط.
ثم يقبل على العبادة بقية أيام الجمعة.
وكان من زبيدة في قول بعضهم، والصحيح أنه من امرأة كان الرشيد قد أحبها فتزوجها فحملت منه بهذا الغلام، ثم إن الرشيد أرسلها إلى البصرة وأعطاها خاتما من يا قوت أحمر، وأشياء نفيسة، وأمرها إذا أفضت إليه الخلافة أن تأتيه.
فلما صارت الخلافة إليه لم تأته ولا ولدها، بل اختفيا، وبلغه أنهما ماتا، ولم يكن الامر كذلك، وفحص عنهما فلم يطلع لهما على خبر، فكان هذا الشاب يعمل بيده ويأكل من كدها، ثم رجع إلى بغداد، وكان يعمل في الطين ويأكل مدة زمانية.
هذا وهو ابن أمير المؤمنين، ولا يذكر للناس من هو إلى أن اتفق مرضه في دار كان يستعمله في الطين فمرضه عنده، فلما احتضر أخرج الخاتم وقال لصاحب المنزل: اذهب بهذا إلى الرشيد وقل له: صاحب هذا الخاتم يقول لك: إياك أن تموت في سكرتك هذه فتندم حيث لا ينفع نادما ندمه،
واحذر انصرافك من بين يدي الله إلى الدارين، وأن يكون آخر العهد بك، فإن ما أنت فيه لو دام لغيرك لم يصل إليك، وسيصير إلى غيرك وقد بلغك أخبار من مضى.
قال: فلما مات دفنته وطلبت الحضور عند الخليفة، فلما أوقفت بين يديه قال: ما حاجتك ؟ قلت: هذا الخاتم دفعه إلي رجل وأمرني أن أدفعه إليك، وأوصاني بكلام أقوله لك، فلما نظر الخاتم عرفه فقال: ويحك وأين صاحب هذا الخاتم ؟ قال فقلت: مات يا أمير المؤمنين.
ثم ذكرت الكلام الذي أوصاني به، وذكرت له أنه كان يعمل بالفاعل في كل جمعة يوم بدرهم وأربع دوانيق، أو بدرهم ودانق، يتقوت به سائر الجمعة، ثم يقبل على العبادة.
قال: فلما سمع هذا الكلام قام فضرب بنفسه الارض وجعل يتمرغ ويتقلب ظهرا لبطن ويقول: والله لقد نصحتني يا بني، ثم بكي، ثم رفع رأسه إلى الرجل وقال: أتعرف قبره ؟ قلت: نعم أنا دفنته.
قال: إذا كان العشى فائتني.
قال: فأتيته فذهب الى قبره فلم يزل يبكي عنده حتى أصبح، ثم أمر لذلك الرجل بعشرة آلاف درهم.
وكتب له ولعياله رزقا.
وفيها مات: عبد الله بن مصعب ابن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام، القرشي الاسدي، والد بكار.
ألزمه الرشيد بولاية المدينة فقبلها بشروط عدل اشترطها، فأجابه إلى ذلك، ثم أضاف إليه نيابة اليمن، فكان من أعدل الولاة، وكان عمره يوم تولى نحوا من سبعين سنة.
__________
(1) لم يذكر الطبري ولا ابن الاثير في جملة من ذكراه من أولاده.
(*)

(10/199)


عبد الله بن عبد العزيز العمري (1) أدرك أبا طوالة، وروى عن أبيه وإبراهيم بن سعد، وكان عابدا زاهدا، وعظ الرشيد يوما فأطنب وأطيب.
قال له وهو واقف على الصفا: أتنظركم حولها - يعني الكعبة - من الناس ؟ فقال: كثير.
فقال: كل منهم يسأل يوم القيامة عن خاصة نفسه، وأنت تسأل عنهم كلهم.
فبكى الرشيد بكاء كثيرا، وجعلوا يأتونه بمنديل بعد منديل ينشف به دموعه.
ثم قال له: يا هارون إن الرجل
ليسرف في ماله فيستحق الحجر عليه، فكيف بمن يسرف في أموال المسلمين كلهم ؟ ثم تركهم وانصرف والرشيد يبكي.
وله معه مواقف محمودة غير هذه.
توفي عن ست وستين سنة.
ومحمد بن يوسف بن معدان أبو عبد الله الاصبهاني، أدرك التابعين، ثم اشتغل بالعبادة والزهادة.
كان عبد الله بن المبارك يسميه عروس الزهاد.
وقال يحيى بن سعيد القطان: ما رأيت أفضل منه، كان كأنه قد عاين.
وقال ابن مهدي: ما رأيت مثله، وكان لا يشترى خبزه من خباز واحد، ولا بقله من بقال واحد، كان لا يشتري إلا ممن لا يعرفه، يقول: أخشى أن يحابوني فأكون ممن يعيش بدينه.
وكان لا يضع جنبه للنوم صيفا ولا شتاء.
ومات ولم يجاوز الاربعين سنة رحمه الله.